الجمعة، 16 أغسطس 2013

الوقفــ الأولى ــة من جـ 17 / مع قوله تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا..)


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمامِ المتقين وقائد الغُر المحجلين وبعد:
 مع الجزء السابع عشر من كلام رب العالمين -جلّ جلاله- ولنا فيه كما اعتدنا ثلاث وقفات الوقفة الأولى مع قول الله -تبارك وتعالى- (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) إلخ الآيات.
 هنا قال الله -جل وعلا- (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) أي قُريش فنزه الله -جل وعلا- أولا ذاته العلية عمَّا قاله أهل الإشراك قال (سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) هذا إضراب ، إضراب ماذا؟ إضراب طاعة يعني قولهم (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) أبطله الله بالحرف "بل" ، و"بل" تأتي إضراب إنتقال وتأتي إضراب إبطال، فما كان قبلها يُريد القرآن نفيه يُصبح إضراب إبطال ، وما كان بعدها أو قبلها يُريد القرآن الانتقال من حديث إلى آخر يُسمى إضراب انتقال . هُنا إضراب إبطال أراد الله أن ينفي قولهم (اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا)  وأنه قولٌ باطل ودعوة مكذوبة فقال -جل وعلا- (سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) أي الملائكة الذين زعم أهل الإشراك أنهم بنات الله هم في الحقيقة عِبادٌ مُكرمون فهم عباد لكنهم مُكرمون بطاعة ربهم جل وعلا وأكرمهم الله -جل وعلا- بما أفاء عليهم ، هذا يجعلُنا ندخُل في الحديث عن الملائكة : خلقٌ من نور لا يعصون الله ما أمرهم جُبِلوا على أشياء سنذكر بعضاً منها :
-أولها : خشيتهم من الله وهذا ذكره الله في السورة قال (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) ، وفي الحديث (مررت ليلة أُعرِج بي وجِبريل كالحَلس البالي من خشية الله) الحلس البالي : الفراش الممتد الذي بلي من كثرة ما جُلِس عليه حتى كاد أهله أن يُلقوه ، وفي خبر آخر حديث النواس بن سمعان : (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فإذا رفع رأسه أوحى الله -جل وعلا- إليه بما شاء ثم يمضي جبرائيل على كل سماء كلما مر على سماءٍ سأله ملائكتها ماذا قال ربُنا يا جبريل ؟فيقول : قال الحق وهو العلي الكبير) هذان شاهدان من السنة على خشيتهم من ربهم.
-الثاني : أنهم صافّون عند ربهم لا يتجاوز أحدٌ منهم المقام الذي أقامه الله إياه ، وهذا مُنتهى الأدب (وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ) ، وفي الخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- (أطَّت السماءُ وحُق لها أن تَئِطْ والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملكٌ واضعٌ جبهته ساجِداً لله تعالى) ، من خصائصهم أن الله -جل وعلا- أوكل إليهم كما قالوا لكل أحدٍ منهم مقامٌ معلوم فمنهم حملة العرش ، وحملة العرش من أرفع الملائكة قدراً ، والعرش له ملائكة تحمله وله ملائكة تطوف به ، وقد جمع الله بين الطائفتين -الفريقين- في آية واحدة قال الله في غافر (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) هؤلاء الحملة (وَمَنْ حَوْلَهُ) أي الذين حول العرش ماذا يصنعون؟! قال (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ماذا قال بعدها (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ما قال يؤمنون ويسبحون قدَّم التسبيح على الايمان السؤال لم قدَّم التسبيح على الإيمان؟ قدَّم التسبيح هُنا على الإيمان حتى ينتفي في الأذهان ظانُ ظانٍ أن الله فقيرٌ إلى حملة العرش أو أن الله فقيرٌ إلى أحدٍ مِمن هو حول العرش فهم وهم يحملون العرش ، وهؤلاء وهم يطوفون حول العرش وكِلاهما من القُرب بمكان والله أعلم بِذاك يعلمون يقيناً أن الله -جل وعلا- غني عنهم وعن حملهم للعرش وعن طوافهم بالعرش ولهذا جاؤا بالتسبيح .(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) وقال في الزُمر حتَّى تُأيدها قال (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) هؤلاء طائفة .
 طائفة أُخرى أوكل الله إليهم الطواف بالبيت المعمور ، وطائفة أُخرى أوكل الله -جل وعلا- إليهم أن يعمروا السماء بالطاعة ، وطائفة أُخرى في الأرض سيَّارون يبحثون ، يتحسسون عن حِلق الذكر وهذا الذي جاء في خبرهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (ما اجتمع قومٌ في مجلسٍ يذكُرون الله فيه) إلى أن بيَّن أن هؤلاء الملائكة تحُفهم وأن هؤلاء الملائكة يدعو بعضهم بعضاً إلى مِثل تِلكم المجالس ، جعل الله مجلسنا هذا منها .
ومنهم من أوكل الله -جل وعلا- إليه مهام فردية ، ولهذا قال العُلماء : رؤساؤهم أربعة جِبريل وأوكل الله إليه حياة القلوب فهو ينزِل بالوحي ، وميكال أوكل الله إليه حياة الأبدان فهو ينزل بالقطر ، وملك الموت أوكل الله -جل وعلا- إليه قبض الأرواح فهو يقبِضها ، وإسرافيل أوكل الله جل وعلا إليه النفخ في الصور ، وآخرون غيرهم يقول المؤمن عنهم كما علّمه ربه (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) .
قال الله هُنا (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) ثم قال (وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) قطعاً لا يُمكن لمَلَكْ أن يقول أِني إله من دون الله لأن الله يقول (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) لكن هذا حتى يفقه كل أحد أن الشِرك هو الذنب الأعظم والفرية الكُبرى التي لا يقبل الله -جل وعلا- معها عمل عامل فكيف بمن يدَّعي أنه إله.
 ثم قال الله -تبارك وتعالى- وهذا يعني انتقال آخر في السورة قال (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) 
نأخُذ صدر الآية : يُوجد "رتْق" ويوجد "فتْق" ، فـ الرتق هو: الالتصاق خلقةً أو صَنْعة ، والفتق : فك الرتق. الله يقول هُنا -جل جلاله- (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) للعُلماء فيها أقوال ثلاثة :
- قولٌ ظاهرُ الضعف وهو قول من قال من العُلماء -رحِمهم- الله إن معنى الآية أن السموات تفتقت كانت واحدة فأصبحت سبعاً ، وأن الأرض تفتقت كانت واحدة فصارت سبعاً هذا قول.
- وآخرون قالوا إن المعنى أن السموات والأرض كانتا مُلتصقة (فَفَتَقْنَاهُمَا) أي فصلنا أحدهما عن الأُخرى فأصبح ما بينهما مما هو مُشاهد عياناً وما يُعرف في زمانِنا بنظرية الانفِجار الكوني .
- وآخرون قالوا أن معنى الآية : فتقنا الأرض بالإنبات وفتقنا السماء بإنزال المطر.
 والذي يترجح عندي -والعِلم عند الله- هذه الأخيرة لأن من قواعد التفسير أن الآية إذا احتملت قرينة تُأيد أحد المعاني غلُب -ما نقول وجب- غلُب المصير إليها، والقول بأن الفتق معناه أذِنا للسماء أن تُمطر وأذِنا للأرض أن تُنبت قرينته قول الله (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) فسردُها بعدها -في غالِب الظن ولا نجزِم- يدُل على أن المقصود بالرتق والفتق أذِنا للسماء أن تُمطر وللأرض أن تُنبت , وهذا من أعظم دلائل قُدرة الله -جل وعلا- لأن به أقام الله -جل وعلا- الحُجة على خلقه أنه تبارك وتعالى يُحي الموتى (كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى) من الدلائل والقرائن أن الله -جل وعلا- يُحي الموتى .
قال ربُنا (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) هذه مرت معنا لكن نأتي بشيءٍ يعني مُجمل مع ما بقي من الوقت: السماء عندما تُمطر كُل عام ، المطر الذي ينزِل هو نفس حجم المطر الذي ينزِل في العام الذي يليه قال الصادِق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- : (ماعامٌ بأمطر من عام لكن الله -جل وعلا- يُصرفه , تارة يُسقي هاهُنا وتارة يمنعُ هاهنا) بل إنَّك ترى في البِلاد الواسـعة المساحة بِلادٌ تُمطر فتنتفِع بالمطر، وبِلادٌ تُمطر فيفيض الماء فيغرق أهلها ،وآخرون أرضُهم جدباء لم يأتهم قطرة ، والخالق والرب والمُنعم واحد لا إله إلا هو .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق