الشيخ صالح عبد الرحمن الخضيري
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ
فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ
وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى
رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
بَعِيدًا (136)}
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على إمام المتّقين وخاتم النَّبيين نبيِّنُا محمد وعلى آله وأصحابه والتّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين.
أمَّا بعد :
فهذا هُو المَجلِس " الثَّاني عشر" من تفسير سورة النّساء من الآية الخامسة والثلاثين بعد المائة، يقول الله تبارك وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا).
هذه الآية الكَريمة وهي قوله تعالى:(
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ) صُدِّرت بهذا النِّداء : يا أيُّها الذِّين صدَّقوا بالله ورسوله، وَعَمِلُوا بمقتضى هذا التَّصديق (
كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ) عَدَلَ عن لفظ "العَدل" إلى كلمة "القِسط" للدَّلالة على العَدل في الحُكُم ، وأمّا لفظ العدل فهو عام ، ومن أهل العلم من يرى أَنَّ هذا الخِطاب عامٌ للمؤمنين ولكنّه يُقصَد به الحُكَّام القُضَّاة الذِّين يَحكُمُون بين النَّاس، لأنَّ الآية جمعت أصلَيّ التَّحاكم وهما القَضاء و الشَّهادة .
(كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ) أَيّ قَائمين بالشَّهادة بالقسط، أيّ كونوا قوَّامين بالعَدل في الشَّهادة، وكذلك في القَضَاء.
(وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ) وما أَصعب هذا على الإِنسان أن يكونَ قائماً بِالعَدل حتّى على نفسه إلاَّ من وفَّقَه الله سبحانه وتعالى. (أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) هنا بالنّسبة على أنفسكم،أو بالنّسبة للوالدَين، أو حتى ذوي الرَّحم ولذلك قال (وَالأَقْرَبِينَ) كلُّهُم أَقيموا عليهم، ولا تُحابُوا غَنيّاً لِغِنَاه، ولا ترحمُوا فقيراً لِفَقره، ولهذا قال الله
(إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا). بعضُ النَّاس رُبَّما تُسَوِّل له نفسه أن يَشهدَ في مَال أو أرض أو كذا، يقول فلان فقير وذاك الآخر غَنيّ لا يضُرُه لو أخذت منه الأرض هذا أمر بسيط وهذا فقير ستُغنيه، الله قال (إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) .(فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى) فهُنا الله جلَّ وعلا يأمُر بأنّ يُقِيم الإنسان الشَّهادة كما قال سبحانه ( وأقيموا الشّهادة لله) أقيموها لله وحده، لا تَنظروا إلى أهواء النُّفُوس (إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) الله جَلَّ وعلا أولى بهما منكم، أَقيموا على المَشهود عليه وإن كان غَنيّاً، وللمشهود له وإن كان فقيراً، فالله أولى بهما منكم، فأنتم كِلُوا أمرهُما إلى الله - جلّ وعلا - ولهذا قال الله تعالى
(فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ) يعني لا تَجُوروا وتميلوا إلى الباطل من الحَقّ.
وهُنا نَقِف وقفة يسيرة عند قوله تعالى (فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى) لأنَّ اتَّباع الهوى قد غَلَبَ في هذه الأزمان قال الله تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ
أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الهَوى هَوان سُرِقَت نُونُه كما يقولون، سُمِّيَ هَوى لأنَّه يَهوي بصاحبه.
• والهَوى ميلُ الطَّبعِ إلى ما يُلائمه كما يقول ابن القيّم.
• أو الهوى - كما يقول الجُرجَاني - ميلُ النّفس إلى ما تستلِّذُه من الشّهوات من غيرِ داعِيَة الشَّرع.
متى يُحاسَب ويُعاقَب المَرء على هَواه؟
نفسُ الهَوى والشَّهوة لا يُعاقَب عليه بل على اتِّباعه والعَمل به، فإذا كانت النَّفس تَهوى وهُو يَنهَاها كان نهيُه عِبادةً لله، وعملاً صالحاً كما أشار إلى ذلك الإمام ابن تيمية - رحمه الله - إذاً نفس الهَوى والشَّهوة ما يُعاقَب الإنسان عليه، ولكن يُعاقَب على اتّباعه والعمل به، فإذا كانت النَّفس تهوى معصية الله، وهُوَ يُتبِعُهَا هَواها فهذا خَاسِر، ولذلك قال النّبي صلى الله عليه وسلّم – كما في صحيح مسلم- : (كُتِبَ على ابن آدم حظُّهُ من الزّنا مُدرِكٌ ذلك لا مَحالة فالعينان تزنيان وزناهُما النَّظر،واللِّسان يَزني وزِناه الكلام،واليَد تزني وزِناهُا البَطش،والرِّجل تزني وزناها المَشي، والقلبُ يَهوَى ويتمنَّى، ويُصَدِّق ذلك الفَرج أويُكذّبُه).
إذاً هناك هوى وتمنّي ولكن إمّا ان يُصَّدِق وإمّا أن يُكَذِّب والله تعالى يقول: (فَأَمَّا مَن طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوَى*وَأَمَّا مَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ
الْمَأْوَى).
وأسبابُ اتَّباع الهوى سواءً فيما يتعلَّق بالأُمور الزَّوجية، أوّ ما يتعلَّق بأُمُور الأولاد، أو ما يتعلّق بأمور القَضَاء والتَّحاكم، أوّ ما يتعلَّق بأمور الشَّهادة ، أوّ ما إلى ذلك من أمُور مسائل العلم وغيرها كثيرة جِدّاً أسباب اتّباع الهوى. لكن من أبرزها ضَعفُ الإيمان، فإنَّ ضَعفَ الإيمان يُسبِّب عند الإنسان اتّباع الهوى.
• إذا ضَعُفَ إيمانه اتَّبَعَ هواه، ولهذا قال الله (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ)
• ومِن أَسباب اتّباع الهوى أيضاً : ركُونُ الإنسان إلى متاع الدُّنيا الفَاني تجدُهُ يُقدِّم الشَّهادة بالبَاطل، إذا عَرَضَ له مَال شَهِدَ بالباطل مقابل متاعٌ قليل كما قال الله (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) ، وقال (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) يُقدِّم المَتاع الفَاني على الباقي.
• ومن أسباب اتّباع الهوى أيضاً: تركُ محاسبة الإنسانِ لنفسه، الغَفلة عن نفسه تجِدهُ يُزِّكي نفسه،ما يُحاول يُحاسِب نفسه يَقِف مع نفسه كما قال الحَسن البصري - رحمه الله : "رَحِمَ الله امرءا وقف عند هَمِّه وعند نفسه وقال : ماذا أردتِ بكذا، ماذا أردتِ بكذا"، المُؤمن دائماً قوّام على نفسه يُحاسبها لله عزّوجل، لئلا تَرتكب ما تهواهُ نفسُه، فيندَم ولاتَ ساعة مندم.
• كذلك الغفلة عن الآخرة فإنَّها من أسباب اتّباع الهوى (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ) .
- وأمَّا أضراره فاتّباع الهوى أضرارُه كثيرة جِدّاً ومن أحسن من تكلَّم عليها ابن الجَوزي في كتابه "ذَمّ الهَوى" وكذلك ابن القيم تكلَّم عن هذا كلاماً جيِّداً في كتابه " إِغاثة اللَّهفان مِن مصايد الشيطان" لكن من أهمّ أضراره عدم فهم القرآن، أنَّ الإنسان
المُتَّبع لهواه لا يفهم القرآن، ولا ينتفع بمواعظ القرآن، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ
إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ) هذا سبَّبَ لهم عدم فهم القرآن.
ولهذا اُنظر مثلاً أهل البدع الــمُضلِّة تجدهم يقرؤن القرآن كما يقرأه أهلُ السُّنّة وأهل الحقّ، يقرأون القرآن كما يقرأه المؤمنون الصَّادقون ولكنَّهم في غَفلة وحِجَاب كما قال المُشركون الأوّلون (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ
مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ
حِجَابٌ) حِجاب الغَفلة، واتَّباع الهوى، تجد الآن المُبتدع يقرأ القرآن ولا يَستفيد لأنَّ الهَوى قد غَلَبَ عليه.
• كذلك من أضرار اتّباع الهوى الانسلاخ من الإيمان - والعياذ بالله - (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ
الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
• يقول بعض العُلماء : الكُفُر في أربعةِ أشياء : في الغَضَب، والشَّهوة، والرَّغبة، والرَّهبة. ولقد رأيتُ منهُنّ اثنتين: رجُلاً غَضِبَ فقَتَلَ أُمَّه، ورجلاً عَشِقَ فتَنَصَّر. فما الذِّي سبَّبَ له فَواتَ الدِّين؟ اتّباع الهَوى، لو لم يتبّع هواه ما حَصَل له شيء من هذا.
• كذلك من أضرار اتّباع الهوى أنَّ العبد يُغلَق أبواب التّوفيق دونه كما في قوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) الآية ولهذا قال الفُضَيل بن عياض : "مَنِ استحوَذَ عليه الهَوى واتَّباَعُ الشَّهوات انقطعت عنه مَواردُ التّوفيق ".
فَمَن هَجَر اللَّذاتِ نَالَ الــمُنى....... ومن أكَّبَ على اللَّذات عضَّ على اليَّدِ
وفي قَمَع أهواءِ النُّفوسُ اعتزازُها....... وفي نَيلها ما تشتهي ذُلُّ سرمَدِ
ولهذا قال الله (فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ) هنا إذا اتَّبعتم الهَوَى ذَهَب عنكم العَدل،أي لا تَجُوروا وتَميلوا إلى الباطل من الحقّ (فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ) أي إذا اتَّبعتم الهَوى فلن تَعدلوا.
(وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ) تلووا : "اللّي" مَرَّ معنا في سورة آل عمران (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ
الْكِتَابِ) ومرّ أيضاً في النِّساء في قوله تعالى (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) "اللَّيّ" هُنا يُمكن أن يُطلَق على معان لكن منها المَيل، ولذلك قال (وَإِن تَلْوُواْ) هذا خِطاب للحُكَّام القُضاة، تَميلوا مع أحد الخَصمين أو تُعرضُوا عنه، وأكثر المفسِّرين الخِطاب للشُّهود، مِنَ "اللّي" تحريف الشَّهادة إمّا بِزيادة أو نقصان، الليّ تغيير. فهنا
(وَإِن تَلْوُواْ) :
• هذا يَشمل تحريف الشَّهادة بالزّيادة والنُّقصان.
• ويَشمل أيضاً العُدُول عن الحَقّ إلى الحُكُم بالجَور بالنِّسبة للقُضَاة والحُكّام.
• والعُدول عن الصِّدق في الشَّهادة.
• أو حتّى التّثاقل في تمكين الــمُحِقّ من حقّه، وأداء الشَّهادة لطالبها.
• أو أن يميل مع أحد الخَصمين في القضاء والشُّهُود.
حتّى إنّ بعض قُضاة العدل كان إذا دخَل عليه الخصمان لا ينظر إلى أحدهما أكثر من الآخر من العدل، يُوزّع حتّى النَّظَرَات عليهم.
(وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ) الإعراض الامتناع من القَضَاء أو حتى الامتناع من الشَّهادة يعني كِتمان الشهادة .
فعندنا الآن "اللَّي" فإذا كان قاضياً فهو يَميل مع أحد الخَصمين، وإن لم يكن قاضياً فإنَّ اللَّي في حقِّه هو أَن يَعدِل عن الشَّهادة إمَّا بزيادة، أو نقصان، أو يُبعِد عنها أيضاً، أو يُحرِّفها، والإِعراض أَن يكتُم الشَّهادة، يعني الإِعراض عنها بحيث لا يُؤدِّيها ولهذا الله سبحانه وتعالى قال كما سبق لكم (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)
فإذاً الذِّي يَلوِي الشَّهادة (اللَّي) هذا آثم، والذِّي يُعرِض عن الشّهادة آثم كذلك سواءً كان قاضياً أو كان شاهِداً، يعني هذا اللَّفظ يَصلُح للحُكَّام الذِّين هم القُضاة، ويَصلُح أيضاً لِغَيرهم حتّى القَاضِي الحَاكم لِنفرض أنَّه أعرض عن الخُصوم وقال لن أَحكم فيها مع أنّه يعرف هذا الحقّ فإنّه يدخُل تحت قوله (وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ) يأثم. فإذاً اللَيُّ أن يَميل مع أحد الخصمين، أو يُعرِض عن الشَّهادة، أو يزيد فيها، ويَنقُص مِنها، والإعراض أن يَكتُم الشَّهادة أو لا يُؤدِّيها،ومعلومٌ عِظَم الشَّهادة، ومكانة الشَّهادة وأنَّ الشَّهادة يَنجلي بها حقوق كثيرة للنَّاس كم من إنسان انطمست معالم الحَقّ، اُتِّهِمَ في عِرضِه، أو في دينه، أو يُراد أخذ ماله، أو نحو ذلك ، يُراد الجِناية عليه فأنقذهُ الله بالشَّهادة ، فالشهادة لها مكانة عظيمة جِدّاً ولهذا جاء في الصَّحيح أنَّ النّبي صلى الله عليه وسلّم قال: (خيرُ الشُّهداء الذِّي يأتي بالشّهادة قبلَ أن يُسأَلَها) إذا كان طبعاً قد تأكَّد منها وينبني عليها بيان الحقّ.
قال الله (
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) قُلنا الخَبير هو العَليم بسرائِر عباده وضمائر قلوبهم، الخَبير بأمورهم الذِّي لا يَخفَى عنه شيء سبحانه ، العالِم بما تُكِنُّه صُدُورهم.
/ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) كيف (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ)؟
يَعني يا أيُّها الذِّين صدَّقُوا بالله ورسوله وعَمِلوا بمقتضى هذا التَّصديق آمِنُوا، هل هذا من باب تَحصيل الحاصِل؟ - معاذَ الله - لا. إنّـَما المُراد بالآية
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أيّ اُثبِتُوا على الإِيمان، وتَرَّقَوا في درجات الإيمان، لأنَّ الإيمان يزيد بالطَّاعات والأَعمال الصَّالحات، ويَنقُص بالمعاصي والسَّيئات فالمُراد : حثُّ أهل الإيمان على الثَّبات، وحثُّهُم على الازدياد من الأَعمال الصَّالحة التّي تُعمِّق الإيمان في قُلُوبهم.
(وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ) وهو القُرآنِ
(وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ) التِّي هي التّوراة والإنجيل،والزَّبُور، وسائرَ الكُتُب.
هاهُنا وقفة : قال الله - جلّ وعلا -
(آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ) مالفرق بين قوله (وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) وقوله (وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ) ؟ القرآن قال فيه "نزّل" على رسوله، وَلِسائر الكُتُب السَّابقة قال فيه "أنزل" هنا بعض الــمُفَسِّرين يقول : أنَّ هذا من باب التَّفنُن في الخِطاب ، وبعضُهم يقول لأنَّ القرآن حينئذٍ ما زالَ بصدر النُّزول مُنّجماً، والتَّوراة والإنجيل يومئذٍ قد انقضى نزولها، ويرى الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى وبعض أهل العلم أنّ الفَرق بين قوله "نزَّل" و"أَنزل" أنَّ لفظة "نزَّل" للقرآن جَاءَ نُزول القرآن مُفرَّقاً مُنجَّماً في ثلاث وعشرين سنة حسب الوقائع والأحداث كما قال تعالى (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ
لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) وأمّا الكتب السّابقة فكانت تنزل جملة واحدة ولهذا قال الله عن المشركين (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ
عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) مثل الكتب السّابقة والله أعلم.
/ ثمّ قال الله (وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا) هنا هذا الذِّي كفر بالله عزّوجل، وكفر بالمَلائكة، والكُتُب، والرُّسُل، واليوم الآخر. هذا ما هي حَالُه؟ قَال الرَّب جلَّ وعلا ( فقد) و"قد" للتَّحقيق أيّ تَحقَّق ضَلالُه. ثم قال (ضَلَّ ضَلالاً) أكَّده بالمَصدر أيضاً يعني اِبتعد عن الصَّواب. وأيضاً
(بَعِيدًا) كُلَّ البُّعد لأنّ َكفره - كما يقولون والعِياذ بالله - كفر غليظ ليس عنده شيء من الإيمان (ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا) .
/ ثم قال الله تبارك وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ
ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا) قِيل: هَذِه في أَهل الكتاب آمنُوا بِنَبيِّهم، ثمّ كَفَروا به وآمنوا بالكِتاب الذِّي نزَّل عليه ثمّ كفروا به، ثمّ اِزدادوا كُفراً بمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام. وقيل: هذه في قومٍ مُرتّدين آمنوا ثمّ ارتَّدوا، ثمّ آمنوا ثمّ ارتّدوا، ثمّ آمنوا ثمّ ارتَّدُوا، ثمّ ازدادُوا كُفراً ماتوا وهم على الكُفُر - والعياذ بالله -
فيه آية في سورة آل عمران تُشبه هذه الآية وهي قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ
وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ*إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ
ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن
نَّاصِرِينَ).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا) هذه الآية كالتَّوطئة والتَّقدُمة لأحوال المنافقين، لأنَّ المنافق عَرَف ثمّ أنكر، وكذلك السُّورة سورة النِّساء على الرَّغم أنّها مليئة بالأحكام إلاّ أنَّها فَضَحَت فِئتين خَبِيثتين هُم أهلُ الكتاب الكَفرة، والمنافقون الفجرة. مع أنَّها مدنية، ومليئة بالأَحكام إلاَّ أنَّها فضحت هَاتين الطّائفتين الخبيثتين. وهذه الآية الكريمة كالتَّقدُمة لِبيان أَحوال المُنافقين وفَضحِهِم، فهنا قال الله سبحانه وتعالى (ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ما دَامُوا على هذه الحالة (وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) أيّ طريقاً إلى الحقّ. فمَا معنى
(لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) ومعلوم أنّ الله لا يغفر للمُشرك ؟
قيل: معناه أنَّ الكافر إذا أسلم أوّل مرّة ودام عليه يُغفَر له كُفره السَّابق، فإن أسلم ثمّ كفر، ثمّ أسلم ، ثمّ كفر لا يُغفَر له كُفرُهُ السَّابق الذِّي كان يُغفر له لو أنَّه دام على الإسلام، والله أعلم.
ولكن المقصود أنّه هنا في هذه الحالة ما دام ازدادوا كُفراً، وماتُوا على الكُفُر لم يكن الله ليغفر لهم كما قال الله جلّ وعلا ( إنَّ الله لا يغفِرُ أن يُشرك به).(وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) أيّ طريقاً إلى الحقّ.
ثمّ جاءت الآيات العَظيمة العَجيبة لأنّ النِّفاق ظهر في المدينة، وبالتَّحديد بعد غزوة بدر. فقال الله (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ
بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) والبِشارة كلُّ خَبَرٍ يتغيَّر به بشرة الوجه والغالب أنّ البشارة تُطلق بالخَير وما يَسُّر، لماذا قال هنا ( بشِّر)؟ من باب التّهكُم بهم.
(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أخبرهم يا محمد بأنَّ لهم عذاباً أليماً. من هم؟ ما هي صفاتهم؟ قال الله (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يتخِذُّون اليَهُود والنَّصارى وغيرهم يتخذِّونهم بِطانة وأنصاراً، يُحبُّونهم، ويوَدُّونهم، ويتعاونون معهم على المؤمنين (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ما الحاملُ لهم على ذلك؟ (أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ) يطلُبُون المَعُونة والظُّهور على محمد عليه الصَّلاة والسَّلام! يطلُبُون عندهم القُوّة!
(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) فإنَّ العِزّة والغَلَبَة والأمر كُلُّه لله جلَّ وعلا جميعاً ، الأَمر لله قَال تعالى في آية فاطر(مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ جَمِيعًا) له جَلَّ وعلا عِزة القَدر، وعِزَّة القَهر،وعِزَّة الامتناع. وهو العزيز فلا يُرامُ جَنَابُه، العزيز المنيع الذِّي امتنع أن يَصِل إليه أحد، هدفهم أن يبتغوا العزّة فالعزّة لله، قال الله جلّ وعلا في سورة المنافقون (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لا يَعْلَمُونَ).
قال الله (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) لفظة "جميعا" تُوحِي بأنَّ هؤلاء القوم ليس بيدهم شيء، لأنَّ من خانَ أوَّلَ مُنعِمٍ عليه - كما يَقولون فاقدَ الشَّيء لا يُعطِيه - أصلاً هُم ما عندهم عِزَّة، هم كما قال الله (إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ) فكيف تُطلَب عِندهم العِزّة، وهم يفقدون أصلاً هذا الأمر (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).
/ ثمّ قال الله (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) معاشِر المسلمين ( فِي الْكِتَابِ) أيّ في القرآن (أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ) آيات القرآن (يُكْفَرُ بِهَا) شعائر الدِّين وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا
(فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ) لا تقعدوا مع المستهزئين (حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) يأخذُوا بحديث غير حديث الاستهزاء بمحمد - صلى الله عليه وسلَّم - وبالقرآن وبِشعائر الدِّين.
وهذه إشارةٌ إلى أنَّ مَا أنزله الله في سورة الأنعام في قوله تعالى كما سيأتي (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي
آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) ما هو الفَرق بين الآيتين؟ فيه فرق واضح، في آية الأنعام لأنّها مكيّة اقتُصِرَ فيها على مُجرَّد الإعراض وقطع المجالسة لعدم التَمَّكُن من الإنكار بغير القلب، لأنَّ المسلمين في مكّة لم يكُن لهم من الظُّهُور والغَلَبة كما في المدينة،أمّا هذه فآية مدنية قال الله
(فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) هناك اكتفى بمجرّد الإعراض
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) لكن هنا (فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِّثْلُهُمْ) إِن قعدتم عندهم وهُم يخُوضون ويستهزؤن ورضيتم به فأنتم كُفَّارٌ مثلُهُم،وأمّا إن خاضُوا في حديثٍ غيره فلا بأسَ بالقُعُودُ معهم مع الكراهة، وإن قَعَدَ الإنسان يُناصِح. قال الحَسن البصري : "لا يجوزُ القُعود معهم وإن خاضوا في حديثٍ غيره لقوله (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)" .
قال الله (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) وَبَدَأَ بهم لِعظيم جُرمِهم،لم يَقُل إنَّ الله جَامِعُهُم، بل أظهر في موضع الإضمار لِبَيان جُرمهم، ولبيان تحقُقّ خُسرانهم قال
(إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) ولم يقُل في النَّار لِيكُون أَشَدّ وأغلظ ، وأكَّده بقوله
(جَمِيعًا) كُلُّهُم وأكَّدَه بقوله
(جَمِيعًا) ما صِفاتهم؟ من هُم هؤلاء؟ ما هِيَ أحوالهم؟ قال الله (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) هؤلاء ينتظرون بكم الدَّوائر يعني المنافقين.
وسبحان الله في سورتي النِّساء، وبَــراءة ( التوبة). فضحٌ للمنافقين بِخطابٍ عَجِيب بليغ من الرَّب العظيم سبحانه وتعالى. (فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ) يعني ظَفَر وغَنيمة (قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) نحنُ على دينكم وأَعَنَّاكُم،كُنَّا معكم في الجِهَاد، اجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة
(وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ) لهم دَولة وظُهُور على المُسلمين ، إذا غَلَبَ الكَافِرون على المسلمين قال المنافقون للكافرين (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) يعني نستولي عليكم ونَغلبِكُم،وأخبرناكم بِعورات المُسلمين، وأخبرناكم بمداخِلِهم وما كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلّم - وأصحابه
(أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعني عنّ الدُّخُول في جُملتهم ، قال الله
(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بين أهل الإيمان وبين أهل النّفاق (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) قد يقول قائل : الآن نرى أنّ أُمَم الكُفُر لهم الغَلَبَة والظُّهُور في هذا الزَّمن، فما معنى هذه الآية؟
• جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنَّ معنى الآية يعني في الآخرة .
• وقال عِكرمة عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما
(وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) يعني حُجَّة ظاهرة،ما لَهُم دليل،ما لهُم حُجّة، الحُجَّة للمسلمين.
• وقيل (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) يعني ظُهُوراً على أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم.
• وقيل الآية وهو القَول الرَّابع والرَّاجح أنَّ الآية على عُمُومها وعلى ظَاهِرهَا،وإنّما المؤمنون يَصدُر منهم المعصية والــمُخالفة التِّي تُضَادِّ الإيمان مِمَّا يَصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المُخالفة، فهُمُ الذِّينَ تسبَّبُوا إلى جَعل السَّبيلِ عليهم مثل ما حصلَ يوم أحد واختار هَذا ابن القيّم وأكّدَه .
إذاً الآية على عُمُومها (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) وهذا بِحسب قُوَّة الإيمان وضَعفه، متى استمسَكَ المسلمون بإيمانهم وَصَدَقُوا مع ربِّهم وَأَخلصُوا لله، وعَمِلُوا بجميع شرائع الله،ما تخيَّروا بعض وتركُوا بعض فهُنا
(لَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ولكن إذا تَخَلَّى المُؤمنون عَن بعض أَحكام الشَّريعة، هُنَا بِحسب ما تخلُّوا يجعل الله لهم سبيلٌ عليهم.
اُنظُروا مثلاً في حَال المسلمين لــمَّا رَكَنُوا إلى الدُّنيا، وتركُوا الجِهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله كيف سُلِّطَ عليهم أعدائهم، وصدق الله (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) لكن هُمُ السَّبب كما قال الله (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ
أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ)
وقال (وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)
وقال (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي
عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
/ ثمّ قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) كما قال في أوَّل سورة البقرة (يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) وفي هذا إثبات صفة المُخادعة لله على الوجه اللاَّئِق بجلاله وعظمته وهذا صفة كمال، إذا كان المُنافق يُخادِع الله،والله يَخدعُه فهذه صفة كمال في حقِّ الله تبارك وتَعالى.
ما صِفة المُخادعة هنا للمنافق؟ المنافق أظهر الإسلام، فلمَّا أظهر الإسلام وأبطنَ الكُفُر أَمِنَ على دَمِهِ وماله، وظنَّ أنَّ هذا سينفعه في الآخرة، لكنَّهُ في الآخرة – كما سَيَأتي – (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ، ما هي صفاتهم؟ قال
(وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاةِ قَامُواْ كُسَالَى) مُتثَاقِلين لا يُريدون بها الله ، ولهذا قال النَّبي - صلى الله عليه وسلّم - : (أثقلُ الصَّلوات على المُنافقين صلاةُ العِشاء وصلاةُ الفَجر،ولو يَعلمُون ما فيهما لأَتَوهُما ولو حبواً،ولقد هممتُ أن آمُرَ بالصَّلاةِ فتُقام ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فيُصلِّيَ بالنَّاس، ثمّ أنطلق معي برجال معهم حِزَم من حَطَب إلى قومٍ لا يشهدون الصَّلاة فأُحرِّق عليهم بيُوتهم)
التَّثاقل عن العِبادة مِن صِفات المُنافقين، فهُم لا يَرجُون لله وَقاراً ،فهُم لا يُصلُّون إلا إذا كان المسلمون يَرونَهم. والغَالِب أنَّ صَلاة الفجر والعِشاء الجَوّ مُظلِم لا يوجد نور، وهم لا يرجُونَ لله وقّاراً ، ولذلك لا يَشهدُون العِشاء والفَجر
(يُرَاؤُونَ النَّاسَ) يَفعلون ذلك مراءاةً للنَّاس لا اتّباعاً لأمرِ الله
(وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) ولهذا قال الحسن البصري "من أكثر من ذكر الله برئ من النِّفاق". (مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذَلِكَ) مُتردِّدين متحيِّرين بين الكُفُر والإيمان، كما قال النَّبِي - صلى الله عليه وسلَّم - كما في الصَّحِيح (مَثلُ المُنافق كمثل الشَّاة العَائِرَة بين الغَنَمَين، تَعِير إلى هذه مرّة وهذه مرّة لا تدري أيَّهُما تتبع) فالمُنافق كذلك. (لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء) ليسُوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمؤمنين، وكذلك لم يُظهِرُوا كفرهم فيكونوا معهم، ولهذا قال الله
(وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) ليس له طريق.
/ ثمّ قال الله تعالى مُحذِّراً من الرُّكُون إليهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) نهى الله عن موالاة الكُفّار
(أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) يعني حُجَّة بيِّنَة في عذابكم .
الله جلَّ وعَلا لا يُحِبّ أن يُعذّب عبده المؤمن، لا يُحِب أن يُعذِب أحداً من عباده إلاّ إِذا العبد نفسه جعل لعذابه سبيل وحُجّة.
/ ثم قال (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) يعني - والعياذ بالله - في توابيت من نار، في أسفل طبقات النّار. قال ابن عمر- رضي الله عنهما - " أشدّ الناس عذابا ثلاثةُ أصناف:
• الصِّنف الأوّل: المنافقون لقوله تعالى في هذه الآية (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
• الصِّنف الثّاني: من كَفَرَ بعد نُزُول المائدة من أصحاب المائدة لقوله (فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ
أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) .
• الصِّنف الثَّالث : آل فِرعون (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).
(وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) مانعاً من عذاب الله.
/ (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ) من النفاق وآمنوا (وَأَصْلَحُواْ) عَملهم (وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ) اِفتعال من العِصمة وهو التَّمسك بـِما يعصِمُك ويمنعُك من المَحذور والمخُوف، فالعِصمة الحُمية، والاعتصام الاِحتماء قال الله تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ) وقال (واعتَصِمُوا بحبل الله) الاعتصام بالله نوعان :
الأوّل: اعتصام توكُّل، واستعانة، وتفويض، ولَجَأ، وعِياذ.
والثّاني: اعتصام بِوَحيه وتَحكيمه دون آراء الرِّجال ومَقَاييسهم وَمَعقولاتهم كما يقول ابن القيّم رحمه الله.
ما الفرق بين (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ) و (وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ) ؟
الأوّل : أي تمسَّكُوا بدين الله،أو تمسَّكُوا بما عليه الجَمَاعة، أو تمسَّكُوا بالقرآن، أو بعهد الله - المعنى واحد - .
الثّاني : (وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ) هذا يُوجِب للمُسلم أن يتَّبِع الدَّليل،والقُوَّة،والعُدَّة اعتصِم بالله قال تعالى (وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) ،(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ) هذا يَحمي من الضَّلالة ويُوجِب البُعد عن البِدعة، وآفات العمل.
• إِذَا اعتصمتَ بالله، توكَّلت على الله، استعنت بالله، أعطاكَ الله قُوَّةً في قلبك، وإيمانك.
• إذا اعتصمت بحبل الله حَمَاك الله من الضَّلال، والبِدَع، والأهواء. وبينهما أيضاً ترابطٌ وتلازم.
هنا الله سبحانه وتعالى قال (وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ) أيّ أَخلَصُوا بقلوبهم مَعَ الْمُؤْمِنِ (فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) التَّائب من الذَّنب كمن لا ذنب له. سبحان الله اللَّفظة
(مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ما النتيجة؟
(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) لم يقل "وسوف يؤتيهم" بل قال
(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) وهُناك قال (ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا) و(عَذَابًا أَلِيمًا) و (فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) للمُنافقين.
المؤمنين قال الله (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) ومن فَاتَهُ رِفقَةُ المؤمنين وخَرَج عن دائرة الإيمان فاتَهُ حُسنُ دفاع الله عن المؤمنين، وفَاتَه كُلُّ خيرٍ رتَّبه الله في كتابه على الإيمان وهو كما يقول ابن القيم - رحمه الله - "نحن مَائة خَصلةٍ، كلُّ خَصلة منها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها".
فاحرص يا أَخي واحرصي يا أُختي أن نكون دائماً مع المؤمنين، لماذا؟ لأنَّكم إن كنتم مع المؤمنين فلكم الأجر العظيم (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)
- إن كنا مع المؤمنين بإيماننا الصادق فشرور الدنيا والآخرة سوف تُدفع عنا
- المَلائكة ستستَغفِر للمؤمنين كما قال الله (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا) .
- اللهُ مولاهُم (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ) ولا يَذِّل مَن كان الله وليُّهُ .
- أمرُ المَلائكة بتثبيتِهم (فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ).
- لهم الدَّرجات عند ربِّهم، والمَغفرة، والرِّزقُ الكريم.كما في أوّل الأنفال.
- العِزَّة لهم (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).
- معيُّة الله لهم (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).
- الرِّفعة لهم في الدُّنيا والآخرة (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
دَرَجَاتٍ).
- أمانهم من الخَوف يوم يشتَّدُ الخوف (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) .
/ ثم قال الله تعالى (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ
بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ) إن شكرتُم نَعمَائه،وآمنتُم به فإنَّ الله - جلّ وعلا - لا يَعبأ بعذابكم شيئاً، لا يُعذِّبكم.
(وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا) " الشَّاكر" جاءَ في القرآن مرّتين من أسماء الله (الشَّاكر، الشَّكُور) وهو الذِّي يَشكر القَليل من العمل، ويُضاعفه ويُثيب عليه ثواباً كثيراً ( ومن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّب إليه ذِراعاً، ومن تقرَّب إليه ذِراعاً تقرَّبَ مِنه باعاً، ومن أتاهُ يمشي أتاهُ هرولة) والشَّاكر المَادح لمن يُطيعه،المُثني عليه،المثيبُ له بِطَاعته فَضلاً عن نعمته
(وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) .
المقطع الثّاني : {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا
عَلِيمًا*إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ
تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }
قال الله تعالى في هذه الآيات الكريمة وهذا هو المَجلِس " الثَّالثَ عشر" ما قبل الأخير من هذه السورة الكريمة .
(
لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ) يَعني لا يُحِبُّ الله الجَهر بالقُبحِ من القَول إلاَّ من ظُلِم، فيجُوزُ للمَظلوم أن يُخبِرَ عَنِ الظَّالم أنّهُ ظَلَمه، وأن يَدعُوَ عليه ولهذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم ( مَطلُ الغنيِّ ظُلم) وقال عليه الصَّلاة والسّلام: (لَيُّ الوَاجِدُ يُحِلُّ عِرضَهُ وعقُوبته) يعني مُماطلة الإنسان الغَنيّ وعدم أدائه للدُّيُون يُحِلُّ عِرضَه وعُقُوبته.
لا يحب الله أن يجهر أحد بالسُّوء، بالكلام، بالشَّتم، إلاَّ من ظُلِم. فيجُوز للإنسان أن يَدعو على ظالمه ، يجوز له أن يقول ظَلَمني فلان لكنَّ لا يَتعدَّى الحُدود، ولِهذا قال الله (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا) سَميعاً لِدُعاء المظلوم،وسميعاً أيضاً لمن تعدَّى بكلام، أو زاد على الظّالم اتّهمهُ بما ليس فيه. (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) .
/ ثُمَّ قال الله (إِن تُبْدُواْ خَيْرًا) يعني حسنة، أَوْ تُخْفُوهُ صدقةً سَواءً أَظهرتم أو أبطنتُم (أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ ) أَيّ عن مظلمة (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) فَهُو أَولى بالتَّجاوز عنكم يوم القيامة، فمن عَفَا عَفَا الله عنه. وَمَا أحوجنا أيُّها المُسلمون والمُسلمات، ما أحوجنا إلى تدَّبُر قولِ الله
(أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ ) العَفُو عند المَقدرة لأنَّ الله سبحانه وتعالى قال في آيةٍ آخرى في سورة النُّور: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ
وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ) لما نزلت هذه الآية وكان مِسطح ممَّن تكلَّم في حادثة الإفك وكان ابن خالة أبي بكر، وكان أبو بكر يُنفق عليه، وكان مِسطح من فُقراء المهاجرين، فلمّا نزلت الآية قال أبو بكر: "بلى والله نُحِبّ أن يغفر الله لنا". فأَجرى عليه النَّفقة حتى مات ولم يقطعها. هكذا يُعامِلون الله . بعض النَّاس لَو يُظلَم مَظلمة يَسيرة سَهلة وتَطلب منه العفو والمسامحة، قال : لا يا أخي ما يَقوى قلبي على المسامحة.
الإمام أحمد بن حنبل الشّيباني ، إمام أهل السنة والجماعة – رحمه الله تعالى – ظُلِم وضُرِب أكثر من ألف سوط وأُوذي في الفتنة التّي تبنّاها المأمون ، وبعد المأمون المعتصم والوَاثِق . يقول الإمام أحمد : "كُلُّ من أذاني فهُو في حِلّ ، وجَعلتُ الخليفة في حِلّ، ورأيتُ الله يقول:
(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) . ثم قال الإمام أحمد : "وما ينفَعُك أن يُعذِّب الله أخَاكَ المسلم بسبِبك". الله أكبر على هذه القلوب!
شَيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كَذلك سُجِن وضُرِب،وأُوذِي لــمَّا دخل السِّجن كما في - طَبقات الحَنَابلة لابن رجب - ومعه أخوه عبدالله، جعل عبدالله يَدعُو على هؤلاء الخُصُوم الذِّين تسبَّبُوا في إدخاله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لأَخيه عبدالله لا تدعُوا عليهم ولكن قُل:
اللهُمَّ هَب لهم نُوراً يهتدون به إلى الحق.
يقول ابن القيّم - رحمه الله - جِئتُ إلى شيخي شيخ الإسلام ابن تيمية أبشِّرهُ يوماً من الأيَّام بموت شخصٍ من أكبر أعدائه - من فُقهاء المالكية - أفتى بكُفر ابن تيمية وقتلِه.
فقال ابن القيم : فغَضِب
وقال: تبَشّرني بموت مسلمّ.
فقال لي: قم بنا إلى أهل بيته، فقام إلى أهل بيته وعزَّاهم
وقال: أنا أبوكُم بعد أبيكم، إن احتجتُم شيئاً تأتون إليّ .
يقول: قال بعض خُصُوم ابن تيمية لابن تيمية : وددتُ أنّي لأصحابي كما هو لأعدائه ! لأنّه يقول هؤلاء من المسلمين الذِّين خَالفُونا في بعض المسائل الفقهية اليسيرة, وإن كانوا هم عَصَوا الله فينا يجب أن نُطيع الله فيهم (أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ ) فالعفو أمرُه عظيم .
ولذلك تأَمَّلوا واقرؤوا - والمَقام لا يتسِّع لذلك - في أحوال الصحابة رضي الله عنهم وما كانوا عليه , بل حتى إمام المتقين ورسولُ ربِّ العالمين محمد صلى الله عليه وسلم كيف عفوه؟!
جَاءَه أَعرابي وَرَفَعَ السَّيف عليه، وهُوَ نائم
قال: من يمنعك يا محمد منّي؟!
قال: الله
فسقط السَّيف من يد الأعرابي .
فأخذ النَّبي صلى الله عليه وسلم السَّيف
وقال: أنت من يمنعك منّي؟!
قال: يا محمد كُن خير آخذ.
فَعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه. وغيرها.
- أم المؤمنين صفية قالت واحدة من جواريها لأمير المؤمنين عمر إنّ صفية تُعظِّم السبت وتتصدق على اليهود, فسألها عمر.. قالت : والله ما عظمّت السبت منذ أبدلني الله بالإسلام واليهود لي قرابات أُعطيهم من مال الله .
ثم قالت للجارية: ما حَمَلَكِ على هذا؟!
قالت: حَمَلَني الشيطان .
قالت: اذهبي فأنت حرّة لوجه الله .
فما عاقَبت من عَصَى الله فيك بمثل أن تُطيع الله فيه.
(َ
أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا )
فمن أَحبَّ أن يعفو الله عنه، ويتجاوز عنه، فليتجاوز عن عباد الله.
/ قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) نزلت قيل في اليهود أنّهم آمنوا بموسى والتوراة وعزير، وكفروا بعيسى والإنجيل، وبمحمد، والقرآن , والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب (وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) يعني ديناً بين اليهودية والإسلام ، مذهباً مثل ما يفعله الآن بعض المفتونين الذِّين يتخيَّرون من الأحكام ما يُناسِبُ عقولهم, والله يقول: (ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً)،بعض المفتونين في هذا الزَّمان تجده يتخيّر من أحكام الشريعة ما يُناسبه وما لا يُناسبه يَرفُضُه (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)
خُذ أحكام الله كما جاءت من عند الله وأنت مطمئنّ ، راضٍ مُسلِّم (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ
فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) .(وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) قال الله (أُوْلَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ حَقًّا) ليُعلَم أنّ الكفر ببعضهم كالكفرُ بجميعهم
(وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) .
/ ثم قال الله والقرآن مثاني (وَالَّذِينَ آمَنُواْ
بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) كلهم
(وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ) أي بين الرسل , وهم المؤمنون يقولون كما قال الله (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) هم المؤمنون يؤمنون بجميع رسل الله
(أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) بإيمانهم بالله، وكتبه، وهذه الآية عكس حَال من قال الله فيهم (وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا) أؤلئك في ضلالٍ بعيد وهؤلاء
(أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .
/ ثم قال تعالى : (يَسْأَلُكَ) يا محمد (أَهْلُ الْكِتَابِ) وما أكثر أسئلة أهل الكتاب, لكن أحياناً يسألون أسئلة للتَّعجيز، وأحياناً يسألون أسئلة لاختبار النَّبي محمد صلى الله عليه وسلم , ولا يُمكِن أن يَسأل أحد من أهل الكتاب سؤال يُريد الحقّ مثل ما فعل ذاك اليهودي الذِّي جَاء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم
وقال: إنِّي سائِلك، وسأله أسئلة
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل ينفعك إن أخبرتك؟!
قال: أسمع بأذني .
فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بجميع ما سأل عنه ثم قال: صدقت وإنّك لنبيّ، ثم أدار ظهره وانصرف!
وصَدق وهو كذوب سمع بأذنيه، ثمّ قال صدقت وإنّك لنبيّ ثم انصرف, وكثير أسئلتهم. ولولا ضيق المقام لوردت منها نماذج كما جاء في الصَّحيحين وغيرهما .
المهم قال الله (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء) وكان هذا السُّؤال منهم سؤال تَحكُم واقتراح،لا سؤال انقياد, واللهُ - جَلّ وعلا - لا يُنزِّل الآيات على اقتراح العباد (فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ) وأعظم من ذلك, السَّبعين الذِّين خَرَجَ بهم مُوسى عليه السّلام إلى الجبل (فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) وهذا مذكور في سورة البقرة كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى
لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ
وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ). (ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ) يعني إلها (مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) الواضحات (فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ) لم نَستأصلهم (وَآتَيْنَا مُوسَى) عليهم وعلى غيرهم (سُلْطَانًا مُّبِينًا) حُجّةً بيّنة من المعجزات (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ
بَيِّنَاتٍ).
/ ثم قال الله: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ
بِمِيثَاقِهِمْ) هنا لطيفة من لطائف أهل التفسير - كما يقولون - فرّق أهل العلم بين الطور والجبل , أشار الحافظ ابن كثير إلى هذا الفرق
قال : "الطُور الجَبَل الذي عليه نبات , المُنبِت كالذي كلّم الله عليه وموسى، وأرسل منه عيسى , فإذا لم يكن الجبل مُنبتاً فإنّه لا يُسمّى طوراً وإنّما يُسمّى جبلاً" هذه لطيفة من لطائف التَّفسير.
(وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ) رَفَعَ الله فوقهم الطُّور، وقيل لهم إن لم تأخذوا الكتاب بقوّة وتُؤمنوا وإلا وَقَع عليكم , فتَحت التهديد قَبِلُوا ، يعني إيمانهم بالتَّهديد, قُسَاة القلوب هؤلاء قتلة الأنبياء ، اليهود (وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا) ادخلوا بيت المقدس سُجَداً فدخلوا يزحفون على إستاههم وقالوا حبَّةٌ في شَعرة كما في الصحيحين
(وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ) لا تتجاوزوا بصيد الحيتان كما قال الله (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ
إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ
يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) .
(وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ) هُنا إجمال وفي السُّور الأُخرى تفصيل لِجرائمهم , لكن هنا إجمال لما فُصِّل تَعداد فقط ، رؤوس أقلام توضِّح المقصود ، وأمّا من يُريد التفصيل ففي سورة البقرة وغيرها من السُّور, فصَّل الله ما هي الأحوال (وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) .
(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) بنقضهم ، "ما" صلة , مثل قوله:(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ
لَهُمْ) يعني برحمة . يعني بنقضهم ميثاقهم (وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ
وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ) المَقصود إمّا قلوبهم غُلف يعني كما قال الله في سورة البقرة (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا
غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) إمَّا غُلف يعني يقولون قلوبنا مُغلَّفة لا تسمع ولا تَعي، لا نفقه كلامك مثل ما قال المشركون: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ
مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) أو قلوبنا غُلف يعني جَمع غِلاف يعني عندنا علم ، مليئة بالعلم فلسنا بحاجة إلى ما عندك من العلم (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا) أي خَتم عليها (بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) :
• يعني لا يُؤمنون أبداً إلا القليل منهم كعبد الله بن سلام رضي الله عنه وأصحابه
• وقيل لا يُؤمنون قليلاً ولا كثيراً أبداً .
/ ثم قال الله:(وَبِكُفْرِهِمْ) سبحان الله في تكرير هنا ، كرر لحكمة , قال الله : (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) ثم قال (وَبِكُفْرِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) تَكرير الكفر للإيذان بِتَكرُّر كفرهم حيث كفروا بموسى، ثم كفروا بعيسى، ثم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم , وأيضاً
(وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ) العَذراء الطَّاهرة البَتول
(بُهْتَانًا عَظِيمًا) هنا أَجمَل لكنّه فصَّل في آية أخرى البُهتان الذي قالوه ورد في سورة مريم في قوله تعالى: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا
كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا*فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ
قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ماذا قالوا ؟ قالوا أنّه ولد زنا والعياذ بالله, اليهود , ولهذا الله قال : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) هنا وقفة : يقولون أنّ خليفة المسلمين أرسل القاضي أبو بكر الباقلاني إلى طاغية الرُّوم , فأراد طاغية الرُّوم أن يتكلَّم مع أبي بكر الباقلاني بكلام فيه حطّ من شأن عائشة رضي الله عنها.
يقول طاغية الروم للباقلاني : امرأةٌ في كتابكم معاشرَ المسلمين اُتّهمت بأمر لا أدري من هي؟
فقال الباقلاني : هما امرأتان كلاهما قيل فيهما قول وكلاهما طاهرةٌ عذراء بتول ، وكلاهما برّأها الله، لكن عائشة ما جاءت بولد، ومريم جاءت بولد .
فسكت عدو الله بكل خِزي وذلٍ وصغار , لأنّه يعلم ما هو الجواب.
مريم ابنت عمران وموسى ابن عمران هل هناك علاقة بينهما؟
بالنَّسبة لِمريم ابنت عِمران ليس لها علاقة بموسى ابن عمران نهائياً لأنَّ بينهم أكثر من ستمائة سنة أو ألف سنة , وقد جَاءَ في صحيح مسلم (أنّ المغيرة بن شعبة لمَّا ذهب على نجران سأله أهل نجران أنّكم تقرؤون في كتابكم (يَا أُخْتَ هَارُونَ) وبين عيسى وموسى كذا وكذا سنة .
قال المغيرة: لا أدري حتى أسألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم , فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: أنّهم كانوا يُسمُّون بأسماء أنبيائهم والصّالحين قبلهم) .
فإذا مريم ابنت عمران , عمران رجلٌ صالح كان في ذاك الزمان وليس له قرابة بموسى ابن عمران موسى الكليم عليه الصلاة والسَّلام , لأنَّ مُوسى قبل عيسى بآلاف السنين أو بمئات السنين , ألف سنة أو ستمائة سنة , ومريم عذراء بَتول طاهرة حَملت من غير زوج كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى: (فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ
حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا*قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا*قَالَ إِنَّمَا أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا) فنفخ في دِرعها نفخة واحدة فحملت بأمر الله وقدرته بعيسى عليه السلام , فعيسى من أمٍ بلا أب , وآدم بلا أبٍ وأم , وحوَّاء من أبٍ بلا أم , وسائر الخلق من أبٍ وأم , فالأصناف أربعة.
أمُّ مريم، امرأةٌ صالحة نذرت أنَّ ما في بطنها يَخدم بيت المقدس كما في آل عمران (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ
عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ
مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*فَلَمَّا وَضَعَتْهَا
قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى) والأنثى لا تَصلُح للخدمة والاختلاط بالرِّجال
(وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) طبعاً ليس لها ذُرِّية إلاّ عيسى عليه السّلام , ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصَّحيح (ما من مولودٍ يُولد إلا ينخَسَه الشيطان فيستهلّ صارخاً من نخسةِ الشيطان إلا مريم وابنها) , ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا
(وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) نشأت مريم طاهرة عذراء وتنازعوا أيُّهم يكفلها ووقعت القرعة على زكريا النبيّ إمّا أنّه زوج خالتها أو زوج أختها , المهم (َوَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ
عِندَهَا رِزْقًا) كان جبريل عليه السَّلام يأتيها بطعام من الجنّة يأتيها بطعام الشِّتاء في الصَّيف، وطعام الصَّيف في الشِّتاء (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) فكانت متعبّدة لله قانتة، صالحة ،كل همّها عبادة الله (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) لله تعالى .
فلمّا حملت بعيسى، ولد عيسى، نشأ كما يَنشأ الفضلاء، ثم أرسله الله تعالى برسالته، فلما أرسله الله برسالته حَسده اليهود فَوَشوا به إلى قُسطنطِين ، مَلِك في الشَّام، وقالوا إنَّ في بيت المقدس إنسان يُخرِّب عَقائد النَّاس، ويُثير البلبلة فأرسل ملك الشام قسطنطين إلى والي بيت المقدس أن انظر من هذا الرَّجُل الذي يُثير في الناس شَغب وكذا فاقتله , فدخل وإذا الحواريّين مع عيسى عليه السَّلام في مكان وكانوا اثنى عشر رجلا أو ثلاثة عشر رجلاً كما جاء في الأخبار .
فقال عيسى: أيُّكم يَرغَب أن يكون عليه الشَّبَه ويكون مَعي في درجتي في الجنَّة، فقام شابٌ منهم , قال أنا، فقال اجلس , خاف إنّه لا يتحمّل , فقال ثانية , فقام ذاك الشَّاب، فقال ثالثة، فقام ذلك الشّاب، فقال عيسى: أنت ، ثم رُفِع عيسى وهم يَرونه إلى السَّماء بأمر الله, فَأَمسَكُوا الذِّي عليه الشَّبه وقتلوه وصلبوه .
وهنا اختلف الناس في أمر عيسى كما قال الله :
(وَقَوْلِهِمْ) أيّ اليَهُود (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) سُمّي بالمسيح:
• لأنّه ممسوح من الذُّنُوب
• أو لأنَّ الله أعطاهُ قُدرة بحيث يَمسح على الأبرص فيُشفى بإذن الله، والأَكمه الذي وُلد أعمى فيُبصِر بإذن الله، والأقرع فينبت شعره.
(الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) قال الله: (وَمَا قَتَلُوهُ) كَذَبُواهم ومن صدّقهم من جَهلة النَّصارى , الآن اليهود يدّعون أنّهم قتلوه وجهلة النصارى يُصدّقونهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) هؤلاء مغضوب عليهم وهؤلاء ضالين جهلة ، منهم من صَدَّق , بينما نحنُ نعتقد كما قال الله أنّهم كَذَبة وأنَّ عيسى هو عبد الله ورسوله وأنَّه ما قُتِل ولا صُلِب وأنّه سينزل في آخر الزمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (يُوشِكُ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكماً عدلاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) ويَهلك في زمانهم مِلل كُلُّها ولا يَقبل إلا الإسلام , ومسيحُ الهُدى عيسى ابن مريم هو الذِّي يقتل مسيح الضلالة الدّجال , وقد ألَّف بعض أهل العلم كتاباً سمّاه (التَّصريح بما تواتر في نزول المسيح ) فالأحاديث في نزول المسيح عيسى ابن مريم أحاديث متواترة يَمكث في الأرض أربعين سنة كما في صحيح مسلم من حديث النوّاس بن سمعان ويحجّ، ويعتمر ويموت، ويُصلي عليه المسلمون وهو مرفوع بأمر الله (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) الشبه ظنوه أنه هو (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ) أي في قتله
(لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ) حقيقي (إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ) ولا شَكّ أنَّ الظَنّ لا يُغني من الحقّ شيئا (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) ما قتلوا عيسى , ومنهم من قال
(وَمَا قَتَلُوهُ) قِف , ثم قال
(يَقِينًا) يقينا أنهم ما قتلوه . (بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ
إِلَيْهِ) إلى السَّماء (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا ) منيعاً بالنقمة من اليهود
(حَكِيمًا) حَكَمَ باللعنة والغضب عليهم.
/ ثم قال تعالى: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) بِعيسى
(قَبْلَ مَوْتِهِ) موت عيسى , هذا القَول الأول , يعني معنى الآية على هذا - والله أعلم - :
ما مِن أحدٍ من أهل الكِتاب إلا ليُؤمنَّن بعيسى عليه الصلاة والسلام قبل موت عيسى , فإذا نزل آخر الزمان لا يبقى أحد إلا يُؤمن بعيسى ويُوقِن أنّه عبد الله ورسوله وأنَّه مُبشِّر بمحمد عليه الصلاة والسلام فيُؤمن بعيسى ويؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم, كما قال الله عن عيسى (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا
لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ
مُّبِينٌ*وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .
(قَبْلَ مَوْتِهِ) إذا الضَّمير فيه يعود إلى عيسى هذا قول .
• القَول الثاني : موت الشَّخص النَّصراني، أو الكِتابي أنَّه لا يُؤمن ، إذا حضره المَوت
وعاين علِم علم اليقين آمن إنَّ عيسى عبد الله ورسوله وأنَّهم
(مَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) ولكن هذا الأخير إيمانٌ لا ينفع لأنّه إيمانٌ عند المُعاينة, والإيمان عند المُعاينة وانقضاء الأجل ما ينفع (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي
تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)
فإذا الأحاديث في نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان أحاديثٌ متواترة لا شكّ فيها ولا ريب وأنَّه ينزل في آخر الزمان ويَحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - , ويؤمن بِمحمد - صلى الله عليه وسلم - أيضاً ويكون من أُمتّه ومن أتباعه.
(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) أنَّه بلَّغَهُم رِسالةَ ربه وأقَرّ بالعبودية على نفسه (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ
مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي
بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ
أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ
مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ
عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) استوفيت أجلي من الأرض (كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
يقولون أنَّ أحد العلماء
قال لأَحد النَّصارى: لماذا تُعظِّمُون الصَّليب؟!
قال: لأنَّ عيسى صُلِب عليه .
قال عيسى ركب الحمار؟!
قال: نعم .
قال: لماذا لا تُعظِّمُون الحمار، لأنَّ عيسى ركب عليه، ما الفرق؟!
فبُهِت الذي كفر.
/ قال الله: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ
هَادُواْ) ما تقدَّم من نقضهم المِيثاق وكفرهم بآيات الله , وقولهم على مريم بُهتاناً عظيماً , وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله , كل هذه عاقبهم الله بقوله:
(حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) كم قال : (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ
حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) كما في سورة الأنعام. (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ ) صَرفِهم أنفسهم
(عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) عن دين الله .
كل هذا بيان مخازي هؤلاء القوم الذين أفسدوا في الأرض أيّما إفساد.
(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا) في التَّوراة وفي الإنجيل قد نُهوا عنه
(وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) كما قال الله (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ
لِلسُّحْتِ) وأَخذهم الرشوة , بسبب هذه الأمور حرَّمنا عليهم هذه الطيّبات , ولاحِظ هذه الأمة حرَّم الله عليهم الخَبائث , هذه الأمّة تَحريم الخَبائث عليهم تحريم صِيانة وحفظ، وأولئك تحريم عقوبة عليهم وجزاء لهم (وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا*وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ) مِنَ اليهود المُصِّرين على الكُفر (عَذَابًا أَلِيمًا) وجيعاً يَخلُص إلى قُلوبِهم وأفئدتهم.
/ ثم قال الله: (لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
مِنْهُمْ) يعني ليس كل أهل الكتاب بهذه الصِّفة , لكن الراسخون المُبالغون، أولوا البصائر الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار , مثل وهب بن منبّه , هؤلاء وغيرهم (وَالْمُؤْمِنُونَ) من المُهاجرين والأنصار (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) أيّ القرآن (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) مِن الكتب السَّابقة (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) لماذا لم يَقُل والمقيمون؟
• قيل نُصِب على المدح أيّ أمدح المقيمين .
• وقيل على إضمار فعلٍ تقديره (أَعني المقيمين الصَّلاة) وهم المُؤتون للزكاة , وقيل غيرُ ذلك .
المهم هذا يدل على شدة العناية بالصلاة (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) وهي الجنة، ونعيم الجنة لأنّهم جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح.
المقطع الثّالث : (إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا
دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلاً قَدْ
قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا).
يقول الله تبارك وتعالى في هذا المجلس الأخير المجلس الرابع عشر (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ) هُنَا ذكر الله سبحانه وتعالى الوَحي
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا محمد
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) بيانٌ لِمَنزلة الوَحي، وأنَّ هـَؤلاء القوم الذّين هم أهل الكتاب الذِّين يُكذِّبُـون بك، ويَـردُّون رِسَالتك, هُم أُناسٌ في غَاية الضَّلال والبُعد عن الحقّ , لأنّه ما الفرق بينك وبين موسى وعيسى والنبيّين السَّابقين؟ ولهذا قال الله عزوجل:
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا محمد
(كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) ذكر نوح وبدأ به لأنَّه كانَ أبا البشر الثاني (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ
هُمْ الْبَاقِينَ) ولأنه أول نبيّ أنذر عن الشِّرك، وأوّلُ رسول عُوقِب قومه وُجعلت معجزته في عمره , عاش تسعمائة وخمسين سنة , ألف سنة إلا خمسين عاماً , يقولون ما ابيضّ له شَعَر ولا سقط له سنّ .
وهنا الوحي من أهمّ مَا يكون , نحن لسنا بشيء لولا هذا الوحي المبارك , رَحِمَنا الله بِالوَحي الذِّي أُنزل عَلى الرُّسل, فالعِبَاد بأمسّ الحاجة إلى معرفة الوحي ومعرفة الرَّسُول , يعني ما ظنّك كيف تكون حال الناس لو لم يأتهم وحيٌ ولا رسول , تضيع أمورهم , يكونون كالبهائم , فنحن بحاجة للرُّسل وتعاليم الرسل لصلاح قلوبنا وهدايتنا, بعض الناس يتوقع يقول البَشرية الآن بلغت مبلغاً في التَّقدُم والصناعات وغيرها جعلت تستغني عن الرسل وتعاليم الرُّسل, نقول سبحان الله هؤلاء الذين تزعم أنّهم وصلوا إلى ما وصلوا هل أسعدوا أنفسهم؟! لا والله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)
يقول ابن القيم - رحمه الله -: "ومن هُنَا تَعلَم اضطرار العِباد فوق كل ضَرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به وتصدِيقه فيما أخبَرَ به، وطاعتُه فيما أمر, فإنَّه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي بالرسل , ولا سبيل إلى معرفة الطيّب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم , ولا يُنال رضا الله البتّة إلا على أيديهم , فالطيِّب من الأعمال والأقوال والأخلاق على أيدي الرسل عليهم السلام" . ويقول ابن تيمية - رحمه الله -: "الدُّنيا كُلُّها مُظلِمة ملعونة، إلاَّ ما طلعت عليه شمس الرسالة" .
(وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ) وهم أولاد يعقوب (وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ
زَبُورًا*وَرُسُلاً قَدْ
قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ) أي كما أوحينا إلى نوح وإلى الرسل ، هناك رسل قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك .
كما قال الله: (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)
(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) خَاطَبَهُ, وَمَسألة الكَلام وقع فيها كما قُلت جَدل وغيره , لكن الحق على أنَّ القُرآن كلامُ الله مُنزَّلٌ غير مَخلوق، من الله بدأَ وإليه يعود، وأنّ الله تعالى تكلّم به حقيقة , وأنَّه كَلَّم عبده ورسوله مُوسى, ولهذا يُقال موسى الكليم , كلّمه كلاماً حقيقياً كما يشاء بما يشاء, على الصِّفة التي يشاء سبحانه وتعالى.
(رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) هذه مهمة الرسل عليهم السلام , مُبِّشرين لمن أطاعهم وعَبَدَ الله وحده ومُنذرين لمن عصى الله
(لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) لأنّ الله جل وعلا كما جاء في الصَّحيحين عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - (وليس أحد أحب إليه العُذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل مُبّشرين ومُنذرين) .
الله عزوجل يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) . (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) فإنّه كثيرا ما يجمع بينهما في خواتيم الآيات , وكل منهما دالّ على الكمال الخاصّ , العزة في العزيز، والحكمة في الحكيم , والجمع بينهما دال على كمال آخر وهو أنّ عزته جل وعلا مقرونة بالحكمة , فَعِزَّته لا تقتضي جوراً ولا ظلماً , بعض الناس إذا رأى نفسه أنه عزيز يظلم , الله - جل وعلا - عزيز لكن عزته مقرونة بالحكمة جَلّ وعلا , فعزّته لا تقتضي ظُلماً ولا هَضماً للعبد.
ثم قال: (لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ
بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ) وإن جحدوا وكذّبوا
(أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أيّ أنزله وفيه عِلمُهُ الذي لا يعلمه البشر , فـ"الباء" هنا للمصاحبة مثل قوله (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ
فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ) أي أُنزل وفيه عِلمُ الله الذِّي لا يعلمه البشر , وذلك من أعظم البراهين على صِدق نبّوة من جاء به. كما قاله ابن القيّم رحمه الله, (لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ) حتى وإن كفروا اتركهم , يكفيك شهادة الله لك (أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ) وفيه عِلمُه الذي لا يَعلمه البشر
(وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) أيضا زيادة (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) .
/ ثُمَّ قَال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ) كفروا هم بأنفسهم , بعض الناس الآن يُعارِض الوحي الذي نَزَل على الرَّسول صلى الله عليه وسلم سواء ًكان من الكِتَاب أومن السُّنة , لأنّنا اتفقّنا أنَّ السُّنة أيضاً وحي, مُعارضَةُ الوَحِي بالعَقل ميراثُ الشَّيطان.
فإنَّه عَارَضَ النَّص بِالقِياس قال: (أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) ولذلك ابنُ القيّم قال : "كُلُّ مَن عَارَضَ الوَحي بِعقله وذَوقِه فَعِنده شَيء من مِيراث إبليس" . بعض النّاس يقول لا نصدِّق حديث (مَا أَفلحَ قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة).
تَقول له هذا في صحيح البخاري !!
يقول حتى لو في صحيح البخاري ,ما يُمكن هذا العَقل لا يَقبَله .
نقول له أنت يا مَن تقول هذه المقولة عندك شيء من ميراث إبليس لأنّه هو الذي يُعارض الوحي بعقله وإلا عَادةَ المُؤمن يقول صَدَقَ الله ورسوله (وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا). المُؤمن لا يُعارِض الوحي بعقله , لا يُعارض الشَّرع بعقله, إنَّما يُصدّق ويُوقن ويُؤمن . .
ثم قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ) هُم بِأَنفسهم,كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن (وَصَدُّواْ) غيرهم أيضاً
(عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلالاً بَعِيدًا) بَعيد عن الصواب.
/ ثم قال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَظَلَمُواْ) أَتبعوا ظُلمهم بالكُفر تأكيداً وكتموا صفة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون في التوراة أنَّه نبيّ, وبعضهم قال أشهد إنّك نبيّ لكنَّهم لا يُؤمنون, هؤلاء (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا*إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) لَمَّا كَفَرُوا صَارَ هذا جزاؤهم .
وَلَمَا قَرَّر الله عزَّوجل أمر النُّبوَة وبيَّن الطَّريق المُوصِل للعِلم بِها وبيّن وعيد من أنكر هذه النبُّوة خَاطَبِ الناس عامّةً بالدعوة وإلزام الحجّة والوعيد على من ردّ هذه الدعوة بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ
الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ) تقديرُه فآمنوا يَكُن الإيمان خيراً لكم (وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) خَلقاً، وإيجاداً، ومُلكاً كما قال تعالى: (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)
(وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) .
/ ثم خاطب أهل الكتاب وقال (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) خاصّة النَّصارى أهل الغُلو (لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ) لا تقولوا إنَّ لله شريكاً , لا تقولوا إنَّ عيسى ابن الله ولا إله , لا تغلوا لأنَّ الغُلو من أسباب الضَّلال ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تُطروني كما أَطرَت النَّصَارى ابن مريم , إنَّما أنا عَبد , فقُولوا عَبدُالله ورسوله) وقال عليه الصلاة والسلام: (مَن شَهِدَ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله وأنَّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، والجنّة حق والنار حق أدخله الله الجنّة على ما كان من العمل).
قوله: (وأنّ عيسى عبد الله) ردٌّ على على النصارى , و(رسوله) ردٌّ على اليهود , لأنّ اليهود يقولون عن عيسى أنّه ابن زنا - والعياذ بالله - وكَذَبُوا, والنَّصارى يقولون هو الله أو ابن الله ويستدلون بقوله (وروحٌ منه) كما سيأتي .
هنا قال الله: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ) وهي قوله "كُن" فَكَانَ بَشَراً مِن غَيرِ أَب ( أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) أيّ أعلمها وأخبرها بها (وَرُوحٌ مِّنْهُ) رُوحٌ مثل سَائِرُ الأرواح، إلاَّ أنَّ الله أَضَافه إليه إِضافة تَشريف مثل قوله: بيتُ الله، وناقةُ الله, وليس معنى (روحٌ منه) أَيّ جُزءٌ منه.
والعَجيب أنَّهم يقولون عن طبيب عند هارون الرَّشيد فقال له واحد من أهل العلم اسمه علي الواقدي .
قال للطَّبيب: كيف تقولون إنَّ عيسى جُزء من الله، وأنّه الله .
قال: نعم لأنَّ الله يقول عندكم في القرآن (وروحٌ منه)
قال له: خيَّبَكَ الله. الله يقول (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)
هل هذه جزء من الله؟! الجِبَال والأشجار .
فبُهِتَ ذلك!! وأسلم .
فَجَاءَ هَارونُ الرَّشِيد وأَعطى كل منهما جائزة، لمَّا نَاظره بالحجّة والبرهان .
فليس معنى (وَرُوحٌ مِّنْهُ) جُزءٌ منه من الله- تعالى الله - على هذا المفهوم إذا قوله :
(وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) أنَّها تُصبح جُزء من الله, وليس هذا هو المراد .
فهُنا (وَرُوحٌ مِّنْهُ) الرُّوح النَّفخ الذِّي نَفَخَه جِبريل في درع مريم فَحَمَلت بأمر الله , سُمِّي النفخ روحاً لأنّه ريح يخرج من الرُّوح, أضافه الله جلّ وعلا إلى نفسه لأنّه هو الآمر به جلّ وعلا . وقيل في هذه الآية أقوال أخرى .
/ (فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاثَةٌ) يقولون هم الأب والابن ورُوحُ القُدُس, هؤلاء كَفَرة لا شَكّ (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)
وقال الله: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا
يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) والذِّي يأكل الطعام يحتاج إلى إخراجه، وهذا لا يصلح أن يكون إلهاً
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ) جاء في معناه • الصَّمد: الذِّي لا جَوفَ له
• الصَّمد: السَّيد الذِّي يَصمُد إليه الخَلائق.
• الصَّمد: الذِّي انتهى وعَظُم في سُؤدَدِه وكماله .
من المسلمين من يَقُول: أنَّ اليَهود والنَّصارى على دين الحقّ الآن! والمسلمين على دين حقّ , اتركوهم لا تكفِّرونهم (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) من قال هذا الكَلام معتِقداً فهُو كافر .
لأنَّه بقوله هذا قد ارتكب ناقضاً من نواقض الدِّين الإسلامي .
بعضُ المَخذُولِين الآن - إمَّا جَهلاً وإمَّا نِفَاقاً وكُفراً – يقول: يا أخي أُترك الناس اليَهُود نبيُّهم موسى وكتابهم التَّـوراة, يعبدون الله بطريقتهم الخاصة والمَوعد باب الجنّة ، والنَّصارى نبيّهم عيسى واتركهم الآن يعبدون الله وكتابهم الإنجيل والموعد باب الجنّة ، والمسلمين نبيّهم محمد وكتابهم القرآن،ويعبدون الله بطريقتهم,كُلُّ هؤلاء يجتمعون ويَدخلون الجنّة .
نقول هذا والعياذ بالله كفرٌ بيّنٌ، واضحٌ، صريح .
وإن كان مع الأسف الشديد يتفوَّه به بعض المَنسوبين إلى الإسلام , نقول ما دام أنزل الله هذا القرآن، وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم فلا حُجّة لأحد .
قال صلى الله عليه وسلم كما في الصَّحيح (والذِّي نَفسي بيده لا يَسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمّة يَهُوديٌّ ولا نَصراني، ثم يموتُ ولا يُؤمن بالذِّي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النَّار) نصٌ صريح .
/ ثم قال الله - جل وعلا - راداً عليهم: (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ
عَبْدًا لِّلَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) لن يَأنف من عبادة الله، ويمتنع منها، ولن يتعاظم ويترّفع المسيح عيسى ابن مريم (لَّن يَسْتَنكِفَ) أي لن يأنف من عبادة الله (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ) ولن يتعاظم ويَتَرَفَع أبداً (وَمَن يَسْتَنكِفْ) ومن يأنف من عبادة الله ويمتنع ويستكبر ويتعاظم ويترفّع
(فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) وهذا وعيد , لأنّه إذا حَشَرَهُم فسوف يُعذِّبهم ويُحاسبهم.
/ (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن
فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ
نَصِيرًا) والآيات واضحة .
/ ثم قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - والبُرهان هو الحُجّة، (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) النُّور: هُوَ القُرآن.
فعندكم رسول، وعندكم كتاب. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ
وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ) في الجنة (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) .
/ ثم ختم الله هذه السورة العظيمة بهذه الآية الكريمة وهي قول تعالى:
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِي الْكَلالَةِ) وهذه تسمى آية الصَّيف
والتي في أول السُّورة تسمى آية الشتاء .
ولهذا جاء في صحيح البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: آخر سورة نزلت (بَـراءة) وآخر آية نَـزَلت (يَستفتُونك) أيّ آخر آية نزلت في الفَرائض.
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) الكَلالة هو مَن لا وَلَدَ لَه، ولا وِالِد , جاءت آية شَبيهة بها في بِدَاية السُّورة وهي قوله (وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ
فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ) وهي في ميراث الإخوة لأمّ .
وهذه الآية (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) تُبيّن فيما إذا مات ميّت (كلالة) يعني ليس له ولد، ولا ولد ولد، ولا أبّ، ولا أمّ فكيف يكون ميراثه؟.فهذا يُسمّى كلالة. (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وهذه الآية الكريمة فيها سَببُ نُـزول وهو ما جاء في الصَّحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه أبو بكر وهما ماشيان , وكان قد أُغميَ عليّ من شِدة المرض فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صبّ عليّ من وضوئه فأفقت - أفاق من إِغمائه –
وقال جابر : سألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر: لِمَن الميراث وإنَّما أنا (كَلاَلَة) أَيّ ليس له وَلَد ولا وَالِد, ليس له إلا أَخواته .
فنزلت: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وقد سبق بيان الكلالة في أول السورة لكن هُنا قال الله (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ليس له وَلَد، ولا ولد ولد، ولا والد، ولا أمّ (وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) فلها النِّصف، (وَهُوَ يَرِثُهَا) إن مَاتَت الأخت، جميع ميراثها يكون للأخ (إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ) فإن كان لها ولد ، فليس للأخ شيء .
وإن كان وَلَدُها أُنثى فيُصبح للأُخت النِّصف، وللأَخ ما فَضُل عن فَرضِ البنات , وإن كانوا بنتان فيُصبح لهما الثلثين والباقي يكون للأخ ،حتى وإن كُنّ عشر بنات فليس لهُنّ إلاّ فرضٌ واحد وهو الثلثين ،(وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء) يعني مات رجل، ليس له إلاّ إخوةٌ من الذُّكور والإناث. فكيف يكون الميراث؟ (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ) كراهيةَ أن تَضِلُّوا
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من الأشياء التي من جُملتها أحوالكم المتعلقة بِمَحياكم ومماتكم، فهو العليم بيّن لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم , وهو العالم بعواقب الأمور، ومَصالحها، وما فيها من الخَير لعباده، وما يستحقه كلُّ واحدٍ من القَرابات بحسب قُربه من المُتَوفَّى .
وها هنا نَختِمُ بلطيفةٍ ذَكَرها بعض المفسرين، في هذه السُّورة لَطيفة عجيبة :
أَوَّلُها مشتملٌ على بيان كمال قدرة الله تعالى, لأنّ الله قال في بداية السُّورة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) وَهَذا دَالٌ عَلى سَعة القُدرة , وكمالِ قدرة الله ،فكُلُّ الأُمَّة منشورين، نَشَرَهُم اللهُ فِي البَرِّ، والبَحر. وهُم مِن نفسٍ واحدة.انظروا للذُّريِّة على كثرتها فهو دليلٌ على كمال قدرة الله. وآخِرُها مشتملٌ على بَيان ِكَمال العلم وهو قوله: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وهذان الوصفان (القُدرة- والعلم) هُمَا اللذَّان بِهما تَثبُت الرُّبوبية، والإلهية، والجَلالة، والعِزَّة. وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاً للأوامرِ، والنَّواهي، مُنقاداً في كُلّ التكاليف
وليس هناك أحدٌ عنده القُدرةُ الكاملة ، ولا هناك أحد عنده العلم الكامل الشَّامل
سوى الله جل جلاله وتقدّست أسماؤه .
وبهذا تمّ الحديثُ عن سورة النِّساء، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات , ونسأل الله الكَريم أن يرزقني وإياَّكم
العِلم النَّافع، والعمل الصالح، والإخلاص في القول والعمل. وأن يُصلِحَ قلوبنا وأعمالنا وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه، وأستغفر الله وأتوبُ إليه ممّا أخطأتُ فيه، أَو زلَّ به لِسَاني.
والله الموفق.
لتحميل المقطع الصوتي :
مصدر التفريغ/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق