الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه ، والصلاة والسلام على خيرخلقه وصفوت أوليائه وبعد : فإن حديثنا اليوم عن مفردتي (الظاهر والباطن) وهما مفردتان وردتا في كلام رب العالمين - جل جلاله - .
قبل أن أتحدث عنهما وأفسر بعض الآيات التي جاء ذكرهما فيها أنبه إلى أن الظاهر والباطن اسمان من أسماء الله
الحسنى لكن ليس الحديث عنهما، لكن بداية نقول إن الله - عز وجل - قال - وقوله الحق - (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو الأول
فليس قبله شيء ، وهو الآخر فليس بعده شيء ، والظاهر فليس فوقه شيء ، والباطن فليس دونه شيء (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يعلم ما أُسرَّ وما أُعلن ، الخفايا ، المكنونات ، المخلوقات ، الموجودات ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في
الأرض .
الحديث ليس عن الظاهر والباطن الاسمين الحسنيين من أسماء الله إنما الحديث عن الظاهر والباطن بمعنى الشيء المُعلن
والشيء الخفي كيف ورد في كلام رب العزة والجلال في كتابه العظيم حتى يتنبه من يسمعني أو من يراني عن هذا الأمر .
/ قال الله تعالى (وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) :
"ذروا" أي أتركوا (ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ)
قال العلماء: هذه الآية من جوامع الكلِم والأصل في تحريم كل إثم ويمكن حملها على معان عدة :
- فهي في باب الشرك : ظاهر الإثم وباطنه الشرك الخفي والشرك الجلي .
- في باب الفواحش : الزنا في الحوانيت المعلنة والزنا في الغرف المظلمة ، ظاهره وباطنه كله حرام .
- وفي الأعمال ظاهر الإثم وباطنه : أعمال الجوارح والبدن ، والباطن أعمال القلوب فكما حرم الله السرقة
حرم الله القتل ، حرم الله الزنا ، حرم الله الحسد ، حرم الله الكِبر ، حرم الله الرياء ، حرم الله العُجب ،
أعمال القلوب وأعمال الجوارح كلها محرمة .
هذا المقصود من جملة ما بينته الآية الكريمة (وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) ما يمكن أن يُعلن وما يمكن أن يخفى على الناس ، والمؤمن يتقي الله في أعمال قلبه كما يتقيه في أعمال جوارحه . هذه آية .
/ من الآيات التي ذُكر فيها الظاهر والباطن جاءت في ذكر النِعم ، الله يقول (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) أجمل ما قيل في
معنى ظاهرة وباطنة : الظاهرة الإسلام وما حسُن من خلقك وخُلُقك ، والباطن ما ستر الله عليك من سيء عملك ، فما ستره الله
عليك من سيء عملك هذا من أعظم النِعم الباطنة ، وما أظهره الله عليك من ديانة الإسلام وحُسن الخُلق هذا من النِعم الظاهرة . هذا قول .
وقال بعض العلماء : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً) أي في الدنيا (وَبَاطِنَةً) أي العقبى في الآخرة أي العقبى التي في الآخرة .
وقال بعض العلماء (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) الظاهرة ما يراه الناس من الخِلقة والمال والجاه والرداء وما تركبه
، والباطنة نعمة العقل والمعرفة . وهذا تفسير حسن للآية ، يتفق . لأن من النِعم ما هو ظاهر كالمال والرياش وأمثالها ،
ومنها ما هو باطن كمعرفة الإنسان وأعظم العلم العلم بالله ونعمة العقل .
ونعمة العقل من أجلّ النِعم بدليل أن القرآن والسنة أي الشرع جاء بأن العقل مناط التكليف ، فإذا زال العقل برهة أو كُلية أو مناما
ارتفع التكليف ، رُفع القلم عن ثلاث كلها متعلقة بزوال العقل ، ومن كمال العقل أن تكمل مروءة الإنسان وقد قيل "إن العقل يأمر بالأنفع
والمروءة تأمر بالأرفع" فالرجل العاقل يحسبها أين النفع ، كامل المروءة يحسبها أين ما يرفعه ويُعلي ذكره ولو تحمل مشاق
ولا يطلبن أحد علو كعب في شيء بغير مشاق ، ولابد دون الشهد من إبر النحل
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ** وتأتي على قدر الكريم المكارم
وتعظُم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم
وقال المتنبي نفسه :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهّالة في الشقاوة ينعم
والمراد من هذا كله أن العقل من أعظم النعم الدنيوية الباطنة التي يؤتيها الله العبد ، والعامة تقول : العاقل يرده عقله ، حتى لو
جاءه خاطر أو أغواه صديق أو أغرته زوجته في أن يقتحم لُججا ليست له لا يلبث أن يضعها في ذهنه ثم يُمررها على عقله
ثم لا يقبلها ويأنف أن يسير فيها ، قال ربنا (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) هاتان مفردتان جاءتا في ذكر الظاهر والباطن في القرآن .
/ بقي قول الله - جل وعلا - (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ
مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) قبل أن آتيها هذه الآية نأتي بشيء أدبي .
العرب تقول فيما ظاهره النفع وباطنه الضر بـ"صحيفة المتلمس" ، والمُتلمِس شاعر كان خالا لطرفة بن العبد أحد شعراء المعلقات
وكان في طرفة أنفة كما كانت في خاله لكنها في طرفة أكثر ،فدخلوا على الملك عمرو بن هند ، فكأن عمرو بن هند لاحظ مشية طرفة
فيها أنفة وهو ملِك لا يقبل أن يطأ أحد على بلاطه بهذه الصورة ، فاغتاظ منهما فكتب لهما كتابا وأعطى كل واحد صحيفة
يأمر فيها عامله في البحرين أن يقتلهما وقال لهما إنني قد أمرت لكما بصلة وعطايا في كتابي هذا المطوي إلى عاملي في البحرين
أي الوالي الذي عينته في البحرين فخذاها منه ، فبينما هما يسيران في الطريق إذ مرا على أعرابي يصنع شيئا غير مقبول
- صعب أن أجهر به - فغضب المتلمس من صنيع الأعرابي وقال ناقدا له وذاما له على العمل الذي يصنعه فقال الأعرابي
يدافع عن نفسه : وما يُضيرني - وذكر حجته ثم قال - كأن الأعرابي أطلقها تفرسا - قال : لكن الذي يُلام من يحمل حتفه
في يده - هو قالها هكذا - فلما قالها توقف المتلمس ، كان لا يقرأ ، فإذا بغلام يمشي ، يرعى غنم ، قال : ياغلام تُحسن القراءة ؟
قال : نعم ، قال : خذ فاقرأ هذا ، فقرأ فيها أنه يأمر عامله في البحرين بأن يقتلهما حال وصولهما إليه . فرمى الصحيفة وفر
فأصبحت العرب تضرب المثل فيما ظاهره النفع وباطنه الضر يقول القائل :
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله *** كذا حتى نعله ألقاها
وخرج ، فأصبح مثلا في صحيفة المتلمس ، وربما مرّ معنا أن شريحا القاضي بعث ابنه لمعلم يعلمه وكان يوصي المعلم ألاّ يضرب الابن
فبينما هو ذات يوم شريح خرج وجد ابنه يلعب مع أَكلُب بجوار الدار وترك الصلاة فكتب لمعلمه ، والابن يومئذ صغير لا يجيد القراءة ، لتوه في الكتاتيب ، وأعطاه الكتاب مختوما ليعطيه لمعلمه قال له فيه :
ترك الصلاة لأكلُب يسعى لها *** يبغي الغواة مع الغواة الرُجس
فليأتينك غدا بصحيفة *** كُتبت له كصحيفة المتلمس
فإذا هممت بضربه فبدرة *** وإذا بلغت ثلاثة لك فاحبسِ
واعلم بأنك ما أتيت فنفسه *** مع ما يُجرعني أعزّ الأنفسِ
يعني اضربه لكن لا تفرح أنك ضربته فأنا أذنت لك أن تضربه لكن لا تزد على ثلاث واعلم أن نفسه عزيزة عليّ رغم أنني أمرتك بضربه
فأصبح العرب يضربون بها المثل .إذا انتهينا من هذا نعود للآية .
قال أصدق القائلين (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم) جاء في بعض الآثار إن من المؤمنين من نوره يوم القيامة من المدينة إلى صنعاء
، ومن المؤمنين من نوره لا يتخطى أصبع قدمه ، فالنور على قدر الخوف ، الوجل ، المحبة لله في الدنيا ، على قدر العمل الصالح ، برك لأمك
برك لأبيك ، غدوّك ورواحك للمسجد ، تُكثر الله أجلّ وأكثر ، تُعطى نور ، تُفرط يقلّ النور، الله يقول (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم) قال بعض العلماء : "وبأيمانهم كتابهم " (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هذا حال المؤمنين والمؤمنات وهم على الصراط ،(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ)
تحتمل تفسيران :
الأول : "انظرونا" أي أمهلونا وهذا عليه الجمهور ، بمعنى أن المنافقين عندما يقعون في الظلمة ، تُطفأ أنوارهم ويرون نور أهل الإيمان يقولون للمؤمنين انظرونا ، أمهلونا تقتبس من نوركم .
الثاني : "انظرونا" أي انظروا إلينا .
لماذا قال المنافقون للمؤمنين انظروا إلينا ؟ حتى يستضيؤا بنور وجه المؤمنين فيعبروا الصراط "انظرونا" ويدلّ عليه قوله
(نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) .
(قِيلَ ارْجِعُوا) إما أن تكون الملائكة هي القائلة وإما أن يكون المؤمنون ، وهو الأرجح .
(قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ) أي للدنيا ، (فَالْتَمِسُوا نُورًا) أي هذا النور الذي حصلنا عليه
برحمة الله وفضله وإحسانه ثمرة عملنا الصالح في الدنيا ، فنحن اليوم ننعم بذالكم النور بثمرة أعمالنا الصالحة في الدنيا .
(قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ) ولن يقدروا أن يرجعوا
(وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) لما رأى المؤمنون حال المنافقين وقد أصبحوا في ظُلمة ، عقلا - يا بني - مالذي يخشون؟ يخشون أن يصبح هذا النور الذي معهم ظُلمة كما أصبح نور المنافقين ظُلمة
فقالوا - كما قال الله في سورة التحريم - (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) .
عندما تُفسر خذ الآيات كلها ، لم يقلها الله في سورة الحديد لكن قالها في سورة التحريم ، فإذا رأى المؤمنون أن المنافقين فقدوا
النور الذي أُعطوه أول الأمر وأصبحوا في ظلمة خافوا على النور الذي معهم فتضرعوا إلى الله ، قال الله - جل وعلا - عنهم (أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
نعود للآية : قال ربنا - جل وعلا -
(فَضُرِبَ بَيْنَهُم) بين المنافقين والمؤمنين
(بِسُورٍ) حاجب ، حجاز
(لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) السور له باب
(بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) هذا جهة أهل الإيمان - جعلنا الله وإياكم منهم -
(وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) هذا جهة المنافقين. وقال بعض العلماء : إن المراد بالأول نور المؤمنين ، والمراد بالثاني العذاب أي ظُلمة المنافقين والتفسير الأول أرجح .
قال ربنا
(فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) وهذا يكون يوم القيامة .
إذا تبيّن هذا وأدركه المؤمن وأيقن به سعى إلى مرضات ربه بكل ما يقدر عليه .
كُلما أحجمت بك نفسك ، ضاقت بك حالك تذكر يوم العبور على الصراط ، وكل ما غلب على ظنك أنه سيزيدك نورا عند الله فلا تتردد عنه . كلنا بشر ضعيف يُغلب على أمره ، تغلب عليه شهوته
يغلب عليه عجزه ، يغلب عليه ضعفه لكنني أنبهك على شيء يحبه الله : كلما جئت إلى فراشك وكان قد أصابك من التعب والعناء ما أصابك بصرف النظر عن سبب ذالكم العناء والتعب لأن الناس
يختلفون ، هذا مسافر ، وهذا رحّال ، وهذا عمله في الليل ، وهذا قيّم على أطفال ، وهذا ... ، يختلفون . إذا جئت تنام قبل أن تضع جنبك على فراشك صلِ لله ولو ركعتين ، قدّم ما يحبه الله على ما تحبه
نفسك واجعل هذا بينك وبين ربك ، واحتسب أن يزدك الله به أجرا ، ليرفعك الله به ذكرا ، وأن يجعله الله لك نورا يوم تلقاه .
لابد للعاقل أن يدخر ، كما يوجد ممن يشحّ في المال كلما غاب عنه أبناؤه ، بناته ، من يعمل معه
أخرج مالا لا يرونه وأخفاه ، يُخفيه من شُحّه حتى عن أبنائه وبناته خوفا من أن يتسلطوا عليه . أنت أولى بهذا منه ، يرجوا الدنيا وانت ترجو الآخرة .
إذا غاب عنك رفقاؤك ، أصدقاؤك ، زوجتك ، أهلك فادخر تلك اللحظات ، تلك الأحوال ، تلك الساعات ولو دقائق ولو ساعات أن تضع فيها لنفسك عملا صالحا بين يدي الله ، والله يحب من عباده أنهم إذا هجع الخلق وناموا
قاموا له يقفون بين يديه يُناجونه بكلامه قال الله - جل وعلا - (إِنَّمَا يُؤْمِنُ
بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ*تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنفِقُونَ) وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ (وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر) .
والله إن رجلا أو امرأة يضع جنبه على فراشه وآخر عهده بالدنيا
ركعات صلاها لله لا يُبالي استيقظ من مرقده أم لم يستيقظ ، على الأقل - كما أقول مرارا في الدروس - يُحاجّ الله أن آخر عهده بالدنيا أنني صليت لك ركعتين .
وفقني الله ولإياكم لما يرضيه وجنبنا الله وإياكم شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا والحمد لله رب العالمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق