قال تعالى : {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175) وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178) مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) }
/ قوله (قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يشمل من قتله العدو ومن قُتل حِرفة ـ بكسر الحاء ـ للعدو كما لو ارتد السهم على حامله فقتله فإنه يكون مقتولا في سبيل الله .
/ (قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) سبيل الله طريقه ، و يضاف أحيانا إلى المؤمن قال تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى) فهو يضاف إلى الله باعتبارين :
- باعتبار أنه واضعه فهو الذي شرع هذا الطريق
- واعتبار أنه موصل إليه .
ويُضاف إلى المؤمنين باعتبار واحد وهو أنهم هم الذين سلكوه .
/ (
بَلْ أَحْيَاء) حياة برزخية ليست كحياة الدنيا ، وهنا فائدة أنه لو ثبت هذا للشهداء فإنه يثبت للأنبياء من باب أولى ، ويمتاز الأنبياء عن الشهداء بأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم بخلاف الشهداء فإن الأرض تأكلهم ولكن قد لا تأكل بعضهم إكراما لهم .
/ (عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) "عند" تفيد القُرب من الله عز وجل وهو كذلك ، فإن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم ترجع إلى قناديل معلقة تحت العرش وهذه عندية خاصة يمتاز بها بالقرب من الله سبحانه وتعالى .
وتفيد الآية إثبات العندية لله عز وجل أي أن يكون أحد من الخلق عند الله . وهذه عندية خاصة كقوله (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون).
/
( يُرْزَقُونَ) أي يُعطون من رزق الله في الجنة حيث شاؤوا ، ولكن هذا العطاء يكون ناقصا بالنسبة للعطاء الأكمل الذي يكون بعد البعث لأن العطاء هنا ـ قبل القيامة ـ عطاء للبدن وعطاء للروح وكلاهما ناقص بالنسبة لما بعده فهو عطاء للبدن لأنه يُفسح له في القبر مدّ البصر ويُفتح له باب من الجنة ويأتيه من روحها ونعيمها لكنه لا يتمتع التمتع الكامل ، كذلك الأرواح لا تتمتع التمتع الكامل في وجودها في الجنة . يكون التمتع الكامل بعد البعث حين تلتقي الأرواح بالأجساد اللقاء الذي لا مفارقة بعده .
/ قوله تعالى (فَرِحِينَ) يُفيد أن هؤلاء الشهداء لهم شعور ، يفرحون لأن الفرح من الشعور النفسي ، وهل يحزنون ؟
ذُكر في بعض الآثار أن الميت تُعرض عليه أعمال أقاربه فإذا كانت سيئة حَزِن وإن كانت حسنة فرِح ، لكنها آثار يشك الإنسان في صحتها.
/ (يَسْتَبْشِرُونَ) معنى استبشر أي بشَّر غيره ، أو دخلت عليه البشرى بفعل غيره .
/ الشهداء لا يحزنون على ما مضى لأنهم استكملوا عملا من أفضل الأعمال وهو الجهاد في سبيل الله الذي أدى إلى الشهادة ، من خرج من الدنيا شهيدا فقد خرج أكمل خروج ، في الطبقة الثانية من طبقات الذين أنعم الله عليهم .
/
(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ) هذا الاستبشار سببه غير السبب الأول ، الأول سببه أنهم ينتظرون إخوانا لهم لم يلحقوا بهم ، والسبب الثاني من الاستبشار ما أنعم الله عليهم من النعمة والفضل .
وهنا قال "يستبشرون"وقبل قليل قال "فرحين بما ءاتاهم الله" ولا منافاة بينهما فهم فرحين بما حصل ويستبشرون بالذي سيحصل .
/ أهل الجنة في الآخرة هم أهل الجنة في الدنيا ولهذا لا تجد أحدا أنعم بالا وأسرّ حالا من المؤمن ، إن أُعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن أذنب استغفر ودائما مع الله عز وجل في حكمه الكوني والشرعي راضٍ بقضاء الله.
/ في قوله تعالى (وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) كل إنسان يعمل وهو مؤمن فإن أجره لن يضيع وفي ذلك إثبات عدل الله عز وجل .
/ (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
المؤمن عند المصائب يزداد إيمانا ، ونظيره لما أحاط الأحزاب بالمدينة قال المؤمنون (هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) فالمؤمن كلما ازدادت المصائب والنكبات ازداد إيمانا بالله ومعرفة به.
/ الحسب هو الله وحده كما أنه هو وحده المتوكل عليه وبهذا نعرف أن "من" في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) معطوفة على الكاف في قوله (حسبك ) وليست معطوفة على لفظ الجلالة (الله) لأنه لو عُطفت على لفظ الجلالة لكان المعنى : أن الله حسبك ومن اتبعك من المؤمنين حسبك ، وليس الأمر كذلك وإنما الله حسبه وحسب من اتبعه.
/ في قوله تعالى
(وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) إثبات اسم الوكيل لله ، ومعناه المتكفل بشؤون عباده ، وليس معناه القائم بالأمر نيابة عنهم .
/ (
فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ) النعمة هي أنهم سلِموا من ملاقاة العدو ولم يحصل لهم حرب لأن العدو مضى في سبيله ولم يرجع.
وأما الفضل في قوله (وفضل ) ففسر بأنه فضل الجهاد وأن الله كتب لهم بهذا الخروج أجر غزوة كاملة ، فسلموا من الحرب ونالوا ثواب المجاهدين . وتفيد هذه الآية أن من عمل عملا وسعى فيه ولم يُكمله كُتب له أجره كاملا ولهذا شواهد :
- منها قوله تعالى (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)
- ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم "من مرض أو سافر كُتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما ".
حتى طالب العلم لو مات قبل أن يدرك ما يريد من العلم فإنه يُكتب له ما نوى لأنه شرع فيه وعمل ما يقدر عليه فيناله الأجر .
/ (وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ) الاستجابة لله ورسوله سبب لرضى الله عز وجل .وفي ذلك إثبات الرضى لله ، والرضى صفة من صفات الله الحقيقية وهي من الصفات الفعلية لأن القاعدة عند السلف أن كل ما يتعلق بالمشيئة من صفات الله صفة فعلية .
/ قاعدة في الصفات: عند السلف أن كل صفة تتعلق بسبب فهي تتعلق بمشيئة الله وكل صفة تتعلق بالمشيئة فهي صفة فعلية .
والرضى يتعلق بسبب وهو فعل ما يُرضيه وعليه فيكون صفة فعلية متعلقة بمشيئته سبحانه.
/ أهل التعطيل يفسرون الرضى بالثواب لأن الثواب شيء منفصل بائن عن الله ليس من صفات الله بل مخلوق مفعول ، أو يفسرون بإرادة الثواب لأنهم يثبتون الإرادة أما الرضى فإنهم لا يثبتونه. ولا شك أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه ، وسبحان الله كيف يثبت الله لنفسه أنه رضي ونحن نقول لا ، أنحن أعلم بالله من نفسه ؟ نحن نثبت الرضى لله حقيقة وأنه صفة من صفاته الفعلية التي تتعلق بمشيئته، ولكن هل رضاه كرضانا؟ لا ، لقوله تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
/ من الفوائد اثبات اتصاف الله عز وجل بالفضل العظيم ، العظيم في كميته ، العظيم في كيفيته.
أما في كميته : فإن الله يقول (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) وجعل جزاء الحسنة عشرا إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة .
وأما في كيفيته : فقد قال الله عز وجل (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
/ الحصر إثبات الحكم للمحصور فيه ونفيه عما سواه . فهو بمنزلة نفي وإثبات ، وله طُرق منها :
- إنما
- ومنها تقديم ما حقه التأخير
- ومنها النفي والإثبات مثل لا قائم إلا زيد
- ومنها إذا كانت الجملة إسمية معرف طرفاها (إنما ذلكم الشيطان يخوف اولياءه ) أي ما الشيطان إلا مخوف لأوليائه.
/ (ذلكم ) تضمن إشارة ومخاطبة ، الإشارة "ذا" والخطاب "الكاف" الإشارة بحسب المشار إليه ، والكاف بحسب المخاطب.اسم الإشارة يُراعى به المشار إليه والكاف يُراعى به المخاطب.
/ (
يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ) أي يخوفكم أولياءه أي يعظمهم في صدوركم فتخافونهم وتتركون الجهاد . وأولياء الشيطان هم كل مجرم وفاسق ، وملحد وكافر . وتفيد الآية أن الشيطان يدافع عن أولياءه بل يُهاجم بهم .
/ الواجب على المؤمن ألاّ يخاف من أولياء الشيطان.
فإن قال قائل : الخوف أمر طبيعي يعتري الإنسان عندما يرى أو يسمع ما يخاف منه ولا يستطيع مدافعته ؟
فالجواب عن ذلك أن يُقال : بل يستطيع مدافعته بأن يشق طريقه الذي أوجب الله عليه ولا يهتم بأحد،وإلا فمن المعلوم أن طبيعة الإنسان الخوف مما يكره ،لكن نقول امض إلى سبيلك ولا تلتفت .
/ كلما قوي إيمان الإنسان بالله قوي خوفه منه لقوله (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وضعُف خوفه من الشيطان لقوله (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
/ أقسام الخوف :
1ـ خوف العبادة وهو خوف السر الذي يخاف فيه الإنسان شيئا خفيا كخوفه من الولي الميت أو من الشيطان أو ما أشبه ذلك ، وهذا عبادة ولا يجوز إلا لله عز وجل .
2ـ خوف طبيعي يعتري الإنسان بسبب وجود ما يُخاف منه وهذا لا يُلام عليه العبد إلا أن يكون سببا في ترك واجب أو وقوع في محرم ، وقد وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قال الله عن موسى (فأصبح في المدينة خائفا يترقب) وقال سبحانه وتعالى يخاطب موسى حينما ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى قال (خذها ولا تخف) وقال عنه لما اجتمع له السحرة (فأوجس في نفسه خيفة موسى ) ، وقال عن إبراهيم لما جاءته الملائكة ولم يأكلوا (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ) .والآيات في هذا كثيرة ، فالخوف الطبيعي من طبيعة الإنسان ولا يُلام عليه العبد إلا إذا تضمن ترك واجب أو وقوع في محرم.
3ـ خوف الجبناء ، وهذا هو المشكلة ، فالجبان يخاف من كل شيء حتى لو حركت الريح سعفة لقال هذا صوت مدافع لأنه جبان .ولهذا لا يأتيه النوم . وهذا القسم يجب على المؤمن أن يُطارده ما أمكن لأن المؤمن ليس بجبان ، المؤمن قوي ، ومن أكبر أسباب دفعه أن يذكر الإنسان ربه فإن بذكر الله تطمئن القلوب وتزول الكروب وينشرح صدر المرء ويزول عنه الخوف والرعب و الذعر.
/ الخوف من مقضيات الإيمان ومستلزماته لقوله (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) .
/ قوله تعالى (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) يدخلون في الكفر مسارعين ، وعُدى الفعل بـ " في" إشارة إلى أنهم يسارعون إلى الكفر ويتوغلون فيه.
/ إيمان الكافر إيمان ضرورة لا إيمان رضا واقتناع وتسليم ولهذا (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) أما المؤمن فيرضى ويقتنع فتجده منشرح الصدر ، أما ذاك يؤمن للحصول على الغرض الدنيوي فقط فإذا حصل له عاد إلى ما كان عليه.
/ الكفر هو : جحد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أو جحد بعضه ولو حرفا واحدا من كتاب الله ، أو ترك العمل الذي يستلزم تركه كفرا ، مثل :الصلاة فتركها كفر وإن لم يجحد وجوبها .
/ (لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا) الكفار لن يضروا الله بكفرهم شيئا ، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا ). فالضرر متنقي عن الله سبحانه وتعالى فلا تضره معصية العاصين كما لا تنفعه طاعة الطائعين .
فإن قيل :إن الله قد أثبت أن بعض عباده يؤذيه في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، وفي قوله في الحديث القدسي "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر "
فكيف نجمع بين نفي الضرر وإثبات الأذية ؟
الجواب : أنه لا يلزم من الأذية الضرر فقد يتأذى الإنسان بالشيء ولا يتضرر به .أرأيت لو صلى بجانبك رجل قد أكل بصلا وثوما فإنك تتأذى برائحته ولكن لا تتضرر .
/ بيان ما يلحق النبي صلى الله عليه وسلم من الهمّ أو من الحَزن لعدم إسلام الأمة وذلك لمحبته للخير عليه الصة والسلام .
/ إثبات الإرادة لله تعالى وهي قسمان :
/ كونية وهي ما يتعلق بفعله وهي بمعنى المشيئة ويلزم فيها وقوع المراد.
/ وشرعية وهي ما يتعلق بشرعه وهي بمعنى المحبة ولا يلزم فيها وقوع المراد.
وعليه :إيمان الكافر مراد شرعا لا كونا ، وكفر الكافر مراد كونا لا شرعا ، وإسلام المسلم مراد شرعا وكونا ، وكفر المسلم ليس مراد لا كونا ولا شرعا ، وهذا التقسيم مهم لأن من الناس من قال إن المعاصي غير مرادة لله لا كونا ولاشرعا مع أنها واقعة فيقولون إن معصية العاصي غير مرادة لا كونا ولا شرعا ، نوافقهم على أنها غير مرادة شرعا ، ولهذا يقولون كل المعاصي محبوبة لله لأن الله أرادها كونا ولولا أنه يحبها ما أرادها .
/ الأصل أن الكافر لا يحصل له نعيم في الدنيا لكنه قد يُنعم استدراجا .
/ (اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ) أي اختاروا الكفر على الإيمان .وفي الآية شدة رغبة الكفار بالكفر لأنهم اشتروه شراء والمشتري طالب للسلعة فهم ياخذون الكفر عن رغبة .
/ (لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا) في الآيتين بيان كمال الله تعالى حيث لا تضره معصيتهم ولا تنفعه طاعتهم ، وكمال سلطانه مع أن المعروف أن الملك كلما قلت جنوده ضعفت قوته إلا الله عز وجل فإنه لا يضره شيء.
/ الإيمان لغة : قيل هو : التصديق واستدلوا بقوله تعالى (وما أنت بمؤمن لنا )
وقيل هو الإقرار ، والإقرار أخصّ من التصديق واستدلوا بأن الكلمة إذا كانت بمعنى الكلمة فلابد أن تتعدى بما تتعدى به
ومعلوم أن الإيمان لا يتعدى كما يتعدى التصديق ، فإنك تقول صدقته ولا تقول آمنته .إذن فليس معناهما واحدا ، بل معنى الإيمان الإقرار.
والإيمان شرعا : هو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان.ليس مجرد افقرار بإيمان بل لابد من أن يقبل ما جاء به الرسول ويُذعن له.
ولهذا لم يكن أبو طالب مؤمنا لأنه مُقر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه لم يقبله ولم يُذعن له فلم يكن مؤمنا .
وعلى هذا فهو يتضمن جميع شرائع الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان شامل للإعتقاد وقول اللسان وعمل الجوارح وعمل القلب .
/ إذا قُرن الإيمان بالتقوى فيكون الإيمان بالقلب والتقوى بالجوارح
/ (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ) لماذا جاءت "خيرٌ" مع أن الفعل المضارع "نملي" ينصب المفعول به ؟
"ما" اسم موصول بمعنى الذي وهو اسم "أن" وخبرها "خيرٌ".ومن فوائد هذه الآية أنه يجب على الإنسان ألاّ يظن أن إمهال الله له خير له وتؤخذ من النهي ، والأصل في النهي التحريم .
/ أن الله عز وجل بحكمته قد يستدرج بعض الخلق فيعطيه النِعم تترا وذاك متجاوز لحدوده ليبلغ في الطغيان غايته حتى إذا أخذه لم يفلته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) وتلا قوله تعالى (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
فإن قال قائل هل تقيسون العاصي على الكافر بمعنى أنه قد يُمهل له وهو مقيم على المعصية ؟
نعم قد نقول بالقياس بجامع أن كل واحد منهما أمهله الله ولم يعاقبه ، وقد نقول بعدم القياس وذلك لأن الكفر أعظم من الفسوق ، ولكن من رجع إلى ظاهر القرآن تبين له أنه حتى الفاسق ربما يُمهل له لقوله تعالى ( ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ).
/ يجب على الإنسان أن يعتبر في عمره ، وهل هو قد أمضاه في طاعة الله فليبشر بالخير ، وإن أمضاه في معصية الله والله يُدر عليه النِعم فليعلم أن هذا استدراج .
/ قد يغتر الإنسان بظواهر الحال وهو من المتقين ويقول إن الله لم يُنعم علي نعمة إلا لأنني أهلٌ .
/ إثبات زيادة الآثام لقوله (لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا) فتدل بالمفهوم على زيادة الإيمان ، لأنه إذا ازادوا إثما فما نقص عن الإثم كان زيادة في الإيمان ولهذا قال أهل السنة إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
/ (عَذَابٌ مُّهِينٌ) مذل ، لأنهم كفروا استكبارا وعلوا فعوقبوا بعذاب يذلهم ويهينهم ، وتفيد الآية أن الجزاء من جنس العمل .
/ (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) اللام في "ليذر" يسمونها لام الجحود يعني لام النفي وهي التي تأتي بعد "كون" منفي ، إما "ما كان" وإما "لم يكن" ، مثالها في "ما كان" هذه الآية ، ومثالها في "لم يكن" (لم يكن الله ليغفر لهم) وسميت لام الجحود والنفي لأنها واقعة في سياق النفي وهو "ما كان " أو "لم يكن " وهي تنصب المضارع .
/ قوله
(مَّا كَانَ اللَّهُ) إذا جاء مثل هذا التعبير في القرآن فإنه يعني الامتناع أنه ممتنع على الله عز وجل غاية الامتناع أن يفعل كذا
وهذا الامتناع ليس امتناعا لعدم القدرة عليه فهو قادر لكنه امتناع شرعي أي يمتنع بحسب ما تقتضيه حكمته أن يترك المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب .
/ (عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ) أي من غير بيان وذلك لأن المجتمع النبوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم خليط بين المنافقين الخُلص والكافرين الخُلص والمنافقين . أما الكافرون الخُلص فهم متميزون بإعلانهم الكفر ولا تخفى حالهم على أحد وأما المؤمنون الخُلص فكذلك أمرهم واضح ظاهر ، يبقى الآن الاشتباه بين المؤمن الخالص وبين المنافق لأن المنافقين يُظهرون الإيمان وأنهم معهم إذ لقوا الذين ءامنوا قالوا ءامنا فإذا يحتاج أن يميز الله عز وجل بين الخبيث والطيب ولهذا قال (عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ) يعني من الخفاء والإشكال.
/ (حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) "يميز" يعنى يفصل بين الخبيث والطيب بما يُخبربه عز وجل فإذا كان الأمر كذلك قال (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) يعني وما كان الله ليطلعكم على الغيب في تمييز الطيب من الخبيث فأنتم لا تعلمون ما في صدور هؤلاء الخبثاء المنافقين لأنكم لا تعلمون الغيب والله عز وجل ما كان ليُطلعكم على الغيب . وهذه الآية تشبه آية الجن (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) ولهذا قال (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء) . هذا استدراك على قوله (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) فإن هذا الخطاب عام حتى النبي عليه الصلاة والسلام .
/ أن الله لا يُطلع أحدا على الغيب إلا من ارتضى من رسول وإطلاعنا على ما في قلوب هؤلاء عن طريق الوحي ، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم عددا من المنافقين لحذيفة بن اليمان الذي كان يُلقب بصاحب السر ، سر النبي عليه الصلاة والسلام وقد أسرّ النبي بأسماء المنافقين لحذيفة ولم يُسرّ إلى أبي بكر ولا إلى عمر ولا إلى من هو أفضل من حذيفة وهذه تذكرنا بقاعدة ذكرها ابن القيم في النونية وهي : "أن الخصيصة بفضيلة معينة لا تستلزم الفضل المطلق وأن الفضل نوعان مطلق ومقيد" ، فهنا لا شك أن حذيفة امتاز عن الصحابة بما أخبره النبي عليه الصلاة والسلام من هؤلاء المنافقين لكن لا يلزم من هذا أن يكون أفضل ممن له الفضل المطلق عليه كأبي بكر وعمر وما أشبههما .
/ إثبات المشيئة لله في قوله (مَن يَشَاء) ولكن كل شيء علقه الله بالمشيئة فإنه لابد أن يكون مقرونا بالحكمة ،ودليل ذلك قوله تعالى (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) ففيه إشارة إلى أن مشيئته تتبع علمه وحكمته.
/ أن الله لابد يميز الخبيث من الطيب وهذا الميز يحصل بالوحي في عهد النبوة وبالقرائن في غير عهد النبوة وفي عهد النبوة أيضا وهذا من رحمة الله بعباده حيث لا يتركهم هكذا يشتبه بعضهم ببعض.
/ انقسام الناس إلى قسمين خبيث وطيب (فمنكم كافر ومنكم مؤمن ) وذلك في العمل ، وهم في الجزاء قسمين شقي وعيد ، وهنا إشكال :
قد يقول قائل أليس في هذا دليل للخوارج على مذهبهم أن الناس إما كافر أو مؤمن ولا يمكن لأحد أن يجمع بين الإيمان والكفر؟
والجواب : ليس فيه دليل على مذهبهم لأن المؤمن إذا لم يفعل ما يخرج به من الإيمان فإنه لا يصدُق عليه وصف الخبيث على سبيل الإطلاق بل هو من قسم الطيب لكن فيه خُبث وهذا الطيب غلب على خُبثه ، كما أن الكافر وإن فعل ما يُحمد عليه كالبر والجود والشجاعة وطلاقة الوجه وما أشبه ذلك ، هذه خصائل إيمان لكن خبثه أعظم من هذه الخصال فهو من قسم الخبثاء وليس من قسم الطيبين . وعلى هذا فليس هناك قسم ثالث بل هما قسمان لكن ما غلب عليه أحد الوصفين فهو منهم .
/ جمهور العلماء على أن الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه ، والنبي من أوحي إليه بشرع يتعبد به ولم يُكلف أن يبلغه الناس .
/ الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور :
/الإيمان بوجوده
/الإيمان بربوبيته
/الإيمان بألوهيته
/الإيمان بأمائه وصفاته.
فمن نقص شيئا منها فإنه لم يؤمن بالله حقيقة .
/ الإيمان بالرسل يتضمن تصديقهم فيما جاءوا به من الوحي ، والتعبد لله بما جاء في شريعتهم على من أُلزموا باتباعه .
/ (وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ) تؤمنوا بقلوبكم وتتقوا بجوارحكم .
والإيمان بالقلب هو الإقرار المتضمن للقبول والإذعان .والتقوى إتخاذ وقاية من عذاب الله عز وجل وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه . وهذا أجمع ما قيل في التقوى.
/ التقوى قد تُقرن بالبر وقد تُقرن بالإحسان وبالإصلاح. فإذا قُرنت بمثل هذا تُفسر بأن المراد بها تقوى المحارم ،أي اجتناب محارم الله .أما إذا أُطلقت فإنها تشمل الأوامر والنواهي .
/ إذا وقع جواب الشرط جملة إسمية فإنه يُقرن بالفاء (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ).
/ الغيب هو ماغاب مطلقا وذلك الذي يكون في المستقبل أما الشيء الحاضر ولكنه غائب عن ناس دون أُناس فهذا قد يطلع عليه الإنسان وإن لم يشاهده . بخبر الجن فالجن يسيحون في الأرض يذهبون شمالا ويمينا وهم سريعوا التصرف ، فربما يسعون في الأرض ثم يُخبرون أولياءهم بما شاهدوا في أراضي بعيدة فيكون هذا غيب غير حقيقي بل هو غيب إضافي أي بالإضافة إلى قوم دون قوم . فالذين شاهدوه ليس غيبا عندهم والبعيدون عنه هو غيب .
/ أولياء الجن قد يكونون متقين وقد يكونون مجرمين ، فإن كانت ولاية الجن لهم بسبب الشرك فيهم كالذبائح للجن وما أشبه ذلك فهذه ولاية إجرام لكن يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ "إن الجن قد يتولون المؤمن لإيمانه ، يحبونه في الله ويخدمونه في أمر" ، قال "وهذا جائز بشرطين : ألا تكون وسيلة استخدامهم محرمة ، وألا يستخدمهم في محرم" .
فلو قال قائل إن استخدامهم حرام بكل حال لأن الله تعالى يقول (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) وهذا يدل على أن استمتاع الإنسي بالجني محرم بكل حال .
الجواب على ذلك أن نقول اقرأ الآيات التي بعدها حيث قال : (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) فهذا الاستمتاع استمتاع في ظلم ولا شك أنه حرام ، أما إذا كان استمتاعا بما ينفع وخلا من المحرم في طريقه أو في استخدامه فإن هذا لا بأس به .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق