الخميس، 20 نوفمبر 2025

فوائد سورة الإنسان الآيات (۱۲-۲۲)

 بسم الله الرحمن الرحيم

قال ابن القيم في حال أهل الجنة ونعيمهم: "ولما علم الموفقون ما خلقوا له، وما أريد بإيجادهم، رفعوا رؤوسهم، فإذا علمُ الجنة قد رفع لهم ، فشمّروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفد - بصبابة عيش، إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلا أبكى كثيرا، وإن سرّ يوما أحزن شهورا، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف أضعاف مسراته، أوله مخاوف، وآخره متالف. فيا عجبا من سفيه في صورة حكيم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني الخسيس، على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها السموات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكارا عربا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان، وحورا مقصورات في الخيام بخبيثات مسيئات بين الأنام، وأنها را من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الدميم، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد، ونداء المنادي: يا أهل الجنة: إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وتحيوا فلا تموتوا، وتقيموا فلا تظعنوا، وتشبّوا فلا تهرموا بغناء المغنين:
 وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي .... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة .... حبا لذكرك فليلمني اللوم
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا، وسيق المجرمون إلى جهنم وردا، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد، فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أُعد لهم من الإكرام، وادُّخر لهم من الفضل والإنعام، وما أخفي لهم من قرة أعين، لم يقع على مثلها بصر، ولا سمعته أذن، ولا خطر على قلب بشر لعلم أي بضاعة أضاع، وأنه لا خير له في حياته، وهو معدود من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكا كبيرا، لا تعتريه الآفات، ولا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال. فهم في روضات الجنات يتقلبون، وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون، وعلى الفرش - التي بطائنها من إستبرق - يتكئون، وبالحور العين يتمتعون، وبأنواع الثمار يتفكهون (يطوف عليهم ولدان مخلدون* بأكواب وأباريق وكأس من معين* لا يُصدعون عنها ولا ينزفون* وفاكهة مما يتخيرون* ولحم طير مما يشتهون* وحور عين* كأمثال اللؤلؤ المكنون* جزاء بما كانوا يعملون)، (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون)، تالله لقد نودي عليها في سوق الكساد فما قبِل ولا استام إلا أفراد من العباد، فواعجبا لها كيف نام طالبها؟! 
وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها؟!
وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟!
 وكيف قرّ للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟!
 وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟!
 وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟!
 وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟!
 وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟!
وما ذاك إلا غيرة أن ينالها… سوى كفئها، والرب بالخلق أعلم
وإن حجبت عنا بكل كريهة ... وحفت بما يؤذي النفوس ويؤلم
فلله ما في حشوها من مسرة .... وأصناف لذات بها يتنعم
ولله برد العيش بين خيامها ... وروضاتها، والثغر في الروض يبسم
ولله واديها الذي هو موعد الـ... مزيد لوفد الحب، لو كنت منهم
 بذيالك الوادي يهيم صبابة .... محب يرى أن الصبابة مغنم
ولله أفراح المحبين عندما ... يخاطبهم من فوقهم، ويسلم
ولله أبصار ترى الله جهرة ... فلا الضيم يغشاها، ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة ... أمن بعدها يسلو المحب المتيم
ولله كم من خيرة إن تبسمت .... أضاء لها نور من الفجر أعظم
فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت ... ويا لذة الأسماع حين تكلم 
و يا خجلة الغصن الرطيب إذا انـ ... ثنت ويا خجلة الفجرين حين تبسم
 فإن كنت ذا قلب عليل بحبها ... فلم يبق إلا وصلها لك مرهم
 ولا سيما في لثمها عند ضمها .... وقد صار منها تحت جيدك معصم 
تراه إذا أبدت له حسن وجهها ... يلذ به قبل الوصال، وينعم
 تفكّه فيها العين عند اجتلائها ... فواكه شتى، طلعها ليس يعدم 
عناقيد من كرم، وتفاح جنة ... ورمان أغصان به القلب مغرم
وللورد ما قد ألبسته خدودها ... وللخمر ما قد ضمه الريق والفم 
تقسم منها الحسن في جمع واحد ... فيا عجبا من واحد يتقسم
لها فرق شتى من الحسن أجمعت .... بجملتها، أن السلو محرم
تذكر بالرحمن من هو ناظر ... فينطق بالتسبيح لا يتلعثم
إذا قابلت جيش الهموم بوجهها ... تولى على أعقابه الجيش يهزم
 فيا خاطب الحسناء إن كنت باغيا .... فهذا زمان المهر فهو المقدم
وكن مبغضا للخائنات لحبها ... فتحظى بها من دونهن وتنعم
وكن أيما ممن سواها فإنها ... لمثلك في جنات عدن تأيم
وصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوز بعيد الفطر، والناس صوم
 وأقدم ولا تقنع بعيش منغص .... فما فاز باللذات من ليس يقدم
وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ... ولم يك فيها منزل لك يُعلم
 فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى .... وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم
وحي على السوق الذي فيه يلتقي الـ.... محبون، ذاك السوق للقوم معلم
 فما شئت خذ منه بلا ثمن له ... فقد أسلف التجار فيه وأسلموا
وحي على يوم المزيد الذي به ... زيارة رب العرش، فاليوم موسم
 وحي على واد هنالك أفيح ... وتربته من أذفر المسك أعظم
منابر من نور هناك وفضة .... ومن خالص العقيان لا يتفصم
وكثبان مسك قد جعلن مقاعدا ... لمن دون أصحاب المنابر تعلم
فبينا هم في عيشهم وسرورهم .... وأرزاقهم تجري عليهم وتقسم
 إذا هم بنور ساطع أشرقت له ... بأقطارها الجنات لا يتوهم
 تجلى لهم رب السماوات جهرة ... فيضحك فوق العرش ثم يكلّم
سلام عليكم، يسمعون جميعهم ... بآذانهم تسليمه إذ يسلّم
يقول: سلوني ما اشتهيتم فكل ما ... تريدون عندي، إنني أنا أرحم
فقالوا جميعا : نحن نسألك الرضا ... فأنت الذي تولي الجميل وترحم
 فيعطيهم هذا، ويشهد جمعهم .... عليه، تعالى الله، فالله أكرم
 فيا بائعا هذا ببخس معجل ... كأنك لا تدري، بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة .... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم.
« حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح»(١/ ٨-١٥)

/ (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا)
قال ابن القيم: من فسح لنفسه في اتباع الهوى ضيق عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيق عليها بمخالفة الهوى وسّع عليها في قبره ومعاده، وقد أشار تعالى إلى هذا في قوله تعالى : {وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا} فلما كان في الصبر - الذي هو حبس النفس عن الهوى - خشونة وتضييق؛ جازاهم على ذلك نعومة الحرير، وسعة الجنة.
 قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى في هذه الآية: "وجزاهم بما صبروا عن الشهوات". «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» (ص ٦٤١).
وقال السعدي رحمه الله: "وجزاهم بما صبروا على طاعة الله فعملوا ما أمكنهم منها، وعن معاصي الله فتركوها، وعلى أقدار الله المؤلمة فلم يتسخطوها". «تفسير السعدي» (ص ۹۰۱).

/ (متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا)
عن قتادة في قوله تعالى: (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) "يعلم أن شدة الحر تؤذي، وشدة القر تؤذي فوقاهم الله أذاهما". «تفسير الطبري (٢٤/ ١٠٢).
وقال البغوي: "{لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا} أي صيفا ولا شتاء. قال مقاتل: يعني شمسا يؤذيهم حرها، ولا زمهريرا يؤذيهم برده، لأنهما يؤذيان في الدنيا. والزمهرير البرد الشديد". «تفسير البغوي» (٨ ٢٩٦)

/ (ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا)
قال ابن كثير: "(وذللت قطوفها تذليلا) أي: متى تعاطاه دنا القطف إليه وتدلى من أعلى غصنه، كأنه سامع طائع، كما قال تعالى في الآية الأخرى: (وجنى الجنتين دان) وقال تعالى: (قطوفها دانية).
قال مجاهد: "(وذللت قطوفها تذليلا) إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد تدلّت له حتى ينالها، وإن اضطجع تدلت له حتى ينالها، فذلك قوله : {تذليلا}".
وقال قتادة: "لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد".
وقال مجاهد: أرض الجنة من ورِق، وترابها المسك، وأصول شجرها من ذهب وفضة، وأفنانها من اللؤلؤ الرطب والزبرجد والياقوت والورق والثمر بين ذلك، فمن أكل منها قائما لم يؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم يؤذه، ومن أكل منها مضطجعا لم يؤذه" «تفسير ابن كثير» (۸/ ۲۹۱).

/ (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قواريرا من فضة قدروها تقديرا)
عن قتادة في قوله: (قوارير من فضة) قال: "لو احتاج أهل الباطل أن يعملوا إناء من فضة يرى ما فيه من خلفه، كما يرى ما في القوارير ما قدروا عليه". «تفسير الطبري» (٢٤/ ١٠٥).
وقال البغوي:" (قوارير من فضة) قال المفسرون: أراد بياض الفضة في صفاء القوارير، فهي من فضة في صفاء الزجاج، يرى ما في داخلها من خارجه". «تفسير البغوي» (٢٩٦/٨).
وقال القرطبي: "وقيل: أرض الجنة من فضة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي هي منها. ذكره ابن عباس"، وقال: "ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا القوارير من فضة"، وقال:" لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة في صفاء القوارير". «الجامع لأحكام القرآن» (١٩ / ١٤٠).
وقال ابن تيمية: "فإن قيل: فلم اقتصر من آنيتهم وحليتهم على الفضة دون الذهب؟ ومعلوم أن الجنان جنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما؟
قيل: سياق هذه الآيات إنما هو في وصف الأبرار ونعيمهم مفصلا دون تفصيل جزاء المقربين، فإنه سبحانه إنما أشار إليه إشارة تنبه على ما سكت عنه، وهو أن شارب الأبرار يُمزج من شرابهم.
فالسورة - سورة الإنسان - مشوقة بصفة الأبرار وجزائهم على التفصيل، وذلك - والله أعلم - لأنهم أعم من المقربين وأكثر منهم؛ ولهذا يخبر سبحانه عنهم بأنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، وعن المقربين السابقين بأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين.
وأيضا: فإن في ذكر جزاء الأبرار تنبيها على أن جزاء المقربين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». جامع الرسائل لابن تيمية» (۱) (۷۳).
وقال ابن القيم -رحمه الله - في هذه الآية: ذكر هنا الأساور من الفضة والأكواب من الفضة في جزاء الأبرار، وذكر في سورة الملائكة - سورة فاطر - الأساور من الذهب في جزاء السابقين بالخيرات، فعُلم جزاء المقتصدين من سورة الإنسان، وعُلم جزاء السابقين من سورة الملائكة، فانتظمت السورتان جزاء المقربين على أتم الوجوه. والله أعلم بأسرار كلامه وحكمه. «طريق الهجرتين وباب السعادتين» (١/ ٤٣٥).

/ (ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا)
قال الطبري -رحمه الله- : ويسقى هؤلاء القوم الأبرار في الجنة كأسا، وهي كل إناء كان فيه شراب، فإذا كان فارغا من الخمر لم يقل له: كأس، وإنما يقال له : إناء، كما يقال للطبق الذي تهدى فيه الهدية المهدى مقصورا ما دامت عليه الهدية، فإذا فرغ مما عليه كان طبقا أو خوانا، ولم يكن مهدى». «تفسير الطبري» (٢٤) .(۱۰۷
وقال البغوي -رحمه الله- في هذه الآية: (ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا) "يُشوّق ويُطرب، والزنجبيل مما كانت العرب تستطيبه جدا، فوعدهم الله تعالى أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة. قال ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له في الدنيا مثل". «تفسير البغوي» (٢٩٦/٨).
وقال ابن كثير -رحمه الله- : "(كان مزاجها زنجبيلا) فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة. وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفا، كما قاله قتادة وغير واحد". «تفسير ابن كثير» (۲۹۱۸)

/ (عينا فيها تسمى سلسبيلا)
قال البغوي -رحمه الله-: "قال أبو العالية ومقاتل بن حيان سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان، وشراب الجنة على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك". قال الزجاج: "سميت سلسبيلا لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق». «تفسير البغوي» (۲۹۷۸)

/ (ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا):
قال الطبري -رحمه الله- : "عُني به أنهم دائم شبابهم، لا يتغيرون عن تلك السن. وذكر عن العرب أنها تقول للرجل إذا كبر وثبت سواد شعره إنه لمخلد؛ كذلك إذا كبر وثبت أضراسه وأسنانه قيل: إنه لمخلد، يراد به أنه ثابت الحال، وهذا تصحيح لما قال قتادة من أن معناه: لا يموتون، لأنهم إذا ثبتوا على حال واحدة فلم يتغيروا بهرم ولا شيب ولا موت، فهم مخلدون". «تفسير الطبري» (٢٤ / ١١٠).
وقال ابن القيم -رحمه الله- : "شبههم سبحانه باللؤلؤ المنثور، لما فيه من البياض وحسن الخلق، وفي كونه منثورا فائدتان: 
إحداهما: الدلالة على أنهم غير معطلين، بل مبثوثون في خدمتهم وحوائجهم.
والثاني: أن اللؤلؤ إذا كان منثورا، ولا سيما على بساط من ذهب أو حرير؛ كان أحسن لمنظره وأبهى من كونه مجموعا في مكان واحد". «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» (١/ ٤٦٣ - ٤٦٥).
وقال ابن كثير -رحمه الله- : "{إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا } أي: إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم، وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤا منثورا ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن".
قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم، كل خادم على عملٍ ما عليه صاحبه" تفسير ابن كثير) (۲۹۲۸).

/ (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا):
قال البغوي -رحمه الله- : "(وإذا رأيت ثم) أي إذا رأيت ببصرك ونظرت به {ثم} يعني في الجنة، رأيت نعيما لا يوصف وملكا كبيرا وهو أن أدناهم منزلة ينظر إلى ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه.
وقال مقاتل والكلبي : "هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه". وقيل: "ملكا لا زوال له". «تفسير البغوي» (۸) ۲۹۷).
وقال ابن كثير -رحمه الله- : (رأيت نعيما وملكا كبيرا) أي : مملكة الله هناك عظيمة وسلطانا باهرا. وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا إليها: (إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها).
وقد قدمنا في الحديث المروي من طريق ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه). فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة، فما ظنك بما هو أعلى منزلة، وأحظى عنده تعالی". «تفسیر ابن کثیر» (۲۹۲۸)
وقال السعدي -رحمه الله- : "(وإذا رأيت ثم) أي: هناك في الجنة، ورمقت ما هم فيه من النعيم رأيت نعيما وملكا كبيرا فتجد الواحد منهم عنده من القصور والمساكن والغرف المزينة المزخرفة ما لا يدركه الوصف، ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه اللذيذة والأنهار الجارية، والرياض المعجبة والطيور المطربة المشجية ما يأخذ بالقلوب، ويفرح النفوس. وعنده من الزوجات اللاتي هن في غاية الحسن والإحسان الجامعات لجمال الظاهر والباطن الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سرورا، ولذة وحبورا، وحوله من الولدان المخلدين والخدم المؤبدين ما به تحصل الراحة والطمأنينة، وتتم لذة العيش وتكمل الغبطة.
ثم علاوة ذلك وأعظمه الفوز برؤية الرب الرحيم، وسماع خطابه، ولذة قربه، والابتهاج برضاه، والخلود الدائم، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين، فسبحان الملك المالك الحق المبين، الذي لا تنفد خزائنه، ولا يقل خيره، فكما لا نهاية لأوصافه فلا نهاية لبره وإحسانه". «تفسير السعدي» (ص ۹۰۲).

/ (عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلّوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا):
قال ابن القيم -رحمه الله-: "(عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة) فهذه زينة الظاهر، ثم قال: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) فهذه زينة الباطن المطهر له من كل أذى ونقص.
ونظيره قوله تعالى لأبيهم آدم عليه السلام: (إنّ لك ألا تجوع فيها ولا تعرى* وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فضمن له أن لا يصيبه ذل الباطن بالجوع، ولا ذل الظاهر بالعري، وأن لا يناله حر الباطن بالظمأ، ولا حر الظاهر بالضحى". «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» (۱/ ۳۹۳).
قال البغوي -رحمه الله: "(وسقاهم ربهم شرابا طهورا) قيل : طاهرا من الأقذار والأقذاء لم تدنسه الأيدي والأرجل كخمر الدنيا".
وقال أبو قلابة وإبراهيم: "إنه لا يصير بولا نجسا ولكنه يصير رشحا في أبدانهم، ريحه كريح المسك، وذلك أنهم يؤتون بالطعام، فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فيطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحا يخرج من جلودهم ريحا أطيب من المسك الأذفر ، وتضمر بطونهم، وتعود شهوتهم".
وقال مقاتل -رحمه الله-: "هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد". «تفسير البغوي» (۲۹۸۸)
وقال القرطبي -رحمه الله : "قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فتجري عليهم بنضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تتشعث أشعارهم أبدا، ثم يشربون من الأخرى، فيخرج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خزنة الجنة، فيقولون لهم: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)". «الجامع لأحكام القرآن» (١٩/ ١٤٧).
---------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق