الترتيل هو : قراءة الكلمات والحروف على وجه منتظم متناسق.
هذه المادة مأخوذة من قولهم : فمٌ رَتِلٌ. والفمُ الرتِل هو الذي أسنانه منتظمة لا يركبُ بعضها بعضا، فإذا رأيت الأسنان يركب بعضها بعضا فهذا لا تُسميه العرب فماً رَتِلاً، إنما هو فم يركب بعضه بعضا. فكذلك القراءة بأن تكون الكلمات الملفوظة بأن تكون الحروف منتظمة بعضها تلو بعض لا يركب الحروف بعضها بعضا. وكان رسول الله ﷺ يقرأ القرآن مُرتلا لأن ربه أمره أن يقرأ القرآن مرتلا فقال ربنا سبحانه (وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِیلًا)
[سورة المزمل 4] وهذا الأمر من الله تعالى لم يُقصد به رسول الله فقط إنما هو أمر لأمته بواسطته ﷺ.
لم يكتفِ بأن يأمر ربنا سبحانه بأن يرتل القرآن بل أنزله مُرتلا قال ربنا (وَرَتَّلۡنَـٰهُ تَرۡتِیلࣰا) [سورة الفرقان 32].
لو قال ربنا (ورتل القرآن) لكان هذا كافيا في وجوب الترتيل، فما معنى (وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِیلًا) ؟
لماذا يجيء المصدر في لغة العرب؟
يجيء المصدر في لغة العرب لثلاثة أغراض ذكرها ابن مالك -رحمه الله- في ألفيته يقول:
المصدر اسم ما سوى الزمان من** مدلولي الفعل كأمن من أمن
توكيدا أو نوعا يُبين أو عدد ** كـسِرت سيرتين سير ذي رشد
يأتي لثلاثة أغراض :
/ توكيدا
/ لبيان النوع
/ لبيان العدد
- جلست جلست المتربع ، المصدر : جِلست ، المُتربع : لبيان النوع.
- مشيت مشية المختال ، لبيان النوع
النبي ﷺ قال (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد) بأبي هو وأمي ، فكان ﷺ يجلس جِلست العبد ، لبيان النوع.
- أكلتُ أكلتين - نمت نومتين - ضربتك ضربتين ..الخ ، لبيان العدد.
فإذا لم يكن لبيان عدد أو لبيان نوع فهو للتوكيد.
قول ربنا (وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِیلًا) لتوكيد وجوب الترتيل، فلم يكتفِ ربنا بقول (ورتل القرآن) بل قال (وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِیلًا) لكي لا يُتساهل في قضية الترتيل، ورغم هذا المؤكدات يتساهل فيها الناس!! فما الذي ينبغي أن يُقال بعد هذه المؤكدات حتى لا يتساهل الناس في الترتيل؟!
وإذا فهمتم هذا فهمتم لماذا يقول الحافظ بن الجزري -رحمه الله- في منظومته التي سماها [المقدمة فيما على قارئ القرآن أن يعلمه] كل قارئ للقرآن عليه أن يعلم ما ذكره هو في مقدمته فقال :
والاخذ بالتجويد حتم لازم ** من لم يجوِّد القرآن آثم
لماذا؟
لأنه به الإله أنزل ورتلناه ترتيلا ** وهكذا منه إلينا وصل
والشُراح مختلفون هل قوله "والأخذ بالتجويد حتمٌ لازم" هل الأخذ بالتجويد واجب وجوب إصطلاحي أم وجوب شرعي.
لكن الجميع -جميع الشُرَّاح- بل جميع علماء التجويد والقراءات متفقون على أن من ترك الترتيل فهو متهدد مُتوعد، لماذا؟ لهذه الأمور التي ذكرنا.
ولذلك قال الحافظ أبو عمرٍ الداني -رحمه الله- وأبو عمرٍ الداني الأندلسي هذا كان يُقال به إمام المغرب لكن الآن يمكنكم أن تسمُّونه بإمام أهل الأرض لأنه ما من اثنان في الدنيا -في القراءات- يُطوِّف ما يُطوِّف ثم يأوي إلى أبي عمرٍ الداني ، لا طريق متصلة إلا إذا مرّت بأبي عمرٍ الداني الأندلسي، هذا الرجل ماذا يقول؟
يقول في هذا الذي ذكرنا:
من ألزم الأشياء للقُراء ** تجويد لفظ الحرف بالأداء
لفظ الحرف يجب أن يُخرج مجودا [تجويد لفظ الحرف بالأداءبالأداء]
وكل حرف من حروف الذِّكر ** مما جرى قبل وما لم يجرِ
فحقه التفكيك والتمكين ** وحُكمه التحقيق والتبيين
فاستعمل التجويد عند لفظك ** بكل حرف من كلام ربك
فعن قليل بالجزيل تُجزى ** وبنعيم الخُلد سوف تحظى
قد جاء في الماهر بالقرآن ** من الشفاء ومن البيان
مافيه مقنع لمن تدبره ** بأنه مع الكرام السفرة
وقال الحافظ أبو مزاحم الخاقاني -رحمه الله- وهذا أيضا من علماء القراءات ومن أئمتهم وله منظومة مشهورة، قصيدة رائية مشهورة بالخاقانية أو رائية الخاقاني. يقول فيها :
أيا قارئ القرآن أحسِن أداءه ** يُضاعِف لك اللهُ الجزيلَ من الأجر
فما كل من يتلو الكتاب يُقيمه**ولا كلُ من في الناس يُقريهم مُقري
وما رأيت في هذا الباب أشدّ من الحافظ أبو العز القلانسي -رحمه الله- له أبيات في هذا الذي نحن فيه يقول فيها:
يا سائلا تجويد ذا القرآن ** فخذ هُديت عن أولي الإتقان
تجويده فرض كما الصلاة ** جاءت بذا الأخبار والآيات
وجاحِد التجويد فهو كافرٌ ** فدع هواه إنه لخاسر
وغيرُ جاحد الوجوب حُكمُه ** مُعذبٌ وبعد ذاك إنه يُؤتى به
لروضة الجنات كغيره ** من سائر العصاة
إذ الصلاة منهم لا تُقبل ** ولعنة الله عليهم تنزل
لأنهم كتاب ربي حرفوا .. الخ ما قال.
وهذا الشيء الذي ذكره الحافظ أبو العز القلانسي من أن الصلاة منهم لا تُقبل لا يذكره الفقهاء وأن من لم يقرأ الفاتحة، على الأقل الفاتحة التي هي ركن من الأركان، من لم يقرأها قراءة صحيحة وأتى فيها بلحن -وهم يختلفون في قضية اللحن وهذا خلاف كثير عند الفقهاء- فإن صلاته تبطل ومن هؤلاء المالكية. يقول بشار -رحمه الله- في شروط الإمام :
وعشرة شرائط الإمام ** فذكرٌ بالعقل والإسلام
وقدرة والعلم بالذي يلزم ** من فقهٍ أو قراءة مُحتلِم
هذه شروط الإمام التي لا يصح إلا بها ،ماهي الشروط؟ منها :
والعِلمُ بالذي يلزم ** من فقه ومن القراءة .
لا يصلح أن يكون فقيها ويعرف ما يصنع في ترقيع الصلاة .. في سجود السهو .. في الزيادة ..كذا كذا وفي القراءة لا يكون مُحصِّلا العلم اللازم بها. هذا قول المالكية.
بل قد تستغربون أنهم -وهذا الاعتناء بالفاتحة بالخصوص لأنها ركن من أركان الصلاة- جعل الناس ينظمون في كيفية تجويد الفاتحة. الإمام الجعبري -هذا أيضا من أئمة القراءات- له قصيدة سماها: الواضحة في تجويد الفاتحة، يمشي معك حرفا حرفا، يقول لك مثلا :
وبعد فخذ تجويد أم الكتاب ** كيف تفوز بتصحيح الصلاة فتهتدي
يبدأ معك بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)
ففي باء (بسم الله) خفف ** وسينها فصفي ولام (الله) رقق وشددي
هذا كله يُظهر لكم اعتناء هذه الأمة بكيفية نطق هذا القرآن العظيم.
ولماذا أنا كثّرت لكم في هذا؟ لسببين:
الأول : لأن الترتيل شأنه عظيم جدا جدا
الثاني : لأن الناس لا تقدُرُه قَدره
مما استغرب له قول قائل: المهم تقرأ، المهم أن نقرأ القرآن.
من أخبرك أن هذا هو المهم؟!
إن من أعظم أسباب الخطأ .. من أعظم الغلط التي تدخل على الناس هو أن يجعلوا مقدمة -من عند أنفسهم- يجعلونها ثم يبنون عليها، يقول لك: المهم أن تقرأ، المهم أن القرآن يُقرأ، هذه مقدمة جعلها الناس لأنفسهم،لم يجعلها لهم العلماء. جعلها الناس لأنفسهم قالوا: المهم أن تقرأ وبعد ذلك لا تبالي كيف كانت القراءة، ملحونة .. مكسرة .. مرتلة .. غير مرتلة ، حتى صارت الناس تذهب إلى تغيير حرف بحرف ، فالذال لا تُنطق ذال أصلا ، (أعود بالله من الشيطان الرجيم)، الثاء لا تُنطق ثاء أصلا ، الظاء لا تُنطق ظاء ، فأسقطوا ثلاثة حروف من الحروف العربية وهذا فظيع في كتاب الله. المهم أن تقرأ، من قال لك أن المهم أن تقرأ؟! المهم أن تقرأ قراءة يرضى لها ربك عنك. وقد أدركنا من علماء هذا البلد الكريم ، من أكابر علماء هذا البلد من كان إذا سئل عمن يقرأ القرآن لا على وجه الترتيل؟ قال : هذا رجل ما قرأ ولا سكت ، كان يقول عنه : هذا الرجل ليس بقارئ وليس بساكت . لا هو يقرأ لأن تلك القراءة قراءة غير مرضية وليست على اللسان العربي، وليس بساكت لأنك ترى تحريك الشفتين وعمل اللسان والصوت الخارج والهمهمة والغمغمة فلا هو قارئ ولا هو ساكت.
فدائما ينظر الإنسان إلى قول ربنا (وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِیلًا) .
الغريب أننا نقول هذا في هذه السنة (١٤٣٤) والناس قد أصابتهم نفحة من نفحات ربهم في أن عاد إلى هذا العلم شيء من اعتباره فالآن في كثير من البلدان التي زرتها سواء في المغرب أو في غيرها من بلاد المسلمين، كثير من البلدان التي زرتها الحمد لله صرت لا تجد في مساجد المسلمين من يؤمهم ويقرأ القرآن غير مرتل، لكنه في زمن مضى كنت لا تكاد تجد أحدا يرتل، والغريب أنه يقرأ (وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِیلًا) على غير (**) وأنا لا أخُصّ المغرب بالكلام فكل أهل بلد يقرؤن القرآن على دارجتهم. لكن الحمد لله نسأل ربنا المزيد لأن القضية قضية خطيرة ينبغي للناس أن ينتبهوا لها ولا عذر لأحد، يقول لك أحدهم وأين سأتعلم التجويد، وأنا رجل صار عندي الخمسين .. الستين .. السبعين .. الثمانين!!
سئل رجل من العلماء : إلى متى؟ ما حدّ صلاحية التعلُّم؟ متى يصلح أن أتعلّم؟ قال : ما صلُحت لك الحياة. صالح أنت أن تكون حيا فإذا صالح أنت أن تتعلم. ولا يكاد مسجد من المساجد يخلو من دورس لتعليم الترتيل حتى النساء. فلا عذر لأحد.
ولماذا الترتيل؟ قد يقول إنسان صدّعت رؤوسنا بهذا القول،
ما ثمرة هذا كله؟
أقول لكم ثمرته -ما يذكره العلماء نحن لا نقول ذلك عن ذوَق إنما نقوله عن سماع- قالوا: إن قراءة القرآن مرتلا تُوقف القارئ على حقائق كلمات ربنا ودقائقها. فإذا مرّ بذكر الله تجلت له عظمة ربنا وجلاله سبحانه ، إذا مرّ بالوعد والوعيد استشعر القلب الخوف والرجاء. فذلك يتنوّر القلب بمعرفة ربه سبحانه ويُشرق.
والذي لا يرتل ويمرّ على القرآن هذاً هذا لا يقف على شيء من تلك المعاني أصلا، لأنه لو وقف عليها لأحبها والذي يحب شيئا لا يمرّ عليه مسرعا، بل يحب أن تباطأ فيه ويكرره.
ولذلك فهمت كيف كان السلف قد يقوم أحدهم بالآية الواحدة يكررها الليل كله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق