ﺳﻮرة اﻟﻘﻠﻢ ﻣﻦ أﺳﻌﺪ ﺳﻮر المفصل ﺑﺎﻷﺧﻼق اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ، ﻷنها ﺟﺎءت ﻣﻘـﺮرة وﻣﻔﺼـﻠﺔ ﻟﻘـﻮل اﷲ ﺟـل شأنه (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقد ﺟﺎءت اﻷﺧﻼق العملية فيها على قسمين :
أوﻻ : اﻷﺧﻼق المحمودة .
ﺛﺎﻧﻴﺎ : اﻷﺧﻼق المرذولة .
وحيث أن محور السورة تقرير نبوة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- والدفاع عن شخصيته فسأُشير إلى شيء من أخلاقه عند بعض الأخلاق المحمودة تنويها بكمال أخلاقه وجميل أفعاله وأقواله .
أولا : الأخلاق المحمودة :
أ- الأخلاق الشخصية :
/ القدوة الحسنة : قال الله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
قال الله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (49) لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ (50) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) . وقد اقتدى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بجميع الأنبياء ، فكأنه أُمر بمجموع ما كان متفرقا فيهم ، وتلك درجة عالية لم تتوفر لأحد من الأنبياء قبله ، وذلك أحد أسباب وصف خُلقه بالعظمة .
/ اتباع الحق ومراقبة الله : قال الله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
/ الثبات على الحق : قال الله تعالى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ولعل أبلغ صورة توضح ما بلغه الرسول -صلى الله عليه وسلم- من إصرار على الحق مقالته لعمه أبي طالب -حينما ظنّ أنه قد بدا فيه رأي وأنه خاذله ومُسلمه- "يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله أو أهلك فيه ما تركته"(1).
/ الصبر : قال الله تعالى (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) .
قال ابن القيم : "فإذا جئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وتأملت سيرتَه مع قومه وصبره في الله ، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله ، وتلون الأحوال عليه مِن سِلْم وخوف ، وغنى وفقر ، وأمن وإقامة في وطنه وظعن عنه وتركه لله وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه ، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل والسحر والكذب والافتراء عليه والبهتان ، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله يدعو إلى الله فلم يؤذَ نبي ما أوذي ، ولم يحتمل في الله ما احتمله ، ولم يُعط نبي ما أعطيه ، فرفع الله له ذكره وقرن اسمه باسمه ، وجعله سيد الناس كلهم ، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة ، وأعظمهم عنده جاهاً ، وأسمعهم عنده شفاعة ، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته ، وهي مما زاده الله بها شرفا وفضلا ، وساقه بها إلى أعلى المقامات" (2) .
/ التحفظ في إصدار الأحكام : قال الله تعالى (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) .
/ كبت الغضب وعدم التعجل والتضجر (الحُلم) :
قال الله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (49) لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ) ولا يعني ذلك التنقّص من قدر يونس عليه السلام كما سبق بيانه في غير موضع من هذا البحث .
/ السخاء والجود : وهو ما أشار الله إليه في قصة أصحاب الجنة ، وقد بلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك غاية الكمال ، فإنه كما أرسله الله رحمة للعالمين كذلك أرسله بالإحسان إلى الناس والرحمة بلا عوض كما قال الله تعالى في هذه السورة (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ) "وكان لا يوازى في هذه الأخلاق الكريمة ، ولا يبارى ، بهذا وصفه كل من عرفه"(3) . وفي الحديث الشريف "ما سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن شيء فقال لا" (4) . وفي حديث آخر " ... فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة"(5).
ب- الأخلاق الاجتماعية :
/ الإحسان ومواساة المساكين : وذلك مما تضمنته قصة أصحاب الجنة وهو أحد آثار خُلق السخاء والجود .
/ بذل الخير : وذلك ما يُستنبط من قوله تعالى (مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ) .
جـ - واجبات نحو الله (الأخلاق الدينية) :
/ الصدقة : وهي مما تضمنتها قصة أصحاب الكهف كذلك .
/ التوبة والرغبة إلى الله : قال الله تعالى (عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) ، وقوله تعالى (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، وفي الحديث الشريف "يا أيها الناس : توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة"(6) .
/ التقوى وعمل الصالحات : قال الله تعالى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) والتقوى هي أساس حُسن الخُلق فالأفعال الجميلة والأقوال الحسنة وسائر الأعمال الصالحات هي مظاهر التقوى وآثارها ، وفي الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا"(7). قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "فجعل كمال الإيمان في كمال حُسن الخلق ومعلوم أن الإيمان كله تقوى الله"(8).
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- "... أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم"(9) .
/ الخوف من الله : قال الله تعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) .
/ نشر الدعوة إلى الله : قال الله تعالى (وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) .
ثانيا : الأخلاق المرذولة :
إن طريقة القرآن فيما يذكره الله تعالى من أخلاق الكفار والفساق والعصاة سواء أكانت أقوالا أم أفعالا إنما يذكر ذلك على وجه الذم والبغض لها ولأهلها وبيان فسادها وخطورتها من أجل التحذير منها(10) . وقد تركز الحديث عن هذا النوع من الأخلاق في المقطع الثاني والثالث اللذين يتحدثان عن أخلاق المكذبين وأصحاب الجنة (11).
أولا : أخلاق المكذبين :
قال الله تعالى (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (9) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (10) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ (11) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (12) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (13) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (14) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (15) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (16) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) .
أ- الأخلاق الشخصية :
/ التكذيب بالحق : وبه افتُتحت هذه الصفات ، ولم يكن تكذيبهم بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا عدوانا وظلما كما قال -جل شأنه- (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) .
/ المداهنة : وهي ضرب من النفاق والملق ، وإنما طمع المشركون في ذلك لأنهم حسبوا أن ما يتمتع به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أخلاق عالية يعرفوها ربما عدلت به إلى هذا الخُلق الذميم ، وحاشاه عن ذلك ، بل مقتضى عظمة خلقه هي العزة .
قال أبو بكر العربي "وحقيقة الإدهان ؛ إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة ، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة ، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة ، أي مدافعة . وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنه استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال : ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول ، فقال لي : يا عائشة إن شرّ الناس منزلة من تركه - أو ودعه الناس - اتقاء فحشه"(12).
/ كثرة الحلف على الحق والباطل (حَلاَّفٍ) : ومنشأ ذلك الجهل بالله تعالى وعظمته ، إذ لو عرف ذلك لما أقدم على اسمه الجليل وصفاته الحسنى في كل صغيرة أو كبيرة ، بحق أو بغير حق (13).
/ الشُّح (مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ) : على ما ذهب إليه أكثر المفسرين (14) .
/ قبح الأعمال المؤدية إلى كثرة الآثام (أَثِيمٍ) .
/ الغلظة والجلافة (عُتُلٍّ) .
/ العُجب بالمال والبنين (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) .
/ الافتراء وقلب الحقائق (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) .
ب- الأخلاق الاجتماعية :
/ المهانة (مَّهِينٍ) : وهي من آثار الكذب لأن من كان كثير الحلف كان كثير الكذب حقيرا عند الناس (15).
/ الغيبة والتعييب (هَمَّازٍ) (16).
/ المشي بالنميمة (مَّشَّاء بِنَمِيمٍ) .
/ الصد عن سبيل الله (مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ) : لأنه كان يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته (17) .
/ التعدي على الغير (مُعْتَدٍ) (18) .
/ السُمعة القبيحة والشهرة بالشر (زَنِيمٍ) (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (19) .
وهناك أخلاق أخرى ذكرها الله عن المكذبين في مثاني السورة ولعل من أبرزها الاستكبار والحسد كما دلّ عليهما قوله تعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) وقوله تعالى (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) .
الأخلاق المرذولة في قصة أصحاب الجنة الآيات (17-33) :
عنوان قصة أصحاب الجنة هو البخل ، وهو من أرذل الأخلاق الشخصية والاجتماعية ، ويمكن تصنيف هذا النوع من البخل الورد في السورة ضمن الأخلاق الاجتماعية الممنوعة لأنه جاء في إطار قصة اجتماعية تواطأ فيها أصحاب البستان على منع حق المساكين فيها ، فحين تغلبت النوازع المادية على أهلها طمست بصيرتهم فارتكسوا في حضيض الأخلاق ومستنقع الرذيلة .
ولئن كان الخُلق الحسن يُورث فضائل جمة فإن الخُلُق السيء يُورّط صاحبه في أمثالها ، ففي الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "أتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة , واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم , حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"(20)، وقال عليه الصلاة والسلام "إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا"(21) ، والشح والبخل معناهما متقاربان ويُطلق كل منهما على الآخر إلا أن الشُّح أشد من البخل لأنه يكون معه حرص (22). ولهذا فإن قصة أصحاب الجنة اشتملت على رذائل أخرى سببها البخل منها ما يلي :
- التعاون على الإثم والإصرار عليه (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) ، (فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ) .
- هجر الطيب من القول والعمل الصالح (وَلا يَسْتَثْنُونَ) .
- التناجي بالإثم والعدوان (فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ) قال ابن عباس -رضي الله عنهما- "ينتجون السِّرار والكلام الخفي"(23) .
- الغضب والحقد(24) (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) "أي غدوا لا قدرة لهم إلا على الحنق والغضب على المساكين لأنهم يقتحمون عليهم جنتهم كل يوم فتحيلوا عليهم بالتبكير إلى جذاذها"(25).
- الظلم والطغيان (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) "في تركنا الاستثناء في قسمنا وعزمنا على ترك إطعام المساكين من ثمر جنتنا"(26). (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) "قال أصحاب الجنة : يا ويلنا إنا كنا مبتعدين مخالفين أمر الله في تركنا الاستثناء والتسبيح"(27).
ولعل هذا القدر من الأخلاق العملية فيه غنية عن الاستطراد ودلالة إلى ما يمكن أن يستنبط من مثاني سورة القلم ، ولاشك أن هذا المقدار قد نبه على ما في سائر القرآن الكريم من الآثار العظيمة للأخلاق التطبيقية . فهذه السورة مع قصرها قد استبان فيها من الأخلاق العملية ما لو عمل بها من تذكر أو ألقى السمع وهو شهيد لاستقامت طريقته وذاق لذة أخلاق القرآن فهو يمشي بها بين الناس .
قال ابن القيم : "فإذا جئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وتأملت سيرتَه مع قومه وصبره في الله ، واحتماله ما لم يحتمله نبي قبله ، وتلون الأحوال عليه مِن سِلْم وخوف ، وغنى وفقر ، وأمن وإقامة في وطنه وظعن عنه وتركه لله وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه ، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل والسحر والكذب والافتراء عليه والبهتان ، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله يدعو إلى الله فلم يؤذَ نبي ما أوذي ، ولم يحتمل في الله ما احتمله ، ولم يُعط نبي ما أعطيه ، فرفع الله له ذكره وقرن اسمه باسمه ، وجعله سيد الناس كلهم ، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة ، وأعظمهم عنده جاهاً ، وأسمعهم عنده شفاعة ، وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته ، وهي مما زاده الله بها شرفا وفضلا ، وساقه بها إلى أعلى المقامات" (2) .
/ التحفظ في إصدار الأحكام : قال الله تعالى (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) .
/ كبت الغضب وعدم التعجل والتضجر (الحُلم) :
قال الله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (49) لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ) ولا يعني ذلك التنقّص من قدر يونس عليه السلام كما سبق بيانه في غير موضع من هذا البحث .
/ السخاء والجود : وهو ما أشار الله إليه في قصة أصحاب الجنة ، وقد بلغ الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك غاية الكمال ، فإنه كما أرسله الله رحمة للعالمين كذلك أرسله بالإحسان إلى الناس والرحمة بلا عوض كما قال الله تعالى في هذه السورة (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ) "وكان لا يوازى في هذه الأخلاق الكريمة ، ولا يبارى ، بهذا وصفه كل من عرفه"(3) . وفي الحديث الشريف "ما سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم- عن شيء فقال لا" (4) . وفي حديث آخر " ... فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء لا يخشى الفاقة"(5).
ب- الأخلاق الاجتماعية :
/ الإحسان ومواساة المساكين : وذلك مما تضمنته قصة أصحاب الجنة وهو أحد آثار خُلق السخاء والجود .
/ بذل الخير : وذلك ما يُستنبط من قوله تعالى (مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ) .
جـ - واجبات نحو الله (الأخلاق الدينية) :
/ الصدقة : وهي مما تضمنتها قصة أصحاب الكهف كذلك .
/ التوبة والرغبة إلى الله : قال الله تعالى (عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) ، وقوله تعالى (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، وفي الحديث الشريف "يا أيها الناس : توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة"(6) .
/ التقوى وعمل الصالحات : قال الله تعالى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) والتقوى هي أساس حُسن الخُلق فالأفعال الجميلة والأقوال الحسنة وسائر الأعمال الصالحات هي مظاهر التقوى وآثارها ، وفي الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا"(7). قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "فجعل كمال الإيمان في كمال حُسن الخلق ومعلوم أن الإيمان كله تقوى الله"(8).
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- "... أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم"(9) .
/ الخوف من الله : قال الله تعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) .
/ نشر الدعوة إلى الله : قال الله تعالى (وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) .
ثانيا : الأخلاق المرذولة :
إن طريقة القرآن فيما يذكره الله تعالى من أخلاق الكفار والفساق والعصاة سواء أكانت أقوالا أم أفعالا إنما يذكر ذلك على وجه الذم والبغض لها ولأهلها وبيان فسادها وخطورتها من أجل التحذير منها(10) . وقد تركز الحديث عن هذا النوع من الأخلاق في المقطع الثاني والثالث اللذين يتحدثان عن أخلاق المكذبين وأصحاب الجنة (11).
أولا : أخلاق المكذبين :
قال الله تعالى (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (9) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (10) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ (11) هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (12) مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (13) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (14) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (15) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (16) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) .
أ- الأخلاق الشخصية :
/ التكذيب بالحق : وبه افتُتحت هذه الصفات ، ولم يكن تكذيبهم بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا عدوانا وظلما كما قال -جل شأنه- (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) .
/ المداهنة : وهي ضرب من النفاق والملق ، وإنما طمع المشركون في ذلك لأنهم حسبوا أن ما يتمتع به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أخلاق عالية يعرفوها ربما عدلت به إلى هذا الخُلق الذميم ، وحاشاه عن ذلك ، بل مقتضى عظمة خلقه هي العزة .
قال أبو بكر العربي "وحقيقة الإدهان ؛ إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة ، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة ، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة ، أي مدافعة . وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنه استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال : ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو بن العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول ، فقال لي : يا عائشة إن شرّ الناس منزلة من تركه - أو ودعه الناس - اتقاء فحشه"(12).
/ كثرة الحلف على الحق والباطل (حَلاَّفٍ) : ومنشأ ذلك الجهل بالله تعالى وعظمته ، إذ لو عرف ذلك لما أقدم على اسمه الجليل وصفاته الحسنى في كل صغيرة أو كبيرة ، بحق أو بغير حق (13).
/ الشُّح (مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ) : على ما ذهب إليه أكثر المفسرين (14) .
/ قبح الأعمال المؤدية إلى كثرة الآثام (أَثِيمٍ) .
/ الغلظة والجلافة (عُتُلٍّ) .
/ العُجب بالمال والبنين (أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) .
/ الافتراء وقلب الحقائق (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) .
ب- الأخلاق الاجتماعية :
/ المهانة (مَّهِينٍ) : وهي من آثار الكذب لأن من كان كثير الحلف كان كثير الكذب حقيرا عند الناس (15).
/ الغيبة والتعييب (هَمَّازٍ) (16).
/ المشي بالنميمة (مَّشَّاء بِنَمِيمٍ) .
/ الصد عن سبيل الله (مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ) : لأنه كان يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته (17) .
/ التعدي على الغير (مُعْتَدٍ) (18) .
/ السُمعة القبيحة والشهرة بالشر (زَنِيمٍ) (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (19) .
وهناك أخلاق أخرى ذكرها الله عن المكذبين في مثاني السورة ولعل من أبرزها الاستكبار والحسد كما دلّ عليهما قوله تعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) وقوله تعالى (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) .
الأخلاق المرذولة في قصة أصحاب الجنة الآيات (17-33) :
عنوان قصة أصحاب الجنة هو البخل ، وهو من أرذل الأخلاق الشخصية والاجتماعية ، ويمكن تصنيف هذا النوع من البخل الورد في السورة ضمن الأخلاق الاجتماعية الممنوعة لأنه جاء في إطار قصة اجتماعية تواطأ فيها أصحاب البستان على منع حق المساكين فيها ، فحين تغلبت النوازع المادية على أهلها طمست بصيرتهم فارتكسوا في حضيض الأخلاق ومستنقع الرذيلة .
ولئن كان الخُلق الحسن يُورث فضائل جمة فإن الخُلُق السيء يُورّط صاحبه في أمثالها ، ففي الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال "أتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة , واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم , حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم"(20)، وقال عليه الصلاة والسلام "إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا"(21) ، والشح والبخل معناهما متقاربان ويُطلق كل منهما على الآخر إلا أن الشُّح أشد من البخل لأنه يكون معه حرص (22). ولهذا فإن قصة أصحاب الجنة اشتملت على رذائل أخرى سببها البخل منها ما يلي :
- التعاون على الإثم والإصرار عليه (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) ، (فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ) .
- هجر الطيب من القول والعمل الصالح (وَلا يَسْتَثْنُونَ) .
- التناجي بالإثم والعدوان (فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ) قال ابن عباس -رضي الله عنهما- "ينتجون السِّرار والكلام الخفي"(23) .
- الغضب والحقد(24) (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) "أي غدوا لا قدرة لهم إلا على الحنق والغضب على المساكين لأنهم يقتحمون عليهم جنتهم كل يوم فتحيلوا عليهم بالتبكير إلى جذاذها"(25).
- الظلم والطغيان (قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) "في تركنا الاستثناء في قسمنا وعزمنا على ترك إطعام المساكين من ثمر جنتنا"(26). (قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) "قال أصحاب الجنة : يا ويلنا إنا كنا مبتعدين مخالفين أمر الله في تركنا الاستثناء والتسبيح"(27).
ولعل هذا القدر من الأخلاق العملية فيه غنية عن الاستطراد ودلالة إلى ما يمكن أن يستنبط من مثاني سورة القلم ، ولاشك أن هذا المقدار قد نبه على ما في سائر القرآن الكريم من الآثار العظيمة للأخلاق التطبيقية . فهذه السورة مع قصرها قد استبان فيها من الأخلاق العملية ما لو عمل بها من تذكر أو ألقى السمع وهو شهيد لاستقامت طريقته وذاق لذة أخلاق القرآن فهو يمشي بها بين الناس .
-------------------------------
1- ابن كثير : البداية والنهاية 122/4.
2- مفتاح دار السعادة 373/1.
3- القاضي عياض : الشفاء 144/1.
4- أخرجه مسلم في صحيحه / "باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال لا ، وكثرة عطائه" 1805/ 4 / رقم 2311.
5- أخرجه مسلم في الباب السابق 1806/4/ رقم الحديث 2312.
6- أخرجه مسلم في صحيحه / "باب استحباب الاستغفار ..." 2076/4 / رقم الحديث 2702 .
7- أخرجه أحمد في مسنده 346/12 / رقم 7402،وقال محققوه"حديث صحيح".
8- مجموع الفتاوى 609/10 .
9- أخرجه البخاري في صحيحه / كتاب النكاح "باب الترغيب في النكاح" 116/6.
10- انظر ابن تيمية : مجموع الفتاوى 338/15 .
11- أما ما يتعلق بيونس عليه السلام من العجلة والغضب فقد أشرت إليه في رقم 6 من الأخلاق الشخصية تأدبا مع مع يونس عليه السلام .
12- أحكام القرآن 1856/4، والحديث الذي ذكره أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الأدب "باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب " 86/7، وأخرجه مسلم في باب "مداراة من يُتقى فُحشه" 2002/4 ،رقم الحديث 2591.
13- انظر الرازي : مفاتيح الغيب 84/29.
14- انظر ابن عطية:المحرر الوجيز 32/15.
15- انظر ابن تيمية:دقائق التفسير 17/5.
16- انظر معاني السورة وملامحها الخلقية -ثانيا.
17- انظر ابن عطية:المحرر الوجيز 17/15 ، الرازي:مفاتيح الغيب 84/29 ، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 232/18.
18- انظر ابن تيمية:دقائق التفسير 17،18/5.
19- انظر المصدر السابق .
20- أخرجه مسلم في صحيحه ،"باب تحريم الظلم"1996/4،رقم الحديث 2578.
21- أخرجه أحمد في مسنده 398/11،رقم الحديث 6729 وصححه محققوه .
22- انظر الراغب الأصفهاني مفردات القرآن مادة (شح) 256 ، ابن الأثير : النهاية في غريب الحدبث ،مادة (شح) 448/2.
23- صحيح البخاري ،كتاب التفسير،"سورة ن والقلم" 71/6.
24-انظر ابن عطية:المحرر الوجيز 14/15،ابن حجر :فتح الباري 304/18.
25-محمد الطاهر :التحرير والتنوير 85/29.
26- الطبري:جامع البيان 35/29.
27- المصدر السابق.
*المرجع / كتاب : الجانب الخُلقي من سورة القلم / أ.د. إبراهيم بن سعيد بن حمد الدوسري.
1- ابن كثير : البداية والنهاية 122/4.
2- مفتاح دار السعادة 373/1.
3- القاضي عياض : الشفاء 144/1.
4- أخرجه مسلم في صحيحه / "باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال لا ، وكثرة عطائه" 1805/ 4 / رقم 2311.
5- أخرجه مسلم في الباب السابق 1806/4/ رقم الحديث 2312.
6- أخرجه مسلم في صحيحه / "باب استحباب الاستغفار ..." 2076/4 / رقم الحديث 2702 .
7- أخرجه أحمد في مسنده 346/12 / رقم 7402،وقال محققوه"حديث صحيح".
8- مجموع الفتاوى 609/10 .
9- أخرجه البخاري في صحيحه / كتاب النكاح "باب الترغيب في النكاح" 116/6.
10- انظر ابن تيمية : مجموع الفتاوى 338/15 .
11- أما ما يتعلق بيونس عليه السلام من العجلة والغضب فقد أشرت إليه في رقم 6 من الأخلاق الشخصية تأدبا مع مع يونس عليه السلام .
12- أحكام القرآن 1856/4، والحديث الذي ذكره أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الأدب "باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب " 86/7، وأخرجه مسلم في باب "مداراة من يُتقى فُحشه" 2002/4 ،رقم الحديث 2591.
13- انظر الرازي : مفاتيح الغيب 84/29.
14- انظر ابن عطية:المحرر الوجيز 32/15.
15- انظر ابن تيمية:دقائق التفسير 17/5.
16- انظر معاني السورة وملامحها الخلقية -ثانيا.
17- انظر ابن عطية:المحرر الوجيز 17/15 ، الرازي:مفاتيح الغيب 84/29 ، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 232/18.
18- انظر ابن تيمية:دقائق التفسير 17،18/5.
19- انظر المصدر السابق .
20- أخرجه مسلم في صحيحه ،"باب تحريم الظلم"1996/4،رقم الحديث 2578.
21- أخرجه أحمد في مسنده 398/11،رقم الحديث 6729 وصححه محققوه .
22- انظر الراغب الأصفهاني مفردات القرآن مادة (شح) 256 ، ابن الأثير : النهاية في غريب الحدبث ،مادة (شح) 448/2.
23- صحيح البخاري ،كتاب التفسير،"سورة ن والقلم" 71/6.
24-انظر ابن عطية:المحرر الوجيز 14/15،ابن حجر :فتح الباري 304/18.
25-محمد الطاهر :التحرير والتنوير 85/29.
26- الطبري:جامع البيان 35/29.
27- المصدر السابق.
*المرجع / كتاب : الجانب الخُلقي من سورة القلم / أ.د. إبراهيم بن سعيد بن حمد الدوسري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق