*د. محمد بن عبد العزيز الخضيري
سورةُ عبس سورةٌ نزلت لمُناسبةٍ حدثت في العهد المَكِّي وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً ما مشغولاً بدعوةِ صناديد قُريش فجاءهُ الصحابي الجليل عبدُ الله ابن أُم مكتوم يستهديه ويستفتيه في أمرٍ أشكَل عليه فكرِه النبي صلى الله عليه وسلم مجيِئهُ إليه في ذلك الوقت وودَّ لو أنَّ عبد الله ابن أُم مكتوم لم يأتِ ولذلك عبس بوجهه وقطَّب عليه الصلاة والسلام وكان ذلك اجتِهاداً منه وإيثاراً لمصلحةِ الدعوة في نظرِه عليه الصلاة والسلام فأنزَل الله هذه الآيات عِتاباً لِرسوله في أمرٍ يجب على المسلمين أن يعوه وهو أنَّ هذه الدعوة تُقدَّم لمن هو أقبلَ عليها ولِمن هو رغِب فيها وأمَّا من أعرض عنها فإنَّنا لسنا مسؤلين في أنْ يقبلَ رغماً عن أنفِه أو يستجيب لِزاماً مادُمنا قد بلًّغناه وعرضنا عليه.
يقول الله عزَّ وجلّ (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) أي بسبب أن جاءهُ الأعمى، وعبوس رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّما حدث لِعِلمه أنًّ عبد الله ابن أُم مكتوم لا يرى ما على وجهه الكريم عليه الصلاة والسلام من آثار التقطيب ولكِنَّ الله سبحانه وتعالى عاتبهُ على ما وقع منه وقال كيف تفعلُ ذلك ؟ (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) ثُمَّ بيَّن له السبب (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى) ليس عليكَ شيءٌ إذا لم يتزكى هذا الذي استغنى عنك وأعرض عن دعوتك ولم يقبلها (وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسعَى) مُقبِلاً مع أنَّه أعمى والطريق عليه شاق وجاء راغِباً فيما عندك من خير الهداية والوحي (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) عِلماً بأنَّه يخشى أي يخشى الله سبحانه وتعالى. فكانت هذه تذكِرة من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ألَّا يعود لمثل ذلك ولذلِك كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلِك يُكرِم عبد الله إكراماً كبيراً ويُفسح لهُ في المجلس ويقول أهلاً بمن عاتبني فيه ربِّي.
والفائدة العظيمة التي نستفيدُها من هذه القصة:
أنَّ هذه الدعوة تُقدَّم لكُل من يأتي إليها ولا يُنظر إلى المُستويات التي عليها أهلُ الدُنيا والرُتب التي يضعُها أهلُ الأرض لأنفُسِهم هذا أميرٌ وهذا مأمومٌ وهذا وزيرٌ وهذا مستأجر وهذا موظف وهذا صغير وهذا فقير وهذا حقير وهذا... إلخ هذه الاعتِبارات وهذه المنازِل الدُنيوية ليس لها أيُّ اعتبار في العلم والهُدى والوحي وفي أمر الآخرة، ولا يظُنَّن الداعية أنَّهُ عندما يؤثر هذا الكبير من الناس أنه بذلك يخدم الدعوة لأننا لا ندري من هو الذي يخدُمها حقاً فنحنُ يجب علينا أن نقوم بدين الله كما ينبغي ونُقدمه لكل راغب فيه بغض النظر عن مستواه وطبقته وعن لونِه ولُغته وجِنسه وعِرقه.
ومن اللفتات الجميلة في بداية هذه السورة أنَّ الله قال (عَبَسَ وَتَوَلَّى) لأنَّ هذه العِبارة كانت قوية على رسول الله صلى الله عليه وسلم آثر فيها أسلوب الغَيبة فلم يقُل عبست وتوليت لأنَّ هذا قد يشُق على قلب رسول الله فتلطف في القول معه لئلا يستوحش ولِتتعلم الأمة كيف تُخاطب نبيها محمداً صلى الله عليه وسلم ولتَعلم مقامه عند الله جل وعلا .
هذه بعض هدايات هذه السورة الكريمة وإلى لقاءٍ آخر .
_____________________
*برنامج هدايات قرآنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق