{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }[البقرة:190]
هذه الآية من آيات الجهاد في سبيل الله في القرآن الكريم، وهي قد صرحت – كما تُلاحظون – بلفظ القتال، فإنها ترد في القرآن الكريم آيات بلفظ الجهاد وتأتي آيات بلفظ القتال، فلفظة الجهاد هي أعمّ من لفظة القتال لأن الجهاد قد يكون بالقتال وقد يكون بغير ذلك، وأما القتال لا يكون إلا بالسيف وأدوات القتال المعروفة، فالله سبحانه وتعالى يقول: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } فأهم فائدة في هذه الآية: ألا يُقاتل إلا من قاتل، بمعنى ألا يُقاتل من كف عن القتال وأظهر السِّلم، وإنما يُقاتل من بادهنا بالقتال وحمل السلاح في وجه الدعوة، ولذلك المفسرون يقولون: لا يُقاتل إلا من قاتل وهم الرجال البالغون، وأما النساء والولدان والرهبان فلا يُقتلون، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يُوصي المقاتلين بهذا، وكان أيضًا الخلفاء بعده ينهون عن قتال الرهبان أو قتال النساء أو قتل الولدان الذين يعتزلون القتال. لكن إذا كان النساء يُقاتلن ولهم شوكة فيُقاتلن، إذا كان الرهان مثلًا يحملون السلاح ويُقاتلون فإنهم يُقاتلون، فالعبرة في هذه الآية بأن يُقال: لا يُقاتل إلا من قاتل، { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}، سواءً كانوا نساءً أو رجالًا أو رهبانًا، لكن المفسرون في كتب التفسير يذكرون النساء والرهبان والولدان لأن العادة أنهم لا يُقاتلون، لكن مثل زماننا هذا أصبح الجيوش تُوظف النساء، وأصبح النساء يُقاتلن فيها ويعملن في الطيران ويعملن في غيره فيُقاتَلن كما يُقاتَل الرجال.
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ* فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}[البقرة:193:191]
ثم يقول الله سبحانه وتعالى : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، أي حيث وجدتموهم {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}
من أهم الأحكام في هذه الآية: أنه لا يجوز البدء بالقتال في المسجد الحرام إلا إذا قاتل المسلمين أهلُه، طبعًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان المشركون في الحرم، فالأصل في المسجد الحرام أنه مُحرم القتال فيه ولا يجوز فيه رفع السلاح ولا ترويع الآمنين إلا إذا هم بدؤا بالقتال فإنه في هذه الحالة يجوز دفعهم بالمقاتلة، وهذه الآية نزلت في ذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم عندما أرادوا أن يفتحوا مكة كانوا متحرجين من القتال في الحرم وفي المسجد الحرام فنزلت هذه الآيات لتُبين أنه يجوز مقاتلة هؤلاء إذا قاتلوكم في المسجد الحرام {فخذوهم واقتلوهم}، ثم قال: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} يعني هم يبدؤن { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}. لاحظوا حتى فيه هذه الآية فيها فائدة بلاغية -ربما البعض لا ينتبه لها- الله قال: { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} ولم يقل فإن (قاتلوكم فقاتلوهم) والفرق بينهما: أن قوله تعالى: { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} إشارة إلى أنكم لا تترددوا في مقاتلهم في الحرم بل احرصوا على قتلهم وليس مجرد قتالهم، لأن القتال لا يُشترط منه القتل، يمكن أن تُقاتل إنسان فتجرحه أو تمنعه بشكل أو بآخر لكن قوله: {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} بمعنى أنهم ما داموا قاتلوكم في المسجد الحرام فهم حلالوا الدم ويجوز لكم أن تقتلوهم في هذه الحالة، وهذا معنى قوله: { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} فيه إشارة وحث للصحابة أو للمسلمين أن يُخلصوا في ردع هؤلاء لدرجة قتلهم، كأنه يأمركم بقتلهم قتلًا تامًا حتى ولو كانوا في المسجد الحرام، فكأنه قال: نعم المسجد الحرام حرام والكعبة حرام، لكن إذا رفع السلاح فيها عليك – أيها المسلم – فإنك أغلى وأثمن منها فقاتل من يُقاتلك فيها واقتله فهذا هو معنى قوله: { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}.
وطبعًا في قوله في آخرها: {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} إشارة إلى أن من يفعل ذلك في الحرم ويُبادر بالقتال في الحرم أنه أشبه ما يكون بالكافر إن لم يكن كافرًا، وهذا هو معنى ختامه بهذا المعنى.
ثم قال: {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيه إشارة إلى أن قاتل العمد له توبة، لأن الكفر هو أعظم من القتل، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه يقبل توبة الكافر فمن باب أولى توبة القاتل العمد.
وهنا مسألة تتعلق بآيات الأحكام في القرآن الكريم وهي مسألة التوبة، الله سبحانه وتعالى قد ذكر التوبة في القرآن الكريم من كل الذنوب ومن كل المعاصي ومن كل الكبائر، وأنه سبحانه وتعالى هو الوحيد الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ويعفو عن الذنوب، وليس لأحد من البشر أن يقبل توبة أحد من البشر أو يرفض توبته، هذه – أيها الأخوة – أيضًا من خصائص التشريع الإسلامي في القرآن الكريم، لا يمكن أن توجد فيه، حتى أنه سبحانه وتعالى هذه صلاحيات فوق صلاحيات البشر، فوق صلاحيات الوالي، فوق صلاحيات الخليفة، فوق صلاحيات الشرطة، وهو أنه سبحانه وتعالى يعفو قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} حتى أنه قبِل بعض الحدود ورفع عنهم العقوبات إذا تابوا قبل أن يقدر عليهم الحاكم، وهذه في القوانين الوضعية غير موجودة، القوانين الوضعية كلها تؤاخذ على الذنب وتُجرّم، أما هذا القانون السماوي فإن الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة رغمًا عن أولياء الدم، يقبل توبة القاتل العمد ويغفر له ويتجاوز عنه ويرضي سبحانه وتعالى كما شاء أولياء المقتول، لكنه سبحانه وتعالى يقبل التوبة ويعفو عن السيئات. ولذلك – كما تعلمون – النبي صلى الله عليه وسلم عندما قتل وحشي حمزة بن عبد المطلب وكان من أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم وحشي ليس من صلاحيات النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفض توبة وحشي وإسلامه فأسلم، وكذلك عمر بن الخطاب لما أسلم قاتل أخيه كان يكره عمر أن يراه، لكنه ما كان من صلاحياته أن يرفض توبته وإسلامه، ولذلك كان يقول: غيب وجهك عني، فالتوبة قضية فوق صلاحيات البشر. ولذلك التوبة مقرونة كثيرًا بآيات الأحكام في القرآن الكريم، وخاصةً آيات الجنايات، القتل والسرقة وغيرها، وهذه من خصائص التشريع الإسلامي في القرآن الكريم. فالله سبحانه وتعالى يقول: {فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يُشير إلى هؤلاء الكفار الذين يقاتِلون في المسجد الحرام والعلماء يقولون: أن هذا دليلٌ على جواز أو على قبول توبة القاتل العمد، وأن الله سبحانه وتعالى يقبل توبته، وأنه سبحانه وتعالى إذا كان يقبل توبة هؤلاء الكفار الذين يُقاتلون في الحرم فمن باب أولى أن يقبل توبة من دونهم من مرتكبي الكبائر.
ثم قال الله سبحانه وتعالى : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}، كأن قائلًا قال: إن القتال في المسجد الحرام فتنة، وهذا يحصل، كثير من الناس ربما يُفكر بهذه الطريقة ويقول: القتال في هذه المواطن فتنة، وقد يجر إلى مفاسد عظيمة، فالله سبحانه وتعالى تولى الإجابة عن مثل هذه الشُبهات وقال: الفتنة في ترك قتالهم، لأن إذا تُرك مثل هؤلاء المفسدين من الكفار أو من هو في حكمهم فإنها سوف تتعاظم هذه الفتنة وتكبر وتصبح ترك قتالهم هو الفتنة الحقيقية. ولذلك قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}، حتى لا تحصل فتنة ببقائهم وتحصنهم بالمسجد الحرام ويكون الدين لله، {فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}
ولذلك نقول: من فوائد هذه الآية: الأمر بمقاتلة المشركين ولو كانوا في المسجد الحرام، وإن لم يبتدؤكم بالقتال فيه إلى غاية هي ألا تكون فتنة وأن يكون الدين لله وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة له.
{ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[البقرة: 195]
هذه الآية تتحدث عن الإنفاق في سبيل الله، ولذلك صحح الصحابة -بعض الصحابة- أظنه أنس بن مالك أو غيره نسيت أو أبو أيوب ، نعم أبو أيوب الأنصاري كيف أن التوقف على الإنفاق في سيبل الله هو معنى إلقاء النفس في التهلكة.
فقوله سبحانه وتعالى : {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يعني في أوجه الإنفاق التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، وخصّ بعض المفسرين قال: " في سبيل الله هنا خاص بالجهاد في سبيل الله، ولا تلقوا بأنفسكم إلى الهلاك بأن تتركوا الجهاد وتتركوا البذل والإنفاق في الجهاد في سبيل الله، لأن هذا هو سبب هلاككم" ولذلك استدل بهذه الآية عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما كان في سفر فأصابته جنابة وكان في بردٍ شديد، فاختلفوا هل يجب أن يغتسل بهذا الماء البارد في هذا البرد القارس ربما يُهلك نفسه، فهو استدل بهذه الآية على أنه يكتفي بالتيمم، فلما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره لم يؤاخذه ولم يُطالبه بإعادة الاغتسال.
فدل هذا على أن هذه الآية تُحمل على المعنى الذي ذكرناه الآن وهو عدم التوقف عن الإنفاق في سبيل الله وعدم التوقف عن الجهاد في سبيل الله، هذا هو المعنى الذي فيه الآية، لأن التوقف عن الإنفاق في سبيل الله والجهاد هو الهلاك.
ولكن أيضًا يدخل فيها النهي عن أن يُلقي الإنسان بنفسه في التهلكة، وهذه كلمة عامة ، فيحرُم على الإنسان أن يُلقي بنفسه في تهلكة كأن يقطع طريقًا -مثلًا الطريق العام هذا سريع- والسيارات تسير فيه بسرعة مائة وعشرين كيلو، ثم يريد أن يعبر الشارع، نقول: يا أخي هذا إلقاء للنفس في التهلكة، نعم هذا من هذا الباب.
أيضًا رجل وحيد ثم يُلقي بنفسه في وسط أعداء وفي جيش ضخم، هذا يُعرض نفسه للهلاك.
ولذلك اختلف المفسرون هل هذا الفعل جائز أو غير جائز على أقوال: منهم من قال: إن كان في ذلك نكاية بالعدو وكان في ذلك إظهار لقوة المسلمين فيجوز وإلا فإنه لا يجوز لأنه من إلقاء النفس في التهلكة.
فأبرز أحكام هذه الآية هي: الأمر بالإنفاق في سبيل الله والجهاد. ولذلك نقلت لكم نصًا هنا عن محمد بن الحسن الشيباني – رحمه الله – وهو من تلاميذ الإمام أبي حنيفة قال: "لو حمل رجلٌ واحد -لأن هذه تتداولها كتب التفسير كثيرًا هذه القصة- لو حمل رجلٌ واحد على ألف رجلٍ من المشركين وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاةٍ أو نكايةٍ في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه وهو من إلقاء النفس في التهلكة، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعةٍ للمسلمين، فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه -يعني لاحظوا محمد بن الحسن يتحرج من قوله يجوز، قال: فلا يبعد جوازه- ولأن فيه منفعةً للمسلمين على بعض الوجوه، وإن كان قصده إرهاب العدو وليُعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه، وإذا كان فيه نفعٌ للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم}" هذا كلام محمد بن الحسن الشيباني.
-----------------------------------------------------
جزى الله من قام بالتفريغ وقد نقلته (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق