الأربعاء، 14 ديسمبر 2016

تفسير سورة هود ( ٧٧ - ٨٩ ) / الأترجة

 د. ناصر بن محمد الماجد


 بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد ..
فهذا هو المجلس السادس من مجالس مدارسة سورة هود عليه السلام وقد مضى في المجلس السابق الكلام عن الآيات الكريمة التي أشارت إلى مجيء رسل الله تعالى من الملائكة إلى إبراهيم بالبشرى ثم ما كان منه عليه السلام بعد تلقي البشرى من مجادلتهم في شأن قوم لوط ثم بعد ذلك جاءت هذه الآيات الكريمة لتشير إلى ما حصل مع الملائكة لما جاءوا إلى نبي الله لوط حيث قال عز وجل : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ } ومعنى { سِيءَ بِهِمْ } يعني ساءه مجيئهم أو وقع عليه السوء بسبب مجيئهم ، والسوء الذي حصل له ليس لذات المجيء وإنما لما سيترتب على هذا المجيء وقد عَلِم من أخلاق قومه ما علم.
 { سِيءَ بِهِم وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } وهذا كناية عن شدة الأمر عليه وعُسره عليه لأنهم نزلوا به أضيافاً وهو يعلم حال قومه ويعلم ما الذي سيقع منهم ولهذا قال : { وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } يعني يوم شديد لأنه يعلم ما الذي سيقع من قومه وفعلاً قال الله عز وجل بعد ذلك : { وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } وتأملوا هذه الصورة التي تعبر عنها هذه اللفظة { يُهْرَعُونَ } وأصل كلمة { يُهْرَعُونَ } هي حال لمجيئهم يعني جاءوا وحالهم أنهم يهرعون، وكلمة يهرعون تشير إلى مشي باضطراب يعني يمشون وهم مضطربين وهذه الحال تُعبر عن حال اضطراب في المشي بسبب الخوف أو بسبب ترقب أمر واستيفاز من أجل هذا الأمر، وهذا هو الحال التي كانوا عليها جاءوا وهم متحفزين كأنما هم يسعون إلى غنيمة وإلى مكسب - والعياذ بالله - { وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ }.
 ثم قال عز وجل : { وَمِنْ قَبْلُ } يعني من قبل هذا المجيء { كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } وكنى الله عز وجل عن تلك السيئات التي يعملونها لقُبحها وعِظمها وهي إتيان الذكران من العالمين كما ورد ذلك نصاً في مواضع أخرى من القرآن الكريم ولكن الله وصفها هنا بالسيئات { وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } ولم ينص فقط على هذه الفاحشة لأن فعلهم السيء لا يقتصر على هذا الفعل فقط بل فيها إساءة إلى نبي الله وهو قريب لهم، وفيها إساءة إلى الأضياف، فهذه وفيها عمل السيء أيضاً وهذه كلها أحوال سيئة ولذلك قال :
{ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } وعندما جاءوا إليه { قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } جاءوا وفي نيتهم فعل الفاحشة بهؤلاء الأضياف الكرام الذين نزلوا على نبي الله لوط فوقف يمنعهم ، ووردت روايات كثيرة متعددة عن المفسرين في حاله وهو يمنعهم ويصدهم لم يرِد فيها شيء ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا نُجمل الكلام كما أجملت الآيات الكلام عن مدافعتهم، لكن الآيات تشير إلى أنه دافعهم وسعى إلى ردهم بقدر طاقته وجهده حتى إنه قال لهم : { يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم } ووقع خلاف واسع بين المفسرين في بيان معنى كلام لوط عليه السلام:
 أولاً: في معنى البنات هنا ما المراد بها حقيقة ؟ وإلى أي شيء دعاهم ؟
ونُجمل الكلام فيها أن المراد بالبنات هنا إما البنات حقيقة وهن بنات الصُّلب يعني بناته حقيقة، أو أن المراد بهن بنات قومه ونبيّ القوم أب لهم في منزلة الأب ولذلك سمّى نساء القوم بنات له.
 ثم ما الذي دعاهم إليه ؟ الآية الكريمة قال الله فيها على لسان لوط :{ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم } وهذا يشير قطعاً إلى أنها دعوة إلى نكاحهن وإلى الزواج الطاهر لأنه لو كان دعاهم إلى شيء غير الزواج لما وصفه بالطُهر لأن ما عدا الزواج ليس بطاهر فقوله :{ هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم } هذا توضيح لحقيقة الدعوة التي دعاهم لوط عليه السلام إليها.
 وأما هل المراد بناته أو بنات قومه؟ الآية ظاهرها أن المقصود بها بنات الصُّلب ولا مانع على الإبقاء على هذا المعنى، على أن بعض المفسرين عدل عن هذا قال : لأن بناته يعني ما ثبت إلا أنه له بنتين، هم يقولون ذلك ما ثبت إلا أنه له بنتين فقط فكيف البنتين تكفي هؤلاء كلهم ولذلك عدلوا إلى القول أن المراد بنات قومه. ونحن نقول:
 أولاً : أن لم يثبت أن له هذا العدد من البنات أقل أو أكثر ما ثبت ، طبعاً هذا الأمر لم يرِد فيه دليل نصّ على عدد بناته عليه السلام ولذلك ندع الآية كما أخبر عز وجل قال البنات دون تقييدهم بعدد ، وهل لوط عليه السلام حينما أمرهم بذلك أو دعاهم إلى ذلك يريد حقيقة أن يزوجهم ؟ الحقيقة ليس هذا هو الظاهر من لفظ الآية بل الظاهر من لفظ الآية صرفهم عن مقصدهم يعني أراد لوط عليه السلام أن يصرفهم عن مقصدهم بأي وسيلة كانت حتى بدعوتهم إلى النكاح من بناته ويبقى دون الخوض في التفاصيل لأنه أراد فقط أن يصرفهم فإذا صرفهم عن هذا الأمر لا بأس عندئذ من الحديث في التفاصيل وهل عدد بناته يكفي أو هل بنات قومه، فالمقصود أن لوط كان همه منصرف إلى صرفهم عن هذه الجريمة وأما كيف بعد ذلك يكون الزواج بهن ونحو ذلك فهذا من ما لم يُرده لوط ولذلك اشتغال كثير من المفسرين بتفاصيل بنوها على هذا المعنى لا حاجة لها مثل زواج المؤمنة من الكافر وغير ذلك، وكيف يكون النكاح وعدده ومراته تفاصيل ليس لها حاجة إذا استصحبنا المقصد الذي قصده لوط عليه السلام فهو إنما أراد أن يصرفهم مثل لو جاءك شخص يقول لك مثلاً يريد أخذ مال اليتيم أو شيء تقول : يا أخي لا تأكل مال اليتيم لا تسرق هذا المال أو لا تظلم وخذ من مالي ما شئت أو وخذ مالي ، أو إنسان يريد تقول له لا تأخذ مال اليتيم أو تقوله أكل لحم الخنزير أهون من هذا أنت لا تريد أنك تعطيه مالك كله أو أن تبيح له أكل لحم الخنزير وإنما تريد أن تبين له شناعة فعله هذا وأن تصرفه عنه، إذا صرفته عنه يبقى بعد ذلك هل تعطيه مالك كله أو لا تعطيه هذا أمر آخر. المقصود الذي قصده لوط عليه السلام هو صرفهم عن هذه الجريمة.
وقوله : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُم } تعريض بهم لأنهم يأتون فاحشة فعلاً ليست طاهرة فعلاً نجسة قذرة وهذا - سبحان الله - الأمر يحصل عند انتكاس الفطرة وانحرافها لأن الله فطر الإنسان يميل ميلاً فطرياً إلى المرأة في محل الحرث الذي خلقه الله عز وجل ميل فطري في الإنسان ينساق إليه بفطرته حتى البهائم، لكن إذا انحرفت تلك الفطرة لا حد لانحرافها فتفعل كل أنواع القبائح والآثام وهذا ناتج عن انحراف الفطرة. وفي العصر الحديث هذا الانحراف أخذ منحاً خطيراً جداً بحيث أصبحت القوانين والتشريعات تُقِره والناس لا ينكرونه ولا يعيبونه ويُقَر على أعلى المستويات وهذا من ارتكاس الفطرة وانحرافها وإن الله عز وجل خلق الرجل للمرأة وخلق المرأة للرجل وجعل هذا الميل الفطري بينهما سبب للتكاثر وبقاء الجنس الإنساني.
 وهنا إشارة أيضاً إلى الحلال والحرام وإن من أعظم ما يميز الحلال عن الحرام هو كونه طيب ولذلك دائماً من أوصاف الحلال أنه طيب ومن أوصاف الطيب أنه حلال وبضده الخبيث فإن من أوصافه أنه حرام ومن أوصاف الحرام أنه خبيث { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ }.
 ثم قال لما قال لهم ذلك قال: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي ۖ أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } يعني يُعرِّض بهم لا يليق ولا ينبغي بكم أن تهينوا أخاكم والذي هو بينكم ومن عشيرتكم، ثم لا ينبغي للكريم أن يُهين الضيف وأن يعتدي عليه بل الضيف محله الإكرام لذلك قال : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } يعني لو يوجد واحد فقط رشيد ينهاكم عن ذلك، والحقيقة حينما قال : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } يعني هذا نستبط منه أن هؤلاء القوم كلهم أجمعوا على هذا المنكر العظيم وتواطئوا عليه وتعاقدوا عليه واجتمعت عليه قلوبهم بحيث لم يوجد فيهم شخص يقول هذا الأمر لا يجوز أو هذا عيب أو هذا خطأ لأن هذا الفعل جمع كل السوءات بغض النظر عن سوأة الفاحشة لكن الاعتداء على الضيف وخرق حرمة قريبهم وأخيهم هذا منكر عظيم ولذلك قال : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ }.
ماذا كان جوابهم عليه بعد ذلك قالوا له { قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } يعني يقولون إنك تعلم إن ليس لنا إرب ولا نميل للبنات ولا نريدهن وإنك تعلم مقصدنا وإرادتنا وما الذي نميل إليه، فهذا يشير إلى انحرافهم يعني أصبحت الفطرة عندهم معكوسة مقلوبة ليست مجرد نزوة عابرة وتنتهي لا، بل أصبح شيئاً ممزوجاً بهم مخلوطاً بهم لا يستطيعون الانفكاك عنه وأصبح هذا ميلهم.
 وعندئذ وقد يئس منهم وآلمه هذا الحال أنه يدافع على أضيافه على ضعفه في مقابل قومه { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } تحسر أنه ما يستطيع يدفع عن أضيافه ولا أن يرد عنهم { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ } "لو" هذه للتمني يعني ياليت لي قوة فأمنعكم
{ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً } والباء هنا للاستعلاء يعني لو أن لي عليكم قوة استعلي بها عليكم هذا معنى دخول حرف الباء.
  { أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } يعني أو اعتصم بمكان أو رجل له قوة ومنعة يمنعني منكم، بمعنى يقول أني فاقد القوة في ذاتي أنا لأني واحد لا أستطيع مجابهتكم وليس لي من آوي إليه ينصرني عليكم فضعف ذاتي وضعف خارجي.
 والحقيقة يعني هذا الموقف العصيب الذي وقع للوط عليه السلام جعل الملائكة مباشرة يُسرُّون عنه ويخففون عنه ولذلك أجابوه مباشرة { قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } ما قالوا لن يصلوا إلينا قالوا : { لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } وهذا من الالتماسات والنظر الذي هو محل اعتبار يقولون إن قولهم { لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } يعني لن يؤذوك فيُحتمل أنهم لن يؤذوك يعني أنهم لن يستطيعوا الوصول إلينا فيؤذونك بإيذائنا.
 ومعنى آخر ذكره بعض المفسرين وهو محل اعتبار قالوا : إن الله أعمى أبصارهم فلم يروهم فإذا لم يروهم يعني جاءوا من أجل غنيمة فما أدركوها فسيصبون جام غضبهم على من ؟ على لوط ولذلك علموا أنهم لن يستطيعوا الوصول إليهم فقالوا : { لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } لن يؤذوك أما نحن أكيد أنه لن يصلونا هذا وجه آخر في معنى قوله : { لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ }.
 ثم قالوا للوط : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } قالوا له : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } الإسراء هو: السير بالليل يُسمى المسير بالليل يسمى ذلك إسراء ولذلك قال الله عز وجل : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }.
قوله : { بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} القِطع: الجزء، فهو تأكيد على أن يكون المسير بالليل، وبعض المفسرين قالوا إن المسير بآخر الليل لأنه قال: { فَأَسْرِ } { بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ } فجمع لأن أصل الإسراء لا يكون إلا ليلاً فلماذا قال : { بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ } ليدل على أن المقصود به آخر الليل، الذي يعنينا هنا أن الإسراء كان ليلاً { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ } نهاهم عن الالتفات، والالتفات هنا للمفسرين هنا بمعناه قولان:
 الأول : أن الالتفات حقيقة بمعنى أن ينظروا إلى الخلف فنهاهم عن النظر إلى الخلف.
 الثاني: أن يكون الالتفات معنوياً بمعنى لا يرجع منكم أحد إليهم إلى القرية مرة أخرى، إذا خرجتم فلا يرجع أحد أياً يكون السبب.
 والآية تحتمل هذا المعنى وتحتمل المعنى الثاني.
 { وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ } يعني إلا امرأتك ستلتفت أو إلا امرأتك لن تخرج معك على خلاف بين المفسرين، يعني إلا امرأتك لا تخرج ولا تسري بها أو إلا امرأتك ستخرج ولكنها ستلتفت، تلتفت إما أن تلوي بوجهها أو أنها ترجع، وذُكِر في ذلك روايات قيل: لما سمعت الصيحة التفت، وقيل: إنها حنت ورحمت قومها فرجعت إليهم فأهلكها الله معهم.
 لكن لا يوجد ما يدل على هذا وذاك وإنما المقصود أنه حصل هذا الالتفات، كيف كان هذا الالتفات وحقيقته الله أعلم بمراده.
/ قال عز وجل : { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } والتعبير بصيغة الماضي هنا نفس ما أشرنا إليه سابقاً { مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُم } وهو لم يصبهم بعد لأن الله قال : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ } فالتعبير بصيغة الماضي لتحقق الوقوع وكأنه من الثقة بوقوعه كأنه قد وقع وانتهى { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } يعني أخبروه بموعد الإهلاك ثم قال : { أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ }. جاء في بعض الرويات وهذه من الرويات - كما هو متقرر - أن الروايات عن بني إسرائيل التي لا تخالف الشرع ولا العقل نُحدِّث عنها كما قال عليه الصلاة والسلام : ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) لكن لا تصدقوا ولا تكذبوا.
 قالوا : إنه لما قالوا له { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ } كأنه من غضبه وحنقه عليهم استبطأ الموعد فجاء الجواب { أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } ونحو ذلك على كل حال لم يثبت في ذلك شيء، والسياق لا يلزم منه بل ممكن أن يُفهم سياق الآيات بدون هذا التفصيل.
/ ثم قال الله عز وجل : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا } يعني قضاؤنا وأمرنا التكويني والقدري بإهلاكهم { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } يعني عالي القرية سافلها. وتأملوا هنا يقول الله عز وجل : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } إذا جعل عاليها سافلها ألا يكون سافلها عاليها فلماذا لم يذكر هذا؟ ولماذا لم يقل في الآية جعلنا سافلها عاليها؟ قال | لأن السياق سياق إذلال وإهانة والمناسب لسياق الإذلال والإهانة لفظ ذكر السافل فيُجعل العالي سافل هو أبلغ من قولك جعلنا السافل عالي لأنه لا يلزم من هذا الإذلال لكن إذا قلت جعلت العالي سافل أصبح ذلك أبلغ في إذلالهم { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } انظروا العقوبة الشديدة التي أنزل الله عز وجل على أولئك القوم كما جاء في بعض الأحاديث أن الملَك اقتلع قريتهم فرفعها إلى السماء ثم قلبها عليهم ولم ينتهِ الأمر بل { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } يعني أتبعناهم بـ { حِجَارَةً مِنْ سِجِّيل } والسجين والسجيل واحد والمقصود به كما فسرها قول الله عز وجل في الآية الأخرى { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ } قال بعض المفسرين : أن المقصود بالسجين هو الحجارة المُحماة المتصلبة الطين المُحمى المتصلب من شدة إحمائه بالنار فيبقى شديداً جداً فقذفهم الله عز وجل بعد أن قلب أرضهم أتبعهم بهذا الحجار من سجيل.
 قال عز وجل :{ مَنْضُودٍ } والمنضود : الذي بعضه فوق بعض وهذا يشير إلى أن الحجارة التي رموا بها كثيرة ومتتابعة يعني بعضها فوق بعض وهذا معنى منضود فهي حجارة كثيرة متتابعة ما تنقطع.
 { مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ } والسيمة هي العلامة، وتسويم الحجارة أنها مُعدة لهم مُقدَّرة لهم. هذا احتمال.
 ومعنى آخر: أنها متميزة لا تشبه شيئاً من الحجارة. والآية لا تعارض بين المعنيين فيها فنقول إن الحجارة مُعدة لهم وأنها لا تشبه شيئاً من الحجارة الذي يعرفه الناس.
/ ثم قال الله عز وجل بعد ذلك : { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } وهذا تهديد مبطن لكل من كان على حال أولئك القوم، كل من كان على حال أولئك القوم فإن الله عز وجل قد توعّده وتهدده بذلك، وعلّق ذلك بوصف الظلم لأن هذه الجريمة التي هم عليها ظلم، هي ظلم عظيم لأنها مجاوزة للحد ولذلك قال عز وجل : { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } فكل من كان على هذه الأخلاق الذميمة أو فعل هذه الفعلة الشنيعة فإنه متعرض للعقوبة ولهذا أخذ من ذلك بعض الفقهاء في عقوبة من يعمل عمل قوم لوط أن يُرمَى من شاهق من أعلى بناية في البلدة يُرمى منها إن كان جبل رُدي أو بُرجاً مبنياً يُردى منه - يرمى منه - عملاً به مثلما نزل وحلّ بقوم لوط عليه السلام. والحقيقة هذه العقوبة الشديدة التي نزلت بهم هي نتيجة إلى الانحراف الخُلُقي الذي هم فيه، انحراف انحرفت معه الفطرة يعني بحيث الإنسان يصبح يرى الحسن سيئاً والسيء حسناً، يرى المنكر معروفاً والمعروف منكراً، إذا وصل الإنسان لهذه الدرجة فقد انحرفت فطرته لذلك هو عرضة للعقوبة الشديدة بمثل هذه العقوبة التي نزلت على قوم لوط عليه السلام.
/ ثم قال الله عز وجل : { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } أيضاً بعد لوط يأتي خبر شعيب عليه السلام وقال : { إِلَىٰ مَدْيَنَ } يعني إلى قرية مدين وذكر هنا أمرهم بعبادة الله عز وجل ولكنه أيضاً مع أمرهم بعبادة الله أشار إلى انحراف عملي عندهم وهو التلاعب بالموازيين وتطفيفها فقال : { وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } يعني ما فيه حاجة تجعلكم تتلاعبون بالموازين.
 { وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } يعني لا يدع أحدا.
 ثم قال : { وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } يعني بالعدل { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } يعني لا تنقصوها { وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } فلازَم بين التلاعب بالموازين وبين الفساد بالأرض ليدل على أن التلاعب بالموازين يقود إلى الفساد في الأرض. والحقيقة قد يرد في الذهن سؤال أنه قد يُقال : لماذا أكدت الآيات على قضية الموازين وعدم التلاعب بها في أكثر من موضع من القرآن وفي أكثر من سورة ؟ ليست المسألة ميزان يوزن الطعام وانتهت المسألة، كلا.. الآية تشير إلى التلاعب بمقادير الأشياء لأن الميزان والمكيال هي أدوات تقدير الأشياء، تقدير السلع، تقدير الأقيام، تقدير الأثمان، فالتلاعب بهذا الميزان تلاعب باقتصاد البلد باقتصاد الناس بأقواتهم ولهذا يُشبِه ذلك مثل التلاعب بالعملة الآن، التلاعب بعملة البلاد، الذين يتلاعبون بالعملة يتلاعبون يتاجرون بها في السوق السواء مثلاً أو يتلاعبون بقيمة العملة بحيث ترتفع أو تنخفض هذا ألا يضر اقتصاد البلد ويؤثر على معايش الناس؟ فهو أثره كبير ولذلك جاء التأكيد في القرآن الكريم على هذه القضية في أكثر من موضع بل يقول الله عز وجل : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } فهي إشارة إلى التلاعب بالمقادير التي تُوزن بها الأشياء هذا التلاعب يؤثر على الناس، يؤثر على حياتهم، يؤثر على معاشهم ولذلك شددت الآيات على هذا المعنى.
/ ثم قال الله عز وجل بعد ذلك عن شعيب :{ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } يقول يعني ما أبقاه الله عز وجل لكم من الخير والنِّعم خير لكم من التلاعب بهذه الموازين فإن الربح الحلال وإن كان قليلاً مباركاً يبارك الله عز وجل فيه.
/ ثم قال : { وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } يعني ما أنا عليكم برقيب أحفظكم لكنني ناصح أنصحكم والله يتولى أمركم، وهذا يؤكد ما أشرنا إليه مراراً من حقيقة مهمة الرسول وأتباع الرسل أنهم يُبلغون لكن ليسوا حفظاء على الناس ورقباء عليهم.
 وفي قصة مدين فيها الحقيقة تأكيد على الجمع بين إصلاح السلوك والمُعتقد بين إصلاح سلوك الناس ومعتقدهم، يعني من صلح مُعتقده صلُح سلوكه وإذا صلُح سلوك الإنسان صلُح مُعتقده لأنه ما يصلح سلوكه إلا بناء على اعتقاد سليم يقوده إلى هذا الإصلاح ولا يمكن الفصل بين الأمرين، يعني لا يمكن أن نطلب للناس أن يُصلحوا عقائدهم دون أن يُصلحوا معتقداتهم، ولا أن تصلح معاملات الناس دون أن تصلح عقائدهم ولذلك جاءت الشريعة بهذين الأمرين بإصلاح عقائد الناس وإصلاح معاملاتهم.
/ ثم قال الله عز وجل بعد ذلك : { قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } قالوا استهزاءً به : هل صلاتك التي تُصليها، عباداتك وتدينك يعني هل تدينك هذا الذي أنت عليه هو الذي يبعثك ويأمرك بأن نترك ما يعبد آباؤنا، نتخلى عما كان يعبد آباؤنا، أو أن نترك فعل أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ يعني هل الصلاة التي تصليها تحملك على أن نترك ما كان يعبد آباؤنا وتحملك على أن تأمرنا ألا نفعل في أموالنا ما نشاء فنبيع كيف نشاء ونحتال ونغش في بيعنا وشرائنا وكيلنا ووزننا؟ وهذا القول منهم على سبيل التهكم والاستهزاء به.
{ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} وهذا الوصف لهم لا يقصدون ذاته وإلا وصف حسن حليم رشيد لكن أرادوا التهكم به، وهذه عادة وطريقة عند المستهزئين أن يصف الشخص بأوصاف حسنة وهو لا يريدها يقول : والله انك طيب والله إنك خير والله إنك ابن حلال وهو لا يريد هذا الوصف وإنما يريد الإزدراء وإحتقارهم ومن فعل هذا هو يشابه كل طاغية وباغي كما هم قوم شعيب.
 فرد عليهم { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } قال لهم أرأيتم إن كنت على طريقة واضحة من الله ورزقني رزقاً حسناً - رزقه النبوة والعلم والتُقى ونحو ذلك من المعاني - فإني مع ذلك لا أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، معنى أخالفكم يعني أن أرجع إلى الذي نهيتكم عنه هذا معنى المخالفة، خلف إلى الشيء يعني رجع إليه بعد أن ذهب عنه، إذا ذهبت عن الشيء فأنت خلفته فإذا خالفت إليه رجعت إلى شيء كنت ذهبت عنه هذا معنى الآية { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } وهذه هي الصيغة العامة لدعوة الأنبياء الإصلاح ما استطعت ويجب أن تكون ديدن الدعاة إلى الله أنهم يصلحون ما استطاعوا { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } يجب أن يكون هذا هو شعار كل داعية إلى الله وكل مصلح يسلك سبيل الأنبياء { الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ }.
 ثم قال : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } يعني التوفيق لا يكون إلا بيد الله عز وجل والإصابة في هذا الإصلاح لا يكون إلا من الله ليس بذكائي ولا بجهدي ولا بأسلوبي بل بتوفيق الله عز وجل.
 { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في كل أموري ومنها سعيي في الإصلاح { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أرجع إليه عند كل أمر وكل حادثة فأتوب إليه وأنيب إليه. / ثم قال : { وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} الإجرام يعني لا يحملكم ولا يُكسبكم، أصل الإجرام من مادة جَرَم والجَرَم الكسب فهو يقول { لَا يَجْرِمَنَّكُمْ } يعني لا يكسبنكم لا يحملكم المشاقة والمخالفة لي والعداوة على أن يصيبكم عذاب الله، كيف يصيبكم عذاب الله ؟ بأن تعاندوا وتركبوا رؤوسكم وتصِروا على مخالفتي فتتعرضوا بسبب ذلك للعقوبة { أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ ۚ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } قوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } يحتمل البعد الزمني والبعد المكاني فذكروا في التاريخ أن قوم لوط وقوم شعيب قريب زمانهم من بعض وأيضاً أماكنهم قريبة وبكل حال فإن القُرب يشير إلى هذا المعنى إما قُرب الزمان والمكان أو قربهما سوياً قرب زمانهما وقرب مكانهما. وهذا ملحظ مهم يشير إليه شعيب وهو: استفادة الإنسان من الحوادث التي تقع وحسن توظيفها لذلك، هو وظّف هذه الحوادث لأن يأخذوا منها العبرة والعظة.
 ولعلنا نختم بالتأكيد على أن أبرز ما يميز دعوة الأنبياء ومن يسير على دربهم أنها دعوة إصلاح. ما في أحد يستطيع - حتى منذ أن بعث الله الرسل إلى يومنا هذا إلى الدعاة الذين يمشون على طريقهم - ما أحد يستطيع أن يتهم الدعاة أنهم لا يريدون الإصلاح، يمكن أن يتهمه بأي تهمة إلا أنه يريد الإفساد وهذه شعار ميزة لدعاة ربنا عز وجل { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } ممكن أن يتهمه بالتحجر بالجهل بالتخلف بأنه يريد أي مطامع أي مكاسب من هذا الكلام يريد أن تأخذ منصباً سياسياً أو غيره من هذا الكلام الذي تسمعونه كثيراً لكن لا يمكن أن يقول إن كلامك ليس الإصلاح لا يستطيع، وأنتم تأمّلوا هذا ما في أحد يستطيع يقول أن كلام المصلحين والدعاة إلى الله وأهل الإصلاح أنهم أن في كلامهم ليس إصلاح لكن قد يحتالون بأي حيلة وهذا هو الأصل وهذا معنى قول شعيب عليه السلام :{ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ }.
 نقف عند هذا ونكمل إن شاء الله في المجلس السابع هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق