الثلاثاء، 29 نوفمبر 2016

تفسير سورة هود من الآية (٦١ - ٧٦) / الأترجة

 د. ناصر بن محمد الماجد


 بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد ..
 فهذا هو المجلس الخامس من مجالس مدارسة سورة هود عليه السلام، وقد توقفنا عند قصة عاد ومافعل الله بهم لما كذبوا رسله وكفروا بربهم، ثم بعد ذلك قال الله عز وجل : { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا }
وهنا أيضاً قال : { وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } تأكيداً على أخوة النسب والقرابة التي تربطهم بنبي الله صالح قال : { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ } وهذا أيضاً - كما كررنا سابقاً - على أن الأنبياء أول ما يأتون على أقوامهم يؤكدون على هذا المبدأ، مبدأ التوحيد مبدأ، الدعوة إلى العبودبة الخالصة لله عز وجل
 { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُه} لماذا نعبد الله مالنا من إله غيره ؟ قال : { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ } الإنشاء الإيجاد والإحداث يعني هو أوجدكم وأحدثكم بعد أن لم تكونوا.
 { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْض } وهذا فيه بيان الأصل الذي خُلق منه الإنسان لأن الإنسان خُلق من تراب من تربة الأرض.
 { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ } أصل الاستعمار استفعال من الإعمار والسين فيها والتاء للمبالغة مثل استمساك، استصحاب استعمار نفس الشيء يعني فيها مبالغة في معنى الإعمار هنا، ومعنى { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } يعني جعلكم عُمّاراً لهذه الأرض، وكون الله عز وجل جعل الإنسان عامراً لهذه الأرض معناه أن الله هيأ له أسباب العيش في هذه الأرض، جعلها مهيئة له يمكنه أن يعيش فيها يمكنه أن يعمُرها، وإذا تأملتم الأرض ستجدون أن فيها كل الأسباب التي تُعين الإنسان على الحياة فيها حتى لو الإنسان رُمِيَ في مكانٍ خالٍ لا شيء من وسائل المدنية والحضارة سيجد أن في الأرض ما يُغنيه ويكفيه للحياة لأن الله جعل هذه الأرض سبباً لحياة الإنسان ومن هذا ما يذهب إليه بعد العلماء - وإن كان هذا مجرد ظن - أنه لا يوجد كوكب في الدنيا يعيش فيه الإنسان صالح لحياة الإنسان مثل الأرض بل لا يمكن للإنسان إلا أن يعيش في الأرض، أخذٍا بمثل هذه المعاني ولا سبيل إلى الجزم بها لكن مما قد يُستأنس به.
/  ثم قال الله عز وجل : { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه } وإذا أمرهم بالاستغفار والتوبة كما تقدم معنا في أول السورة وفي قصة عاد وكذلك في قصة ثمود هنا أمرهم بالاستغفار من الشرك والمعاصي والتوبة إلى الله بالإيمان والتوحيد وعمل الصالحات.
 { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } قريب من عباده ومُجيب لهم فهو قريب منهم يسمع دعاءهم ومجيب لهم وهذا فيه ترغيب لهم في الانقياد والرجوع إلى الله عز وجل.
 وبعد أن بيَّن لهم هذا قالوا له جواباً عليه : { قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أمام هذا الدعاء الذي دعاهم به { قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا } قد كنا نرجوك قبل ذلك، نرجوا أن تكون من أهل المكانة والمقام عندنا لأنه من رهطٍ له مكانة، قولهم { قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا } يعني قد كنت فينا سيداً نرجوا أن يكون لك مكانة عندنا لكن لما جئت بهذا الكلام ذهب ما نرجوه منك وكأن الكلام الذي دعاهم إليه وقاله لهم كأنه كلام منكر يستدعي منهم أن يجيبوه بهذا الجواب { قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا } طيب ما الذي قاله ؟ قالوا : { أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } بمجرد أن كان أباؤهم يعبدون تلك الأصنام عظُم عليهم أن يأتي صالح ينهاهم عنها.
 ثم قالوا : { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } في آية أخرى { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ } لكن هنا قال :{ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍ } وأصلها من "إنّ" التأكيدية و"نا" الجماعة فإذا جُمع بينهما أدغمت إحدى النونين "وإنا" لكن فُك الإدغام  فيها{ إِنَّنَا } هذا من باب التأكيد يعني نحن متأكدون تماماً من أن ما تدعونا { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } نحن في شك .. في تردد من هذا الذي يدعونا إليه وهذا التردد يوقِعنا في أي شيء ؟ في أمر أعظم وهو وقوع ارتياب، نحن نرتاب مما تدعونا إليه، وهذا الارتياب حقيقة لا يوجد باعث عليه ولا سبب له ما سألهم شيئاً من مطامع الدنيا ولا من مقاصدها فما هناك من حاجة وسبب يدعوهم إلى الارتياب ولذلك قال لهم جواب عليهم : { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } يعني على محجة واضحة، على طريقة بينة لاشك فيها لا لبس وهذه البّينة ليست من أحد من الناس وإنما بيّنة من ربي { قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } يعني على بيّنة وبرهان واضح من الله عز وجل هذا البرهان الواضح سببه ما خصّه الله عز وجل به من النبوة والرسالة والاصطفاء والاختيار.
 { عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } وهذه الرحمة أعظمها النبوة أعظم الرحمة النبوة { وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَة ً} ويستتبع ذلك أنواع الرحمات التي يمتن الله عز وجل بها على عباده وعلى أوليائه.
 { وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ } يعني بعد هذه البينة التي أنا عليها وهذه الرحمة من الله هل يجوز أن أعصي الله وأتابع هواكم فإن فعلت ذلك { فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } وأصل التخسير مصدر خَسَرَ بمعنى لا تزيدونني إلا خسارة فوق خسارتي لفضل الله عز وجل ورحمته ومنته { فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ }.
 ونلحظ أن صالح عليه السلام وهو يدعوهم إلى عبادة الله يُذكِّرهم بفضل الله عليه من إنشائهم في الأرض ومن استعمارهم فيها وهذا ربط بين قضية العبودية وقضية النِّعم وهذا يتكرر كثيراً في القرآن حتى في الآيات التي أخذناها في قصة نوح وقصة هود كذلك في قصة صالح يربط بين النعم وبين التوحيد بمعنى أن المُنعم هو المستحق للعبادة كيف الله هو الذي يُنعم عليك وتعبد غيره؟! وتدعو غيره!! وتلتجئ إلى غيره!!
 ونلحظ أيضاً أنه قال : { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه } فعطف بين الاستغفار والتوبة بـ "ثم" الدالة على التراخي، والتراخي هنا التراخي الرُّتَبي لأن رتبة التوبة أعلى من رتبة الاستغفار لأنه قُرن بينهم، إذاً الرتبة الأولى هي الاستغفار بمعنى الإقلاع عن الشرك والمعصية ثم أعلى منها رتبة هي الإيمان والطاعة.
/  قال الله بعد ذلك ذاكراً جواب صالح عليه السلام : { وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } جاء ما يدل على أنهم طلبوا الآية الدالة على صدقه فقال : { هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } وقوله : { نَاقَةُ اللَّهِ } من باب الإضافة للتشريف كقولك : هذا بيت الله وكعبة الله وحرم الله، فيُضاف إلى الله عز وجل من باب التشريف له ، قال : { وَيَا قَوْمِ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}
قال : { هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } علامة واضحة بيّنة وأما كيف كانت آية فقد ذكر المفسرون روايات متعددة في معنى الآية:
- قيل : أنها في أصل خلقِها وإيجادها فإنها خرجت من حجر - من صخر - خرجت كائن حي.
- وقيل : أن كونها آية عِظمها أنها ناقة عظيمة جداً ليست كالناقة كالنُوق التي يعرفها الناس ولذلك تشرب هي لوحدها يوماً واحداً ولا يشرب الناس معها والناس كلهم - كل قبيلة صالح - كلها تشرب في يوم واحد.
 فإما هذا وإما ذاك أو هذا وذاك معاً هو كونها آية من آيات الله.
 قال : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } وفي آية أنه قال : { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } فلها يوم تشرب فيه هي لوحدها وأنتم لا تشربون وإنما تشربون من لبنها ثم في اليوم الآخر تشربون أنتم من الماء وهي لا تشرب، فما صبروا على هذه الحالة وعصوا أمر رسولهم فقتلوها ولذلك قال عز وجل : { فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } أصل العقر: الجُرح البليغ وكانوا إذا أرادوا قتل الدابة أو البهيمة يعقرونها يعني يجرحونها جرحاً بليغاً حتى لا تستطيع الحركة فيسهل عليهم قتلها ثم اُستُعمل لفظ العَقر في معنى القتل وهذا هو المعنى المراد { فَعَقَرُوهَا } يعني فقتلوها، وجاء في الآية الأخرى { إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا } يعني أشقى القوم ولما عقروها قال لهم : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ۖ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} لمّا خالفوا أمر الله عز وجل وعقروا الناقة قال لهم نبيهم صالح : لكم ثلاثة تتمتعون بها، تتمتعون بالسلامة ثم يأتيكم بعد ذلك ما وعدكم الله به لأنهم لما عقروها قالوا : أين الذي وعدتنا ،أين ما وعدت من عذاب الله ؟ قال : بعد ثلاثة أيام يأتيكم العذاب.
 طبعاً وردت روايات عدة عن المفسرين وهي روايات مأثورة عن بني إسرائيل يعني لا تصح الحقيقة، قالوا إنه في اليوم الأول تغيرت ألوانهم في يوم لها لون ثم اليوم الثاني لها لون ثم اللون الثالث أصبح لها لون، وهذه كلها روايات لا تَثبُت لم يرد فيها شيء ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
 فلما جاء اليوم الثالث كما قال عز وجل : {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ۗ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز } وتأملوا يعني أن الآيات التي يبعثها الله عز وجل ويرسلها تأتي على ما طلب الأقوام وأعظم من ذلك ومع هذا لا يؤمنون ولا ينقادون ولا يقبلونها ليدل على أن حقيقة الإيمان والانقياد والقبول لا ترتبط بعِظَم الآيات بل ترتبط بتوفيق الله عز وجل ولهذا ماذا قال عز وجل : { وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} وفي آية أخرى { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ۖ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } يعني من لم يشأ الله توفيقه وحمايته لا تنفعه الآيات ولا النُّذُر وإن عظُمت وهؤلاء جاءتهم أعظم النُّذر وما قبلوها وما آمنت وما أغنت عنهم شيئاً من أمر الله.
 وهنا نلحظ أيضاً أن الله عز وجل بدأ بذكر نجاة صالح والذين معه قبل ذكر هلاك المكذبين لأن هذا هو الأهم أن ينجي الله عز وجل أولياءه وأصفياءه فقال عز وجل : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا } يعني قضاؤنا بإهلاكهم وعذابهم { نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا } يعني بسبب رحمة منا { وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ } نجيناهم أيضاً من خزي ذلك اليوم ، والخزي: الإهانة فالله عز وجل أنزل عليهم عذاب أخزاهم وأهانهم .{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز } ولا شك أن نجاة المؤمنين وهلاك الكافرين المكذبين هو مظهر من مظاهر قوة الله عز وجل وعزته.
/ وبعد ذلك قال عز وجل : { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَة } وهي صيحة العذاب، صيحة تصعقهم فيموتون في مكانهم ولذلك جاء التعبير بقوله : { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } الصيحة القوية التي قطعت الحياة فيهم ولذلك قال : { جَاثِمِينَ } { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } وانظروا التعبير بلفظ الجثوم يعني الجاثم هو المُكِب على صدره ناحية الأرض وقد جمع ساقيه يعني أقرب ما ذكروه لها حال الأرنب لما يجثم على صدره ناحية الأرض فهي دلالة على أن هذه الصيحة جاءتهم قوية مباغِتة وأنها قطعت حياتهم وهم مكانهم فما استطاعوا الحَراك { فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ }، وانظر أيضاً حتى الإنسان في داره يتوقع السلامة والأمن أكثر ما يشعر الإنسان بالأمان في بيته وداره ومع ذلك يأتيهم العذاب في مكان أمانهم { فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِين*َ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا }.
قوله :{ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } أصل (غنى بالمكان) إذا أقام به ومنه يُسمى مغنى القوم يعني مكان اجتماعهم، والمغنى هو: المكان الذي يجتمعون فيه فيقول عز وجل جاءهم العذاب وأهلكم حتى يظن الظان أنهم لم يقيموا بهذا المكان { كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } كأن لم يكن مكان لأُنسهم .. لاجتماعهم .. لأفراحهم .. لمناسباتهم كأن ما كان هناك أحد وهذه سبحان الله ديار المعذبين هكذا إذا رأيتها تظن أن ما أحد عاش فيها.
{ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۗ أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ } وهذا فيه بيان لعلة العقوبة أنه { كَفَرُوا رَبَّهُمْ } وانظروا أيضاً الربط بين الكفر وبين لفظ الربوبية فكفروا ربهم الذي تولاهم بالتربية والعناية فأنعم عليهم ورزقهم ، أولاً أوجدهم ثم أنعم عليهم ومع ذلك صرفوا العبادة لغيره.
 { أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ } يعني بُعداً لهم وسحقاً بسبب تكذيبهم وكفرهم بالله العظيم.
وانظروا في قوله عز وجل : { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } دائماً إذا أتاك في القرآن وصف مقرون به حُكم أو نتيجة فاعلم أن هذا الوصف علة لذلك الحكم أو النتيجة فقال :{ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } فسبب الصيحة التي أخذتهم علتها ما هي ؟ الظلم ، بسبب الظلم أخذتهم الصيحة، وهذا كثير في القرآن أن تُذكر الأوصاف فهي تكون كالعلل للأحكام المترتبة عليها.
 { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ* كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۗ أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ۗ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ }
وسبحان الله يعني إذا رأيت الأماكن التي ينزل عليها عذاب الله عز وجل تجد أن هذه الأماكن كأن لم يتقلب فيها الناس، كأن لم تقم فيها المدن ولم يتقلب فيها الناس ولم يبيعوا ولم يتجروا ولم يجتمعوا، وانظر إلى أقرب هذه الأحداث التي تحصل في بعض بعض المناطق من العالم كالكوارث العظيمة التي تحصل من الزلازل والبراكين والفيضانات العظيمة تأتي على المكان فتسويه بالأرض كأن أحد ما عاش بهذا المكان وكأن هذا المكان لم يغنَ به أحد ولهذا قال : { كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا }.
/ ثم قال الله عز وجل بعد ذلك بعد أن ذكر هذه القصة وانتهى الكلام عنها انتقل إلى الحديث عن قصة أخرى وهي قصة نبي الله إبراهيم وفي أثناءها أيضاً قصة لوط يقول عز وجل :{ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ } وتقدّم معنا أن "قد" تفيد التحقيق والتأكيد يعني قد جاءت رسلنا لا شك في ذلك { وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى }.
وقوله : { رُسُلُنَا } معناه أن الرسل الذين أتوهم أكثر من شخص قيل أنهم اثنين وقيل أنهم ثلاثة.
 { جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } يعني مصحوبين بالبشرى وهذه باء المصاحبة يعني مصحوبين بالبشرى، فلما جاؤا اليه { قَالُوا سَلَامًا ۖ قَالَ سَلَامٌ ۖ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ }، { قَالُوا سَلَامًا } على النصب وقال هو : { سَلَامٌ } على الرفع، فـ (سلام) هذه جملة فعلية و(سلامٌ) جملة إسمية ولذلك قال المفسرون إن تحية إبراهيم أفضل من تحية الملائكة لأن قوله (سلامٌ) هذه جملة اسمية يعني تسليمي سلامٌ، والجملة الاسمية تدل على الثبات والدوام فهو سلام لكم ثابتٌ دائم لا يتغير.
 { فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } وإبراهيم عليه السلام يُضرب به المثل في الكرم، إبراهيم عليه السلام كان مضرِب المثل في الكرم وجاءت روايات عديدة جداً في مظاهر كرمه عليه السلام حتى جاء في بعضها أنه ما كان يأكل طعام لوحده، ورواية من الروايات أنه كان يقول لخدمه ومواليه : أيّكم جاءني بضيف فهو حر ، فكان كريماً ولذلك أثنى الله عليه ومدحه هنا حيث قال : { فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } يعني مباشرة بسرعة وهذا يدل على أنه متعود على إكرام الضيف وعلى دخول الضيف، يعني بعض الناس إذا جاءه الضيف يعني يمكن ما دخل له في عمره إلا هذا الضيف إلا مرة واحدة فتجده يضطرب ويحتاس ولا يعرف كيف يؤدي و يقوم بحقوق الضيافة ويمكن يتأخر وإذا قدم الطعام ما قدمه بشكل لائق، وفي المقابل من تجد إذا جئت إلى شخص معتاد على الأضياف ودخول الناس تجد الأمر عنده عادي حتى لو تأتيه على حال لم يستعد ولم يعلم بك لأنه معتاد فلا تجد عنده اضطراب ولذلك أثنى الله عليه جاءه هؤلاء الأضياف على حين غرة فأثنى الله عليه حيث قال : { فَمَا لَبِث } يعني مباشرة { أَنْ جَاءَ } ما قدم أي طعام لا.. بل { جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } يعني عجل مشوي وهذا دلالة كرمه عليه الصلاة والسلام.
 { فَلَمَّا رَأَىٰ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } يعني أنكر حالتهم { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } تخوف منهم لأن أصلاً الممالحة يعني المشاركة في الأكل هذه توحي بنوع من الطمأنينة والسلام وكان من عوائد الناس أن الطعام أو الشراب إذا قُدِّم أن الضيف يأكل من طعامك ومن شرابك وإذا امتنع أن هذا الامتناع له سبب إما أنه مثلاً يريد منك حاجة أو أن بينك وبينه يعني خصومة فلا يريد أن يبقى بينك وبينه ممالحة تمنعه من الانتقام أو تبييت السوء بك، فلما لم يأكلوا من طعامه { أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } وأنكر فعلهم ومع ذلك لم يتكلم بهذا ولم يذكره لكن الملائكة لعلهم رأوا علامات ذلك أو نحو ذلك وبدا ذلك في وجهه لأن الكريم يتغير وجهه إذا لم يؤكل من طعامه وضيافته { قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ } فكشفوا عن حقيقتهم وأنهم ملائكة أُرسِلوا من الله عز وجل إلى قوم لوط، أرسلوا من أجل أي شيء ؟ من أجل إهلاكهم ومعاقبتهم.
 { وَامْرَأَتُهُ } مستغربة من هؤلاء الأضياف الذين جاءوا { قَائِمَةٌ } إما قائمة على خدمتهم كما قال بعض المفسرين، أو قائمة تسمتع وهذا حال النساء يعني إذا جاء الضيف وخاصة الأبيات القديمة يعني ليس بينها إلا السُتر من الأقمشة ونحو ذلك فتستمع { وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ }كانت أيضاً نفس الشيء أصابها من الإضطراب والتوجس ما أصاب زوجها من هؤلاء الأضياف الذين لا يأكلون، فلما سمعت أنهم رُسل سُري عنها.
 { فَضَحِكَتْ } ومعنى الضحك كما هو متبادر إلى الذهن الضحك الطبيعي المعتاد وهو التبسم ليس كما قال بعض المفسرين أن ضحكت بمعنى حاضت وهذا خلاف ظاهر الآية، فلما ضحكت قال الله عز وجل :{ فَبَشَّرْنَاهَا } يعني على ألسنة ملائكتنا والرسل
{ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } فعجبت تلك المرأة الصالحة {قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا } قولها { يَا وَيْلَتَىٰ } هذا من باب التعجب، وأصلها ويله والألف في آخرها للاستغاثة إذا أضيفت الألف لها تقول يا ويلها يعني تستغيث بمن يغيثها فـ { قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا } يعني ما كادت تصدق بعد هذا السن وبعد أن كبرت وأصبحت عجوزاً وزوجها شيخ أن تلد، بل أعظم من هذا ليس فقط أنها تلد بل { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } يعقوب ولد مَن؟ إسحاق فبشرها الله أنها ستحمل وأن ابنها سيكبر ويتزوج وينجب ولداً تراه اسمه يعقوب فستعيش فترة طويلة { قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } عجبت من هذا الأمر فذكَّروها أن لا شيء عجيب على الله عز وجل { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } يعني من أمره وحكمه وقضائه { رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ۚ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } { رَحْمَتُ اللَّهِ } على هذا البيت بيت النبوة بيت خليل الله إبراهيم وبركته عليهم فانظروا كيف أثار حينما يكون البيت بيتاً كريماً بيتاً يعمره الطاعة والإيمان كيف تحُل البركة والرحمة عليه، وما حلّت المشاكل والمصائب في بيوت الناس اليوم إلا لبُعدهم عن الدين، لبعدهم عن الاستقامة والطاعة وملأوا بيوتهم بأنواع الملاهي والمحرمات فكانت مسرحاً تخوض فيه الشياطين وأعوانها وهجرت بيوت كثير منا الملائكة بسبب مافيها وما يقع داخلها وهذا معناه حينما يقول : { أَهْلَ الْبَيْتِ } ما قال رحمة الله وبركاته عليكم أنتم لا .. أهل هذا البيت أشار إلى مافي البيت من الرحمة والسكينة، لما في البيت من الطاعة.
  { إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } يعني كثير الحمد كثير المجد عز وجل. 
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعَ } الروع بسبب هؤلاء الأضياف المجهولين الذين لا يعرفهم.
 {ُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى } بولده إسحاق ويعقوب { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } ولا تذهب الرحمة عن أنبياء الله سواء في أشد حالاتهم حزناً أو أشد حالتهم فرحاً تبقى صفة الرحمة فيهم، يعني الفرح بهذه البشارة ما أنساه قضية قوم لوط { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } يعني أنه يسأل الله إنظارهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة ويذكر أسباباً يقول فيهم لوط ولذلك قال الله عز وجل : { إِنَّ فِيهَا لُوطًا ۚ قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} يعني كأنه يجادل وصل به الجدال إلى أن يتمسك بسبب نجاتهم وعدم معاقبتهم لأن فيهم على الأقل لوط لا تعذبهم، وهذا نابع من رحمته بهم.
{ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوط ٍ*إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ } يعني بسبب هذه المجادلة وصفه الله عز وجل بأنه حليم أواه منيب ثلاثة أوصاف أولاً حليم يعني كثير الحليم، أواه أصل كلمة أواه من التأوه يعني الذي يُكثر التأوه، يصدر منه صوت، حينما يتأوه الإنسان من الشيء يصدر منه هذا الصوت يسمى تأوه فإذا أكثر من هذا التأوه قيل له أواه، التأوه قد يكون بسبب التوجع وهذا التوجع سببه مثلاً أسباب كثيرة لكن هذا التأوه تأوه الأبرار تأوههم بسبب خشيتهم من الله عز وجل وتعظيمهم له حال لجوئهم إلى الله عز وجل ودعائهم واستغاثتهم بالله وضراعتهم له يصدر منهم هذا الصوت ولذلك النبي كان إذا قرأ يُسمَع لصدره أزيز كأزيز المرجل، وكذلك إبراهيم عليه السلام وصفه الله بأنه { أَوَّاهٌ مُنِيبٌ } والمنيب هنا الذي رجع أصل المنيب الراجع ومعنى هذا أنه كثير ما يرجع إلى ربه عز وجل يرجع إليه بالاستغفار والتوبة أو يرجع على نفسه بالملامة عند تقصيرها ونحو ذلك فهو يرجع على نفسه بالملامة إن قصّرت وكثير الرجوع إلى ربه بالتوبة والانقياد إليه عز وجل ولهذا قال الله عز وجل : { يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا } يعني لا تتكلم في هذا الأمر لا تجادل فيه لِمَ ؟ { إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ } انتهت المسألة نزل الأمر من الله بإهلاكهم.
 { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } وتنكير العذاب للتعظيم، عذاب عظيم لا يرده شيء { غَيْرُ مَرْدُودٍ } لا يستطيع أحد يرده لو جمعوا كل ما شاؤا كل قوتهم فإنهم لا يردونه. والآيات الحقيقة فيها ما أشرنا إليه مبدأ الرأفة والرحمة التي جُبل عليها أنبياء الله ولاسيما شيخ الملة وإمام الحنيفية إبراهيم عليه السلام ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لفت النظر إلى ما في إبراهيم من الرحمة والشفقة، تذكرون في قصة أسارى بدر لما استشار النبي الصحابة أبو بكر قال : يارسول الله قومك أستبقهم وخذ منهم الفداء، عمر قال: لا.. أقتلهم يا رسول الله حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا شيء لهؤلاء. فأخذ بناحية الشدة معهم فنزل الله عز وجل بتصديق كلام عمر ولذلك قال : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } النبي مال إلى رأي أبي بكر وقال له : ( ومثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام إذ قال { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ) ما قال فأهلكه وعذبه إنما قال { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ومثّل الحديث بطوله ومثّل عمر بموسى عليه السلام.
 ثم بعد ذلك يعني بعد أن استمع إلى جدال إبراهيم عليه السلام قال الله : { يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۖ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } فلا مجال للجدال ولا مجال للشفقة بهم ولا للرحمة بهم لأنهم فعلوا من الأفعال التي تستوجب أن يعاقَبُوا وأن تنزل عليهم العقوبة من الله عز وجل. ولذلك سيأتي في الآيات التي تليها مباشرة بيان قصة لوط عليه السلام والسبب الذي من أجله قال الله عز وجل : { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } لماذا العذاب الذي سيأتيهم لا رجعة فيه ولا رجوع عنه كما ستبين ذلك الآيات الكريمة. وهذا إن شاء الله عز وجل ما سنتناوله في المجلس السادس بإذن الله عز وجل وتوفيقه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق