الثلاثاء، 31 مايو 2016

التعليق على تفسير ابن سعدي / تفسير الآيات (٢٣-٣٠) من سورة الملك

 فضيلة الشيخ د عبد الرحمن بن صالح المحمود


.. تفضل يا شيخ ..
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين ..
قال ابن سعدي -رحمه الله تعالى- في تفسير قول الله تبارك وتعالى :{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} :
"يقول تعالى مبينًا أنه المعبود وحده وداعيًا عباده إلى شكره وإفراده بالعبادة {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} أي: أوجدكم من العدم من غير مُعاونٍ له ولا مُظاهر، ولما أنشأكم كمّل لكم الوجود بالسمع والأبصار والأفئدة وهذه الثلاثة هي أفضل أعضاء البدن وأكمل القُوى الجسمانية، ولكنكم مع هذا الإنعام {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} الله، قليل منكم الشاكر وقليل منكم الشكر.
{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ} أي: بثكم في أقطارها وأسكنكم في أرجائها، وأمركم ونهاكم وأسدى عليكم من النِّعم ما به تنتفعون، ثم بعد ذلك يحشركم ليوم القيامة. ولكن هذا الوعد بالجزاء ينكره هؤلاء المعاندون "
تعليق الشيخ :
 هذا تابع لما جاء في هذه السورة وما أخبر الله عز وجل فيما جرى من ذِكر خلق الله عز وجل { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } ثم أيضاً ما ذكره الله عز وجل في قوله : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } وما ذكره في تلك الآية العظيمة { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } جاء التذكير في هذه الآية في أعظم مسألة وهي سبب العبودية ، ما سر العبودية ؟
أن العباد مخلوقون لله ومن هنا في كتاب الله عز وجل كثيراً ما يمتنّ علينا وعلى الناس ، خلقكم .. أوجدكم .. أعطاكم .. سخّر لكم.. أعطاكم السمع والبصر والأفئدة ، والمقصود بالأفئدة هنا ليس القلب الذي يضخ ، لا .. القلب الذي به يتعقل الإنسان ويميز به الإنسان عن باقي الحيوانات والمخلوقات { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله عز وجل على هذه النِّعم ولا يمكن أن يكون الشكر إلا بالعبودية لله وحده لا شريك له .
 ثم أختصر قصة هذا الإنسان الذي أمتن له { الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } خلقكم وتحشرون فتأتي هذه الآية مختصِرة لرحلة الإنسان، لكن ألا يعتبر الإنسان ويتعظ فيعلم ويستحضِر من خلَقَه ورَزَقه وأعطاه هذه النعم؟! وما السمع والبصر والأفئدة إلا تذكار بباقي النعم ، والإنسان إنما يعرف قدر نِعم الله عز وجل لما ينظر إلى الأمراض التي قد تصيب أي عضو من أعضائه ، فكم لله عز وجل للعباد من هذه النعم .. من يتعظ وكل واحد منا أيها الأخوة في الله -وإن كان الخطاب للمشركين والكفار لأجل أن يعبدوا الله ويتركوا عبادة غير الله عز وجل- لكن هذه الخطاب لنا أيضاً في أن نتذكر نِعم الله عز وجل فنُخلِص لله سبحانه وتعالى في عبادته ونستحضر هذه النعم .
القراءة من التفسير :
"{وَيَقُولُونَ} تكذيبًا: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} جعلوا علامة صدقهم أن يخبروهم بوقت مجيئه، وهذا ظُلم وعناد ( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) لا عند أحد من الخلق، ولا مُلازمة بين صدق هذا الخبر وبين الإخبار بوقته، فإن الصدق يُعرف بأدلته، وقد أقام الله من الأدلة والبراهين على صحته ما لا يبقى معه أدنى شك لمن ألقى السمع وهو شهيد.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني أن محل تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدنيا، فإذا كانوا يوم الجزاء ورأوا العذاب منهم {زُلْفَةً} أي: قريبًا، ساءهم ذلك وأفظعهم، وأقلقلهم فتغيرت لذلك وجوههم، ووبخوا على تكذيبهم، وقيل لهم هذا الذي كنتم به تكذبون، فاليوم رأيتموه عيانًا وانجلى لكم الأمر وتقطعت بكم الأسباب ولم يبقَ إلا مباشرة العذاب.
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} ولما كان المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم الذين يردُّون دعوته ينتظرون هلاكه ويتربصون به ريب المنون، أمره الله أن يقول لهم: أنكم وإن حصلت لكم أمنيتكم وأهلكني الله ومن معي فليس ذلك بنافع لكم شيئًا، لأنكم كفرتم بآيات الله، واستحققتم العذاب فمن يُجيركم من عذاب أليم أي : قد تحتّم وقوعه بكم؟ فإذًا تعبكم وحرصكم على هلاكي غير مفيد ولا مجدي عنكم شيئًا. ومن قولهم إنهم على هدى والرسول على ضلال أعادوا في ذلك وأبدوا وجادلوا عليه وقاتلوا، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم  أن يُخبر عن حاله وحال أتباعه ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم، وهو أن يقولوا: {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} والإيمان يشمل التصديق الباطن والأعمال الباطنة والظاهرة، ولما كانت الأعمال وجودها وكمالها متوقفة على التوكل خصّ الله التوكل من بين سائر الأعمال، وإلا فهو داخل في الإيمان ومن جملة لوازمه كما قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه وهي الحال التي تتعين للفلاح، وتتوقف عليها السعادة، وحالة أعدائه بضدها، فلا إيمان لهم ولا توكل عُلِم بذلك من هو على هدى ومن هو في ضلال مبين."
تعليق الشيخ:
هنا ثلاثة مسائل: بعد أن أخبر الله { ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أن الله خلقكم وسيحشركم هنا اعترض المشركون كما هي عادتهم وقالوا : متى هذا الذي تعدنا به ؟ متى يكون يوم القيامة ؟ وكثيراً ما يسأل المشركون هذا السؤال لكن الجواب واضح : { قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي عِلم الساعة ومتى تكون هو عند الله عز وجل { وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أنذركم أما الدلائل على الحشر والبعث وقدرة الله عز وجل فهي دلائل كثيرة لا تُعد ولا تُحصى ومنها خَلْقُكم ، فالذي خلقكم قادر على أن يعيدكم، ومنها خلق السماوات بضخامتها ألا يقدر أن يعيد ويبعث المخلوقين وهم صغار ؟! ومنها إحياء الأرض الميتة هي ميتة ليس فيها شيء فيحييها الله ، فالدلائل القرآنية العقلية والشرعية والأخبار مثل قصة أهل الكهف، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، والذي مرّ على قرية ،وقصة إبراهيم الخليل { أَرِنِي } كل هذه دلائل وأخبار أخبر الله عز وجل وجرى فيها من القصص مافيه الدلالة القاطعة بأن الله عز وجل يحيي الموتى، ومعلوم الآن أن المشركين كانوا أعظم الناس إنكاراً للبعث بعد الموت لأنهم كانوا دهرية وزنادقة لا يؤمنون ببعث ولهذا استبعدوا وأجابهم الله سبحانه وتعالى قائلاً لرسوله : { قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } هذا السياق القرآني يختصر لك القصة ويخبرك عن هؤلاء المكذبين وكأن المسيرة مرت بسرعة شديدة وإذا بهم أمام ربهم سبحانه وتعالى وقد رأوا بأعيانهم ما كانوا يكذبون به من البعث والجزاء .
وقوله تبارك وتعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً } أي قريباً ، متى هذه الرؤية ؟
قول جمهور المفسرين : أنه يوم القيامة حين يُحشَر الناس فيرون ذلك وهنا قال : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } وتخاصمون وتنكرون ها هي الحقائق أمامكم .
 و القول الثاني : أنهم رأوه زلفة عند الموت لأن كل ميت -والعياذ بالله- يرى مقعده من النار الكافر يرى مقعده من النار وما دام كل من يموت فإن الموت سريع بالنسبة له صار زلفة فكل إنسان يموت فهؤلاء كل واحد منهم لما حضره الموت ورأى مقعده من النار أيقن ولهذا قال : { سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } ولا شك أن وجوههم تسوء عند الموت ،وفي القبر، ويوم يقوم الأشهاد أعاذنا الله وإياكم من صفات هؤلاء .
 ثم المسألة الثالثة { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } هذه الآية في سياقها هي خطاب للكفار الذين كانوا يكذبون ومن معه وكانوا يتربصون بهم الموت يعني المشركون كانوا في الجاهلية لما بُعِث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتربصون بالنبي ومن معه أمرين :
أحدهما : كانوا يتربصون به أن يظهر كذبه -كما يدّعون- لأنهم عرفوا أنه من السَنن في الأمم أنه ما من كذاب يكذب على الناس إلا ومع الزمن يبين كذبه . يعني خذوها قاعدة مافي كذاب يكذب على طول أبداً ، الأمم .. الأشخاص ما من أحد كذب إلا وقد يخدع الناس وقتاً لكن لا بد أن يبين كذبه ، فكانوا كما عرفوا من سَنن الله في الأمم ما من كذاب إلا ويبين كذبه فكانوا يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يَبين محمد هذا كاذب غير صادق ننتظر به سنة سنتين ثلاث وسيظهر أمرة ويضمحل كما هو حال الكَذَبة ، لكن هذا لم يتم ولم يقع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نبياً وصادقاً .
الثاني : كانوا يتربصون به ريب المنون ، يقولون : يموت وينتهي الأمر نحن مشكلتنا مع محمد هي قضية عُمره ننتظر حتى يموت وينتهي الأمر، وأيضاً لم يتحقق ما كانوا يأملون به من انتظار موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه عليه الصلاة والسلم لم يمت حتى نصر الله دينه وفتح الله لرسوله قبل موته قلعة الشرك الكبرى مكة فتبيَّن بطلان هذا .
سياق هذه الآية يقول الله فيه للرسول صلى الله عليه وسلم : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا } أنتم الآن تنظرون إلينا افترضوا أن الله أهلكنا وأماتنا أو رحمنا أو عذبنا أو أنعمنا ما علاقتكم في الموضوع ؟ نحن عبيد لله تجري علينا فيه أقداره مؤمنون به متوكلون عليه وحده لا شريك له، لكن أنتم ما علاقتكم في الموضوع ؟ أنتم مسؤولون عن أعمالكم ،انتبهوا إلى هذه القضية أنتم مسؤولون عن أعمالكم وهذا يجري في كافة الأحوال، بعض الناس إذا يتكلم عن الأخيار والدُعاة إلى الله والمُحتسبين عملوا وما عملوا وفعلوا وما فعلوا طيب أنت ماذا فعلت؟ أنت لن تسأل عنهم، إن كنت ناصحاً فأنصح لكن أن تُعلِّق أفعالك بأفعالهم ما علاقتك { فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } إذا كفروا بالله عز وجل سواء أنعم الله علينا ورحمنا أو أهلكنا، وهذا خطاب قوي ودقيق جداً يدخل في دواخل النفسيات بالنسبة لهؤلاء المكذبين الذين كانوا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا جاء الجواب لا { هُوَ الرَّحْمَٰنُ} ذكروه بهذا الاسم { الرَّحْمَٰنُ } المختص به والدال على صفة الرحمة { قُلْ هُوَ الرَّحْمَٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ۖ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } فظهرت الحقائق في هذا الخطاب .
القراءة من التفسير :
"{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} ثم أخبر تعالى عن انفراده بالنِّعم، خصوصًا الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} أي: غائرًا {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} تشربون منه، وتسقون أنعامكم وأشجاركم وزروعكم؟ وهذا استفهام بمعنى النفي، أي: لا يقدر أحد على ذلك غير الله تعالى."
تعليق الشيخ:
هذا نهاية السورة ونِعمة الله عز وجل على العباد بالماء نِعمة يجب أن لا تغفل عنها يجب أن لا تغفل عنها يا عبد الله وأن لا نغفل عنها نعمة الماء هي نعمة من الله عز وجل { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } والمعين للمفسرين فيه قولان : أحدهما : أن المعين هو الموجود القريب يعني يكون في البئر لكن يكون صافي وقريب وتأخذه وتشرب منه .
 والثاني : أن المعين هو الجاري .
ولا شك أن المياه على هذه الأرض يشمل النوعين، فيه ماء يستخرج من الأرض الله عز وجل هو الذي أوجده وخلقه، وفيه ماء معين يجري، من يأتيكم به ؟ لا أحد إلا الله سبحانه وتعالى فكيف تكفرون بالله ؟ .
اللهم أرزقنا شكر نعمك وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق