الثلاثاء، 31 مايو 2016

التعليق على تفسير ابن سعدي الآيات (١٩-٢٢) من سورة الملك

 الشيخ/ د .عبد الرحمن بن صالح المحمود


 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
نقرأ من تفسير ابن سعدي .. تفضل ..
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين ..
قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله تعالى- في تفسير قول الله تعالى :
{أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَٰنِ ۚ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} وقبلها قول الله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} . وهذا عتاب وحث على النظر إلى حالة الطير التي سخّرها الله، وسخّر لها الجو والهواء، تصُف فيه أجنحتها للطيران وتقبضها للوقوع، فتظل سابحة في الجو مترددة فيه بحسب إرادتها وحاجتها.
{مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ} فإنه الذي سخّر لهن الجو، وجعل أجسادها وخلقتها في حالة مستعدة للطيران، فمن نظر في حالة الطير واعتبر فيها، دلّته على قدرة الباري، وعنايته الربانية وأنه الواحد الأحد الذي لا تنبغي العبادة إلا له.
 {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} فهو المدبر لعباده بما يليق بهم وتقتضيه حكمته.
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلا فِي * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره، المعرضين عن الحق: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} أي: ينصركم إذا أراد بكم الرحمن سوءًا فيدفعه عنكم؟ أي: من الذي ينصركم على أعدائكم غير الرحمن؟ فإنه تعالى هو الناصر المُعز المُذل، وغيره من الخلق لو اجتمعوا على نصر عبد لم ينفعوه بمثقال ذرة على أي عدو كان، فاستمرار الكافرين على كفرهم بعد أن علموا أنه لا ينصرهم أحد من دون الرحمن، غرور وسفه.
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} أي: الرزق كله من الله، فلو أمسك عنكم الرزق فمن الذي يرسله لكم؟ فإن الخلق لا يقدرون على رزق أنفسهم، فكيف بغيرهم؟ فالرازق المُنعِم الذي لا يصيب العباد نعمة إلا منه هو الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، ولكن الكافرون {لَجُّوا} أي: استمروا {فِي عُتُوٍّ} أي: قسوة وعدم لين للحق {وَنُفُورٍ} أي: شرود عن الحق.
تعليق الشيخ:
هذه ثلاث آيات في هذه السورة العظيمة :
الأولى : تذكير الناس بشيء يشاهدونه كثيراً وهو الطير { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } { صَافَّاتٍ } بأجنحتها وهذا شكل الطائر { وَيَقْبِضْنَ } فأحياناً يقبضهما وأحياناً يقبض أحدهما ، بعض الطير يقبض جناح ويترك الآخر وأحياناً يقبضهما وفعلاً نشاهد بعض الطيور أحياناً تجده يمر كالسهم مسافة طويلة وقد قبض جناحيه ، في حال الطيران وبسط الجناحين وفي حال القبض أليس في هذه عبرة !! من الذي يمسكها ؟ من الذي سخّر لها هذا من الذي علمها ؟ من الذي علم الطير ؟
الطير بيضة تفقس ثم تنمو قليلاً وتغذية الطير لصغاره من الأعاجيب ، ثم إذا به نبت ريشة يبدأ يطير يتعلم من الذي علمه ؟ ثم يسبح من ؟ لماذا أيها الإنسان الذي تعتقد أنك مستقل عن الله لا تتفوق على الطائر وتصبح أنت تطير لماذا ؟ إذا كنت تزعم أنك عندك قدرات خارقة وأنك تستطيع أن تُغير في الكيمياء البشرية كما يقال النسخ والتناسخ ووو .. إلخ لماذا ؟
لماذا أيها المغرور يكون الطير أفضل منك ؟
لماذا لا تستريح من هذه المركوبات والسيارات وغيرها تتنقل في هذه المدينة بحيث تغير من جيناتك وتصبح رجل عاقل وفيك جينات طيرية أنت تصنعها ثم تبدأ تطير وتستريح ؟ هذه خطاب خطاب رباني
{ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } هو الذي خلقها وأعطاها هذه القدرة وأنت أيها الإنسان لا تملك هذه القدرة .
الآية الأخرى: فيها تهديد { أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَٰنِ } إذا أراد الله بكم عقاب من الذي ينصركم ؟ { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } فرعون طغى وقال : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ } كالفراعنة في كل وقت يقتلون ويحرقون ويسفكون الدماء ويتحكمون في العباد ويقول : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ } فماذا كان ؟ أُغرِق وهو ينظر وبإرادته ، هو بإرادته دخل البحر، يعني ما فكر قليلاً وقال : هذا بحر لما عبر عليه موسى وجعله الله يبساً وعبر موسى ومن معه ، ما وقف فرعون قبل البحر قليلاً وقال : ابقوا هذا البحر خطير قد ينطبق علينا لنفكر ، أبداً وإنما أقبل عليه هو وجنده عن بكرة أبيهم لم يتخلف منهم جندي واحد حتى إذا استكملوا في وسط يابسة البحر أطبق الله عليهم ، ولما أحس الخبيث بالغرق قال : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فقال الله له : { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } جاء في بعض الروايات أن جبريل قال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : ( يا محمد لو رأيتني عند غرق فرعون وأنا آخذ من حالِّ البحر - يعني من طين البحر وترابه - وأنا آخذ من حالِّ البحر وطينه وأضعه في فمه ) بأمر الله عز وجل يوحِّد في آخر لحظة ، عند الغرغرة لا يُقبَل  أنتهى .
وقوم هود وقوم لوط الذين قالوا لنبي الله لوط : { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } الشذوذ اليوم الحضارة الغربية تقوم ثقافتها على إقرار الشذوذ وأي واحد يعترض على الشذوذ هذا إنسان يخالف الإنسانية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة ، المنظمات الدولية سيداو والمنظمات السكانية تقرر إباحة الشذوذ وأي واحد يعترض عليه من دولة أو أمة يجب أن يُقاوَم ، ما الفرق بينهم وبين قوم لوط ؟ { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } بل هؤلاء أخس وأخبث من قوم لوط لأنهم يرون أن هذا هو غاية الحضارة وهل هذا إلا مُؤذن بعقوبات الله عز وجل لأن الله قال في قصة قوم لوط :{ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } وهكذا الطغاة إذا أخذه الله أخذه أخذ عزيز مقتدر. { أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَٰنِ } إذا جاء عقاب من الرحمن { إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ } مغرور مسكين.
 ثم الآية الأخرى التي والله فيها خطاب عجيب لبني الإنسان على هذه الارض { أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } من هو هذا الذي يرزقكم ؟ هل هو غير الرحمن هو الذي يرزقكم ؟ هذا الخطاب ليس لنا ، هذا الخطاب للإنسانية جميعاً يا أيها البشر الذين تعيشون على هذه الأرض من الذي هيأ الأرض لتحرثوها وتفعلوا فيها ؟ من الذي دحاها وجعل فيها أقواتها ؟
هذه الأرض مليئة بالأقوات ولو صار الناس مائة مليار أو مائتين مليار لن تعجز الأرض لأن الله قدَّر فيها أقواتها ، ما من خوف من زيادة السكان لا عالمياً ولا في دولنا وللأسف التيار العلماني لا يزال إلى الآن يُصِر وينشر ثقافة عدم تكثير الأولاد في بلد قارة مثل بلادنا هنا ، نحن أكبر من أوروبا التي فيها عدة دول الدولة الواحدة عدد سكانها ستين وسبعين مليون، لكن ماذا نقول في هؤلاء المنحرفين ؟ الرزق مكتوب { أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } ألم تفكروا لو أن الله أمسك عنكم الرزق ولهذا قال الله تعالى : { بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } لا يفقهون، لا يعرفون قدر ربهم سبحانه وتعالى فيؤمنون به فهذا الخطاب في هذه السورة العظيمة تخاطب بعلامات الاستفهام التقريرية حتى يستيقظ القلب ويعرف ربه .
القراءة من التفسير :
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: أي الرجلين أهدى؟ من كان تائها في الضلال غارقًا في الكفر قد انتكس قلبه، فصار الحق عنده باطلا والباطل حقًا؟ ومن كان عالمًا بالحق، مُؤثرًا له، عاملا به، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله؟ فبمجرد النظر إلى حال الرجلين يُعلَم الفرق بينهما، والمهتدي من الضال منهما، والأحوال أكبر شاهد من الأقوال.
تعليق الشيخ:
 قبل أن ننتقل للآية 
هذه الآية وهو قوله تعالى { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ } هذا الآية الاستفاهمية التقريرية التي تخاطب الإنسان بأمر { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِه } يتساوى هو ومن يمشي بشكل طبيعي على صراط مستقيم ؟ هذا الكلام للمفسرين فيه قولان :
القول الأول : أن المقصود هذا في الدنيا وأنه مثال ضربه الله عز وجل على الفرق بين إنسان يمشي على وجهه وآخر يمشي على رجليه وهو على طريقة مستقيمة ،هل يتساويان ؟ هل يستوي إنسان يمشي على وجهه -إذا تصورنا كيف يمشي على وجهه- ؟ وكذلك أيضاً المؤمن والكافر. هذه هي المقارنة المؤمن كمن يمشي على طريقة مستقيمة والكافر كمن يمشي على وجهه هل يستويان ؟ { عَلَىٰ وَجْهِه } تأمل .
 القول الثاني : أن المقصود بذلك في الآخرة وأنه في يوم القيامة كما أخبر الله عز وجل يُحشرون يمشون على وجوههم ولما سُئل صلى الله عليه وسلم عن ذلك يوم القيامة قال : ( أليس الذي أمشاهم في الدنيا على أرجلهم بقادر على أن يُمشيهم يوم القيامة على وجوههم) ومعنى هذا -والعياذ بالله- أن من آمن يمشي على رجليه في العرصات يوم القيامة أما من كفر فهو يمشي على وجهه، تأمل المنظر يا عبد الله .. تأمل المنظر في العرصات يوم القيامة قوم -والعياذ بالله- من المشركين الكفار العصاة الضالين يمشي الواحد على وجهه ، وجهه المكرم الذي يرى أنه لا يتحمل أحد يشير إليه ولا بهنة ولا بحركة وربما لو أحد ضرب أو لمس أنفه لأطلق عليه النار في الحال لأنه يهينه، انظر إلى مبلغ الإهانة حين يحشرون عمياً وبكماً وصماً وعلى وجوههم، أعمى أبكم أصم على وجهه -والعياذ بالله- هذه صفة الكفار، هل يتساوى هو ومن يقومون من قبورهم ويمشون على أرجلهم ينتظرون مغفرة الله عز وجل وما أعده لهم فيها من النعيم المقيم هل يستوي هذا وهذا ؟
وسواء قيل أن المثل في الدنيا أو إن المثل في الآخرة فمدلولهما واحد ونتجيتهما واحدة وهي أنه لا أحد يقول : بأن هذا يتساوى مع هذا بل بينهما من الفرق العظيم ما لا يجهله أبسط الناس لا يتساوى المؤمن والكافر، لا يتساوى هذا وهذا،لا يتساوى من يسير على طريق مستقيم عابداً لله مطيعاً ملتزم لشريعته وبين من هو منتكس يعبد هواه وشيطانه قد أعرض عن طاعة ربه ، يا قوم هذا هو نداء الرحمن يكشف لنا الحقائق فاللهم أيقظ قلوبنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق