الجمعة، 8 مايو 2015

تفسير سورة الأنعام (من الآية ٩١ إلى ١١٠ ) / دورة الأترجة

د.عبد الرحمن بن معاضة الشهري


المجلس القرآني الخامس والثّلاثون بسم الله الرَّحمن الرَّحيم.
 الحمدُ لله ربِّ العالمين وصلَّى الله وسلَّم وبارك على سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مَرحبًا بكم أيُّها الإخوةُ الكِرام الحضور والإخوة المشاهدين والمُستمعين في هذا المَجلس من مجالس تفسيرِ سورة الأنعام.
 هذه السُّورة المكيِّة العظيمة التي نــَزلت على النَّبي صلى الله عليه وسلم  جُملةً واحدة، على الرَّغم من طُولِ عدد آياتها وهي أطولُ سورة نزلت على النَّبي جُملةً واحدة. وقد وقفنا في المَجلس السَّابق عند قوله سبحانه وتعالى (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وهي الآية الواحدة والتِّسعين فنبدأ بتفسيرها:
المقطع الأوّل:
(وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92))
 لا يزالُ الحديثُ - أيُّها الإخوة- مُتَّصِلًا في الآيات التِّي أشَارت إلى مُجَادَلة إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لقومِهِ ثُمَّ ما ذكَرَ اللهُ في آخِرها من الاقتداء بِالأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام.
ويتَّصِلُ الحديث في هذا المجلس فيقولُ الله سبحانه وتعالى (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ).
 (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) هَذا الكلام يَصِحُّ في حقِّ كُل من أشرك بالله سبحانه وتعالى وعَبَدَ معه غيره.
فإن قلنا (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) هنا المقصود بها المُشركون أيّ (مُشركوا قُريش) فهو كلامٌ صحيح فالحديث مُتوجِّهٌ إليهم ابتداءً وقد نزلت هذه السُّورةُ العظيمة في مكة كما تقدّم معنا مِرارًا في مجادلة المشركين والرَّد على شُبُهاتهم.
وإن قلنا (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)  المَقصُود بها كُلُّ المُكذِّبين للأنبياء الذِّين تقدَّم ذكرُهم فأيضًا هُم كذلك.
ومعنى (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)  أيّ وما عظَّمُوا الله حقَّ تعظيمه. وتعظيمُ الله حقَّ تعظيمه لا يكونُ إلا بمعرفته سبحانه وتعالى حَــقَّ المَعرفة، ولذلك كانَ أشدُّ النَّاس تعظيمًا وتقديرًا لله سبحانه وتعالى هُم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام لأنَّهم هم أعلمُ النَّاسُ بالله سبحانه وتعالى. ولذلك كان النَّبي إذا قال لَهُ أحدٌ من المُنافقين شيئًا كأن يقول بعضهم له: اِعدِل يا محمد فما عَدَلت - في كذا- فكان يقول: والله إنِّي لأَعلَمُكُم بالله. ومعرفة النبي بالله سوف تُثمِرُ تعظيمه وتقديره سبحانه وتعالى حقَّ قَدره. ويكونُ تعظيمُ الإنسان لله سبحانه وتعالى بِقدرِ عِلمه به ولذلك يَستزيد المُسلم والمُؤمن من العِلم بالله سُبحانه وتعالى حتى يزيدَ تعظيمُه وتوقيره لله سبحانه وتعالى وهذا معنى قوله (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)  لماذا؟ (إذ قالوا مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ).
 قيل: أنَّ المَقصود بهذه الآية مُشركــوا قُريش فَهُمُ الذِّين أنكروا أن يكونَ الله قد أرسَلَ بَشَرًا، وهذه مقولةٌ صحيحة. فالذِّي يقول (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ) المقصود بها مُشركوا قريش فقولهُ صحيح لأنَّ الحديث في أوَّل الآيات، وفي هذه الآيات، وفي التِّي تَليها كُلُّهُ مُتَوجِّهٌ لِمُشركي قريش، ومُشركو قريش هُم الذِّين كانوا يُنكِرُونَ نُبوَّةَ محمد ولم يَكُن لهم دِينٌ يَدينُون به.
 وقيل: إنَّ المقصود بهذه الآية هم بَنُو إسرائيل، أو أحدُ بني إسرائيل.فهذه الآية نزلت في واحدٍ من أحبار اليهود في المدينة اسمه (مالكُ بن الصَّيف) وبعضهم يقول نَـزلت في واحدٍ واسمه (فـِنحَاص) من عُلماء اليهود. ويذكرون في الرِّواية أنَّه كان في مجلس النَّبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يُجادلون النَّبي صلى الله عليه وسلم في نبوته: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الحبر اليهودي واسمه مالك بن الصَّيف : أسألك بالله -وكان حَبْرًا سَمينًا- أسألك بالله يا مالك ألم يَذُمُّ الله في التَّوراة الحَبْر السَّمين؟ فَسكَت. فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم  أنتَ الحبرُ السَّمين. فضَحَكَ كُلُّ من حَضَر. فَأقسَم هذا الحَبْر اليَهودِّي أن يكون الله قد أَنزَل كِتابًا على أيُّ واحدٍ من البشر، فلامَه في ذلك أحبار اليهود وقالوا له أبصِر ما تقول فأصَرَّ على كلامه. هَذِهِ روايةٌ تذكرها كتُب التَّفسير، ولذلك يَستثنون هذه الآيات الثَّلاث من السُّورة، ويقولون أنَّها مَدَنية لكنَّ الصَّحيح: أنَّها آياتٌ مَكيِّة وأنَّها ليست في هذا الحَبْر، وإنما تلك الرواياتٌ ليست بِصَحيحة ولذلك يقول ابن جرير الطَّبري- رحمه الله: "والرِّوايات التِّي تُروَى في سَبب نُزولها في أحدِ أحبار يهود ليست بصحيحة -أو كلاماً هَذا معناه- وإنَّما نزَلَت في (مُشـركي قريش)" لأنَّ (بني إسرائيل) اليهود لم يُعرَف عنهم أنَّهُم ينكِرُون نُبوَّة موسى لأنَّه نبيُّهم، ويـُؤمنون به، ويُــؤمنون بإبراهيم فهُم لا يُنكرون أن يُنزِّل الله على واحدٍ من البشر كتابًا من السَّماء لأنَّ التوراة بين أيديهم هؤلاء اليهود. لكنَّ المشركين هم الذِّين يُنكرونَ ذلك فهي صحيحةٌ في حقِّ المشركين (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ) فَهُم مشركو قريش أنكروا أن يكون الله قد أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم أو أرسل أحدًا من قَبله. فالله سبحانه وتعالى قال للنَّبي صلى الله عليه وسلم  يُلقنُّه الحُجَّة.
وهذه فائدة مهمة: نسيت أن أُنبِه عليها في بداية كلامي عن سورة الأنعام لأني أتيت من وسط السورة ولم آتِ من أولها وحقُّ مثلُ الكلام أن يُقال في أوَّل السُّورة.
 معظم آيات سورة الأنعام أو أكثرُ آياتها تبدأ بأحد أمرين:
- إمَّا بقوله (قل) ويتكرَّر ذلك
- وإمَّا بالضَّمير (هُـو) ويتكرَّر ذلك. وما يأتي بعد "هُـو" كُلُّها أوصافُ كمَالٍ اتَّصف الله بها سبحانه وتعالى.
فأما (قل) فهذا يسمى أسلوب التَّلقين -وأظنُّني قد أشرتُ إليه في مَجلس من مجالس التفسير- أسلوب التَّلقين في هذه السُّورة واضحٌ جدًا. وقلنا إنَّ سورة الأنعام سورة للاحتجاج على مُنكري التَّوحيد ومُنكري الألوهية. ومن هُو الذِّي يُلقِّنُ هذه الحُجج؟ الله سبحانه وتعالى، يُلقِّنُها نبيِّه عليه الصَّلاة والسلام وحسبُك بالله سبحانه وتعالى مُعلِّماً ومُلقِّناً يقول للنَّبي صلى الله عليه وسلم إذا قالوا لك كذا فقل كذا، فأنت عندما تحتَّج بهذه الحُجَّة، فأنتَ تحتَّجُ بِحُجَّة قوية جِداً، والذِّي علَّمك هذه الحُجَّة هو الله سبحانه وتعالى ولذلك قال في المقطع السابق (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) وهذه رائعة جدًا- أيُّها الإخوة- لأنَّك الآن إذا وجدتَ دليلًا قويّا فإنّك تستمسك به. هذه الأدلة وهذه الحجج التي يُلِّقنها الله سبحانه وتعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ولمن آمن به (حُجَجٌ دامِغة). والله سبحانه وتعالى وصف حُجّة المشركين والمُكذِّبين بأنَّها (حجَّةٌ داحِضَة) فقال الله (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ ) أي ليس لها أيُّ قيمةٍ علمية، ولا موضوعية.
 فالله سبحانه وتعالى يقول هنا للنَّبي صلى الله عليه وسلم -يُلقِّنه الحُجَّة- يقول هؤلاء المشركون: يقولون إنَّه لم يَنزِل على بشر من النَّاس كتابًا من السَّماء فاسألهم بِكُلِّ بَسَاطة وهُم قُريش ويعرفون أهل الكتاب في المدينة وقد ذهبوا إليهم عدَّة مَرات،وسألوهم عدَّة مرَّات لأنَّهم أهل الكتاب فاسألهم وقل لهم (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاس ) أنتُم الآن تَسألون اليهود واليهود في المدينة تعرفونهم، وتختلطون بهم فمَن أنزَلَ الكتاب الذِّي جاء به موسى إذاً؟ طبعاً هذه حُجَّةٌ مُلزمَة لهم، لأنّهم هم أهل الكتاب، ويعلمون الكتاب الذِّي جاءَ به موسى عليه السَّلام.
/ قال الله (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) وهناك قراءة أخرى (قُل من أنزَلَ الكتاب الذِّي جاءَ به موسى نورًا وهُدىً للنَّاس يجعلونَه قراطيسَ يُبدونها ويُخفون كثيرًا) فيكون الكلامُ عن بني إسرائيل الذِّي يعرِفُهُم قريش.
 وإن قلنا (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) والخِطَاب مُتوجَّه إلى قريش فيكون المقصود أنَّكم تعلمون بالتَّوراة التي أنزلها الله على موسى، ولكنَّكم تَجحَدُونَ ذلِك، وتُخفُونه ويكونُ الخِطاب متوجهٌ إلى بعض من تَنصَّر أو اتَّبع دينَ أهل الكتاب من قريش مثل ورقة بن نوفل -مثلا- وبعض الذِّين يعرفون العِبرانية، ويعرفون الكتاب.
 الطبري يرجِّحُ أنَّ المَقصود به قريش ويقول: "ولذلك فالقراءةُ التِّي أَرى أنَّها أوْلى هي قراءة (يجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا) لأنَّ هذا الكَلام يكونُ مُتوجِّهاً إلى بني إِسرائيل.
 والذِّين قَالُوا إنَّ هذه الآيات نزَلت في يهود، وأنَّها نزلت في المَدينة، وليست مكيِّة يحملون المُخاطَب هنا على أنّهم اليهود - بنو إسرائيل- وتكون الآيات مُنسجمة (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) أي أنتم يا معشر اليهود.
/ (وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ) يقول الله سبحانه وتعالى للنَّبي صلى الله عليه وسلم قُل لقريش الذِّين يُنكرون أنَّ الله أنزل الكتاب على أحدٍ من البشر ماذا تصنعُون في التّوراة التي تعرفون أنَّها نزلت على موسى؟. وأيضًا عُلِّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم بواسطة هذا الوحي الذِّي جئتُ به الآن لكم:
 فقد قصصت لكم قصصًا لا تعرفونها.
وأخبرتكم بأخبار الأنبياء السابقين وأنتم لا تعرفونهم.
وبيَّنت لكم كثيرًا من الشَّرائع وأنتم لا تعرفونها لا أنتم ولا آباؤكم.
 بل إنَّ بني إسرائيل واليهود كانوا يعرفون كثيرًا من تاريخهم ومن صوابِ ما في كتابهم من خلال القُرآن الكريم. فهناك قَصَص كثيرةٌ موجودة الآن في التَّوراة والإنجيل فيها تحريف. فيأتي القُرآن الكريم فيذكُر القِصَّة على وجهها فيُصَحِّح الأخطاء التي عندهم في كتابهم، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فالقرآن الكريم صَوَّب كثيرًا ممَّا في كُتُبِ أهل الكتاب وهذا معنى قوله (وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ). 
(قل الله) هذا جوابٌ على السُّؤال الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ) فالجواب هو (قل الله) هم طَبعاً سوف يُجيبُون بهذا الجواب ولكنَّهم إن سَكتُوا فقد سكَتُوا كِبْرًا، وسكتوا لأنَّهم لم يَجدوا إلاَّ هذا الجواب الذِّي سَوف يَدمَغُهُم ويكون حجَّةً عليهم ولذلك يسكتون، فيقول الله سبحانه وتعالى (قُلِ اللّهُ ) هو الذِّي أنزلَ الكتاب الذِّي جاء به موسى، وهو الذي أنزل الكتاب الذِّي جاء به إبراهيم، وهو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به عيسى، وهو الذِّي أنزل الكتاب الذِّي جئتُ به يا محمد. ثم قال في آخر الآية (قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) وهذا فيه إشارة إلى أنَّ تكذيب هؤلاء هو تكذيب عِنادٍ، وكِبر، وجُحود وليس تكذيبًا المقصود به العلم أو سببه الجهل ولو عَلِمُوا لاستجابوا وإنَّما هم مكذِّبون حتى لو عَلِموا فهم سوف يُصِّرون على تكذيبهم.
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى مُشيرا إلى القرآن الكريم، طبعًا تقدَّم الحديث عن الأنبياء السَّابقين وعن الكُتُب السَّماوية السابقة ثم جاءَ الحديث أيضاً هُنا عن التَّوراة ثم يأتي الحديث عن القرآن الكريم فيقول الله تعالى عن القرآن مُعظِّمًا لشأنه (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)
(وَهَـذَا كِتَابٌ) المقصود به القرآن الكريم. وهذا التَّنكير هنا تعظيمٌ لشأن القرآن الكريم.
 وقال (أَنزَلْنَاهُ) إشارةٌ إلى أنّ القرآن الكريم مُنزَّلٌ من عند الله وأنَّ محمد عليه الصلاة والسلام ليس له إلاَّ البلاغ فقط. فدور النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم هو دَورُ المُبلِّغ فقط. ولذلك لا يملك إلاَّ أن يُبلِّغ، يبلِّغ آيات أحيانا يكون فيها عِتابٌ الله له عليه السلام ولا يملك إلاّ أن يُبلِّغ. ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها "لو كان النبي كاتِمًا شيئًا من القرآن لكتم قول الله تعالى (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ)" في سورة الأحزاب. وفي قوله (عبس وتولى...) عتابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم. لو كان النَّبي هو الذِّي جاءَ بالقُرآن من عنده هل سَيقول مثل هذه الآيات؟ لا طبعا، بل سُيخفِيها. لكنَّه لا يَملِك.
 في سورة الكهف لمَّا جاءه المُشركون وسألوه فقال أُجيبُكُم ولم يَقل - إن شاء الله- عليه الصَّلاة والسلام فتأخر الوحي، لو كان هو الذِّي يأتي بالوحي من عنده لأجابهم مباشرةً.
 أيضاً في حادثة الإفك لما اُتُّهِمَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في عِرضه فلم يَملك أن يقول شيئًا وبقي عليه الصَّلاة والسلام ينتظر الوحي، فلمَّا نزلت الآيات بعد شهر وبعد أن تكلَّم النَّاس وخاض الناس في عِرضه عليه الصلاة والسلام. فلو كان النبي هو الذِّي يختلق القرآن من عند نفسه لمَا انتظر هذه المُدَّة. وهذه كُلُّها أدلةٌ صحيحة وواضحة على أنَّ القرآن الكريم هو من عند الله.
/ فالله سبحانه وتعالى يقول هنا (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ) هذا فيه وضوح، فواضح:
 أولًا في أنَّ هذا القرآن من عند الله
وإثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه لأنه قال (أَنزَلْنَاهُ)
 ثم وصف القرآن بوصف (مُبَارك) والمبارَك هو كثير البركة وكثير الخير والقرآن الكريم كذلك. فالقرآن الكريم مُبَاركٌ، ومعانيه لا تنتهي، وفضائله لا تنتهي، والذِّي يقرأه ويتعلَّمُه ويسلُك طريقه، ويعلِّمه، ويُدارِسُه هو في هذه البركة يعيش ويروح ويغدو.
  ثم قال (مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أيّ القرآن الكريم جاء يُصدِّق ما جَاءت به الكُتب السَّابقة (التَّوراة والإنجيل والزَّبور) يُصدِّق ما جاء فيها من الحقّ ويُصَحِّح ما جاء فيها من الخَطأ، ومن التَّحريف. وهذا معنى قوله في سورة المائدة الذي تقدّم معنا (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) فالهيمنة، هيمنةُ القرآن على ما قبله أنَّه ينسَخ ما جاءَ فيها، يُصحِّح ما فيها من أخطاء، يُصدِّق ما فيها من أخبار صحيحة.
قال (مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أيّ من الكُــتُب السَّماوية السَّابقة.
(وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) أيّ وجاءَك هذا القرآن أيضًا يا محمّد لكي تُنذِرَ به أهل مكة ومن حولها من القرى وسمَّى الله مكَّة أمَّ القُرى للإشارة إلى فَضلِ مكة وأنَّها هي فعلًا كانت حاضرةُ المنطقة التي فيها ولا تزال، وهذا فيه إشارة أيضا إلى أهمية المُدن والعواصم وأنَّها هي التِّي في الغَالب التِّي تكون فيها النُّبُوات والرسالات والحركة بصفة عامة. وإلى يوم الناس هذا، فالمُدن الكبيرة هي التي يُبعَث فيها الرُّسل،ويُرسَل إليها الأنبياء ولذلك قال سبحانه وتعالى (وما كانَ ربُّكَ مُهلِكَ القُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا) أيّ في المَنطقة الرئيسية التي يجتمع النَّاس فيها.
 وسمَّى الله مكَّة أمَّ القُرى: قيل لأنَّها هي المنطقة التِّي بُنيَ فيها أوَّلُ بيتٍ في الأرض وهي (الكعبة) ولذلك كَانت مَجمعًا للنّاس ومَقصدًا للنَّاس حتى اليوم. وهذا من بركة دعوة إبراهيم عليه السَّلام بعد ذلك عندما قال (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ولذلك استجاب الله هذه الدَّعوة.
 قال الله: (ولِتُنذُرَ أُمَّ القُرى وَمَنْ حَوْلَهَا) أي المُدن التي حولها، وقد انتشرت فعلاً دعوةُ النّبي حولَ مكة حتَّى بَلَغَت أقاصي الأرض، والنَّاسُ يتوجهون في صلاتِهم إلى هذه المنطقة -إلى الكعبة-. وهُناك دراساتٌ حديثةٌ الآن: تُثبِت أنّه حتى الذي ينظُرُ إلى الكُرة الأرضية مُصوَّرة، يجدُ أنَّ مكة تقع في المنتصف فِعلاً. فهي في وسط العالَم وهي منطقةٌ آمنةٌ من حيث الزَّلازل، والبراكين، والمياه...الخ، فلا شَكّ أنَّها مَنطقةٌ مُختارة.
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أيّ والذِّين يؤمنون بالآخرة ويخافُون وعيد الله سبحانه وتعالى، يؤمنون بهذا الكتاب الذِّي أنزلناه مبارَكٌ سواء ًكانوا من المُشركين أو كانوا من الأمم السابقة. فالمؤمن الحقيقيّ بموسى عليه الصَّلاة والسلام، وبعيسى هو بالضَّرورة مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم عندما تبلغُه الدَّعوة لأنَّ التَّوراة فيها نصٌّ على محمد عليه الصَّلاة والسلام وعلى رسالته.
/ قال الله (وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ) لاحظوا أيُّها الإخوة كيف أشار إلى مسألتين:
 أوَّلا: الإيمان بالآخرة قال (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِه) لماذا ذكر الله سبحانه وتعالى الآخرة هنا؟
 الجواب: للإشارة إلى أنَّ الإيمان باليوم الآخر هو الذِّي يَدفَعُ إلى الإيمان، وإلى العمل لأنَّه يوم الحساب، ويوم الجزاء وهذا شيءٌ طبيعي فالإنسان يخاف دائمًا من الاختبار، ويخاف من الجزاء، ويخاف من الحساب ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة -ونكررها دائمًا- (مالكِ يوم الدين) هذه الآية تجعل يوم القيامة دائماً نُصب عينيك فهُو حسابٌ دائم (مالكِ يوم الدِّين) حتى تشعر في كُلِّ ركعة أنَّ وراءك يومٌ اسمه يوم الدِّين .. يوم الحساب .. يوم الجَزاء ولذلك حاسِب. فكذلك هنا قال (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) لأنّهم يتذكَّرون هذا اليوم، وبالتالي يدفعُهم هذا التَّذكُر دائمًا إلى الإيمان والتَّصديق والعمل.
ولذلك تأمَّلوا في قوله سبحانه وتعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴿١﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿٢﴾ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿٣﴾ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ﴿٤﴾ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿٥﴾ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿٦﴾) فذكَّرهم بيومِ الحساب حتى ينتبهَ الإنسان، حتى في معاملاتك المالية والميزان يذكِّرُك باليوم الآخر مباشرةً.
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ) فذكَرَ لك الإيمان باليوم الآخر وهذا عملٌ قلبي، وذكرّ لكَ أمراً عَمَليٍّا (وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ) وعبَّر بالفعل المضارع الذِّي يَدُلّ على التَّجدد فُكلَّما أقيمت الصلاة تُصلي. ولذلك جاء التعبير بقوله (يُحَافِظُونَ) وفي هذا تلازمٌ بين أعمالِ القلوب والإيمان بالغَيب وبين العمل،ليس في الإسلام إيمان بالقَول دون العمل وإنَّما لا بُدّ أن يصحبَ الإيمان عمل من صلاة، صدقة، حج، صيام، يراها الإنسان ويحافظ عليها.
 / ثم يقول سبحانه وتعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) الآية عامَّة أي أنَّه يقول ليس هناك أحدٌ أشدُّ ظُلمًا ممن كَذَبَ على الله (افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا) بمعنى أن يقول إنَّ الله قال كذا وهو لم يقل، أو يحرِّف معاني كلام الله، أو يُفسِّر كلام الله بغير علم فيكونُ ممَّن افترى على الله كذبًا. فهذا لا أظلم منه.
 (أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) الذِّي يدَّعي النُّبوة ويقول إن الله يُوحي إليّ كما فعل مُسيلمة الكذَّاب وكما فعل الأسود العنسي وأمثالهم ممن ادّعوا النبوة، هذا أيضا من أشد الناس ظلمًا وبالتالي من أشَدِّ النَّاس عقابًا.
 قال الله (أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ)
بعضُ المفسِّرين: يذكُر أنَّ هذه الآية نزلت في أشخاصٍ بأعيانهم، فيقولون أنَّ قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا) نزلت فيمن كان يدَّعي أنَّه نزل عليه وحي، ويقولُ كلامًا على أنَّه وحي من الله مثل مسيلمة وغيره.
 (أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) مثلَ مسيلمة الكذَّاب، والأسود العنسي، وقد كانُوا في عهد النبي واحدٌ في اليمامة، وواحدٌ في اليمن.
 (وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) يقال إنَّ المقصود بها عبد الله بن أبي سَرح فقد كان يكتب الوحي للنَّبي صلى الله عليه وسلم وكان يبدِّل في الآيات فإذا قال الله (حكيمٌ عليم) يكتب (غفورٌ رحيم) ولا يؤنَّب على ذلك، فوقع في نفسه وقال أنَا يمكنني أن أغيِّرَ بهذا الشَّكل ما أشاء فارتدَّ عن الإسلام وأهدر النَّبي صلى الله عليه وسلم دمَه، ثُمَّ أسلم بعد ذلك وحسُنَ إسلامه، وكان من أقارب عثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين. فقيل أنَّه هو المقصود بقوله (وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ) يقول أنا أستطيع أنِّي أكتب ولا أحد ينتبه لي. الرسول يقول (غفور رحيم) وأنا أكتب (عزيز حكيم) وليس هناك من يُصحِّح لي.
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا النبي (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)
ولو ترَ يا محمَّد إذ الظَّالمون، (ولو تَرَ) يأتي التَّعبير هنا للإشارة إلى العُموم وهذا تصويرٌ لحالهم، فيأتي التَّصوير هنا بالفعل المضارع ثُمّ ينقُل لك المشهد كأنك تراه فيقول الله ولو تر يا محمد إذ الظَّالمون في غَمَراتِ الموت أيّ في سَكراتِ الموت، وسمى الله سكرات الموت (غمَرات) والغمرات في اللُّغة هي الشَّدائد مأخوذة من الغَمر، والغمرُ خاصٌّ بالماء والمَائعات أنها إذا غُمِرت بالماء يقال هذه مغمورة يعني كأنها قد غطاها الضَّلال كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الذاريات (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ) وقال الله في سورة المؤمنون (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا) فالمقصود بالغَمرة أيّ كأنَّ القُلُوب والنُّفُوس مغمورة في هذا الضَّلال غَمرًا، كأنَّها مغمورة في الماء، والعَرب تُسمي شدَّة الحَرب (الغَمَرات)
 ولا يُنجِي من الغَمراتِ إلاَّ ** بُــرَكَاءُ القِتالِ أو الفِرار
 فإذا اشتَّدت المعركة سُمِّيت (غَمَرات) يعني تَغمُر الإنسان بشدتها.
فالله يقول لو ترى هؤلاء المشركين في سكرات الموت -في غمرات الموت- (وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ) باسطوا أيديهم بالعذابِ لهُم (أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ) يقول لهم الملائكة -على سبيل الشِّدة والقسوة- (أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ) ثم سكت ولم يذكر الجواب، معنى الكلام (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ) لرأيت َأمرًا عظيمًا - هذا تقدير الكلام- لكنَّه حُذِفَ الجَوَاب للإشارة إلى عَظمَته، وحتى يذهَب الذِّهنُ في تَصوُّره كُلّ مذهب، وهذا أسلوبٌ مُتكرر في القرآن الكريم أن يُحذَف جواب (لو).
/ ثم يقول الله (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)
أيّ يوم القيامة ويوم الحساب تُجزون أيُّها المكذبون (عَذَابَ الْهُونِ) وعذابَ الهُون المقصود به عذابَ الخزي فالهُون إذا ضُمَّت هاؤه فالمقصود به عذاب الهَوان والخزي، وأما إذا فُتحت هاؤُه (الهَون) فالمقصود به الرِّفق (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) أيّ يَمشون بِرفق وتَواضُع.
 قال الله (بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ) كنتم تنسبون أنَّ الله له شريك وكنتم تنسبون إليه الولد، وكنتم تنسبون إليه ما لا يليق به فهذا هو جزاؤكم وهذا هو عَذابكم. (وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي تَكفرون بالله سبحانه وتعالى استكبارًا وعنادًا.

 ثم يذكر اللهَ مشهدًا آخرَ من مشاهد هؤلاء المُشركين يوم القيامة فيقول (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى) أيّ يوم القيامة. يوم القيامة كُلُّنا نأتي فُراداً (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) وهذا يدعو الواحد إلى المحاسبة الشديدة لنفسه (حاسِبُوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبُوا).
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهذا هو حالُنا إذا ماتَ الواحد منَّا دُفِنَ بمفرده، وبُعِثَ بمفرده، وحُوسِبَ بمفرده فالله تعالى يقول (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى) أيّ مُنفردِين كُلّ واحدٍ لوحده (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ) أيّ ما رزقناكم، وأعطيناكم من الأبناء، والأموال، والدُّنيا تتركُونها خلفَ ظُهوركم.
(وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ومَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ) أنتم أيُّها المشركون الذِّين عبدتم هذه الأصنام والكواكب أين هُم هؤلاء الأصنام؟ ماذا سينفعونكم به في هذا الموقف؟ قال (ومَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ) لأنَّهم كانوا يعتبِرُون الأصنام شفعاءَ لهم لذلك قالوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
(الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء) أنتم كنتم تدَّعُون أننا لا نستحق العبادة وإنما تعبدون هذه الأصنام وتُشركونها معي في العبادة فيقول (لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) ولا شَكّ أنّ هذه من مواقف الحسرة والنَّدامة التِّي يَقفُها الكُفّار يوم القيامة أنّه جَلّ جلاله يأتي بهم فلا يجدون الأصنام ،ولا توجد الآلهة التِّي كانوا يعبدونها فلا تنفعُهُم يوم القيامة (فيُبلِسُون) ويَعتَبرون هذا من مَواقف النَّدامة التي يَعضُّون فيها أصابع النَّدم، ولاتَ ساعةَ مَندم.  فيقول (لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْـــنَــكُمْ) ما كان بينكم وبين الأصنام من عَلاقات، وعبادة، ونُذور،وسجود تقطَّعت ولذلك قال (لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْـــنَــكُمْ) العلاقة التي بينكم تقطعت الأَواصر فيها. وفي قراءة أخرى (لقد تَقطَّعَ بيــنُــكم) أيّ وصْلُكم نفسُه قد انقطع. (وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) ضلَّ عنكم بِمعنى غابَ عنكم وخَذلَكم أحوج ما تكونون إليه.

/ ثم يَذكُرُ الله سبحانه وتعالى آياتِه في خَلقِه وسورةُ الأنعام أيُّها الإخوة -كما قُلتُ لكم- مَليئةٌ بالحُجَج، الله سبحانه وتعالى يَحتَجُّ على أُلوهيته،ويحتَجُّ على رُبــُوبيَّته،وأنَّه الخَالِق سُبحانه وتعالى فيقول :
 (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) الآن هذه الآلهة التي ضلَّت عنكم في الآخرة لا تَنفَع، ولا تَضُّر، ولا تُغنِي عنكُم من الله شيئًا، تعالوا الآن عندي أنا .. أنا الله سبحانه وتعالى وانظُروا كيفَ خَلَقتُ، وكيفَ رَزقتُ، وكيفَ أنشأتُ ولذلك يقول في سورة لقمان بعد أن يُعدِّد مخلوقاته (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) لا يُوجد. فيقول هنا (إنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) الحَبّ مثل (القمح، والشَّعير، والبُرّ) والنَّوى مثل نوى الزَّيتون والتَّمر ونحوه.
 يقول تعالى (إنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) وفلقُ الحبِّ هو سبب نُمُوِّه لأنَّك إذا وضَعت الحبّ في التراب فإنَّها تَنفلق ويَنمو.
(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ويبدأ الآن يستَدلّ عليهم، وكُلّ هذه الأشياء التِّي يُعَدِّدُها الله سبحانه تعالى،لا يَملكُ هؤلاء المُكذِّبُون إلاَّ أن يقولوا حقّاً .. حقًّا وإن لم يَقُولُوها بألسنتهم فإنَّهم يقولونها بِلسانِ الحَال. فالله سبحانه وتعالى يقول: (إنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) هل هذه الأصنام تفعل ذلك؟ الجواب: لا.
 (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) مثل ماذا؟
ج: الدجاجة من البيضة.
الشيخ : صحيح. وكلامُ المُفسِّرين يدور كثيرا حول هذا.
ما رأيكم في أمر أوضح من هذا؟
ج: يخرج المؤمن من الكافر.
الشيخ: هذه ستكون ليست حقيقية وإنما محازية عندمت تقول المُؤمن من الكافر.
 - ما رأيكم في ناقة صالح عليه السلام كيف خرجت؟ من حَجر ميِّت صَلْت وخرَجَت منه ناقة عظيمة.
- وحيَّة موسى عليه السلام كانت عَصى وخرجت منها حيّةٌ تسعى.
- وكذلك كما يقال كبش إبراهيم عندما فَدى الله به - وإن كان قيل أنَّه نزل من السماء.
 لكن مثل هذه أمثلة تَصلُح أن تكونَ إخراجاً للحيّ من الميت  -فعلاً- الذِّي لا شَكَّ فيه، هذا حَجَر وخرجت منه ناقة وهذه عصى خرجَت منه حيَّة.
 أمَّا (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيّ) مثل ماذا؟ الميِّت من الحيّ يكون الوالد أو الوالدة حيّة ويخرج منها ميِّت. .....
المُهم أنّ صُورُها كثيرة وأمثلتُها كثيرة وأيّ مثال تجدونه في كُتُب التَّفسير فهذا من باب التَّفسير بالمِثَال يعني البعض يقول: البيضة والدَّجاجة .. والدَّجاجة والبيضة، والبعض يقول هذه الأمثلة التي ذكرتها لكم وهذه كلها أمثلة. لكن الفكرة واضحة: أنّ الله يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحي لا أحد يفعل ذلك غير الله سبحانه وتعالى هو الخـــــالــــق ولذلك عندما جاءَ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام يحتَّج على النَّمرود في سورة البقرة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ) وذكرنا في المجالس الماضية أنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام كان إمامًا في الاحتجاج والمجادلة عن دينه، وتوحيد الألوهية، وتقرير النَّاس به فحاجَّهُ المَلِك. فقال الله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ) يعني هذه نهاية النِّعمة لأنَّ الله قد آتاه الملك يُحاجج في الله هل الله يستحق العبادة أو لا يستحق!. قال الله (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ) أيّ الحياة الحقيقية والإماتة الحقيقية (قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ) إبراهيم عليه الصَّلاة والسلام مُجادِلٌ فَطِن ما أراد أن يدخل معه في نِقاشَات عقيمة لأنَّ المَلِك يقول (أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ) فأحيِّي واحداً كان محكومًا عليه بالإعدام -السجن- فأُطلق سَراحَه من السِّجن فأنا بذلك قد أحييته. وواحداً ليس له ذنبٌ أَقتُله فأنا بذلك قد أمَـــتُّه السؤال هنا: هل هذا المعنى يُعتبَرُ إماتةً وإحياء ؟. الجواب: بل هذه سفسطة. لكنَّ ابراهيم عليه الصَّلاةُ والسَّلام ما أراد أن يدخل معهُ في جِدال فقال سلَّمنا لك أنَّك تُحيي وتُميت إذاً (فإن الله يأتي بالشَّمس من المشرق فأتِ بها من المغرب) والجواب يجب أن يكون سريعًا (فبُهتَ الذِّي كَفَر).
وهذه فائدة في المُجادلة: أنه إذا كانَ خصمُك عنده شبهة دليل كما في هذا القول (قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ) قد تمشي على بعض الناس فيقول: فعلاً هذا كان محكومٌ عليه بالقتل فأعتَقَهُ فهذا إحياء فيمكن أن نُسميِّ هذا شبهة دليل اُتركُه فوراً وانتقل إلى دليل وحُجّة أقوى، لا تُضيِّع وقتك.
 قال هنا (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) هذه الآية -وستأتينا حُجج أخرى- كُلُّها احتجاجٌ بالرُّبوبية على الألوهية، كيف؟ يعني الله الذي فَلقَ الإصباح، وفَلَقَ الحبَّ والنَّوى وأنتم تعرفون الزِّراعة، يُخرِجُ الحيَّ من الميت ويخرجُ الميِّت من الحيّ وترونها يوميًا .. الذي يُولَد والذِّي يموت.
 (ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أين تُصرَفون عن هذا الحقّ الواضح البيِّن؟! (أنّى) بمعنى أين، (تؤفكون) بمعني تُصرفون وتُقلَبُون عن هذه الأدِّلة الوَاضحة الظَّاهرة، وتجحدون استحقاق الله سبحانه وتعالى للألوهية. فما دامَ هو الذِّي يَخلُق وهو القَادر فهو أحقُّ بالإفراد بالعبادة.
وإلى هنا ينتهي مجلسنا ولعلنا نكمل في المجلس القادم بإذن الله تعالى وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد.
 فائدة: عبد الله بن أبي السَرح هُذا من بني أمية، وهو قد ارتدّ عن الإسلام ثم أسلم بعد ذلك، وقد كان قائدَ معركة (ذات الصَّواري) في عهد عثمان بن عفان في حدود عام 25 أو 27 هجرياً.
 المجلس الرابع:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم.الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرًا. نبدأ مَجلسنا، ونستأنف ما كُنا قد وقفنا عنده، وقد وقفنا عند قوله (إنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)
 المَقطع الأوّل (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)
 بسم الله الرَّحمن الرحيم
 هذه -أيها الإخوة- احتجاجاتٌ بالرُّبوبية على الأُلوهية، الله سبحانه وتعالى ذكـَرَ لنا هؤلاء المُشركين، وكيف أنَّهم كانُوا يعبُدون هذه الأصنام وهذه الآلهة ثُمَّ جاء يوم القيامة فخذَلتهُم هذه الآلهة ولم يَجدوا منها أيَّ مساعدةٍ، ولا عونٍ، ولا وُجود.
 ثُمَّ بعد ذلك الله تعالى يَنقُل النَّبي ويَنقُلُنا معه إلى أَدِّلة أُلوهية الله سبحانه وتعالى وهو الله الذِّي يَستحِقُّ العبادة وحده لا شريك له:
/ فيقول (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) ولاحظُوا الأدلة كيف يستدِلُّ اللهُ بأشياءَ يعرفُها كُلُّ النَّاس،فالمُزارع يعرفُها،والمُشاهد الذِّي يشاهد النجوم يعرفها،والذي يسير في الأرض كذلك يعرفها فليست الأدلة التي يَستدِّلُ بها الله على أُلوهيته أدلةٌ دقيقةٌ لا يعرفها إلا قِلَّة من المتخصِّصين ومن الباحثين، ومن طلبة العلم وإنَّما يقول (إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) هذا أمرٌ يُشاهدُه كُلُّ مُزارع، فالله الذِّي يَفلُق الحبَّة فتنبُت بإذن الله ولذلك قال الله (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ *لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) فَدوُرُك أيَّها المُزارع إنَّما هُو سبب، تُلقِي البَذرة في التُّراب والله يُنبتها بإذن الله. ولو شاء الله لجَعلَها لا تنبُت.
 ثم يقول الله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فَالِقُ الإِصْبَاحِ) لاحظوا كيف عبَّر عن خُروجِ الفَجر من الليل كأنَّه (فَلَق) يحصُل في ظُلمة اللَّيل،هذا تصويرٌ رائعٌ جدًا لِخُروج الفَجر فيقول الله (فَالِقُ الإِصْبَاحِ) وقرأ الحَسن البصري (فالقُ الأَصباح) جمعُ (صُبْح) والإصباح المصدر (أصبحَ، يُصبِحُ، إصباحًا) فيشير إلى بُزُوغ الفجر قال الله (فَالِقُ الإِصْبَاحِ) هذا هو الله.
 (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) وهذه من نِعم الله سبحانه وتعالى أنَّه جَعَلَ اللَّيل تسكُن فيه المخلوقات، أو كُلُّ المخلوقات إلا قليلاً من المخلوقات التي تَدِبّ في اللَّيل. لكنَّ الله قد جَعل اللَّيل سَكنًا للمخلوقات تسكُن فيه، وقال في سورة النَّبأ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا).
  قال (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) فجَعل الله سبحانه وتعالى الشَّمس والقَمر حُسبَانًا، فكأنَّ هذا ردٌّ على مَن اتَّخذها آلهة من دُون الله يعبدونها من قَومِ إبراهيم - كما تقدَّم معنا - كانوا يعبدون الشَّمس، ويعبدون القمر من دون الله سبحانه وتعالى. وكان هذا صنيعُ بعض النَّاس في زمان سليمان كما في قصة الهُدهد عندما قال (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ) فيقول الله (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) أي أن الله سبحانه وتعالى جعل من فوائد الشمس والقمر أنَّها تستخدم للحساب، (حسبانًا) أي تكونُ وسيلةً لضَبط حسابِ أيام النَّاس، ومواسم الناس وهي كذلك إلى اليوم فنحن نمشي الآن في تواريخنا الهجرية بطلوعِ القمر ومنازل القَمر والشمس ...الخ
(ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أيّ كُلُّ هذه المخلوقات خروجُ الفَجر وقُدوم اللَّيل والشمس والقمر وهي فالليل مرتبطٌ بالقمر، والنَّهار مرتبطٌ بالشَّمس فيقول (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) سبحانه وتعالى إشارة إلى دِقَّة خَلقِه سبحانه وتعالى، ولذلك إذا قَامت القيامة يكون من علامات القيامة أن تفقد هذه الأجرام السماوية الضخمة تفقد انضباطها وانتظامها. وذكر الله تعالى كيف تكون في آيات كثيرة من القرآن الكريم فقال جَلَّ جلاله:
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ) انكدرت بمعنى تفرّقت.
وقال (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ) كُلُّ هذا إشارةٌ إلى قيام القيامة.
 أمَّا قبل القيامة فهي مُنتظمةٌ تسيرُ بحسبان دقيق لا تتقدَّم ولا تتأخَّر. وهذا من تقدير العزيز العليم. ولاحظوا كيف أنَّه عبَّر بِهَذَين الاسمين (العَزيز، العليم) العزيز لأنَّ هَذه المسألة تحتاج إلى قُوّة والعزيز هو القَويٌّ الغالِب سبحانه وتعالى. والعِلم والإحاطة أيضًا هي من مستلزمات القُوّة والمُلك فوصَفَ الله بها نفسه في هذه الآية.
 ثم قال الله سبحانه وتعالى يَصِف نفسه- اُنظُروا سبحان الله العظيم إلى الأوصاف- قارن بين الأصنام، وإمكانيات الأصنام التِّي يعبُدُها هؤلاء، وبين صفات الله سبحانه وتعالى جلّ وعلا، وكُلّ ما يذكُرُه حقٌّ كُلُنا نؤمنُ به ونُقرُّ به.
 ثم يقول (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يُقرِّر هؤلاء المُشركين بأَمر هُم في أمسّ الحاجة إليه ويعرفونه، ويعيشون عليه،وهو أنَّهم يَهتدون بهذه النُّجوم في السَّماء فيقولُ هو الذِّي خَلقَها لكم(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) انظروا حتى من فَضله سبحانه وتعالى وإقامة حُجَّته أنَّه يقول (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) فقدَّمَها امتنانًا عليهم قال (النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعني قد وضَّحنا الآيات، وفصَّلناها بالتفصيل لقوم يعلمون، إمَّا أن تكون لقوم يَعلمون، فيَصِفُهُم بأنَّهم فِعلًا يعلمُون كُل هذه الحقائق ولكنَّهم يَجحدونها، وإمَّا أن تكون فيها حثٌّ على العلم بهذه الأمور لتكُونَ زادًا للإيمان ومُعينًا عليه.
 ثم يقول الله (وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهو آدم عليه الصَّلاةُ والسَّلام. (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) ما أكثر كلام المفسرين في المقصود (بالمُستقر) (والمستودع) :
 بعضهم يقول المُستقر هو أرحام النِّساء والمُستودع هو القبر لأنَّ المستقر هو الذِّي يَستقر فيه مؤقتًا، والمُستودع الذي يُستودع فيه أيضا لكن مُدةٌ أطول. وكُلُّ الأمثلة التي تُذكَر فهي من باب الأمثلة، القبر والرَّحم أو ما شابه ذلك. لكن المقصود بها أنَّ الله سبحانه وتعالى قد خَلَقنا من أبٍ واحد، وقد قدَّر الله سبحانه وتعالى كُلّ هذه المخلوقات فلكلِّ واحدٍ منّا مكان يَستقِرُّ فيه في رحم أمه، ويتنقل فيه، وقبرٌ يُستودَعُ فيه ونحو ذلك. وفيها روايات كثيرة عن السَّلف لكن هذه خُلاصتها.
ثُمَّ يقول الله (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أي نحن نفصِّل الآيات لك يا محمد، ونفصِّل الآيات في هذا الكتاب، وهذه الحجج ( لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) أيّ يفهمون ويعقِلُون عن الله سبحانه وتعالى حُجُجَهُ، وفي هذا مَدحٌ للفِقه وأنَّهُ هو الذِّي يُعيِنُكَ -بإذن الله تعالى- على زيادة الإيمان والطمأنينة.
 ثم يقول أيضًا في وصَف نفسه (وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء) المطر، لا يُنزِل المطر إلا الله، (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا) الخَضِر هو: النَّباتُ الأخضر الذِّي لا سَاقَ له مثل بداية القمح، أوالشعير فإنها تَخضَرُّ منها الأرض، وتنبُت شيئًا فشيئًا، فهذا هو الخَضِر يقول الله (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا) لاحظوا الآن حبَّةَ القمح عندما تزرَعُها فتنبُت .. تنبت بشكلٍ أخضر صغير، ثم تنبُت لها السُّنبلة، والسُّنبلة يكون فيها بدلُ الحبَّة أضعافًا كثيرة فسمَّاه الله (حَبًّا مُّتَرَاكِبًا) كما قال (فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ) وبعضُ السَّنابل أكثر من مائة حبة بحسب المزروعات قال (مُّتَرَاكِبًا)
(وَمِنَ النَّخْلِ) أيضاً يمتنُّ الله علينا بما أَنبته لنا من النَّخل (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ) وأخرجنا أيضًا النَّخل (وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) يقول تعالى: أنا جعلتُ لكُم النَّخيل والنَّخيل أنواع. القِنوان هو: عِذقُ البَلح (ومِن طَلْعِهَا) أيّ من ثمرتها (قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) عُذُوق من التَّمر الدَّاني الذِّي يُمكن أن تَنالَه بسهولة وهذا بعض أنواع النخيل تكون قصيرة وليست طويلة. (قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ) والجنَّات في اللُّغة هي البَساتين سُمِّيَت البساتين جنَّات لأنَّ الذي يَدخل داخلَها يختفي عن الأنظار، وتذكرون قلنا في قوله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أيّ ستَره بِظَلامِه، وكذلك سُمِّيَت البساتين جنَّة لأنَّ الذِّي يدخُل دَاخِلَها يختفي عن الأنظار، سُمِّيت جنَّة. (وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ) أيّ العنب المعروف. (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) ذكَرَ الله هذه الثِّمار بالذَّات قالوا لفضلها الزَّيتون والرُّمَان والعِنَب.
 ثم قال (مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ) مُشتبِه في شكله بحيث أنَّكَ إذا رأيتَ بعض الشَّجر أحياناً لا تُفَرِّق بين هذه وهذه للاشتباه في وَرَقِهَا مثلًا أو في شَكلها العام هذا هو المَقصود بالمُشتبه، وغير المتشابه في ثمره مختلف، ولذلك حتى الشَّجرة الواحدة أحيانًا تختلف في ثمرها لاختلاف الماء وأحيانًا تختلف في ثمرها مع اتِّحاد الماء أيضا فهذا كُلُّه من عظمة الخالق سبحانه وتعالى، والذي يقرأ منكم -وأنا أنصحكم بذلك- يقرأ في كُتُب النَّباتات ويقرأ في كتُب الأحياء الدَّقيقة ويقرأ في كتُب خَلقِ الإنسان وتطوُّرِه يُذهَل من هذه التَّفاصيل،ومن هذه الحَقائق العلمية التي وجَدَها العلماء والباحثون وكُلُّها تَدلُّ دَلالةً قاطِعة على أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الواحد الخالق القادر المستحق وحده للعبادة. هذه الأمثلة التي يَذكرها الله لنا هي أمثلة فقط، لكنَّنا نحن نُدركُ منها بِقدر عُلُومنا.
 فنحن عندما نقول (إنَّ الله فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) نحن نعرف أنَّك إذا ألقيتَ الحبَّة تَنفَلق وتنبُت لكن ما رأيكَ لو تتَّبعت كيف تَنفَلِق هذه الحبَّة، ثُّمَّ عَلمتَ لو أنَّ درجة الحرارة التِّي أُلقيت فيها هذه الحبَّة تزيدُ قليلًا أو تَنقُص قليلًا ما نبتت هذه الحبة، وإذا علمتَ أنَّ الموسم أيضاً إذا فاتً فإنَّها لا تنبُت.
ما رأيكُم في أمرٍ هُو أشدُّ عجباً وهو: أنَّ النَّمل تَعرف هذه الحَقَائق فتأخُذ الحبَّة فتقسِمها قِسمين حتى لا تنبُت في المخزن. والشَّعيرة لو قسمَتها قسمين لَنبَتت فتقسمها أربعة أقسام. وحقائق مذهلة كُلّها تزيدُ الإنسان يقينًا بأن الله هو الخالقُ الواحد ولذلك يقول:
فيا عجبًا كيف يَعصي الإلهَ ** أم كيفَ يَجحدهُ الجاحدُ
وفي كُلِّ شيء له آية **  تَدُلَّ على أنَّه واحد
 ثم يقول تعالى هنا (انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) وهذه دعوةٌ – أيَّها الإخوة- إلى التَّفكر في هذه المَزروعات، صاحب النَّخيل المفروض أنه يتفكر في هذه النَّخلة فهو أعرف الناس بها، يعرف أنَّها إذا لم تٌقلَّم لن تَنبُت، إذا لم تُلقَّح لن تنبت، إذا لَم تُسقَ بطريقةٍ معينة لن تَنبُت، حتى إذا لم يجنَ الثَّمر بطريقة معينة يفسِدُها وهكذا، كُلُّ هذه الحقائق يَعرفها المُزارع. فمن أودع فيها هذه الخصائص؟ ومـــــن الـــــــذي يــحـــــفظها؟ لذلك عندما أراد َالإخوة الثلاثة أن يَمنعوا الفقراء في قصة أصحاب الجنَّة (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ* وَلَا يَسْتَثْنُون) فقال الله (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) طافَ أيّ جاءَها عذابٌ في اللَّيل وهم نائمون (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ . فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ) أنتُم خطَّطتم لتوفير أكبر كمية فذهبت كُلَّها.
فسبحان الله العظيم هذه الآيات لا تزيدُ الإنسان إلا إيمانًا بالله ويقينًا بأنَّه هو المُستحق للعبادة. وأنَّه الخالق، الرَّازق، المُعطي وتقارنها بهؤلاء الحَمقى المُغفَلِّين الذِّين يعبدون هذه الأصنام، لا مقارنة. ولذلك إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام عندما قال (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) .
ثُم تأتي عند خلقِ الله سبحانه وتعالى وانظر ماذا يقول: (اُنظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ) اليَنع أيّ (استوى) أينعت الثِّمار إذا استوت (إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) تَرجِع الصُّورة مرَّةً أُخرى إلى المُشركين الحَمقى والمُغفَّلِين فهي مرَّةٌ تذكٌر لك الأدلة، وتذكُر لك قُدرةُ الله، ثم تَرجع مرةً أخرى فتُصوِّر لك في الجانب الآخر ماذا يفعل هؤلاء المشركون. فيقول الله (وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء) "شركاء" مفعول به أوّل لأنَّ "جَعَلَ" تأخُذ مفعولين مثل (اتَّخذ وصيَّرَ وجَعَلَ) . وبالمناسبة النَّحو مُهمٌّ جدًا في فهم كتاب الله سبحانه وتعالى، النَّحو الذي يَدرُسُهُ أبناؤنا في الرَّابع والخامس ابتدائي ضروريٌّ جدًا، مُهمٌّ جدًا، القَواعدُ البسيطة مثلَ المرفوعات والمخفوضات هذه مُهمِّة جِدًا.
 فيقول الله (وَجَعَلُواْ لِلّهِ) أيّ وجَعلَ هؤلاءِ المُشركون لله شركاء، (الجِنَّ) مفعول به ثاني. فكأنَّ سَائِلًا سأل من هُم هؤلاء الشُّركاء؟ قال الجنّ. فَيصِحّ أن تُعرِبَها مفعولًا به ثاني، (وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء) ويكون (الجِنَّ) هُنا مفعولٌ به ثاني، ويجوز أن تقول (وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الجِنَّ) "الجنَّ" يكون بَدَل أيّ : وجعلُوا لله الجِنَّ آلهةً يعبدونُها وشركاءَ من دون الله. وهُناك من يعبُدُ الجنّ، ويستعيذ بهم كما ذكر الله في سورة الجن في قوله تعالى (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) فهناك من كان يعبدُ الجِنّ من دون الله سبحانه وتعالى.
 (وخَلَقَهُم) يعني يقول وجعلُوا لله شُركاءَ الجِنّ وهو الذِّي خَلَقَ الجنّ، فكيف تعبُدون المَخلوق دون الخالق؟!
(وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (خَرَقُواْ لَهُ) أيّ نَسبُوا له وزعموا أنّ الله سبحانه وتعالى له بناتٍ وبنين (وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) أيّ نسَبَ هؤلاء المشركون لله الوَلد، ونسبُوا له البَنات. وقالوا إنَّ الملائكة هُم بنات الله -تعالى الله عما يقولُ الظَّالمون عُلُواً كبيرًا- لذلك قال الله (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) أيّ عمَّا يقولُون ويَكذِبُون ويَختِلِقُون (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وكمَا مرَّ مَعنا (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) فَنفس المَعنى أيّ خالقهما ومُنشئهما على غيرِ مثالٍ سَابق.
(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) أي كيف يكونُ له ولدٌ (وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ) أي ولم تكن له زوجة، لأنَّه لا يكونُ الوَلد إلاّ من زوجة.
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ولاحظوا هذا الجهل العظيم الذِّي كان مُطبقًا على هؤلاء الكافرين المشركين كيف يَنسِبُون لله سبحانه وتعالى الوَلد، وينسبون له البَنات، ويعبُدُون معه الأصنام، وهو الذِّي يُقرِّر لهُم هذه الحقائق في الكون ويعرفُونها ويعرفُون أنَّ الله هو الخَالق وهو الرَّازق (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) فهُم لَديهِم هذا.
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ) -سبحانه وتعالى- نعم هُو ربــُّنا وهذه الآيات التي ذكرها الله يَستحِقُّ فاعِلها أن يُعبَد فإنَّ الله فالقُ الحبِّ والنَّوى والخَالِق والرَّازق هَذه كُلُّها تَدعو إلى عِبادته سبحانه وتعالى وتوحيد فيقول جلّ وعلا: في قوله تعالى (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
- مداخلة من أحد الإخوة ....
الشيخ: ..... صدقت،نعم لكنه كمَا ذكَر الله سبحانه وتعالى عن مريم عليها السلام أنَّه عندما قال لها جبريل (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) فقالت (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) فهذا استقر في أذهان النَّاس أنّ المرأة لا تَحمل إلا من زوج، ولا يُخلَق الابن إلا من قانون الزوجية في الحياة، فالله سَبحانه وتعالى يَحتج عليهم من جِنس ما يعرفونه ويفهمون فهم يقولون لله ولد ولله بنات فيقول الله سبحانه وتعالى أينَ عقولكم، من أين يكونَ لله ولد ولم تكن له صاحبة، فهذا احتجاجٌ عليهم من جنس ما يعرفُون، ويعقِلون، ويعلمون وهذه حُجَّةٌ صحيحة فيها نفيٌّ لاتخاذه صاحبة من جهة، ونفيٌ لقولهم من جِهة.
ثم يقول الله في الآية التي تليها (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ ) أيّ صَاحِبُ هذه الأوصاف، وصاحبُ هذه الكَمَالات، وصاحبُ هذه القُدرة هُو ربُّكُم الحقيقي الذي يستحق أن يُعبَد. ولاحظوا أنه يعبِّر فيقول (رَبُّكُمْ) والرَّب إذا جاء التَّعبيرُ به فهُو مُستصحِبٌ لمعنى التربية والرحمة والشَفقة واللُّطف فَكُلُّ هذه المَعاني تَدعو من يَستمع إليها إلى الإيمان به سبحانه وتعالى، كأنَّهُ وهو القاهِر القَادر الخَالق الذِّي فيه كُلُّ هذه الصِّفَات، وبالرَّغم من ذلك هُوَ رحيمٌ بكم فيقول (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ) توحيد (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) استدلال بالربوبية (فَاعْبُدُوهُ) يعني ما دامَ أنَّه هو خالقُ كُلِّ شَيء وهُو القَادِر وهو القَاهر فاعبدوه فهُو المُستحق للعبادة (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ*لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)
  ما معنى لا تُدركُه الأبصار؟ هل معناها لا تراهُ الأبصار؟ أو أنّ معناه لا تحيط به الأبصار؟
 الجواب: المقصود به: أي لا تُحيطُ به الأَبصار لأنَّ المُؤمنين في الآخرة يرَون ربهم كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة. ولذلك نحن نقول لا تدركه الأبصار أيّ لا تُحــيطُ به سبحانه وتعالى(وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) أيّ وهو محيط بها سبحانه وتعالى. 
(وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) واللَّطيف من اللُّطف: أيّ لُطف التَّأتي لما يُريده سبحانه وتعالى.
(قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ) هذه الأدلة، وهذه الحُجُج (بصائر) جمع بصيرة أيّ حُجَّة ظاهرة واضحة لِمَن أرادَ الله هدايته، فيقول (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ) أدلةٌ وحُجَج وبراهين واضحة (فَمن أبصرَ فلنفسه) يعني فَمن استجاب وأَبصر هذه الحقائق فلنفسه فخيرُهُ لنفسه، وبِرُّهُ لنفسه وإيمانُه لنفسه. لا ينتفع الله بإيمان المؤمن ولا يَضُّره معصية العاصي سبحانه وتعالى ولا يزيدُ في ملكه إيمانُ المؤمنين جميعًا، ولا يَنقُص من مُلكه كُفرُ الكافرين جميعًا سبحانه وتعالى. قال (وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا) فعلى نفسه. (وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ). (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يقول: يا مُحمَّد نحن نُصرِّف الآيات ونأتي بها على هذا الوجه، وعلى هذا الوجه لِكي يُؤمِن من أراد الله إيمانه وتقومُ الحُجَّة على من أراد الله تعذيبه، فَلا يعذَّب إلا وقد قامت عليه الحُجَّة، وسوف يقول الناس بالرَّغم من كُلّ هذا الذين كفروا بك من مشركي قريش ومن غيرهم ( دَرَسْتَ) مأخوذة من الدِّراسة ومعناها أن هذا الكلام الذِّي جئتَ به يا مُحمَّد أساطيرُ الأوَّلين أخَذتها من هنا وهناك، ودَرستها على فلان وفلان، ولذلك قال الله عنهم في سورة الفرقان (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) نفس المعنى. (وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ) هذا الكَلام الذِّي جِئتَ به يا محمّد أخذتَه من التَّوراة والإنجيل جمعتَه وسمَّيته قرآن. بالرَّغم من كُل هذه الحُجج سيقول لك النَّاس هذا الكلام. وفعلاً سبحان الله العظيم هَذه الحُجُج المَوجودة في سورة الأنعام وهذه الشُّبهات الموجودة قيلت للنَّبي، وقيلت لموسى، وعيسى وتقالُ اليوم.
 فاليوم:هناك أجناسٌ يكتبُون من المستشرقين ومن غيرهم ويقولون بأنَّ القرآن من عندِ محمد استفادَه مِن بعض عُلماء اليَهود الذِّين التقى بهم- ما شاء الله- مَن هم أصلا علماء اليهود يعرفون هذه الحقائق؟ لا يوجد، لا بَحيرى ولا ..، هم كبَّروا موضوع بَحيرى, يقولون النبَّي في رِحلته إلى الشَّام التقى راهباً يُسمَّى بَحيرى فجعلوا هذا اللِّقاء كأنَّه امتدَّ عشرين سنة -إن صَحَّ أنَّه لقيَه فهو لقاءٌ عابر- ماذا تأخذ وماذا تُبقي من لقاء عابر! قصير جِدَّاً . والنبي لم يُبعَث حِينها ولم يَخطر على باله أنَّه سيكونُ نبيِّاً قطّ لذلك قال (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا) ولذلك النبي فَزِع لمَّا جاءه جبريل أوَّلَ مرة، وذهب إلى خديجة رضوان الله عليها، وهو يرجُفُ فؤاده، ما كان يتشوَّف إلى نُبُّوة ولا ينتظرِهُا عليه الصَّلاة والسَّلام، فهؤلاء بالرَّغم مِن كُلّ ذلك يقولون أكيد أنَّك درستها هنا أو هناك.
(وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ودائِمًا أيُّها الإخوة أي حُجَّة تحتج بها، وأيّ دليل، وربَّما هذا الكلام الذِّي أقوله الآن في هذا المكان يستمع إليه رجل عنده شَكّ فيُؤمن، وربَّما يستمع إليه شخصٌ مُعاند فيزدادُ كُفرًا، وربَّما يستمع إليه رجلٌ مؤمن وامرأة مُؤمنة فيزيدَهُما طمأنينة وإيمانًا. فالله سبحانه وتعالى قال (وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) هم يعلمون ولكن نزيدهُ بـــيــانًـا.
 وهذا دليلٌ على أنَّه لا ينبغي للدَّاعية أن يَمَلّ من بيان الحقيقة، وإقامةِ الدَّلائل عليها، والتَّذكير بها وعَرضِها بأكثر من طريقة فهذه هي البضاعة التِّي لا ينبغي أن يَملَّ المؤمن والمعلِّم من عَرضِها وتَكرارها لأنَّها بضاعةٌ رابحة بإذن الله تعالى وهي: بيانُ هذا القرآن الكريم للنَّاس.
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى في آية عظيمة (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) ما أجمل هذا التوجيه، تعال يا مُحمَّد أنتَ نبيّ، ورسول، ولك مكانةٌ عظيمة و .. و....الخ وهذا الكتاب يُنزَل على النبي صلى الله عليه وسلم ويُنزَّل عليه وفيه احتجاج له، اُنظر ماذا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ يقول له: يا مُحمَّد اتَّبع ما أوحي إليك من ربِّك فقط، فلا تُغيِّر ولا تُبدِّل (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) فالنَّبي صلى الله عليه وسلم  دورُه دورُ المُتَّبِع فقط، يتَّبع ما يُتلَى عليه، وما يُوحَى إليه من ربِّه.
فيها فوائد:
أولًا: أنّ النَّبي وهو محمد عليه الصلاة والسَّلام أمره الله أن يتَّبع، ومن باب أولى أن يكون الخطاب مُتَّجهًا لأتباعه أيضًا،لا تَبتدع.
 وهَذه مُعضلة نُعانِي منها في حياة المسلمين اليوم يأتيك من يبتدع ويُضِيف أشياءَ كثيرة في الدين: يأتيك :
 ببِدَع في العِبَادة .. وبِدَع في الصَّلوات .. وبِدَع في المُناسبات .. وبِدَع في الأَذكار .. وبِدَع في الهَيئات ما أنزلَ الله بها من سُلطان، لم تَرِد عن النبي ولا عن الصحابة ، لا داعي لها. الله تعالى يقول (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) حسبُك. ونحن أيضًا نقول هذا لأنفسنا (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) لا تزيد، لِذلك لمَّا جاء رجُلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال له بعد أن بلَّغه عليه الصَّلاة والسَّلام بالفرائض. (والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقُص فقال أَفلَحَ إن صدق).
ثم يقول (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ) هذا الرب الذي أمرتُك باتِّباعه (لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ) لاحظوا كيف تكَرَّر هذه الكلمة (لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ).
(وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فالإعراض عن المُشركين معناه: أنَّهم سوف يُضايِقُونَكَ مضايقةً شديدة، ماذا تفعل؟
 الجواب: أعرض عنهم أنت مأمور بأن تَتَّبِع وتُبلِّغ، وإذا لم يستجيبوا فأَعرض. والإعراض -كما يقول المِصريُّون- أَرني عَرض أكتافك معناه (أعرض) أيّ لا تُعطيهم أيّ اهتمام أعرض عن المشركين. ولذلك انظروا كيف صوّر الله سبحانه وتعالى الرَّجل الذي يَكفُر بالنِّعمة بعد أن أعطاه الله النِّعمة (وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ) فانظر الكِبْر، انظر كيف يُصوِّر الصُّورة، (أعرَض وَنَأَى بِجَانِبِهِ). وفي آيةٍ أخرى قال الله (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ) أيّ كأنّه مُتجَاهل. فاللهُ تعالى يقول هُنا تَجاهَل هؤلاء المشركين، أعرض عنهم، لا يَهمُّونك.
وهذا فيه تثبيت لقلب النبي وهذه السُّورة سُورةُ الأنعام من أعظمِ السُّور التي وردت فيها التَّثبيتات للنَّبي صلى الله عليه وسلم لأنَّه كان في موقفٍ يحتاج فيه إلى الثَّبات. والمناظِر دائمًا - لو أتجادل مع أحدكم- فأنَا في أَمسِّ الحاجة للثَّبات، وهذا هُوَ دورُ المُشَّجعين دائمًا حتى في المسابقات -المُشَّجعين يُثبِّتُـــون المتسابقين- فالله سبحانه وتعالى يُثبِّت النبي في هذه السُّورة في مواضع كثيرة (أعرِض، اُثبُت، اِتَّبِع، قُل) كل هذا من التَّثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم.
 ثم يقول تعالى (وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ) لو أرادَ الله سبحانه وتعالى لآمن النَّاسُ كُلُّهم جميعًا .ولَمَا كان هناكَ مُشركٌ على وجهِ الأرض، وكان النَّاسُ أمَّةً واحدة، لكنَّ الله سبحانه وتعالى هو الحكيم العليم -حكمة إلهية- لا تقل لي لماذا؟ لكن أنت (اتَّبع) وفي آية أخرى قال (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) هذا أشَدُّ من الاتِّباع، الاتِّباع أنَّك هناك شيئ يَمشي وأنت تَتبَعُه، هذا الكِتاب وهذا الذِّكر وأنت تتبَعُه ، لكن (استمسك) كأنك غريق  الغريق بِطَوق النَّجاة. والنَّبي صلى الله عليه وسلم قال في حديثٍ صحيح (عليكُم بسنتي وسنَّة الخُلفَاء الرَّاشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ) لا يمكن أن تَعضّ على السُّنة بالنواجذ، ولكنَّه تصويرٌ لِشِدة التَّمسك حتى لا تميل يمينًا ولا يسارًا.
 ثم يقول الله (وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) هذا فيه تحديدٌ لوظيفة النَّبي صلى الله عليه وسلم  أنَّه مُجرَّد مُبلِّغ، أنت لستَ حفيظ .. لستَ رقيب، لا تُتعب نفسك حسرة عليهم  ولا تذهب نفسُكَ حسرات عليهم والنَّبي صلى الله عليه وسلم  كان من حِرصه على قومه يغضَب ويحزن عليه الصلاة والسلام لذلك قال تعالى (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) وقال (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ففيه إشارة إلى شِدَّة رحمته بقومه.
 / ثم يقولُ الله سبحانه وتعالى (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
 الله سبحانه وتعالى بعد أن بيَّنَ لنا ضلالَ هؤلاء، النُّفُوس مُتشَّوفة أنها تَسُبَّ هذه الآلهة التي تُعبد من دون الله - هذه الأصنام- وكان الصَّحابة رضي الله عنهم يفعلون ذلك فيسبُّون آلهة المشركين. فكان المشركون يسبُّون الله ،فذهبَ المشركون إلى أبي طالب وقالُوا له: كُفَّ عنا ابن أخيك وعن سبِّ آلهتنا وإلا فسوف نهجُو إلهَهُ. فأنزل الله هذه الآية العظيمة.
نحن الآن نَسُّب الأصنام فهذا مَشروع أن تُسبّ الأصنام، ولكن إذا كان سَبُّك للأصنام سيكونُ ذريعة إلى سَبّ الله تعالى فيَحرُم عليك سبّ الأصنام.وهذا رائعٌ جِدَّاً وهذه قاعدة مهمة في التَّعامل مع هذه المسائل: أنَّه إذا كانت الوسيلة التي تتَّبعها سوف تفتح عليك شرًا أعظم من الخَير الذي ترجوه فإنَّها تحرُم بذلك، فالوسائل لهَا أحكامُ المقاصِد.
 فقال (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا) أيّ ظُلمًا بغير علم (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) أي الله سبحانه وتعالى لإِصرارهم على الضَّلال زيَّن الله لهم أعمل لهم فأصبحوا يَرون في عبادة الأصنام وفي السُّجود لها أنَّها هي الحَقّ الذِّي لاشك فيه وهذا من الخُذلان والعياذ بالله.
/ قال الله (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) أقسم هؤلاء المشركون (لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ) أيّ آيةٌ باهرة مُقنعة، هم يقولون أنَّ هذه الآيات التِّي جئت بها يا محمد غير مقنعة لنا صراحة -أيّ القرآن وانشقاق القمر- غير مُقنعة لنا إلى حدّ الآن. طيب ماذا تريدون؟ قالوا نريد آيةً أعظم من هذا كله.
فيقول الله سبحانه وتعالى مُصوِّراً لحالهم (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) أيّ غاية وِسعهم، الجَهد هو الوِسع والطاقة كما قال الله (وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ ) جهدهم أيّ طاقتهم. 
قال الله (لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا) آية عظيمة. وهم يَكذِبُون في هذا فقال الله تعالى للنَّبي (قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ) أنا ليس لي علاقة إنَّما أنا مُجرَّد رسُول مُبلِّغ، وهذه الآيات جاءتني من الله سبحانه وتعالى (قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ) وما يُشعِرُكُم أيّ وما يُدريكم أنَّها إذا جاءت لا يؤمنون. قال المفسِّرون: أنَّ الخطاب في هذه الآية للمؤمنين لأنَّ بعض المؤمنين عندما سَمِعَ مثل هذا الكلام من المشركين قالوا يا رسول الله ما دامُوا أنَّهم أقسموا أنَّه لو جاءتهم آية أعظم من هذه سيُؤمنون فاسأل ربك بأن تأتيهم آية. ولذلك قال الله في سورة الإسراء (وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ (93))  كُلُّها تعجيز -إن صحَّ التعبير- لو أعطيناكم هذه كلها؟ لن يؤمنوا.
 فقال الله سبحانه وتعالى (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ) أيّ هل تعلمون أيُّها المؤمنون أنَّها إذا جاءت هذه الآيات فلن يُؤمنوا. لأنَّ هؤلاء لا يَطلبون شيئًا يُقنِعُهُم لِكَي يَقتنعوا وإنَّما هؤلاء مُكذِّبُون مُعانِدُون وقَد عَلم الله أنَّهم لن يُؤمنوا.
/ ثُمّ يقول الله سبحانه وتعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَـرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)
يقول الله لِعلمِنَا أنَّهم مُكذِّبين ومُعانِدين فَلن نَهديهُم إلى الحقّ.
 (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) فلا يهتدون (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) والعَمَه: أن ترَى بِبصَرك ولكنَّك لا تَرى ببَصيرتك. ولذلك يقولون: العَمَه للبصيرة كالعَمَى للبصر .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياَّكُم الإيمان به، وبكتابه وأن يفقهنا فيه، وأن يرزقنا العمل به، وأن يثبتنا على الحقّ حتى نلقاه. ونكتفي بهذا في هذا المجلس. ونَلقَاكُم إن شاء الله في المجلس القادم. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-----------------------------------
مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق