من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94))
إلى قوله : (
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (١١٣)) الآية
ـ فائدة النداء بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) :
/ التنبيه على أن امتثال ما ذُكر سواء أمراً أو نهيا من مقتضيات الإيمان ولهذا خوطب به المؤمن .
/ الدلالة على أن مخالفة هذا من مُنقصات الإيمان.
/ الإغراء والحث على الإقدام .
ـ قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)
نزلت هذه الآية في قوم خرجوا للجهاد فأصابوا قوما قالوا أسلمنا لكنهم لم يقولوها بهذا اللفظ بل قالوا "صبأنا" فظنوا أن معنى صبأنا أي بقينا صابئين غير مسلمين فقاتلوهم .
ـ الواجب إجراء الأحكام في الدنيا على ظاهر الحال لأننا لا نعلم ما في القلوب ، وأما في الآخرة فالأحكام تجري على ما في القلوب كما قال تعالى (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) وقال تعالى (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) ولهذا يجب على الإنسان أن يعتني بعمل القلب أكثر مما يعتني بعمل الجوارح لأن عمل الجوارح قد يدخلها الهوى،يتصنع الإنسان بعمله للدنيا لكسب الناس ، للجاه ، للمال ولغير هذا لكن عمل القلب لا يمكن أن يتصنع فيه الإنسان لأنه لا يقع إلا بإخلاص إذا كان صالحا .
ـ سمى الله متاع الدنيا بأنه عَرض لأنه يعرِض يزول والباقي هو ثواب الآخرة .
ـ الشكر ليس ثمنا للنِّعمة لأن الله لا ينتفع به ولكن العبد الشاكر هو الذي ينتفع به ، فنعمة الله عليك بتوفيقك للشكر نعمة عليك ، ولو شاء الله تعالى ما شكرت وفي هذا يقول الشاعر:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة *** عليّ في مثلها يجب الشُكرُ
فكيف بلوغ الشُكر إلا بفضله *** وإن طالت الأيام واتصل العمرُ
ـ فضيلة المؤمنين حيث يُخاطبهم الله عز وجل بما شاء من أحكامه ، ولاشك أن مخاطبة الله للإنسان بشخصه أو وصفه ، لاشك أنها شرف .
ـ الواجب علينا معاملة الخلق بالظاهر ولا نتعداه حتى وإن وُجدت قرائن تدل على خلاف ظاهره ، وقد وقع مثال تطبيقي لهذا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام فإن أسامة بن زيد رضي الله عنه وعن أبيه وهو حِبُ رسول الله عليه الصلاة والسلام أدرك رجلا من المشركين وقد لحِقه بالسيف ، فقال الرجل لما غشِيه أسامة وأدركه ، قال : لا إله إلا الله ، ولكن أسامة قتله ظانّا أنه قالها خوفا من القتل ولم يقلها من قلبه ، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل يقول :( أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ) جعل يكرر هذا حتى قال أسامة : تمنيت أني لم أكن أسلمت ، أي تمنيت أن يكون هذا حال كفري حتى أُسلِم فيُغفر لي ما قد سلف .
ـ التبيُّن بيان الشيء بعد التثبت .
ـ التحذير من الناس الذين يتهمون المسلمين بأن عملهم رياء ، بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ إذا كره شخصا وأُثني عليه عنده قال : هذا مُرائي ، فيكون بهذا القول وارثا للمنافقين لأن المنافقين هم الذين يلمِزون المطَّوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم .
ـ المجاهد هو: الذي بذل جُهدَهُ أي طاقته في إدراك ما يريد .
ـ (دَرَجَاتٍ مِّنْهُ) أُبهمت الدرجات في الآية لكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ) .
ـ (وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً): "مَغْفِرَةً" للذنوب ، وَ"رَحْمَةً" أي تيسيرا للمطلوب ، وباجتماع المغفرة والرحمة يزول المرهوب ويحصل المطلوب ، والرحمة فوق المغفرة ولهذا تأتي المغفرة سابقة للرحمة -في الغالب- لأنه كما يُقال: التخلية قبل التحلية .
ـ نفي التساوي بين الناس ، ودين الإسلام دين العدل لا دين المساواة وهو : إعطاء كل أحد ما يستحقه ، ولذلك تجد أكثر ما في القرآن نفي المساواة .
ـ القول بأن الإسلام دين مساواة قد ينبني عليه مبدأ خطير وهو :
/ تسوية الذكور مع الإناث وأن تفضيل الذكور على الإناث يُعتبر مُخالفا لدين الإسلام .
/ الاشتراكية ، تسوية الناس في الرزق ، فنأخذ من مال الغني نعطيه الفقير لأن الدين دين مساواة .
ـ أولو الضرر مساوون للمجاهدين ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك (إن في المدينة أقواما ما سِرتُم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم ، قالوا : كيف يارسول الله وهم في المدينة ؟ قال : وهم في المدينة حبسهم العُذر ) .
ـ يُقاس على ذلك كل من تخلف عن عبادة بعُذر ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من مرض أو سافر كُتِبَ له ما كان يعمل صحيحا مًقيما ) .
ـ حُسن الاحتراس في كلام الله عز وجل ، وجهه: أن الله لما ذكر فضل المجاهدين على القاعدين فربما يتوهم واهم نزول درجة القاعدين من المؤمنين ، فأزال الله هذا الوَهم بقوله : (وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى) ، وهذه طريقة القرآن .
/ مثال آخر مطابق لهذا: (لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) .
/ وأيضا قوله تعالى : (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) .
ـ عِظَمُ مِنّة الله تعالى على العباد حيث جعل إثابتهم على الأعمال مثل الأُجرة التي استحقها الإنسان فرضا على المستأجر لقوله (أَجْرًا عَظِيمًا) فسماهُ أجراً كأجرة الأجير مع أن الفضل لله أولاً وآخراً . هو الذي وفقك للعمل وهو الذي منَّ عليك بالجزاء عليه. ومما يؤيد هذا قوله تعالى (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) كتب الله على نفسه ، وهو سبحانه يُوجب على نفسه وعلى عباده ما شاء ولا أحد يعترض عليه .
ـ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) يبدو تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) وقوله (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)
والجواب عن هذا الظاهر أن يُقال:
نسب الله تعالى التَوفيَ إليه لأنه بأمره وما وقع بأمر الملِك فإنه كفعله حتى في عامة حديث الناس ، ولهذا يُقال بنى عمرو بن العاص مدينة الفسطاط وعمرو لم يبنِ وإنما أمرَ ، وأما الجمع بين كونه ذكر في هذه الآية وأمثالها بصيغة الجمع وفي آية السجدة بصورة الإفراد (مَّلَكُ الْمَوْتِ) فإما أن يُقال ملك الموت مفرد مضاف فيعُم ولا ينافي الجمع ، وهذا وجه ضعيف.
أو يُقال إن الملائكة تساعد مَلَكَ الموت كما جاء في الحديث الصحيح أنهم يأمرون الروح فتخرج من الجسد حتى إذا لم يبقَ إلا قبضُها تولى قبضها مَلَكُ الموت ، فإضافة التوفي إلى الملائكة بالجمع لأنهم أعوانٌ لملك الموت ، وإضافة التوفي إلى ملك الموت لأنه هو المُباشر لقبض الروح .
وهنا يرَِد إشكال : يُقال إننا نجد أنفُسا تُقبض في المشرق وفي المغرب وبينهما من المسافات ما لا يعلمه إلا الله عز وجل فكيف تقولون إن مَلَكَ الموت واحد ؟ وكيف يُتصور أن واحداً يقبض العديد من الناس في أماكن بعيدة متفرقة ؟
فيُقال : قد يكون المراد بملَك الموت جنس المَلَك أي المَلَك الموكل بقبض الأرواح وإن كان أكثر من واحد فيكون المُراد به الجنس لا العين . وهذا وجه ضعيف .
ويُجاب بوجه آخر : أن هذه من أمور الغيب والواجب علينا في أمور الغيب أن نُصدق وإن لم تدركها عقولنا ، وهذا أبلغ في التسليم لخبر الله عز وجل حتى لا نتمحل في الجواب ونقول إن مَلَكَ الموت يُراد به الجنس وهو أكثر من واحد فنقول إن الله على كل شيء قدير .ومَلَكُ الموت يقبضُ الأرواح وإن كانت متباعدة وإن كانت في آن واحد وعلينا أن نُصدق ونُسلِم .
ـ الملائكة أجسام تقبض الأرواح وتُخاطِب وتتكلم وكلامها مفهوم خلافا لمن يقول أن الملائكة هي القوى الخيرة وأن الشياطين هي القوى الشريرة فإن هذا قول باطل يُكذبه القرآن والسُنة والإجماع قال الله تعالى (جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ) ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح قد سدَّ الأُفُق فالصحيح الذي يجب علينا اعتقاده أن الملائكة أجسام وأنهم يقولون ويفعلون ويصعدون وينزلون بأمر الله عز وجل .
ـ العبرة في الأعمال بالخواتيم لقوله (ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي هم وقت الوفاة ظالمون لأنفسهم . ولهذا يجب على الإنسان أن يكون خائفا من سُوء الخاتمة وأن يسأل الله حسن الخاتمة وأن يموت وهو مُسلم . وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود بأن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ـ والمراد ذراع بالنسبة لِقُرب الأجل لا بالنسبة للعمل ـ يعني أنه يعمل حتى لا يبقى عليه إلا شيء يسير فيموت وليس المراد حتى ما يبقى بينه وبين الوصول إليها بعمله إلا ذراع لأن هذا الحديث مُقيد بالحديث الآخر (ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ) وأيضا لا يمكن أن الله سبحانه وتعالى يخذل عبدا قام بعبادته إلى أن يبقى عليه ذراع واحد ثم يخذله فيُسيءُ خاتمته ، هذا يُنافي كرم الله عز وجل ورحمة الله عز وجل .
ـ (فِيمَ كُنتُمْ) سياق الكلام يؤيد أن المُراد بالاستفهام عن المكان وكأنهم يقولون " كنا هنا لأننا مستضعفين " وقوله: (كُنَّامُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ) تؤيد الاستفهام عن حالهم .
ـ وجوب الهجرة وأن من لم يُهاجر يموت وقد ظلم نفسه , ولكن وجوب الهجرة مشروط بشروط:
/ منها القدرة لقوله تعالى هنا (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ) ولأن القاعدة العظيمة العامة العريضة العميقة في الشريعة الإسلامية أنه لا واجب مع العجز.
/ أن يكون الإنسان مغموصا ومغمورا بحيث لا يستطيع أن يؤدي شعائر دينه في بلاد الكُفر.
/ أن يجد مكانا خيرا من هذا المكان الذي هو فيه .
ـ إثبات اسمين من أسماء الله الحسنى وهما " العفوّ والغفور " والعفوّ هو: المتجاوز عن السيئات ، والغفور هو : الماحي لها . لكن إذا اجتمعا صار المراد بالـ "العفوّ " ما يُقابل ترك الواجب ، والـ " الغفور " ما يُقابل فعل المُحرم ، أي عفو عن التفريط في الواجب ، غفور عن فعل المحرم .
ـ كل اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة وليس كل صفة يُشتق منها اسم .
ـ من شرع في طلب العلم يريد بذلك ما يريده المخلصون في طلب العلم من حِفظِ الشريعة والدفاع عنها ونفع الخلق ثم أدركه الموت فإنه يُكتبُ له ما نوى .
ـ إذا أقام الإنسان في سفره في مكان فلا يلزمه الإتمام بل يبقى قاصرا لأن الله قال (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ) ولم يقل ما لم تمكثوا أربعة أيام أو عشرة أيام وما أشبه ذلك ، وبناء على ذلك لو سافر إلى بلد وأقام فيها شهرا فهو مسافر ، وذلك أن النصوص جاءت مطلقة غير مُقيدة ، وجاءت نصوص أُخرى إيجابية تدُل على عدم التقييد :
/ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقام عام الفتح في مكة تسعة عشر يوما يقصُر الصلاة ولم يقُل للناس أتموا ، وأقام في تبوك عشرين يوما يقصُر الصلاة ولم يقُل للناس أتموا .
/ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدِم مكة في حجة الوداع وهي آخر سفرة سافرها في اليوم الرابع من ذي الحجة ومكث فيها وهو يقصُر الصلاة ولم يقُل للناس من قَدِم قبل اليوم الرابع فليُتم أو من قَدِم قبل عشرة أيام فليُتم أو ما أشبه ذلك ، فعُلِم من هذا أنه لا حدّ للإقامة التي تقطع حكم السفر ، وهذا القول هو الذي اختاره شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ونصره بأدلة قوية ظاهرة ، ذكر ذلك في أول باب صلاة الجمعة في الفتاوى وفي مواضع كثيرة من كلامه ، ونصره نصرا عزيزا ، وهو جدير بالنصر ، لأن أي إنسان يُقيد بأربعة أيام أو بخمسة أو بأكثر أو بأقل يُقال له : أين الدليل ؟ . لو كان هذا القيد لازما لبيّنه الله في القرآن أو جاءت به السنة بيانا واضحا لأن هذا مما تتوافر الدواعي على نقله ، ومما يحتاج الناس إليه فكيف يُترك هملا بلا بيان .
ـ جواز كتابة القرآن وهذا أمر مُتفق عليه بين الأمة ، بل فد تكون كتابته واجبة . ولكن على أي وجه يُكتب ؟
/ أحسن ما يُكتب فيه أن يكون على الحرف العثماني . لكن هل يجوز أن يُكتب على غير هذا الوجه بالقواعد المعروفة عند الناس ، مثل الصلاة نكتبها بلام ألف وبعدها هاء ، والزكاة كذلك ، أو أن يكتبها على الخط العثماني ؟
/ للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال :
/ أنه يجب أن يُكتب بالخط العثماني وإن خالف القواعد العُرفية.
/ يجب أن يُكتب على القواعد العُرفية حتى لا يخفى على العامة لأن العامة لولا أنهم يتلقون كلمة " الزكاة " من أفواه العلماء بهذا اللفظ لنطقوا بها الزكوة وقِس على ذلك ، فيجب أن يُكتب بالقواعد العُرفية حتى لا يشتبه على الناس .
/ القول الثالث فيه تفصيل : إذا كان بقصد التعليم فيُكتب بالخط العُرفي لأنه أقرب ، وإذا كان للتلاوة بأن نكتبه لقوم يعرفون القرآن تلاوة يكون بالخط العثماني .
ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقع منه ذنب إلا ذنبا يُنافي مقتضى الرسالة مثل : الخيانة والكذب وما أشيه ذلك .
وقال بعض أهل العلم : إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يُذنب ، وأن المُراد بذنوبه ذنوب أمته ، أو أن المراد بذلك تعليمُه لتتعلم الأمة . ولكن هذا ليس بصحيح .
/ أما الأول فإن الله قال (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) والقرآن مُنَزه عن التكرار ، أي لو قلنا (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) أي عن ذنوب أمتك لكان قوله (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) تكراراً لا فائدة منه.
/ وأما كونه نبيا فلا يمكن أن يُذنب فنقول : إن الذنب إذا تلته التوبة فقد يكون الإنسان بعدها خيراً منه قبلها ، فهذا آدم عليه السلام كان من الأنبياء فأذنب فصارت منزلته وحاله بعد الذنب أكمل منها قبل الذنب لأن الله قال (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) .
نعم النبي عليه الصلاة والسلام معصوم من أن يُقرَّ على ذنب بخلاف غيره بمعنى أنه إذا أذنب فلا بد أن يستغفر بتنبيه الله له أو بتنبهِه هو أما غيره فليست له هذه الميزة ، وهذا يظهر به الفرق بين الأنبياء وغيرهم .
ـ ينبغي لمن استُفتي أن يُقدم بين يدي فتواه الاستغفار لأن الله قال (لِتَحْكُم) (وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ) ولأن الذنوب تحول بين الإنسان وبين معرفة الصواب .لاسيما إذا التبست عليه المسألة واشتبه عليه الحُكم فهو يدعو بذلك وكذلك يدعو بقوله (اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) .
ـ يؤخذ من قوله (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) النهي عن معاونة الآثم وهذا مطابق لقوله تعالى (وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
ـ أن الخائن لغيره خائن في الحقيقة لنفسه حيث أوقعها في المآثم والخيانة .
ـ إثبات محبة الله لأنه لما نفاها عن الخونة دلّ على ثبوتها للأمناء ، وهذا كاستدلال الشافعي ـ رحمه الله ـ بقوله تعالى (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) على ثبوت رؤية الله تعالى من المؤمنين . قال: "لما حجب هؤلاء في حال الغضب ثبتت الرؤية للآخرين في حال الرضا".
ولكن محبة الله ليست كمحبتنا بل هي محبة كسائر صفاته لا تُكيف ولا تُمثل.
لا تُكيف لقوله تعالى (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)
ولا تُمثل لقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فمن فسّر المحبة بالثواب فهو مُحرِّف لأنه فسرها باللازم لأن الإثابة فرع عن المحبة، فالصواب أنها محبة حقيقية لكنها تستلزم الثواب والرضا وما أشبه ذلك .
ـ يؤخذ من قوله (إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) أن الخيانة من كبائر الذنوب لأنه إذا رُتب على العمل عقوبة خاصة فهو من الكبائر سواء كانت العقوبة لعنة ،أو غضب، أو نفي إيمان،أو تبرؤ منه،أو غيرذلك ، هذا أحسن ما قيل في حد الكبيرة وذكره شيخ الإسلام رحمه الله .
ـ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ) هم الذين سرقوا ولكنهم وضعوا السرقة في بيتٍ آخر خوفا من العار الذي يلحقهم بالسرقة أن يُوصفوا بالسُّراق لكنهم لا يستخفون من الله،والله هو الأحق أن يُستحيا منه وأن يُخاف منه عز وجل .
ـ (وَهُوَ مَعَهُمْ) المعية أي المصاحبة،لكن معية كل شيء بحسبه،والأصل في هذه الكلمة هي المصاحبة لكنها تختلف ويختلف مقتضاها بحسب ما تُضاف إليه ، فيُقال مثلا : المرأة مع زوجها،ويُقال القائد مع جنده،ويُقال المتاع مع حامله،ويُقال القمر معنا, ويُقال أشياء كثيرة تختلف فيها المعية من موضع إلى آخر،لكن يجمع هذه المعاني كلها المصاحبة،مُطلق المصاحبة،وتختلف مقتضياتها حسب ما تُضاف إليه،فالله تعالى مع هؤلاء الذين بيتوا ما لا يرضى من القول ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون والمعيتان تختلفان بحسب مُقتضاهُما ولوازِمِهما والله مع محمد عليه الصلاة والسلام في الغار،ومع موسى وهارون في الرسالة وتختلف هذه المعية عن معيته مع المؤمنين والمتقين وما أشبه ذلك بحسب ما تُضاف إليه فما الذي تستلزمه المعيةُ في هذه الآية؟
تستلزم التهديد بالإضافة للإحاطة لأن المعاني الخاصة بالإضافة إلى المعنى العام وهو الإحاطة التامة بخلقه .
/ هل هذه المعية حقيقية ، أو المراد بذلك لازمها ؟
الصواب : المراد بها المعية الحقيقية وأنه سبحانه وتعالى معنا لكنه في السماء ولا منافاة بين المعنيين من ثلاثة أوجه :
/ الوجه الأول : أن الله جمع بين هذين المعنيين في القرآن بل في آية واحدة (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) مع أنه ذكر أنه مستوٍ على العرش،ولا يمكن أن يجمع الله لنفسه بين وصفين متناقضين أبدا.
/ الوجه الثاني : أنه لا منافاة بين العُلو والمعية فإن هذا ثابت في المخلوق فيما تقوله العرب : ما زلنا نسير والقمرُ معنا، مع أن القمر من أصغر الأجرام السماوية ومع ذلك هو مع المسافر وغير المسافر وهو في السماء. فإذا جاز اجتماعهما أعني اجتماع حقيقة المعية والعلو في حق المخلوق فاجتماعهما في الخالق من باب أولى .
/ الوجه الثالث : أنه لو فُرض امتناع اجتماعها في المخلوق فإنه لا يقتضي انتفاء اجتماعهما في حق الخالق لأن الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فإذا كانت السموات السبع والأرضون السبع في يده جل وعلا كخردلة بيد أحدنا فهل يمكن أن يُقاس بالخلق؟ لا يمكن ، إذاً نحن نؤمن أن الله معنا حقيقة وهو في السماء،يعلم ما في قلوبنا ويسمع ما نقول ويرى ما نفعل وله السلطة التامة علينا والقدرة التامة وهذه كلها من مقتضيات المعية وقد فسرها السلف أو كثير منهم بهذه المقتضيات وقالوا معنا بعلمه ـ وهذا لا يُنافي أن يكون المراد به الحقيقة ـ لأنهم يفسرونها أحيانا باللازم كما قال شيخ الإسلام بن تيمية في مقدمة تفسيره أن التفاسير الواردة عن السلف قد يكون تفسير باللازم لا بالمعنى الحقيقي.
ـ أقســــام المعيــــة :
/ معية يُقصد بها بيان إحاطة الله بكل شيء ومنه قوله تعالى (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)
/ معية يُرادُ بها التهديد كما في هذه الآية (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) .
/ معية يُراد بها النصر والتأييد معلقة بوصف كقوله (وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ، (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)، ومعلقة بشخص كقوله تعالى لموسى وهارون (قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) وقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بكر (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فهذه معية تقتضي الحفظ والتأييد والكلاءة لكنها مقيدة بشخص .
ـ تحريم المحاماة إذا علم المُحامي أن صاحبه مُبطل ووجهُه أن الله أنكر على هؤلاء أن يُجادلوا على صاحبهم .
ـ المراد بالسوء في قوله (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا) ما يسؤ الغير كاتهام هؤلاء اليهودي بالسرقة ويدل لذلك أن سياق الآيات في قصة معينة .
ـ الخطيئة والإثم من الكلمات التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت.
/ قال بعض العلماء : الخطيئة ما ارتكبه الإنسان عن غير قصد ، والإثم ما ارتكبه عن قصد . وهذا فيه نظر وذلك لأن الخطيئة المرتكبة عن غير قصد قد رفع الله عنها الحرج والإثم فلا تكون خطيئة ، وأُجيب عن ذلك بأنه لا مانع أن يكسب خطيئة ويكون هناك مانع من العقوبة عليها وإلا فالأصل أن من فعل خطيئة عُوقب عليها لكن هناك مانع وهو عفو الله عز وجل .
وقيل: الخطيئة ما تعدى إلى الغير والإثم ما كان خاصا بالإنسان ، وقيل بالعكس .
كل هذه الأقوال دفعا لوجود التكرار في الآية.
ـ (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) رحمة خاصة لم تكن لغير الرسول صلى الله عليه وسلم،وفي الآية إثبات للرحمة الخاصة.
ـ أن الإنسان إذا مُنع من الضلال بسبب أو بغير سبب فذلك من فضل الله عليه،ويتجلى ذلك في أن الإنسان يرى أحيانا رأيا في مسألة من المسائل أنها حرام أو حلال ثم يُقيض الله له من يُناظره في هذه المسألة حتى يتبين له الحق ويرجع فهذا من نعمة الله عليه ومن فضل الله عليه،أحيانا ينقدح له الحق دون مُناظرة إما بالتأمل وإما أن ينظر إلى أشياء أُخرى يقيسها عليها أو غير ذلك المهم أن الإنسان متى تبيّن له الحق في أي سبب فإن ذلك من نعمة الله عليه فليحمدِ الله على ذلك .
ـ الحذر من أهل السوء وألّا يغتر الإنسان بظاهر الحال، لكن إن لم يكن إلا ظاهر الحال فلابد أن يحكم بذلك لقوله عليه الصلاة والسلام (إنما أقضي بنحو ما أسمع) لكن عليه أن يحترس فإن الإنسان قد يغُرُ غيره بحاله لقوله (لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ) .
ـ عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من إضرار هؤلاء لقوله (وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ).
ـ إثبات عُلو الله لقوله (وَأَنزَلَ) والنزول يكون من أعلى ، وعُلُو الله عز وجل نوعان : علو معنوي وعلو ذاتي
/ فأما العلو المعنوي فهو كمال أوصافه عز وجل وهذا لا يُنكره أحد ممن ينتسب إلى الإسلام .
/ أما العلو الذاتي فقد أثبته السلف وأئمة الأمة،ويُنكرهُ الجهمية والمعتزلة والأشاعرة،وانقسموا فيه إلى قسمين :
/ قسم يقول إن الله معنا في كل مكان فليس له مكان في الأعلى ، إن كنا في المسجد فهو معنا ، إن كنا في البيت فهو معنا ، إن كنا في السوق فهو معنا ، في أي مكان فهو معنا ومع فلان وفلان في أي مكان ولا شك أن هذا ضلال مبين ، هل الرب عز وجل واحد؟ نعم ، كيف يكون ذاتيا في كل مكان ؟ هذا يلزم منه إما التعدد أو التجزءُ،ويلزمُ منها أيضا أن يكون الله حالاً في الأمكنة وهو أعظم من كل شيء،السموات مطويات بيمينه والأرض جميعا قبضته .
/ وأما الآخرون فقالوا : بأن الله لا يُوصف بأنه فوق العالم ولا تحت العالم ولا يمين العالم ولا شمال العالم ولا متصل بالعالم ولا مُنفصل عن العالم .
هذا هو العدم .ولقد قال محمود بن سبكستين ـ رحمه الله ـ لمحمد بن فورك لما وصف الله عز وجل بهذه الصفات ، قال: فرِّق لنا بين الرب الذي تعبُده وبين الرب المعدوم ؟ .
هذا هو العدم ، ولو قيل للإنسان صِف العدم بأبلغ من هذا الوصف ما وجد إلى ذلك سبيلا .
/ أما أهل الحق فقالوا : إن الله تعالى بذاته فوق كل شيء ولا يمكن أن يكون في كل مكان ولا يمكن أن نصِفه بالعدم كما وصفه هؤلاء.
ـ القرآن صفة لا تقوم بنفسها لأنه كلام فلزِم من ذلك أن يكون صفة لله وليس بمخلوق ، وهذا هو الذي عليه أهل السُنة والجماعة .
ـ (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) ذهب كثير من العلماء إلى أن المراد بالـ"الحكمة" السُنة ، ولكن في النفس من هذا شيء،لأن الحكمة الكائنة في القرآن كالحكمة الكائنة في السُنة أو أعظم وحينئذ نقول أن المراد بالحكمة: هي الأسرار التي اشتملت عليها شريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما جاء به هذا القرآن ، فيكون الله تعالى قد أنزل على رسوله أحكاما وحِكما ، وهذا القول عندي هم الأرجح ، لأن التعبير عن السُنة بأنها مُنزّلة من عند الله فيه شيء أيضا لأنه ليست السُنة كلها وحيا بل منها ما هو وحي ومنها ما هو إقرار من عند الله للرسول عليه الصلاة والسلام وما أقرّ رسولَه عليه فهو من عنده .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق