د. محمد بن عبد الله الربيعة
المجلس الأول:
المجلس الأول:
الحمد لله رب العالمين حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد:
حياكم الله أيها الأخوة والأخوات في مواصلة هذه الدورة المباركة، دورة الأترجة، وبين يدينا هذا اليوم سورتين مكيتين تمثلان الواقع الذي نعيشه ويعيشه إخواننا في بقاع من الأرض وهما سورة العنكبوت وسورة الروم.
وقفة في مقدمة السورة:
سورة العنكبوت سورة مكية إلا أن بعض المفسرين ذكروا أن بعضاً من آياتها مدني والغالب أنها مكية وسبب الخلاف في بعض آياتها أنها نزلت في آخر العهد المكي تهيئةً للمؤمنين للهجرة والصبر على أذى المشركين مما أصابهم فيه من الأذى ولهذا يمكن أن يقال أنها آخر سورة نزلت في العهد المكي، وقيل أن آخر سورة هي سورة المطففين.
ويظهر ذلك من مقصدها الذي تقوم عليه وتُركز آياتها عليه وهي أن السورة تركز على :
تثبيت المؤمنين في فتنة المشركين لهم وصدِّهم عن الإسلام والهجرة فإن السورة تركِّز على هذا الأمر وهو تثبيت المؤمنين وخصوصاً المستضعفين في دينهم بما يلاقونه من أذى المشركين وصدّهم عن الإسلام أو منعهم من الهجرة وأذيّتهم وتعذيب ضعفائهم.
وفيها أيضاً أمر المؤمنين هؤلاء بالمجاهدة في الدين والصبر على أمر الله تعالى حتى يأتي أمره تعالى والعاقبة لهم. ولذلك نلحظ أنه تكرر فيها لفظ المجاهدة:
قال الله تعالى (وَمَن جَـٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـٰهِدُ لِنَفْسِهِۦٓ) [العنكبوت:6)
وقال تعالى (وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُوا۟ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت:69)
وقال تعالى (وَإِن جَـٰهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌۭ فَلَا تُطِعْهُمَآ) [العنكبوت:8]
وقال تعالى (ٱلَّذِينَ صَبَرُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت:59]
ففيها تثبيتٌ للمؤمنين بالصبر، تثبيت للمؤمنين المستضعفين بالصبر، والصبر على أمر الله تعالى والصبر على دينه والصبر على ما يلاقونه من المشركين.
في مقابل ذلك أيضاً ظهر فيها توهين المشركين وتوهين شِرْكهم وأصنامهم وأنهم ليسوا على شيء وذلك لإزالة ما في نفوس المؤمنين من الرهبة منهم، وإزالة ما في نفوس المشركين مما أظهروه في أنفسهم من العزّ والكبرياء وبيان أنهم ليسوا على شيء وأن دينهم وملّتهم وشِرْكهم مضمحل زائل لا محالة وأنهم في مثل هذه الحالة في عبادة الأصنام وما يعتقدونه فيها كبيت العنكبوت الواهي الذي لا يستمسك بل هو خيوط تتمزق بأدنى حراك وأدنى ريح، وبيان أن بيوتهم متشتتة كتشتت العنكبوت ومتفرقة كما سيظهر في بيان آيات العنكبوت.
إذاً باختصار هذه السورة تبيّن حقيقة الفتنة في الدين وأمر المؤمنين بالصبر وبيان في مقابل ذلك توهين أمر الشرك ومعبوداته من الأصنام.
نسمع من أخينا بعض الآيات ثم نبتدئ ببيانها وتدبرها آية آية.
{الم ﴿١﴾ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴿٣﴾ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴿٤﴾}
يقول الله -عز وجل- في مفتتح هذه السورة (الم) وهذه السورة من السور التي اُفتتحت بحروف الهجاء المقطعة مما يظهر أن فيها تحدٍ للمشركين والعجيب أن هذه السورة وسورة الروم افتتحت بـ (ألم) لكنها لم تُعقَّب الحروف المقطعة بذكر الكتاب المبين فإن غالب السور التي افتتحت بالحروف المقطعة عُقِّبت بالحديث عن القرآن إلا هاتين السورتين وخصوصاً (ألم) وسورة نون والسِرّ في ذلك -والله تعالى أعلم- : أن هاتين السورتين فيهما تحدٍ للمشركين من نوع آخر فهو تحدٍ لإبطال دينهم وشركهم ومعبوداتهم وبيان أن دين الحق ظاهر وإن استضعفوه ولذلك اجتمعت هاتان السورتان سورة العنكبوت والروم لمقصد متقارب -كما سيأتي-.
وهذه السورة -أيها الإخوة- يقرؤها المؤمن المبتلى في دينه هذه السورة يقرؤها المؤمن الذي يُبتلى في دينه ويلاقي في دينه بلاء وفتنة من أعداء الله -عز وجل- أو من غيرهم فهذه السورة توطّن في قلبه الإيمان وتحثّه على الصبر والمجاهدة والجهاد فما أعظمها في مثل هذا الوقت الذي نعيشه نحن وإخواننا في بلدان شتّى متفرقة يلاقون ما يلاقون من البلاء والفتنة من أعداء الله عز وجل. وخاصة ما يلاقيه إخواننا هذه الأيام في سوريا من الفتنة والبلاء العظيم الذي يحتاجون فيه إلى أن يرتبطوا بكتاب الله سبحانه وتعالى فيزيدهم ذلك ثباتاً وصبراً ويقيناً بأن الله معهم وبياناً بأن الله موهن كيد الكافرين وأن ما هم فيه من طغيان إنما هو كفقاعة تكاد تزول -بإذن الله تعالى- وقدرته وأمره.
/ يقول الله عز وجل (ألم) ذكرنا أن هذا الافتتاح فيه تحدٍ للمشركين ببيان توهين أمرهم وشركهم وفيه في مقابل ذلك إشارة للمؤمنين بغلبة أمرهم وأن الله معهم وناصرهم وممكن لهم.
ثم قال الله -عز وجل- (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) المقصود بالناس هنا المؤمنون فكأن الله تعالى يبيّن سُنّة من سننه في الناس تثبيتاً للمؤمنين وتهوينا للأمر في نفوسهم وأن هذا أمراً ليس هو حاصلٌ أو واقعٌ عليكم فقط وإنما هو من أمر الله -عز وجل- مع عباده من قبل.
قال الله (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا) أي أن يتركهم المشركون، يعني كيف يحسب الناس أن يقوموا بدين الله ويخالفوا أمر قومهم المشركين ولا يصيبهم أذى، هذا أمرٌ في الأصل أنه واقع من الطبيعي أن يلاقي الإنسان الفتنة والبلاء في مخالفة قومه الظاهرين في أمرهم فهذا الأمر طبيعي بل هو أمرٌ من سنة الله تعالى فليس ذلك بعجيب.
قال الله تعالى (أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) أي لا يفتنون في دينهم، والفتنة في الدين هنا تشمل:
السعي في صرفهم عن دينهم الصدّ
السعي في التضييق عليهم وتعذيبهم وأخذ أموالهم
إلى غير ذلك فكل ذلك داخلٌ في قوله (وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) أي لا يفتنون في دينهم ولذلك لم يذكر المفعول للفتنة لإطلاقه فهم يفتنون في أمر دينهم في أي أمر وفي أيّ حال من الأحوال فيدخل في ذلك أنواعا من الفتنة منها المنع من الهجرة والعذاب أو التضييق أو أخذ الأموال ونحو ذلك.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ما غرض هذه الآية؟ غرض هذه الآية -بارك الله فيكم- هو:
بيان أن هذا من سنة الأولين وأنهم قد فُتِنوا في دينهم كما فُتِن المؤمنون من هذه الأمة مثل من؟ من يذكر مثالاً؟ أصحاب الأخدود الذين فُتنوا في دينهم فتنة عظيمة ربما أنها أشد بل هي أشد مما لقيه الصحابة إذ أن فتنوا بإلقائهم في النار في مقابل تمسكهم بدينهم. فهذا مما يخفف على المؤمن هذا البلاء الذي يعيشه لذلك قال الله تعالى في تلك السورة (إن ٱلَّذِينَ فَتَنُوا۟ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا۟) [البروج:10] فهي من أعظم الفتنة أن يواجه الإنسان الموت في مقابل صبره على دينه.
أصحاب الكهف أيضا فُتنوا في دينهم بأن هاجروا وتركوا قومهم وأهلهم وصبروا على ذلك وغير ذلك مما تذكره السير والآيات.
قال الله -عز وجل- (وَلَقَدْ فَتَنَّا) لم يقل "ولقد فُتن" نسبة الفتنة إلى الله دليل على أن هذه سنة إلهية لماذا؟
للتمييز وأن الإنسان المؤمن لا بد أن يُميّز، لا بد أن يمحِّص (وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ) [آل عمرآن:141] فنسبة الفتنة إلى الله هنا للإثبات أن هذا أمرٌ من سنة الله. وفيه أيضاً إشارة إلى أنه هو القادر سبحانه وتعالى على صرف هذه الفتنة عنهم مما يستلزم عليهم الصبر والالتجاء إلى الله ودعاء الله أن يصرف عنهم هذه الفتنة في مقابل يقينهم بالله وصبرهم يسألون الله تعالى أن يصرف عنهم. وذلك كما دعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه بقوله (وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ۖ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [يونس:88] فموسى عليه السلام دعا ربه أن يزيل أمر فرعون بعد أن فتن قومه وفي هذا مما يفيد أن الإنسان إذا دعا الله وهو مظلوم أن يذكر في دعوته ما يلاقيه من البلاء وما فعله أولئك الظَلَمة الطغاة في ظلمهم وطغيانهم، يعني يذكر سبب التجائه إلى الله وربه أعلم ولكن ذلك فيه إظهارٌ في الاستضعاف بين يدي الله عز وجل فذكر سبب الدعاء من موجبات الإجابة بإذن الله عز وجل.
/ قال الله تعالى (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) هنا بيان أن الله -عز وجل- يعلم العاقبة وليُظهر بعد هذه الفتنة أمر الصادقين وأمر الكاذبين.
(فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) كرّر ذلك لأن الأمر يحتاج إلى تمييز بين الفريقين فهذه هي الحكمة في الفتنة التميز بين الفريقين.
ثم تأملوا أن وصف المؤمنين بقوله (الَّذِينَ صَدَقُوا) والكاذبين بقوله (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) لماذا وصف المؤمنين بقوله الذين صدقوا ولم يقل وليعلمن الله الصادقين؟ ما الفرق بين الذين صدقوا وبين قوله الصادقين؟
لا شك -والله أعلم- أن التعبير بقوله (الَّذِينَ صَدَقُوا) يعني الذين تمكّن الصدق فيهم وترسّخ بعد الفتنة وتيقّن فيهم، هم مؤمنون لكنهم بعد الفتنة أشد إيماناً وتمسكاً وصدقاً فكأن الله تعالى يقول ليعلمنّ الله الذين رسخ الصدق في قلوبهم والإيمان ولذلك عبّر هنا بالصدق دون الإيمان -والله أعلم- ليدل على أن المقصود رسوخه وثبوته.
/ ثم قال الله سبحانه وتعالى (أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَآءَ مَايَحْكُمُونَ﴾ [العنكبوت:4] هذه الآية زجرٌ للكافرين الذين فتنوا المؤمنين وهو وعد بأنهم لا يفلتون من أمر الله -عز وجل- وإرادته وقدرته (أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ) ما هي السيئات التي يعملونها؟ هي الكفر أولاً وأذية المؤمنين فتنة المؤمنين ومشاقتهم كل ذلك من عمل السيئات. قال (يعملون) والفعل المضارع يدل على الاستمرار والتجدد أي أنهم يعملون السيئات مستمرة ومتنوعة فأعظم أعمالهم الكفر ومنها أيضاً أذيتهم للمؤمنين.
قال الله تعالى (أَن يَسْبِقُونَا سَاء) والسبق يراد به الانفلات والنجاة يعني أن ينجون من أمرنا وعذابنا وقدرتنا.
(سَاء مَا يَحْكُمُونَ) أي ساء ما يقدّرونه ويظنّونه، هم يظنّون أنهم لن يقدر عليهم أحد ولذلك يحكمون بالأمر الذي يريدونه ويظنّون أن حكمهم نافذ ولهذا قال الله تعالى (سَاء مَا يَحْكُمُونَ) مع أن المقصود ساء ما يظنونه لكن لما بلغ بهم الأمر إلى الكبرياء والسطوة ظنوا أن الحُكم لهم والأمر لهم، وهذا واقعٌ أو مشاهد في الواقع الذي نعيشه الآن، ترون أولئك الذين يفتنون المؤمنين من الطغاة والمجرمين كيف أنهم يتصرفون وكأن الأمر لهم وكأن الله -عز وجل- غير قادر عليهم بل إنهم -والعياذ بالله- يجترؤن على الذات الإلهية ويستهزئون ويسخرون بشرائع الدين وبعباد الله الصالحين وذلك ظاهر فيما يحصل الآن، الآن في سوريا حتى بلغ بهم الجرأة إلى التعدي على الذات الإلهية كما صرّح بذلك أحد ساستهم قبل يومين، وهذا مؤذنٌ -بإذن الله تعالى- بسقوطهم السقوط المهين الذي سيجعلهم عبرة للعالمين بإذن الله تعالى. لكننا لا نظن أن سطوتهم وتصريحاتهم التي تدلّ في ظاهرها القوة والتمكن أنها في الواقع لا حقيقة لها كما رأينا وسمعنا من قبل في شأن طاغية ليبيا أو غيره كيف أنه كان يهذي بما لا يدري يزعم أنه ملك الدنيا ووصف الناس أنهم جرذان فإذا هو قد أصبح هو الجرذ الذي وجد مختبئاً تحت الأرض! فهؤلاء الذي سُلطوا على عباد الله وحكموا بالأمر على أنهم أصحاب الحكم والله إن الله -عز وجل- قادرٌ عليهم وأن ذلك التسلط منهم والزعم منهم بالحكم والتقوّل على الله مؤذنٌ بقرب زوالهم بإذن الله -عز وجل-.
هذه الآية والله إنها لمؤنس للمؤمنين ومرهبة للكافرين (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا) أن يفلتوا منا والله لن يفلتوا من عذاب الله ولن يفلتوا من حكم الله ولن يفلتوا من إرادته وقدرته وعزته سبحانه وتعالى ونسأل الله أن يرينا فيهم يوماً كيوم قارون وفرعون وأُبيّ بن خلف وأمثالهم من طغاة العصر الذين أذهبهم لله وأذلّهم.
في هذه الآية أيضاً عبرة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا) هي عبرة للمؤمنين، المؤمنين الذين يقترفون السيئات وهم يستخفّون بوعيد الله أو ينسونه ويغفلون عنه فإن هذا أقرب للعقوبة، الإنسان الذي يعمل السيئة وينسى وعيد الله، وينسى خوفه من الله، لا يبالي، فإن إثمه أعظم وعقوبته أعجل فليحذر المؤمن من أن يعمل السيئات وينسى وعد الله عز وجل ووعيده ويظن أنه بذلك لن يصيبه من العقوبة ما يصيب غيره، وذلك كله راجع إلى الغفلة والران الذي يكون على القلب.
/ قال الله -عز وجل- (مَن كَانَ يَرْجُو۟ لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لَاتٍۢ ۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾ [العنكبوت:5] هذه الآية فيها تطمين للمؤمنين وفيها تأنيس لهم وفيها حثٌ على أن يتعلقوا برجاء الله ولقاء الله ووعد الله عز وجل.
قال (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ) ما هو لقاء الله؟ الآخرة، لقاء الله في الآخرة.
(فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ) ما هو أجل الله؟ الأجل العاجل في الدنيا ومنه وأعظمه النصر ووعد الله بالتمكين والنصر (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ) أي قريب.
وفي هذه الآية ما يشير إلى غزوة بدر وغيرها وسورة العنكبوت وسورة الروم فيها ما يقارب من ست إشارات لغزوة بدر من استطاع منكم أن يستخرجها قبل أن نذكرها فنرجو أن يحوز من الأخوة بهدية، ست مواضع في سورة العنكبوت وسورة الروم تشير إلى غزوة بدر وغيرها من الغزوات لكن في غزوة بدر على وجه الخصوص في سورة العنكبوت وسورة الروم، ست مواضع أو أكثر تشير الى غزوة بدر أريد أن تذكر الآية ووجه الاستشهاد منها- هذه من أولها: (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ) أي وعده ونصره آت قريب. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لدعائكم واضطراركم وهذا يفيد ويؤكد لنا أدباً مشروعاً للمسلم إذا ابتُلي وهو: أن يُكثر من الدعاء وأن يُلحّ على الله عز وجل وأن يتضرع بين يديه ليجد أجل الله القريب الآتي وذلك أمرٌ ظاهر فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا حاله حينما يضطر في أمره كما فعل -عليه الصلاة والسلام- في بدر كان رافعاً يديه حتى سقط رداءه يدعو ربه ويستغيثه ولهذا قال الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ) [الأنفال:9] نحن اليوم فيما نواجهه من أعداء الله عز وجل في بقاع الأرض ونحن أمة واحدة وجسد واحد فيما يعيشه إخواننا في فلسطين ويعيشه إخواننا في سوريا واليمن وغيرها من بلدان الأرض والله إننا لبحاجة إلى أن نلتم معهم ونناصرهم بأعظم سلاح وهو الدعاء. من منا يبكي ويتضرع ويلح على الله -عز وجل- في أن ينجي الله المؤمنين وينصرهم ويمكّن لهم في بلادهم.
قال الله سبحانه وتعالى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) العليم بماذا؟ العليم بأحوالكم وأنكم تستحقون النصر بضعفكم واستضعفكم واستلجائكم الى الله عز وجل فهذا يدل أيضاً على أن الإنسان في حاله ينبغي أن يظهر منه استنصار الله -عز وجل- في استضعافه بين يدي الله سبحانه وتعالى وصبره ويقينه وتوكله على الله.
/ قال الله تعالى (وَمَن جَـٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـٰهِدُ لِنَفْسِهِۦٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ [العنكبوت:6]
هذه الآية واردة بعد ذكر رجائهم بما عند الله وفيها بعثٌ للمجاهدة في الخير والصبر على الأذى في سبيل الله يعني مع التجائكم إلى الله ورجائكم به جاهدوا واصبروا وأن من صبر ظفر وأن (وَمَن جَـٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـٰهِدُ لِنَفْسِهِ) فإن مجاهدتك في صبرك ويقينك راجعة إليك عاقبتها لك والعاقبة للمتقين، ولهذا قال الله -جل وعلا- (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) يعني الله سبحانه وتعالى غني عنا أو عن ديننا أو عن تمسكنا وعن صبرنا كل ذلك راجعٌ إلينا في الدنيا بمعية الله وتوفيقه وفي الآخرة في وعده وجزائه العظيم في الجنة.
/ قال تعالى (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِى كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت:7] ما مناسبة هذه الآية؟
هذه الآية فيها وعد للمؤمنين المفتونين الصابرين المجاهدين بأن الله سيكفر سيئاتهم ويجزيهم على صبرهم أحسن الجزاء، يعني تطمينا لهم بأن ما تلاقونه من البلاء والمحنة لكم فيه عند الله جزاءين مع النصر -بإذنه تعالى- ووعده وهما تكفير السيئات (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) فيكفِّر الله عنهم سيئاتهم ويُطهّرهم (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) في مقابل صبرهم ويقينهم وتمسّكهم قوبلوا بجزاء أحسن الجزاء والجزاء من جنس العمل (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا۟ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌۭ) [يونس:29] فإحسانهم بالصبر واليقين والتوكل على الله جزاؤه أن الله يجزيهم أحسن ما كانوا يعملون.
/ ثم قال الله عز وجل (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت:8]
ما علاقة هذه الآية بقضية الفتنة في الدين وأمر المؤمنين في مكة خاصة قرب الهجرة وما يلاقونه من بلاء ومحنة وفتنة من المشركين؟
ذكر الله عز وجل هنا حالة خاصة من حالات الافتتان في الدين وهو أن يُلاقي الإنسان ، أن يفتن في دينه بسبب والديه فيكون والداه سبباً في فتنته وبلائه وأذيته بسبب دينه فذكر الله تعالى بأنه في حالة كون الوالدين هما اللذان يجاهدانك في ترك الدين ويفتنانك عن الدين فما الواجب عليك تجاه ذلك؟ قال الله (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) أي الواجب أن تصبر وأن تحسن إليهما بالطاعة والمعروف فيما لا معصية لله تعالى فيه وإن كانا كافرين وإن كانا يصدانك عن دين الله عز وجل، كيف ذلك؟ رجل يصدك عن دين الله تحسن إليه؟! نعم، أن ذلك أمرٌ أثبته الله -عز وجل- وأمر به في حُكمه برعاية الوالدين ولذلك ليس هناك حالة أبداً من الحالات يؤمّر الإنسان به بعقوق الوالدين مطلقاً.
وهنا إبطال لمن يزعم -حتى من المسلمين- ونجد هذا من بعض الشباب من ييأس فيقول أن أبي على ضلالة وفسق وتارك للصلاة ويذمني ويسبني ويستهزئ بي كيف يكون له حق عليّ بالبر؟! أقول أن هذا أمر أمرك الله به وألزمك به فالتزم به إن كنت مؤمناً صالحاً، إذا كانا يأمران بالشرك وأمر الله ببرهما فكيف إذا كانا على معصية أو أمرا بمعصية؟! فلا شك أن هذا إبطال لحجة من يقول أو يزعم إبطال حق الوالدين حال معصيتهما أو أمرهما بالمعصية.
وهذه الآية قيل أنها نازلة في سعد بن أبي وقاص أو نازلة في عيّاش بن أبي ربيعة.
سعد بن أبي وقاص حينما أسلم حلفت أمه أن لا تستظل بظل سقف ولا تأكل ولا تشرب حتى يرجع عن دينه فهذا أمر كما يقال بين نارين إما أن تموت أمه وإما يبقى على دينه فذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فـأمره بالصبر وأمره بالإحسان إليها والرفق بها ومجادلتها أو محاورتها بالتي هي أحسن فما كان منها حينما رأت إصراره إلا أن تركته وكفاه الله تعالى أمرها.
وكذلك عياش بن أبي ربيعة لما هاجر جاء أخوه أبو سفيان وكان أخوه من أمه وغيره أتى إليه قال إن أمك تبكي وكادت أن تموت فارجع إليها ومحمد قد أمر ببر الوالدين فكان بين أمرين بين أن يهاجر ويترك أمه على ما هي عليه أو يرجع إلى أمه فما زال به حتى رجع معهما فلما تمكنا منه وقيّداه وأتياه إليها وبقي في قيده حتى أذن الله تعالى له.
فهذه الآية هي خطابٌ لكل من يواجه مثل ذلك من والديه قال الله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) ولم يقل إحساناً كما في سورة الأحقاف فما الفرق بينهما؟ هناك قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) [الأحقاف:15] وهنا قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) .
هنا السياق في الحديث عن الوالدين المشركين وتلك الحديث عن الوالدين المؤمنين فهنا لما كان سياق الحديث عن الكافر قال "حُسنا" وهناك "إحسانا" يدل عن أن الوالدين في حالة الإيمان لهما من الحق الإحسان وأنه في حالة الكفر والعصيان لهما حق الحسنى أقل درجة.
قال الله سبحانه وتعالى (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي) لاحظ أنه قال (وَإِن جَاهَدَاكَ) يعني ليست المسألة أمر وإنما مجاهدة والمجاهدة تدل على حرصهما الشديد بكل أنواع الطاقة لديهما في صرفه عن أمر الله وأمره بالشرك الذي يدخل فيه أذيته وتعذيبه وتقييده إلى غير ذلك يعني حتى وإن وصل بهما الأمر إلى أن يعذباك أويضرباك فالأمر باق على ذلك فمسألة المجاهدة مجاهدتهما بأي وسيلة فالأمر باق في الحكم.
قال الله تعالى (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ما هو الذي ليس به علم؟ أي الأصنام والمعبودات التي لا تعبد بعلم من الله -عز وجل- ليس لها سلطان (فَلَا تُطِعْهُمَا)
قال الله تعالى (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ما مناسبة هذه الجملة؟
مناسبته كأنه يقول كيف يكون الأمر في الإحسان إليهما وهما على الشرك؟ فالله تعالى يقول (إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) حسابهما عليّ يوم القيامة، إليّ مرجعكم فأحاسبكم أنت على إيمانك وهما على كفرهما (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
ثم قال الله عز وجل (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى ٱلصَّـٰلِحِينَ﴾ [العنكبوت:9] هذه الآية فيها رعاية وعناية واهتمام من الله عز وجل بشأن المؤمنين المستضعفين الصابرين الذين يواجهون ما يواجهون في دينهم قال الله (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) وذلك بعد أن توعد الكافرين بقوله -عز وجل- (فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) كأنها ترغيب بعد ترهيب.
قوله (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) ولم يقل "والذين أمنوا لهم أجرٌ غير ممنون" أو نحو ذلك, ما مناسبتها؟ مناسبتها -والله أعلم- أنه لما ذكر حال الابن الذي يواجه من والديه الصرف عن دينه مما يدعوه إلى فراقهما كأن الله يؤنسه أنه سيدخله مع الصالحين إيناساً له بعد أن حصل له من الوحشة بفراق أبويه أو أهله بسبب دينه فإن الله يؤنسه بإدخاله في عباده الصالحين. والصالحين هنا دليل على كمالهم لأنه قال (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) فــ (الألف واللام) للكمال هنا كما قال سليمان (وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ٱلصَّـٰلِحِينَ ﴾ [النمل:19].
/ قال الله (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ وَلَئِن جَآءَ نَصْرٌۭ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ [العنكبوت:10] هذا بيان لحال المؤمنين الذين لم يصبروا على فتنة الكافرين بل طاوعوهم ونافقوا معهم فكانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام في مكة ولهذا نقول أن أصل النفاق موجود في مكة لكنه لم يظهر أمره إلا في المدينة فهذه تتحدث عن المنافقين في مكة من المؤمنين الذين آمنوا ثم أوذوا فرجعوا (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) يعني عذابه في الدنيا لم يصبر عليه يقول هذا أشد العذاب وجعله كأنه عذاب الآخرة في شدته فلم يصبر عليه! وهذا واضح في بعض الناس الذي لا يصبر يقول يا أخي من يصبر على هذا؟! من يطيق هذا؟! والأمر أهون مما يتصور لكن لعدم صبره ويقينه يتصور أن هذا البلاء لا يصبر عليه أحد، بل بقوة الإيمان يهون العذاب وبضعف الإيمان بعظم العذاب في نفسه.
قال الله تعالى (وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) هذه الآية تشير إلى ماذا؟ قوله (وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ)؟ هذه الآية الثانية التي تشير إلى غزوة بدر بأنه سيكون نصر لأنه قال (وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ) معنى ذلك أنهم سيقولون ذلك، أو يكون المراد بها فتح مكة حينما يتمكن المؤمنون فيقولون إنا كنا معكم من قبل يعني دخلنا معكم في الإيمان.
قال الله (وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) أي بأعلم بما في أحوالهم وصدورهم من الصدق واليقين والثبات أو النفاق وعدم الإيمان.
/ ثم قال عز وجل (وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ﴾ [العنكبوت:11] تدل على أن الآية في المنافقين كأن الله -عز وجل- يقول أن الله يعلم الصادق في دينه بصبره ويقينه ويعلم المنافق بتزعزعه وضعفه وهذا واضح في الناس اليوم حينما يُفتن أو حينما تطغى عليه الدنيا أو شيء من ذلك تجده يتنازل عن أمر دينه ولا يبالي بذلك وينصرف عن بعض الواجبات الدينية الواجبة عليه كالصلاة وغيرها ابتغاء الدنيا وعَرَضها الفاني أو نحو ذلك فالله سبحانه وتعالى يقول سيتبين ذلك في المستقبل وسيتبيّن أمر المؤمنين وأمر المنافقين وكلٌ منهم سيأخذ جزاءه عند ربه تعالى. نقف هنا في المجلس الأول ونتابع بعد قليل بإذن الله.
المجلس الثاني:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿١٢﴾ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿١٣﴾}
هذه الآية قول الله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ) هي في سياق الحديث عن مجاهدة المشركين للمؤمنين أول أمرهم كانوا يريدون أن يصدونهم عن الدين ويصرفونهم عنه، ثم لما عجزوا عن ذلك أتوا بأساليب أخرى وهذا حال الكافرين أو حال الإنسان الذي يصدّ عن سبيل الله كخطوات الشيطان، يحاول قدر الاستطاعة بما يستطيع فإن لم يستطع انتقل إلى مرحلة أخرى، فهم هنا انتقلوا إلى مرحلة أخرى وهي أنهم قالوا كونوا معنا على الدين ونتحمل خطاياكم، مثلما يقول بعض الناس "خلّها عليّ أو يقول إثمها عليّ ما عليك" إنسان -مثلاً- يريد أن يغوي إنساناً -مثلاً- بشرب الدخان أو نحو ذلك قال أنا أتحمله، يعني يريد أن يغويه ويتحمل إثمه، هو سيتحمل إثمه لا شك لكونه صدّه عن سبيل الله، لكن الآخر لن يُعفى عن الإثم لكونه فعل ذلك بإرادته وطواعيته واستجابته فهذا زعمٌ باطلٌ منهم في الصدّ عن سبيل الله عز وجل بكونهم يقولون كونوا معنا على ملتنا ونحن نتحمل خطاياكم وهذا زعمٌ باطلٌ لا يقبله عاقل.
قال الله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) بمعنى أنهم لن يحملوه عنهم فيعفونهم، لن يستطيعوا أن يعفونهم عن هذه الخطايا إذا فعلوها. نعم، سيحملونها هم بكونهم صدوهم كما في الآية الثانية التي بعدها لكنهم ليس لهم من الأمر شيء في إعفاء أولئك عن الذنوب. ويظهر أن هذا من أساليب رؤساء الكفار وطغاتهم وساساتهم الذين يريدون أن يصرفون رعاع الناس وعامة الناس أو ضعفاء الناس الذين قد بدأوا في التأثّر بالدين وخافوا عليهم أو منهم من أسلم من النساء والشباب أو نحو ذلك فأحاطوهم بهذه الحُجّة.
/ قال الله تعالى (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) ليحملنّ أي هؤلاء الكافرين أثقالهم، وتأملوا التعبير عن الخطايا بالأثقال فهي في الدنيا خطايا تُكتب عليهم وهي في الآخرة أثقالاً يحملون همها وشقاءها وعَنَتَها وعذابها في النار، قد لا تكون أثقالاً حقيقية على ظهورهم لكنها أثقالاً في ميزان سيئاتهم وأثقالاً عليهم في العذاب في النار عياذاً بالله! وتصوروا كيف يكون شأن الإنسان وهو يحمل هذا الهمّ العظيم وهذه الأثقال من السيئات المضاعفة؟! ولذلك قال (وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) مع أنهم عجزوا عن حمل سيئاتهم وأنها أثقال عليهم إلا أنها تضاعف عليهم أثقالاً مع أثقالهم. ما هذه الأثقال التي ضُوعفت عليهم؟ هي أثقال من أضلوهم عن سبيل الله ودعوهم إلى الكفر أو أثقال الذين صدّوهم عن الإسلام فليست فقط هي أثقال من صدّوهم بل هي أثقال من دعوهم إلى الكفر وصدّوهم عن سبيل الله عز وجل.
قال الله (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) ما الذي كانوا يفترونه؟
الذي كانوا يفترونه بشِركهم وزعمهم لأصنامهم بأن لها ما لله -عز وجل- من الأمر والشفاعة والضر والنفع ونحو ذلك
أو كانوا يفترون بالكذب على هؤلاء الضعفاء أو على هؤلاء المتبوعين بأن هذا الدين دينهم -أي الكفر- هو الحق وأنهم على الحق وأن هذا ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم.
/ ثم قال الله عز وجل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) هذه الآية ما مناسبتها في سياق الحديث عن فتنة المؤمنين وصبرهم على أذية الكافرين؟ هو ضرب للمثل للمؤمنين، يعني أنت حينما تريد أن تواسي إنساناً ستذكِّره بمن هو أشدُّ منه بلاءً، فتقول يا أخي اذكُر فلان أو انظر إلى حال فلان كيف ابتلاه الله تعالى بكذا فصبر، فيكون ذلك تخفيفاً عليه. فالله تعالى من رعايته وعنايته بالمؤمنين الذين يواجهون البلاء من الكافرين والنبي -صلى الله عليه وسلم- على رأسهم وذلك مما يلاقيه من شدة في التكذيب، تكذيب قومه وعنادهم وكبريائهم يذكّره الله ويذكّر المؤمنين بنوح -عليه السلام- الذي أرسله الله إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، من يتصور-أيها الأخوة- أن يصبر على أذى أناس وكفرهم وعنادهم واستخفافهم ألف سنة، من يستطيع؟! أنت لو جلست يوم واحد مع أناس يستخفون بك ويستهزؤن بك ويسخرون ويعاندون ربما لم تصبر يوماً واحداً فكيف بألف سنة؟ إن ذلك لمن العزم، ولهذا قال الله (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ومنهم نوح -عليه السلام- فما أعظم هذا الصبر الذي يذكّرنا الله تعالى به في حال أنبيائه، والله إنه لمن أعظم ما يُؤنس المؤمن في أي بلاء يصيبه وفي أي فتنة يواجهها فيصبر وإن طال به الزمن، لا يقول والله طال بي الوقت. أيوب عليه السلام بقي في مرضه كم سنة؟ ثمان عشرة سنة وغيره وغيره من أنبياء الله والصالحين صبروا سنين طوال على ما أصابهم من البلاء والمحنة في أمر الله عز وجل وفي دينه صبروا وكانت لهم العاقبة.
قال الله (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) لاحظوا أنه غاير بين السنة والعام، ما الحكمة؟ ما السِرّ؟ (أَلْفَ سَنَةٍ) ما قال إلا خمسين سنة، لماذا غاير هنا بين السنة والعام؟ فيه دلالة على حال نوح عليه السلام وما يواجهه.
إجابة أحد الطلاب:....، أحسنت، يعني لعل هذا -والله أعلم- يشير إلى أن السنة في الغالب في عادة لفظ القرآن أنها في الجدب والشِدّة فكأنه واجه منهم هذه السنين كلها شداد وبلاء، لم يجد منهم ولا فترة من فتراته فيها شيء من الاستجابة يعني أنهم بقوا طيلة رسالته كفاراً حتى دعا الله عليهم بأن يستأصلهم، وهذا لا شك يعني أيّ بلاء هذا؟! يعني إنسان يصبر، ويصبر، ويصبر حتى يظفر، هذا أخف، لكن إنسان يصبر، ويصبر، ولم يجد نتيجة عمله كيف ما يصيبه اليأس إلا أن يكون مؤمناً بالله واثقاً به متوكلاً عليه. فهذا معنى، والمعنى الآخر: أنه للتغاير وخفّة النطق باللسان فيها -والله أعلم- وعدم التكرار. قال الله تعالى (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) هنا أجمل الله تعالى قصة نوح، لماذا؟ لأن العبرة هي التذكير بمدة لبث نوح عليه السلام تأييداً للمؤمنين وتأكيداً على صبرهم ويقينهم.
/ قال الله تعالى (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) هذه العاقبة التي يُذكّر الله تعالى بها المؤمنين بأن الله مُنجيكم كما أنجا نوح من قومه وبلائهم بعد ألف سنة إلا خمسين عاماً فكأن الله تعالى يقول إصبروا وإن طال بكم الزمن فإن الله منجيكم كما أنجا الله نوحاً -عليه السلام- بعد ألف سنة فهذا يؤكّد لنا سنة إلهية من صبر ظفر، والعاقبة للتقوى، فالإنسان إذا ابتلي وإن طال به الزمن ينبغي أن ينتظر الفرج (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) هكذا كانت سُنّة الله عز وجل جعل مع العسر يسراً ولن يغلب عسرٌ يسرين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
(وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) ذكر الله تعالى السفينة آية للعالمين هنا لتكون عبرة للكافرين هؤلاء المستكبرين الذين طغوا وتهديداً لهم بأن الله سيعذّبهم كما عذّب أولئك، أولئك الذين أغرقهم الله وأنجا الله نوحاً ومن معه من المؤمنين. وهي عبرة للمؤمنين حينما يشاهدونها أو يشاهدون أمثالها بتذكّر نصر الله عز وجل لنوح، وسفينة نوح بقيت آية للعالمين إلى صدر هذه الأمة، ويقال أن شيئاً من آثارها موجود الآن لكن الله أعلم بصحته، لكن اليقين أن الله أبقاها إلى صدر هذه الأمة كما قال بعض السلف (آيَةً لِلْعَالَمِينَ) ليظهر لهم صدق ما أخبر الله به من الطوفان وأنه قد وقع حتى لا يقال أنه قد يكون ماء جرفهم أو شيء من ذلك فيكذبون آيات الله عز وجل فجعل هذه علامة على هذا الطوفان الذي وقع.
/ قال الله سبحانه وتعالى (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما مناسبة ذكر إبراهيم عليه السلام بعد نوح عليه السلام؟ ما الجامع بينهما؟ بالعزم، وأيضاً ما لاقى من قومه، وهو أبو الأنبياء، وبجامع أيضاً النجاة، بجامع النجاة في قوله -عز وجل- بعد ذلك (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) فتأملوا أن الله سبحانه وتعالى ذكر موقفين من مواقف النجاة العجيبة التي هي من عجائب الله عز وجل ومعجزاته وآياته الباهرة في قدرته على نجاة المؤمنين، النجاة الأولى في نجاة نوح بالسفينة وهي معجزة له ولغيره من العالمين كما قال الله (آيَةً لِلْعَالَمِينَ)، ونجاة إبراهيم عليه السلام من النار التي ليس من الطبيعة أن ينجو منها أحد فكان هذا أعظم عبرة للمؤمنين في أن الله سبحانه وتعالى سينجيهم بأي سبيل، وأنهم لا يسدون على أنفسهم منافذ النصر والنجاة مهما تمكّن الكافرون، ونحن نرى سطوة الكافرين ونحن نرى دولتهم وملكهم لا يضرنا أننا نقول والله كيف يأتي النصر؟! هؤلاء لهم الحكم ولهم الدولة ولهم السلطة وعندهم السلطان والسلاح فكيف ينتصر المؤمنون المستضعفون وهم جُرَّد من السلاح؟! نقول أمر الله تعالى كائن وقادر سبحانه وتعالى أن ينجيهم بأيسر سبيل ولو أن الله -عز وجل- أرسل آية من آياته على أولئك الظالمين لقصم ظهورهم وكسر شوكتهم. هذه دول الغرب بهيلمانها وقوتها وسطوتها والله ليست عند الله بشيء لو أراد أن يقلبها بآية من آياته (كُن فيكون) لو أن الله سلّط عليهم البحر كما رأينا من آياتٍ من آياته سبحانه وتعالى بعدد من الدول الكبرى أن الله سلّط عليهم أعاصير البحر فأغرقتهم، هذه آية يريهم الله تعالى قدرته ولو شاء لأغرقهم لحظة من نهار. فيجب أن يستيقظ في نفوسنا ونفوس المؤمنين أن الله قادر سبحانه وتعالى على إنجاء المؤمنين بأيسر سبيل وبأعظم قدرة يريدها وبأقرب سبيل يريده سبحانه وتعالى. انتقل إلى الحديث في محاجّتهم رجوعاً في مجادلته مع المشركين، فإن هذه السورة فيها مجادلة للمشركين في مقابل تطمين المؤمنين وتأييدهم والأمر بصبرهم وجهادهم.
/ قال الله تعالى (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) أوثاناً لا إدراك لها ولا تصرف لها كيف تعبدونها؟! تعبدون شيئاً لا يتحرك ولا ينفع ولا يضر، أوثاناً، مجرد أوثان؟! وقال (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) ما معنى تخلقون إفكاً؟ يعني تختلقون الكذب المُفترى على هذه الأصنام بأنها لها قدرة وبأنّ لها تصرف وبأنّ فلاناً شُفِيَ بعد أن تقرّب إليها يختلقون القصص والأحاديث عن هذه الأصنام ليعظّمها الناس (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) أي تتعمدون الكذب بقصد تعظيم هذه الآلهة وتقريب الناس لها.
/ قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا) في بيان هنا إبطال لما كانوا يطمعون منها ولِما أشركوها فيها مع الله عز وجل، وبيان أن من أظهر أنواع العبادة طلب الرزق من المعبود والتوكل عليه في ذلك والتوجه إليه في طلبه قال الله تعالى (لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) هم يعترفون ويقرّون بأن الرزق من الله فكأن الله تعالى يقول كيف تعبدون هذه والرزق عند الله؟! (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فقال الله (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) أو أن هذا الحديث عن إبراهيم لقومه (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) كأنه يقول الرزق هو عند الله فقط فلا تطلبوه ولا تبتغوه من غيره (وَاعْبُدُوهُ) شكراً له على نعمته، ثم قال (وَاشْكُرُوا لَهُ) الشكر له -سبحانه وتعالى- بالازدياد من طاعته (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). قال الله تعالى (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في التذكير هنا برجوعهم إليه وأنهم صائرون إلى الله عز وجل.
/ ثم قال الله (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
هذه الآية إما أن تكون من قول إبراهيم لقومه أو تكون استطراداً من كلام الله -عز وجل-في مخاطبة المشركين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن كانت من قول إبراهيم فالمعنى: أنه يقول لهم (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) يعني قومه (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) مثل نوح -عليه السلام- (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ) يقصد نفسه (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ) لكنه جاء بلفظ الرسول للإفادة بأنه مبلَّغ من الله تعالى وأنه لا يأمرهم من تلقاء نفسه وإنما هو مُرسَلٌ من الله قال (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) وهذا يبين لنا أن الإنسان مأمورٌ فقط بالبلاغ (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) إن كذّب الناس أو آمنوا، صلَحوا أو ما صلَحوا هذه ليست العبرة، ليست هي العبرة في الدعوة، الدعوة العبرة فيها البلاغ.
ثم إن كان الحديث في الآية عن الله، من الله للمشركين -مشركي مكة- فالمعنى (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) محمداً (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ) أي محمد (إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
ثم قال الله أيضاً خطاباً من الله للمشركين (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ) وفي قراءة (أَوَلَمْ تَرَوْا) (كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) هذا في تضمين مجادلتهم إثبات البعث الذي ينكرونه، وفيه دليل على أن قوم إبراهيم كانوا يُنكرون البعث إن كان الخطاب من إبراهيم عليه السلام. قال الله (يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إشارة إلى تجدد الخلق، ومعنى تجدد الخلق: أنه ينشأ جيل بعد جيل، يعني خلق الله يتجدد والناس يرونه، يرون تجدد خلق الله فليس خلق الله ثابت في بقائه بل إنه يتجدد ثم يزول ثم يذهب ليثبت للمخلوقين ولهؤلاء أنهم صائرون إلى الله وأنه كما بدأهم يعودون. فقال الله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) يبدأ الخلق ثم يعيده. فالإعادة هنا ليس المقصود به أنه عود الخلق مرة بعد مرة وإنما العود بالبعث بعد الموت. قال الله (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ما هو الذي على الله يسير؟ الإعادة أيسر على الله وكلها يسير، لكنها في دلالة العقل العَوْد أيسر من الإنشاء الجديد، عَوْد الشيء أيسر من الإنشاء الجديد، لأن الإنشاء الجديد يُنشأ بصورة جديدة، أما العَوْد فهو منشأ من صورة سابقة فالعود أسهل ولذلك قال الله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) مع أن كِلا الأمرين هيّن على الله تعالى، لكن السياق جاء في محاجّتهم ومخاطبتهم بالأمر العقلي الذي يدركونه.
/ قال الله (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) هذا انتقال في الاستدلال بما هو مرأى منهم إلى الاستدلال بما هو بعيد عنهم بالسير. ولماذا أمرهم بالاستدلال بما هو بعيد عنهم ولم يكتفي بمرأى منهم يتجدد أمام أعينهم؟
لأن الإنسان في الشيء الذي يتجدد أمام عينيه يغفل عنه ويتبلّد إحساسه فيه كما يقال كثرة المساس تميت الإحساس، فكونهم يرونه مشاهداً أمام أعينهم لا ينتبهون إلى حكمته ولا يتأملونها ولا يتدبرونها وإنما أقرب إلى التدبر والتفكر أن الإنسان ينتقل من مكان إلى مكان فيرى أشياء متجددة فيتفكر فيها ما سرّ هذه؟ الإنسان إذا رأى شيئاً جديداً لا شك أنه يتبصّر فيه ويتفكّر وينظر ما سرّه؟ ما سببه؟ كيف أتى؟ وهكذا. فالله سبحانه وتعالى أمر بالسير في الأرض لينظروا مخلوقاته المتجددة وآياته المشاهَدة، ما هي آياته؟ آياته في البحار والجبال والسهول وسائر المخلوقات وتنوعها والليل والنهار والشمس والقمر، سيرونها عياناً بياناً وتختلف عليها أوضاعهم بحسب أماكنهم فيها والشتاء والصيف وأيضاً الزروع والنباتات وأنواعها كل ذلك لا يكون إلا بالتنقّل. وهذا يبين لنا أن الإنسان إذا انتقل من بيئته اكتسب علماً جديداً وخبرة أوسع واتّسع أفقه أكثر من كونه اكتسب المعرفة في بيئته فقط. قال الله سبحانه وتعالى (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) والمقصود بالنشأة الآخرة: هي البعث بعد الموت.
/ وقال الله -سبحانه وتعالى- (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) سِرُّ هذه الآية: أنه ذكر ما تشتمل عليه النشأة الآخرة، ماذا تشتمل عليه النشأة الآخرة؟ قال الله (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) ولم يقل ترجعون، لماذا؟ للإشارة إلى أنهم سيُرجَعون رغم أنوفهم وأن ذلك ليس لهم به سلطان ولا تصرّف فهو كأنه قال تُرجَعون رغم أنوفكم وبقدرة الله عز وجل ليس لكم فيه تصرّف ولا تمنّع.
قال الله (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) هذه الآية في بيان عدم انفلاتهم وسبقهم عن أمر الله عز وجل في البعث، أين يتصرفون؟ أين يذهبون من أمر الله وقدرته وأمره وبعثه؟ (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) أي ليس لكم قدرة أين تذهبون؟ في الأرض وفي السماء الأمر أمر الله. قال الله (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) والفرق بين الولي والنصير، ما الفرق بينهما؟ الولي: القريب الذي يستشفِع، والنصير: هو المدافِع، فهم ليس لهم أحدٌ يشفع لهم وليس لهم أحدٌ يدافع عنهم، فهي قد أُغلِقت عليهم منافذ النجاة والهرب والانفلات من أمر الله عز وجل وبعثه.
/ ثم أكّد الله تعالى ذلك في الآية التي بعدها قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني هنا بيان بعد أن يئسوا من الهرب، ويئسوا من الولي، ويئسوا من النصير، يئسوا أيضاً من رحمة الله، لماذا؟ لأنه قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ) قد كفروا ليس لهم عند الله -عز وجل- أمر يشفع لهم بأن يدخلوا في رحمته من إيمان أو عمل صالح.قال الله (أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).هنا انتهت مجادلة المشركين عاد السياق إلى الحديث عن إبراهيم عليه السلام قال الله:(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) لاحظوا قوله (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) يعني كأنه قال (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) لم يكن من جوابهم محاورته، ملاينته، موافقته ولو شيئاً يسيراً، لم يجد منهم موافقة البتة ولا مناقشة الأمر أو قبول فيه ولو شيئاً يسيراً (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) عياذاً بالله. كان ذلك أمر فقط، الجواب هو خلافهم في القضاء عليه بعضهم قال نقتله وبعضهم قال نحرقه، ومن الذي غلب؟ الذين قالوا سنحرّقه ولذلك قال الله (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) هذا موضع العبرة هنا في الآية. (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) كأن في هذا درس للمؤمنين الذين يواجهون أعداء الله والفتنة في دينهم أو يواجهون البلاء في دعوتهم من الدعاة أن الله سيمكِّن لهم وسيُنجيهم من بلاء قومهم (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فهي عبرة للمؤمنين.
لماذا هي آيات ولم يقل آية؟ ما هي الآيات هنا؟ ما هي الآيات التي حصلت بإنجاء الله عز وجل إبراهيم من النار؟
- أن الله جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم هذه آية.
- بيان قدرة الله عز وجل، وبيان إكرام الله لإبراهيم.
- إبطال شأن الكافرين الذين حاجّوه وهو عبرة للمكذبين.
- وبيان العاقبة للمتقين.
وكل ذلك آيات من آيات الله عز وجل في نجاة إبراهيم عليه السلام، فيه بيان أيضاً أن المخلوقات كلها مسخّرة بأمر الله فالذي سخّر النار جعلها برداً وسلاماً قادرٌ على أن يسخِّر لعباده المؤمنين كل أمرٍ ينجيهم به أو يؤيّدهم به. قال الله سبحانه وتعالى (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ولم يقل لآيات للمؤمنين، ما الفرق بينها؟ في القرآن كثيرة هذه ونستفيدها من هذا التعبير (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أو (لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أن هذا آيات لقوم يؤمنون أما أولئك القوم فقد كذبوا مع ما رأوا من آيات الله عز وجل. جميل هذا معنى لطيف.
أنتم فهمتم ما ذكر الأخ يعني هو قال آيات لقوم يؤمنون وهؤلاء القوم -قوم إبراهيم- لم يؤمنوا فهم لم يعتبروا بهذه العبرة.
من الأشياء التي ذكرها بعض المفسرين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي الذين تمكن فيهم الإيمان حتى صاروا قوم الإيمان كأنهم أصبحوا قوم الإيمان انتسبوا إلى الإيمان انتساباً تمكّناً مثل ما يقال قوم كذا أو أصحاب كذا يعني انتساباً إليه فهم قد أصبحوا قوم الإيمان أو أصحاب الإيمان برسوخ الإيمان في قلوبهم بهذه الآيات التي شاهدوها وعلموا بها.
قال الله سبحانه وتعالى (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هذا متى جداله إياهم قبل النجاة أو بعده؟ الظاهر أنه بعده لأن السياق يدل على ذلك. قال (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ما معنى (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)؟ يعني أن هذه الأصنام التي تعبدونها تناصرتم وتواددتم في الولاء لها فتمسّكتم وأن هذا من أعظم أسباب تمسّكهم بها وعدم فِكاكهم عنها، تأييد بعضهم لبعض هذا الذي جعلهم يستمسكون بهذه الأوثان، وإلا قد يكون بعضهم يقتنع بأن هذه لا تنفع ولا تضرّ لكن لما رأى إصرار قومه واجتماعهم عليها كما قال الله (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أو (مُهْتَدُونَ) في آية أخرى، فهم سبب بقائهم ليس اقتناعهم بها حقيقة -الغالب- وإنما لكونهم رأوا الناس على ما هم عليه وتآلفوا عليه واجتمعوا عليه. قال الله عنهم أو قال إبراهيم هنا (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) أعوذ بالله! انظروا إلى هذه المودة التي توادّوا عليها وأصرّوا عليها وتمسّكوا بها واجتمعوا عليها يوم القيامة يتلاعنون بسببها ثم يوم القيامة يلعن بعضكم بعضاً، ومثل ذلك قول الله عز وجل (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) وقوله (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) فهذا يدل على أن كل علاقة في الدنيا زائلة في الآخرة وأنها سبب للبغضاء ليس فقط زائلة بل هي سبب للبغضاء واللعن والشتم في الآخرة يشتم بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً في النار، ما أشد هذا! أصحاب في الدنيا بأقرب ما يكونوا ثم يوم القيامة أبعد ما يكونوا من الفِرقة والشتام واللعن!! وأما المؤمنون فهم أنصار في الدنيا أنصار في الآخرة أخلّاء كما قال الله تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). قال الله عز وجل (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ) تأكيد أنكم بهذا مأواكم أي مسكنكم ومقرّكم النار -عياذاً بالله- (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) يوم أن تناصرتم في العداء والكفر والإشراك وأذية نبيه فإنهم يوم القيامة ليس لهم ناصرين.
/ قال الله (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) وهذا يبين أنه لم يؤمن بإبراهيم إلا لوط عليه السلام، أين امرأة إبراهيم؟ هي مؤمنة. السياق هنا في ذكر القوم والأصل في القوم أن يكون رجال (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي من الرجال، من رجال قومه (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قوله (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) يدل على مبادرة لوط عليه السلام بالإيمان لأن الفاء للتعقيب (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي) هذه أول هجرة في الدين، أول هجرة بأمر الله وهي أول هجرة لأجل الدين ولذلك قال الله تعالى (مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي) ومنه نأخذ أن الإنسان إذا لم يجد في بلده مكاناً وسبيلاً إلى إقامة أمر الله وعبادته فالأولى له أن يهاجر. وهذا ينطبق ويقع على الإخوان الذين يسكنون أو يعملون في بلاد الغرب ويجدون من البلاء ويجدون من الضيق أو يجدون من الصوارف عن دين الله ما يصرفهم عن إقامة دين الله عز وجل فواجبٌ عليهم أن يهاجروا بدينهم ويحموا أنفسهم وأولادهم مما يجدونه من البلاء.
قال الله تعالى (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي في نصرته وأمره.
/ ثم قال الله (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام، عوّضه الله خيراً مما تركه، من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه، ترك قومه فعوّضه الله ووهب له هؤلاء الأنبياء (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) هذا يبيّن أن كلّ نبي بعد إبراهيم فهو من سلالته، وكلّ كتاب بعد إبراهيم راجعٌ إلى ملّته.
قال الله (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) ما الذي آتاه الله آجره في الدنيا؟
- أن جعل له ذكراً حسناً
- وأن الله أبقى ملّته في العالمين إلى يوم الدين
- وأيضاً تحقيق نشر التوحيد الذي كان سبيلاً له.
- بقاء نسله، والنبوّة فيه.
- وأيضاً تحقيق دعوته أو استجابة دعوته ونصرته على أعدائه إلى غير ذلك.
(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي لممن كمُل صلاحه وجزاؤه عند ربه ولذا قال (وَإِنَّهُ) (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) هذا التأكيد بـ (إنّ) و"اللام" مؤكدة على كمال أجره في الآخرة كما كمل حاله في الدنيا.
نقف هنا ونكمل إن شاء الله تعالى في المجلس القادم بإذن الله تعالى، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم التوفيق والهدى وأن يجعلنا جميعاً من الصالحين في الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لحفظ الملف الصوتي:
------------------------
المصدر: ملتقى أهل التفسير.
/ قال الله تعالى (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) هنا بيان أن الله -عز وجل- يعلم العاقبة وليُظهر بعد هذه الفتنة أمر الصادقين وأمر الكاذبين.
(فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) كرّر ذلك لأن الأمر يحتاج إلى تمييز بين الفريقين فهذه هي الحكمة في الفتنة التميز بين الفريقين.
ثم تأملوا أن وصف المؤمنين بقوله (الَّذِينَ صَدَقُوا) والكاذبين بقوله (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) لماذا وصف المؤمنين بقوله الذين صدقوا ولم يقل وليعلمن الله الصادقين؟ ما الفرق بين الذين صدقوا وبين قوله الصادقين؟
لا شك -والله أعلم- أن التعبير بقوله (الَّذِينَ صَدَقُوا) يعني الذين تمكّن الصدق فيهم وترسّخ بعد الفتنة وتيقّن فيهم، هم مؤمنون لكنهم بعد الفتنة أشد إيماناً وتمسكاً وصدقاً فكأن الله تعالى يقول ليعلمنّ الله الذين رسخ الصدق في قلوبهم والإيمان ولذلك عبّر هنا بالصدق دون الإيمان -والله أعلم- ليدل على أن المقصود رسوخه وثبوته.
/ ثم قال الله سبحانه وتعالى (أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَسْبِقُونَا ۚ سَآءَ مَايَحْكُمُونَ﴾ [العنكبوت:4] هذه الآية زجرٌ للكافرين الذين فتنوا المؤمنين وهو وعد بأنهم لا يفلتون من أمر الله -عز وجل- وإرادته وقدرته (أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ) ما هي السيئات التي يعملونها؟ هي الكفر أولاً وأذية المؤمنين فتنة المؤمنين ومشاقتهم كل ذلك من عمل السيئات. قال (يعملون) والفعل المضارع يدل على الاستمرار والتجدد أي أنهم يعملون السيئات مستمرة ومتنوعة فأعظم أعمالهم الكفر ومنها أيضاً أذيتهم للمؤمنين.
قال الله تعالى (أَن يَسْبِقُونَا سَاء) والسبق يراد به الانفلات والنجاة يعني أن ينجون من أمرنا وعذابنا وقدرتنا.
(سَاء مَا يَحْكُمُونَ) أي ساء ما يقدّرونه ويظنّونه، هم يظنّون أنهم لن يقدر عليهم أحد ولذلك يحكمون بالأمر الذي يريدونه ويظنّون أن حكمهم نافذ ولهذا قال الله تعالى (سَاء مَا يَحْكُمُونَ) مع أن المقصود ساء ما يظنونه لكن لما بلغ بهم الأمر إلى الكبرياء والسطوة ظنوا أن الحُكم لهم والأمر لهم، وهذا واقعٌ أو مشاهد في الواقع الذي نعيشه الآن، ترون أولئك الذين يفتنون المؤمنين من الطغاة والمجرمين كيف أنهم يتصرفون وكأن الأمر لهم وكأن الله -عز وجل- غير قادر عليهم بل إنهم -والعياذ بالله- يجترؤن على الذات الإلهية ويستهزئون ويسخرون بشرائع الدين وبعباد الله الصالحين وذلك ظاهر فيما يحصل الآن، الآن في سوريا حتى بلغ بهم الجرأة إلى التعدي على الذات الإلهية كما صرّح بذلك أحد ساستهم قبل يومين، وهذا مؤذنٌ -بإذن الله تعالى- بسقوطهم السقوط المهين الذي سيجعلهم عبرة للعالمين بإذن الله تعالى. لكننا لا نظن أن سطوتهم وتصريحاتهم التي تدلّ في ظاهرها القوة والتمكن أنها في الواقع لا حقيقة لها كما رأينا وسمعنا من قبل في شأن طاغية ليبيا أو غيره كيف أنه كان يهذي بما لا يدري يزعم أنه ملك الدنيا ووصف الناس أنهم جرذان فإذا هو قد أصبح هو الجرذ الذي وجد مختبئاً تحت الأرض! فهؤلاء الذي سُلطوا على عباد الله وحكموا بالأمر على أنهم أصحاب الحكم والله إن الله -عز وجل- قادرٌ عليهم وأن ذلك التسلط منهم والزعم منهم بالحكم والتقوّل على الله مؤذنٌ بقرب زوالهم بإذن الله -عز وجل-.
هذه الآية والله إنها لمؤنس للمؤمنين ومرهبة للكافرين (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا) أن يفلتوا منا والله لن يفلتوا من عذاب الله ولن يفلتوا من حكم الله ولن يفلتوا من إرادته وقدرته وعزته سبحانه وتعالى ونسأل الله أن يرينا فيهم يوماً كيوم قارون وفرعون وأُبيّ بن خلف وأمثالهم من طغاة العصر الذين أذهبهم لله وأذلّهم.
في هذه الآية أيضاً عبرة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا) هي عبرة للمؤمنين، المؤمنين الذين يقترفون السيئات وهم يستخفّون بوعيد الله أو ينسونه ويغفلون عنه فإن هذا أقرب للعقوبة، الإنسان الذي يعمل السيئة وينسى وعيد الله، وينسى خوفه من الله، لا يبالي، فإن إثمه أعظم وعقوبته أعجل فليحذر المؤمن من أن يعمل السيئات وينسى وعد الله عز وجل ووعيده ويظن أنه بذلك لن يصيبه من العقوبة ما يصيب غيره، وذلك كله راجع إلى الغفلة والران الذي يكون على القلب.
/ قال الله -عز وجل- (مَن كَانَ يَرْجُو۟ لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لَاتٍۢ ۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾ [العنكبوت:5] هذه الآية فيها تطمين للمؤمنين وفيها تأنيس لهم وفيها حثٌ على أن يتعلقوا برجاء الله ولقاء الله ووعد الله عز وجل.
قال (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ) ما هو لقاء الله؟ الآخرة، لقاء الله في الآخرة.
(فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ) ما هو أجل الله؟ الأجل العاجل في الدنيا ومنه وأعظمه النصر ووعد الله بالتمكين والنصر (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ) أي قريب.
وفي هذه الآية ما يشير إلى غزوة بدر وغيرها وسورة العنكبوت وسورة الروم فيها ما يقارب من ست إشارات لغزوة بدر من استطاع منكم أن يستخرجها قبل أن نذكرها فنرجو أن يحوز من الأخوة بهدية، ست مواضع في سورة العنكبوت وسورة الروم تشير إلى غزوة بدر وغيرها من الغزوات لكن في غزوة بدر على وجه الخصوص في سورة العنكبوت وسورة الروم، ست مواضع أو أكثر تشير الى غزوة بدر أريد أن تذكر الآية ووجه الاستشهاد منها- هذه من أولها: (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ) أي وعده ونصره آت قريب. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لدعائكم واضطراركم وهذا يفيد ويؤكد لنا أدباً مشروعاً للمسلم إذا ابتُلي وهو: أن يُكثر من الدعاء وأن يُلحّ على الله عز وجل وأن يتضرع بين يديه ليجد أجل الله القريب الآتي وذلك أمرٌ ظاهر فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا حاله حينما يضطر في أمره كما فعل -عليه الصلاة والسلام- في بدر كان رافعاً يديه حتى سقط رداءه يدعو ربه ويستغيثه ولهذا قال الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ) [الأنفال:9] نحن اليوم فيما نواجهه من أعداء الله عز وجل في بقاع الأرض ونحن أمة واحدة وجسد واحد فيما يعيشه إخواننا في فلسطين ويعيشه إخواننا في سوريا واليمن وغيرها من بلدان الأرض والله إننا لبحاجة إلى أن نلتم معهم ونناصرهم بأعظم سلاح وهو الدعاء. من منا يبكي ويتضرع ويلح على الله -عز وجل- في أن ينجي الله المؤمنين وينصرهم ويمكّن لهم في بلادهم.
قال الله سبحانه وتعالى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) العليم بماذا؟ العليم بأحوالكم وأنكم تستحقون النصر بضعفكم واستضعفكم واستلجائكم الى الله عز وجل فهذا يدل أيضاً على أن الإنسان في حاله ينبغي أن يظهر منه استنصار الله -عز وجل- في استضعافه بين يدي الله سبحانه وتعالى وصبره ويقينه وتوكله على الله.
/ قال الله تعالى (وَمَن جَـٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـٰهِدُ لِنَفْسِهِۦٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ [العنكبوت:6]
هذه الآية واردة بعد ذكر رجائهم بما عند الله وفيها بعثٌ للمجاهدة في الخير والصبر على الأذى في سبيل الله يعني مع التجائكم إلى الله ورجائكم به جاهدوا واصبروا وأن من صبر ظفر وأن (وَمَن جَـٰهَدَ فَإِنَّمَا يُجَـٰهِدُ لِنَفْسِهِ) فإن مجاهدتك في صبرك ويقينك راجعة إليك عاقبتها لك والعاقبة للمتقين، ولهذا قال الله -جل وعلا- (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) يعني الله سبحانه وتعالى غني عنا أو عن ديننا أو عن تمسكنا وعن صبرنا كل ذلك راجعٌ إلينا في الدنيا بمعية الله وتوفيقه وفي الآخرة في وعده وجزائه العظيم في الجنة.
/ قال تعالى (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِى كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت:7] ما مناسبة هذه الآية؟
هذه الآية فيها وعد للمؤمنين المفتونين الصابرين المجاهدين بأن الله سيكفر سيئاتهم ويجزيهم على صبرهم أحسن الجزاء، يعني تطمينا لهم بأن ما تلاقونه من البلاء والمحنة لكم فيه عند الله جزاءين مع النصر -بإذنه تعالى- ووعده وهما تكفير السيئات (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) فيكفِّر الله عنهم سيئاتهم ويُطهّرهم (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) في مقابل صبرهم ويقينهم وتمسّكهم قوبلوا بجزاء أحسن الجزاء والجزاء من جنس العمل (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا۟ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌۭ) [يونس:29] فإحسانهم بالصبر واليقين والتوكل على الله جزاؤه أن الله يجزيهم أحسن ما كانوا يعملون.
/ ثم قال الله عز وجل (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت:8]
ما علاقة هذه الآية بقضية الفتنة في الدين وأمر المؤمنين في مكة خاصة قرب الهجرة وما يلاقونه من بلاء ومحنة وفتنة من المشركين؟
ذكر الله عز وجل هنا حالة خاصة من حالات الافتتان في الدين وهو أن يُلاقي الإنسان ، أن يفتن في دينه بسبب والديه فيكون والداه سبباً في فتنته وبلائه وأذيته بسبب دينه فذكر الله تعالى بأنه في حالة كون الوالدين هما اللذان يجاهدانك في ترك الدين ويفتنانك عن الدين فما الواجب عليك تجاه ذلك؟ قال الله (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) أي الواجب أن تصبر وأن تحسن إليهما بالطاعة والمعروف فيما لا معصية لله تعالى فيه وإن كانا كافرين وإن كانا يصدانك عن دين الله عز وجل، كيف ذلك؟ رجل يصدك عن دين الله تحسن إليه؟! نعم، أن ذلك أمرٌ أثبته الله -عز وجل- وأمر به في حُكمه برعاية الوالدين ولذلك ليس هناك حالة أبداً من الحالات يؤمّر الإنسان به بعقوق الوالدين مطلقاً.
وهنا إبطال لمن يزعم -حتى من المسلمين- ونجد هذا من بعض الشباب من ييأس فيقول أن أبي على ضلالة وفسق وتارك للصلاة ويذمني ويسبني ويستهزئ بي كيف يكون له حق عليّ بالبر؟! أقول أن هذا أمر أمرك الله به وألزمك به فالتزم به إن كنت مؤمناً صالحاً، إذا كانا يأمران بالشرك وأمر الله ببرهما فكيف إذا كانا على معصية أو أمرا بمعصية؟! فلا شك أن هذا إبطال لحجة من يقول أو يزعم إبطال حق الوالدين حال معصيتهما أو أمرهما بالمعصية.
وهذه الآية قيل أنها نازلة في سعد بن أبي وقاص أو نازلة في عيّاش بن أبي ربيعة.
سعد بن أبي وقاص حينما أسلم حلفت أمه أن لا تستظل بظل سقف ولا تأكل ولا تشرب حتى يرجع عن دينه فهذا أمر كما يقال بين نارين إما أن تموت أمه وإما يبقى على دينه فذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فـأمره بالصبر وأمره بالإحسان إليها والرفق بها ومجادلتها أو محاورتها بالتي هي أحسن فما كان منها حينما رأت إصراره إلا أن تركته وكفاه الله تعالى أمرها.
وكذلك عياش بن أبي ربيعة لما هاجر جاء أخوه أبو سفيان وكان أخوه من أمه وغيره أتى إليه قال إن أمك تبكي وكادت أن تموت فارجع إليها ومحمد قد أمر ببر الوالدين فكان بين أمرين بين أن يهاجر ويترك أمه على ما هي عليه أو يرجع إلى أمه فما زال به حتى رجع معهما فلما تمكنا منه وقيّداه وأتياه إليها وبقي في قيده حتى أذن الله تعالى له.
فهذه الآية هي خطابٌ لكل من يواجه مثل ذلك من والديه قال الله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) ولم يقل إحساناً كما في سورة الأحقاف فما الفرق بينهما؟ هناك قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) [الأحقاف:15] وهنا قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) .
هنا السياق في الحديث عن الوالدين المشركين وتلك الحديث عن الوالدين المؤمنين فهنا لما كان سياق الحديث عن الكافر قال "حُسنا" وهناك "إحسانا" يدل عن أن الوالدين في حالة الإيمان لهما من الحق الإحسان وأنه في حالة الكفر والعصيان لهما حق الحسنى أقل درجة.
قال الله سبحانه وتعالى (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي) لاحظ أنه قال (وَإِن جَاهَدَاكَ) يعني ليست المسألة أمر وإنما مجاهدة والمجاهدة تدل على حرصهما الشديد بكل أنواع الطاقة لديهما في صرفه عن أمر الله وأمره بالشرك الذي يدخل فيه أذيته وتعذيبه وتقييده إلى غير ذلك يعني حتى وإن وصل بهما الأمر إلى أن يعذباك أويضرباك فالأمر باق على ذلك فمسألة المجاهدة مجاهدتهما بأي وسيلة فالأمر باق في الحكم.
قال الله تعالى (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ما هو الذي ليس به علم؟ أي الأصنام والمعبودات التي لا تعبد بعلم من الله -عز وجل- ليس لها سلطان (فَلَا تُطِعْهُمَا)
قال الله تعالى (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ما مناسبة هذه الجملة؟
مناسبته كأنه يقول كيف يكون الأمر في الإحسان إليهما وهما على الشرك؟ فالله تعالى يقول (إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) حسابهما عليّ يوم القيامة، إليّ مرجعكم فأحاسبكم أنت على إيمانك وهما على كفرهما (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
ثم قال الله عز وجل (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى ٱلصَّـٰلِحِينَ﴾ [العنكبوت:9] هذه الآية فيها رعاية وعناية واهتمام من الله عز وجل بشأن المؤمنين المستضعفين الصابرين الذين يواجهون ما يواجهون في دينهم قال الله (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) وذلك بعد أن توعد الكافرين بقوله -عز وجل- (فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) كأنها ترغيب بعد ترهيب.
قوله (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) ولم يقل "والذين أمنوا لهم أجرٌ غير ممنون" أو نحو ذلك, ما مناسبتها؟ مناسبتها -والله أعلم- أنه لما ذكر حال الابن الذي يواجه من والديه الصرف عن دينه مما يدعوه إلى فراقهما كأن الله يؤنسه أنه سيدخله مع الصالحين إيناساً له بعد أن حصل له من الوحشة بفراق أبويه أو أهله بسبب دينه فإن الله يؤنسه بإدخاله في عباده الصالحين. والصالحين هنا دليل على كمالهم لأنه قال (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) فــ (الألف واللام) للكمال هنا كما قال سليمان (وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ ٱلصَّـٰلِحِينَ ﴾ [النمل:19].
/ قال الله (وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ وَلَئِن جَآءَ نَصْرٌۭ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚ أَوَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ [العنكبوت:10] هذا بيان لحال المؤمنين الذين لم يصبروا على فتنة الكافرين بل طاوعوهم ونافقوا معهم فكانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام في مكة ولهذا نقول أن أصل النفاق موجود في مكة لكنه لم يظهر أمره إلا في المدينة فهذه تتحدث عن المنافقين في مكة من المؤمنين الذين آمنوا ثم أوذوا فرجعوا (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) يعني عذابه في الدنيا لم يصبر عليه يقول هذا أشد العذاب وجعله كأنه عذاب الآخرة في شدته فلم يصبر عليه! وهذا واضح في بعض الناس الذي لا يصبر يقول يا أخي من يصبر على هذا؟! من يطيق هذا؟! والأمر أهون مما يتصور لكن لعدم صبره ويقينه يتصور أن هذا البلاء لا يصبر عليه أحد، بل بقوة الإيمان يهون العذاب وبضعف الإيمان بعظم العذاب في نفسه.
قال الله تعالى (وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) هذه الآية تشير إلى ماذا؟ قوله (وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ)؟ هذه الآية الثانية التي تشير إلى غزوة بدر بأنه سيكون نصر لأنه قال (وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ) معنى ذلك أنهم سيقولون ذلك، أو يكون المراد بها فتح مكة حينما يتمكن المؤمنون فيقولون إنا كنا معكم من قبل يعني دخلنا معكم في الإيمان.
قال الله (وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ) أي بأعلم بما في أحوالهم وصدورهم من الصدق واليقين والثبات أو النفاق وعدم الإيمان.
/ ثم قال عز وجل (وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ﴾ [العنكبوت:11] تدل على أن الآية في المنافقين كأن الله -عز وجل- يقول أن الله يعلم الصادق في دينه بصبره ويقينه ويعلم المنافق بتزعزعه وضعفه وهذا واضح في الناس اليوم حينما يُفتن أو حينما تطغى عليه الدنيا أو شيء من ذلك تجده يتنازل عن أمر دينه ولا يبالي بذلك وينصرف عن بعض الواجبات الدينية الواجبة عليه كالصلاة وغيرها ابتغاء الدنيا وعَرَضها الفاني أو نحو ذلك فالله سبحانه وتعالى يقول سيتبين ذلك في المستقبل وسيتبيّن أمر المؤمنين وأمر المنافقين وكلٌ منهم سيأخذ جزاءه عند ربه تعالى. نقف هنا في المجلس الأول ونتابع بعد قليل بإذن الله.
المجلس الثاني:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿١٢﴾ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿١٣﴾}
هذه الآية قول الله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ) هي في سياق الحديث عن مجاهدة المشركين للمؤمنين أول أمرهم كانوا يريدون أن يصدونهم عن الدين ويصرفونهم عنه، ثم لما عجزوا عن ذلك أتوا بأساليب أخرى وهذا حال الكافرين أو حال الإنسان الذي يصدّ عن سبيل الله كخطوات الشيطان، يحاول قدر الاستطاعة بما يستطيع فإن لم يستطع انتقل إلى مرحلة أخرى، فهم هنا انتقلوا إلى مرحلة أخرى وهي أنهم قالوا كونوا معنا على الدين ونتحمل خطاياكم، مثلما يقول بعض الناس "خلّها عليّ أو يقول إثمها عليّ ما عليك" إنسان -مثلاً- يريد أن يغوي إنساناً -مثلاً- بشرب الدخان أو نحو ذلك قال أنا أتحمله، يعني يريد أن يغويه ويتحمل إثمه، هو سيتحمل إثمه لا شك لكونه صدّه عن سبيل الله، لكن الآخر لن يُعفى عن الإثم لكونه فعل ذلك بإرادته وطواعيته واستجابته فهذا زعمٌ باطلٌ منهم في الصدّ عن سبيل الله عز وجل بكونهم يقولون كونوا معنا على ملتنا ونحن نتحمل خطاياكم وهذا زعمٌ باطلٌ لا يقبله عاقل.
قال الله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) بمعنى أنهم لن يحملوه عنهم فيعفونهم، لن يستطيعوا أن يعفونهم عن هذه الخطايا إذا فعلوها. نعم، سيحملونها هم بكونهم صدوهم كما في الآية الثانية التي بعدها لكنهم ليس لهم من الأمر شيء في إعفاء أولئك عن الذنوب. ويظهر أن هذا من أساليب رؤساء الكفار وطغاتهم وساساتهم الذين يريدون أن يصرفون رعاع الناس وعامة الناس أو ضعفاء الناس الذين قد بدأوا في التأثّر بالدين وخافوا عليهم أو منهم من أسلم من النساء والشباب أو نحو ذلك فأحاطوهم بهذه الحُجّة.
/ قال الله تعالى (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) ليحملنّ أي هؤلاء الكافرين أثقالهم، وتأملوا التعبير عن الخطايا بالأثقال فهي في الدنيا خطايا تُكتب عليهم وهي في الآخرة أثقالاً يحملون همها وشقاءها وعَنَتَها وعذابها في النار، قد لا تكون أثقالاً حقيقية على ظهورهم لكنها أثقالاً في ميزان سيئاتهم وأثقالاً عليهم في العذاب في النار عياذاً بالله! وتصوروا كيف يكون شأن الإنسان وهو يحمل هذا الهمّ العظيم وهذه الأثقال من السيئات المضاعفة؟! ولذلك قال (وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) مع أنهم عجزوا عن حمل سيئاتهم وأنها أثقال عليهم إلا أنها تضاعف عليهم أثقالاً مع أثقالهم. ما هذه الأثقال التي ضُوعفت عليهم؟ هي أثقال من أضلوهم عن سبيل الله ودعوهم إلى الكفر أو أثقال الذين صدّوهم عن الإسلام فليست فقط هي أثقال من صدّوهم بل هي أثقال من دعوهم إلى الكفر وصدّوهم عن سبيل الله عز وجل.
قال الله (وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) ما الذي كانوا يفترونه؟
الذي كانوا يفترونه بشِركهم وزعمهم لأصنامهم بأن لها ما لله -عز وجل- من الأمر والشفاعة والضر والنفع ونحو ذلك
أو كانوا يفترون بالكذب على هؤلاء الضعفاء أو على هؤلاء المتبوعين بأن هذا الدين دينهم -أي الكفر- هو الحق وأنهم على الحق وأن هذا ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم.
/ ثم قال الله عز وجل (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) هذه الآية ما مناسبتها في سياق الحديث عن فتنة المؤمنين وصبرهم على أذية الكافرين؟ هو ضرب للمثل للمؤمنين، يعني أنت حينما تريد أن تواسي إنساناً ستذكِّره بمن هو أشدُّ منه بلاءً، فتقول يا أخي اذكُر فلان أو انظر إلى حال فلان كيف ابتلاه الله تعالى بكذا فصبر، فيكون ذلك تخفيفاً عليه. فالله تعالى من رعايته وعنايته بالمؤمنين الذين يواجهون البلاء من الكافرين والنبي -صلى الله عليه وسلم- على رأسهم وذلك مما يلاقيه من شدة في التكذيب، تكذيب قومه وعنادهم وكبريائهم يذكّره الله ويذكّر المؤمنين بنوح -عليه السلام- الذي أرسله الله إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، من يتصور-أيها الأخوة- أن يصبر على أذى أناس وكفرهم وعنادهم واستخفافهم ألف سنة، من يستطيع؟! أنت لو جلست يوم واحد مع أناس يستخفون بك ويستهزؤن بك ويسخرون ويعاندون ربما لم تصبر يوماً واحداً فكيف بألف سنة؟ إن ذلك لمن العزم، ولهذا قال الله (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ومنهم نوح -عليه السلام- فما أعظم هذا الصبر الذي يذكّرنا الله تعالى به في حال أنبيائه، والله إنه لمن أعظم ما يُؤنس المؤمن في أي بلاء يصيبه وفي أي فتنة يواجهها فيصبر وإن طال به الزمن، لا يقول والله طال بي الوقت. أيوب عليه السلام بقي في مرضه كم سنة؟ ثمان عشرة سنة وغيره وغيره من أنبياء الله والصالحين صبروا سنين طوال على ما أصابهم من البلاء والمحنة في أمر الله عز وجل وفي دينه صبروا وكانت لهم العاقبة.
قال الله (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) لاحظوا أنه غاير بين السنة والعام، ما الحكمة؟ ما السِرّ؟ (أَلْفَ سَنَةٍ) ما قال إلا خمسين سنة، لماذا غاير هنا بين السنة والعام؟ فيه دلالة على حال نوح عليه السلام وما يواجهه.
إجابة أحد الطلاب:....، أحسنت، يعني لعل هذا -والله أعلم- يشير إلى أن السنة في الغالب في عادة لفظ القرآن أنها في الجدب والشِدّة فكأنه واجه منهم هذه السنين كلها شداد وبلاء، لم يجد منهم ولا فترة من فتراته فيها شيء من الاستجابة يعني أنهم بقوا طيلة رسالته كفاراً حتى دعا الله عليهم بأن يستأصلهم، وهذا لا شك يعني أيّ بلاء هذا؟! يعني إنسان يصبر، ويصبر، ويصبر حتى يظفر، هذا أخف، لكن إنسان يصبر، ويصبر، ولم يجد نتيجة عمله كيف ما يصيبه اليأس إلا أن يكون مؤمناً بالله واثقاً به متوكلاً عليه. فهذا معنى، والمعنى الآخر: أنه للتغاير وخفّة النطق باللسان فيها -والله أعلم- وعدم التكرار. قال الله تعالى (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) هنا أجمل الله تعالى قصة نوح، لماذا؟ لأن العبرة هي التذكير بمدة لبث نوح عليه السلام تأييداً للمؤمنين وتأكيداً على صبرهم ويقينهم.
/ قال الله تعالى (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) هذه العاقبة التي يُذكّر الله تعالى بها المؤمنين بأن الله مُنجيكم كما أنجا نوح من قومه وبلائهم بعد ألف سنة إلا خمسين عاماً فكأن الله تعالى يقول إصبروا وإن طال بكم الزمن فإن الله منجيكم كما أنجا الله نوحاً -عليه السلام- بعد ألف سنة فهذا يؤكّد لنا سنة إلهية من صبر ظفر، والعاقبة للتقوى، فالإنسان إذا ابتلي وإن طال به الزمن ينبغي أن ينتظر الفرج (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) هكذا كانت سُنّة الله عز وجل جعل مع العسر يسراً ولن يغلب عسرٌ يسرين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
(وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) ذكر الله تعالى السفينة آية للعالمين هنا لتكون عبرة للكافرين هؤلاء المستكبرين الذين طغوا وتهديداً لهم بأن الله سيعذّبهم كما عذّب أولئك، أولئك الذين أغرقهم الله وأنجا الله نوحاً ومن معه من المؤمنين. وهي عبرة للمؤمنين حينما يشاهدونها أو يشاهدون أمثالها بتذكّر نصر الله عز وجل لنوح، وسفينة نوح بقيت آية للعالمين إلى صدر هذه الأمة، ويقال أن شيئاً من آثارها موجود الآن لكن الله أعلم بصحته، لكن اليقين أن الله أبقاها إلى صدر هذه الأمة كما قال بعض السلف (آيَةً لِلْعَالَمِينَ) ليظهر لهم صدق ما أخبر الله به من الطوفان وأنه قد وقع حتى لا يقال أنه قد يكون ماء جرفهم أو شيء من ذلك فيكذبون آيات الله عز وجل فجعل هذه علامة على هذا الطوفان الذي وقع.
/ قال الله سبحانه وتعالى (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما مناسبة ذكر إبراهيم عليه السلام بعد نوح عليه السلام؟ ما الجامع بينهما؟ بالعزم، وأيضاً ما لاقى من قومه، وهو أبو الأنبياء، وبجامع أيضاً النجاة، بجامع النجاة في قوله -عز وجل- بعد ذلك (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) فتأملوا أن الله سبحانه وتعالى ذكر موقفين من مواقف النجاة العجيبة التي هي من عجائب الله عز وجل ومعجزاته وآياته الباهرة في قدرته على نجاة المؤمنين، النجاة الأولى في نجاة نوح بالسفينة وهي معجزة له ولغيره من العالمين كما قال الله (آيَةً لِلْعَالَمِينَ)، ونجاة إبراهيم عليه السلام من النار التي ليس من الطبيعة أن ينجو منها أحد فكان هذا أعظم عبرة للمؤمنين في أن الله سبحانه وتعالى سينجيهم بأي سبيل، وأنهم لا يسدون على أنفسهم منافذ النصر والنجاة مهما تمكّن الكافرون، ونحن نرى سطوة الكافرين ونحن نرى دولتهم وملكهم لا يضرنا أننا نقول والله كيف يأتي النصر؟! هؤلاء لهم الحكم ولهم الدولة ولهم السلطة وعندهم السلطان والسلاح فكيف ينتصر المؤمنون المستضعفون وهم جُرَّد من السلاح؟! نقول أمر الله تعالى كائن وقادر سبحانه وتعالى أن ينجيهم بأيسر سبيل ولو أن الله -عز وجل- أرسل آية من آياته على أولئك الظالمين لقصم ظهورهم وكسر شوكتهم. هذه دول الغرب بهيلمانها وقوتها وسطوتها والله ليست عند الله بشيء لو أراد أن يقلبها بآية من آياته (كُن فيكون) لو أن الله سلّط عليهم البحر كما رأينا من آياتٍ من آياته سبحانه وتعالى بعدد من الدول الكبرى أن الله سلّط عليهم أعاصير البحر فأغرقتهم، هذه آية يريهم الله تعالى قدرته ولو شاء لأغرقهم لحظة من نهار. فيجب أن يستيقظ في نفوسنا ونفوس المؤمنين أن الله قادر سبحانه وتعالى على إنجاء المؤمنين بأيسر سبيل وبأعظم قدرة يريدها وبأقرب سبيل يريده سبحانه وتعالى. انتقل إلى الحديث في محاجّتهم رجوعاً في مجادلته مع المشركين، فإن هذه السورة فيها مجادلة للمشركين في مقابل تطمين المؤمنين وتأييدهم والأمر بصبرهم وجهادهم.
/ قال الله تعالى (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) أوثاناً لا إدراك لها ولا تصرف لها كيف تعبدونها؟! تعبدون شيئاً لا يتحرك ولا ينفع ولا يضر، أوثاناً، مجرد أوثان؟! وقال (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) ما معنى تخلقون إفكاً؟ يعني تختلقون الكذب المُفترى على هذه الأصنام بأنها لها قدرة وبأنّ لها تصرف وبأنّ فلاناً شُفِيَ بعد أن تقرّب إليها يختلقون القصص والأحاديث عن هذه الأصنام ليعظّمها الناس (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) أي تتعمدون الكذب بقصد تعظيم هذه الآلهة وتقريب الناس لها.
/ قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا) في بيان هنا إبطال لما كانوا يطمعون منها ولِما أشركوها فيها مع الله عز وجل، وبيان أن من أظهر أنواع العبادة طلب الرزق من المعبود والتوكل عليه في ذلك والتوجه إليه في طلبه قال الله تعالى (لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) هم يعترفون ويقرّون بأن الرزق من الله فكأن الله تعالى يقول كيف تعبدون هذه والرزق عند الله؟! (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فقال الله (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) أو أن هذا الحديث عن إبراهيم لقومه (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ) كأنه يقول الرزق هو عند الله فقط فلا تطلبوه ولا تبتغوه من غيره (وَاعْبُدُوهُ) شكراً له على نعمته، ثم قال (وَاشْكُرُوا لَهُ) الشكر له -سبحانه وتعالى- بالازدياد من طاعته (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ). قال الله تعالى (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في التذكير هنا برجوعهم إليه وأنهم صائرون إلى الله عز وجل.
/ ثم قال الله (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)
هذه الآية إما أن تكون من قول إبراهيم لقومه أو تكون استطراداً من كلام الله -عز وجل-في مخاطبة المشركين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن كانت من قول إبراهيم فالمعنى: أنه يقول لهم (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) يعني قومه (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) مثل نوح -عليه السلام- (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ) يقصد نفسه (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ) لكنه جاء بلفظ الرسول للإفادة بأنه مبلَّغ من الله تعالى وأنه لا يأمرهم من تلقاء نفسه وإنما هو مُرسَلٌ من الله قال (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) وهذا يبين لنا أن الإنسان مأمورٌ فقط بالبلاغ (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) إن كذّب الناس أو آمنوا، صلَحوا أو ما صلَحوا هذه ليست العبرة، ليست هي العبرة في الدعوة، الدعوة العبرة فيها البلاغ.
ثم إن كان الحديث في الآية عن الله، من الله للمشركين -مشركي مكة- فالمعنى (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) محمداً (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ) أي محمد (إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
ثم قال الله أيضاً خطاباً من الله للمشركين (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ) وفي قراءة (أَوَلَمْ تَرَوْا) (كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) هذا في تضمين مجادلتهم إثبات البعث الذي ينكرونه، وفيه دليل على أن قوم إبراهيم كانوا يُنكرون البعث إن كان الخطاب من إبراهيم عليه السلام. قال الله (يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إشارة إلى تجدد الخلق، ومعنى تجدد الخلق: أنه ينشأ جيل بعد جيل، يعني خلق الله يتجدد والناس يرونه، يرون تجدد خلق الله فليس خلق الله ثابت في بقائه بل إنه يتجدد ثم يزول ثم يذهب ليثبت للمخلوقين ولهؤلاء أنهم صائرون إلى الله وأنه كما بدأهم يعودون. فقال الله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) يبدأ الخلق ثم يعيده. فالإعادة هنا ليس المقصود به أنه عود الخلق مرة بعد مرة وإنما العود بالبعث بعد الموت. قال الله (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ما هو الذي على الله يسير؟ الإعادة أيسر على الله وكلها يسير، لكنها في دلالة العقل العَوْد أيسر من الإنشاء الجديد، عَوْد الشيء أيسر من الإنشاء الجديد، لأن الإنشاء الجديد يُنشأ بصورة جديدة، أما العَوْد فهو منشأ من صورة سابقة فالعود أسهل ولذلك قال الله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) مع أن كِلا الأمرين هيّن على الله تعالى، لكن السياق جاء في محاجّتهم ومخاطبتهم بالأمر العقلي الذي يدركونه.
/ قال الله (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) هذا انتقال في الاستدلال بما هو مرأى منهم إلى الاستدلال بما هو بعيد عنهم بالسير. ولماذا أمرهم بالاستدلال بما هو بعيد عنهم ولم يكتفي بمرأى منهم يتجدد أمام أعينهم؟
لأن الإنسان في الشيء الذي يتجدد أمام عينيه يغفل عنه ويتبلّد إحساسه فيه كما يقال كثرة المساس تميت الإحساس، فكونهم يرونه مشاهداً أمام أعينهم لا ينتبهون إلى حكمته ولا يتأملونها ولا يتدبرونها وإنما أقرب إلى التدبر والتفكر أن الإنسان ينتقل من مكان إلى مكان فيرى أشياء متجددة فيتفكر فيها ما سرّ هذه؟ الإنسان إذا رأى شيئاً جديداً لا شك أنه يتبصّر فيه ويتفكّر وينظر ما سرّه؟ ما سببه؟ كيف أتى؟ وهكذا. فالله سبحانه وتعالى أمر بالسير في الأرض لينظروا مخلوقاته المتجددة وآياته المشاهَدة، ما هي آياته؟ آياته في البحار والجبال والسهول وسائر المخلوقات وتنوعها والليل والنهار والشمس والقمر، سيرونها عياناً بياناً وتختلف عليها أوضاعهم بحسب أماكنهم فيها والشتاء والصيف وأيضاً الزروع والنباتات وأنواعها كل ذلك لا يكون إلا بالتنقّل. وهذا يبين لنا أن الإنسان إذا انتقل من بيئته اكتسب علماً جديداً وخبرة أوسع واتّسع أفقه أكثر من كونه اكتسب المعرفة في بيئته فقط. قال الله سبحانه وتعالى (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) والمقصود بالنشأة الآخرة: هي البعث بعد الموت.
/ وقال الله -سبحانه وتعالى- (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) سِرُّ هذه الآية: أنه ذكر ما تشتمل عليه النشأة الآخرة، ماذا تشتمل عليه النشأة الآخرة؟ قال الله (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) ولم يقل ترجعون، لماذا؟ للإشارة إلى أنهم سيُرجَعون رغم أنوفهم وأن ذلك ليس لهم به سلطان ولا تصرّف فهو كأنه قال تُرجَعون رغم أنوفكم وبقدرة الله عز وجل ليس لكم فيه تصرّف ولا تمنّع.
قال الله (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) هذه الآية في بيان عدم انفلاتهم وسبقهم عن أمر الله عز وجل في البعث، أين يتصرفون؟ أين يذهبون من أمر الله وقدرته وأمره وبعثه؟ (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) أي ليس لكم قدرة أين تذهبون؟ في الأرض وفي السماء الأمر أمر الله. قال الله (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) والفرق بين الولي والنصير، ما الفرق بينهما؟ الولي: القريب الذي يستشفِع، والنصير: هو المدافِع، فهم ليس لهم أحدٌ يشفع لهم وليس لهم أحدٌ يدافع عنهم، فهي قد أُغلِقت عليهم منافذ النجاة والهرب والانفلات من أمر الله عز وجل وبعثه.
/ ثم أكّد الله تعالى ذلك في الآية التي بعدها قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني هنا بيان بعد أن يئسوا من الهرب، ويئسوا من الولي، ويئسوا من النصير، يئسوا أيضاً من رحمة الله، لماذا؟ لأنه قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ) قد كفروا ليس لهم عند الله -عز وجل- أمر يشفع لهم بأن يدخلوا في رحمته من إيمان أو عمل صالح.قال الله (أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).هنا انتهت مجادلة المشركين عاد السياق إلى الحديث عن إبراهيم عليه السلام قال الله:(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) لاحظوا قوله (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) يعني كأنه قال (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) لم يكن من جوابهم محاورته، ملاينته، موافقته ولو شيئاً يسيراً، لم يجد منهم موافقة البتة ولا مناقشة الأمر أو قبول فيه ولو شيئاً يسيراً (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) عياذاً بالله. كان ذلك أمر فقط، الجواب هو خلافهم في القضاء عليه بعضهم قال نقتله وبعضهم قال نحرقه، ومن الذي غلب؟ الذين قالوا سنحرّقه ولذلك قال الله (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) هذا موضع العبرة هنا في الآية. (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) كأن في هذا درس للمؤمنين الذين يواجهون أعداء الله والفتنة في دينهم أو يواجهون البلاء في دعوتهم من الدعاة أن الله سيمكِّن لهم وسيُنجيهم من بلاء قومهم (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فهي عبرة للمؤمنين.
لماذا هي آيات ولم يقل آية؟ ما هي الآيات هنا؟ ما هي الآيات التي حصلت بإنجاء الله عز وجل إبراهيم من النار؟
- أن الله جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم هذه آية.
- بيان قدرة الله عز وجل، وبيان إكرام الله لإبراهيم.
- إبطال شأن الكافرين الذين حاجّوه وهو عبرة للمكذبين.
- وبيان العاقبة للمتقين.
وكل ذلك آيات من آيات الله عز وجل في نجاة إبراهيم عليه السلام، فيه بيان أيضاً أن المخلوقات كلها مسخّرة بأمر الله فالذي سخّر النار جعلها برداً وسلاماً قادرٌ على أن يسخِّر لعباده المؤمنين كل أمرٍ ينجيهم به أو يؤيّدهم به. قال الله سبحانه وتعالى (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ولم يقل لآيات للمؤمنين، ما الفرق بينها؟ في القرآن كثيرة هذه ونستفيدها من هذا التعبير (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أو (لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أن هذا آيات لقوم يؤمنون أما أولئك القوم فقد كذبوا مع ما رأوا من آيات الله عز وجل. جميل هذا معنى لطيف.
أنتم فهمتم ما ذكر الأخ يعني هو قال آيات لقوم يؤمنون وهؤلاء القوم -قوم إبراهيم- لم يؤمنوا فهم لم يعتبروا بهذه العبرة.
من الأشياء التي ذكرها بعض المفسرين (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي الذين تمكن فيهم الإيمان حتى صاروا قوم الإيمان كأنهم أصبحوا قوم الإيمان انتسبوا إلى الإيمان انتساباً تمكّناً مثل ما يقال قوم كذا أو أصحاب كذا يعني انتساباً إليه فهم قد أصبحوا قوم الإيمان أو أصحاب الإيمان برسوخ الإيمان في قلوبهم بهذه الآيات التي شاهدوها وعلموا بها.
قال الله سبحانه وتعالى (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) هذا متى جداله إياهم قبل النجاة أو بعده؟ الظاهر أنه بعده لأن السياق يدل على ذلك. قال (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ما معنى (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)؟ يعني أن هذه الأصنام التي تعبدونها تناصرتم وتواددتم في الولاء لها فتمسّكتم وأن هذا من أعظم أسباب تمسّكهم بها وعدم فِكاكهم عنها، تأييد بعضهم لبعض هذا الذي جعلهم يستمسكون بهذه الأوثان، وإلا قد يكون بعضهم يقتنع بأن هذه لا تنفع ولا تضرّ لكن لما رأى إصرار قومه واجتماعهم عليها كما قال الله (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أو (مُهْتَدُونَ) في آية أخرى، فهم سبب بقائهم ليس اقتناعهم بها حقيقة -الغالب- وإنما لكونهم رأوا الناس على ما هم عليه وتآلفوا عليه واجتمعوا عليه. قال الله عنهم أو قال إبراهيم هنا (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) أعوذ بالله! انظروا إلى هذه المودة التي توادّوا عليها وأصرّوا عليها وتمسّكوا بها واجتمعوا عليها يوم القيامة يتلاعنون بسببها ثم يوم القيامة يلعن بعضكم بعضاً، ومثل ذلك قول الله عز وجل (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) وقوله (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) فهذا يدل على أن كل علاقة في الدنيا زائلة في الآخرة وأنها سبب للبغضاء ليس فقط زائلة بل هي سبب للبغضاء واللعن والشتم في الآخرة يشتم بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً في النار، ما أشد هذا! أصحاب في الدنيا بأقرب ما يكونوا ثم يوم القيامة أبعد ما يكونوا من الفِرقة والشتام واللعن!! وأما المؤمنون فهم أنصار في الدنيا أنصار في الآخرة أخلّاء كما قال الله تعالى (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). قال الله عز وجل (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ) تأكيد أنكم بهذا مأواكم أي مسكنكم ومقرّكم النار -عياذاً بالله- (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) يوم أن تناصرتم في العداء والكفر والإشراك وأذية نبيه فإنهم يوم القيامة ليس لهم ناصرين.
/ قال الله (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) وهذا يبين أنه لم يؤمن بإبراهيم إلا لوط عليه السلام، أين امرأة إبراهيم؟ هي مؤمنة. السياق هنا في ذكر القوم والأصل في القوم أن يكون رجال (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي من الرجال، من رجال قومه (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قوله (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) يدل على مبادرة لوط عليه السلام بالإيمان لأن الفاء للتعقيب (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي) هذه أول هجرة في الدين، أول هجرة بأمر الله وهي أول هجرة لأجل الدين ولذلك قال الله تعالى (مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي) ومنه نأخذ أن الإنسان إذا لم يجد في بلده مكاناً وسبيلاً إلى إقامة أمر الله وعبادته فالأولى له أن يهاجر. وهذا ينطبق ويقع على الإخوان الذين يسكنون أو يعملون في بلاد الغرب ويجدون من البلاء ويجدون من الضيق أو يجدون من الصوارف عن دين الله ما يصرفهم عن إقامة دين الله عز وجل فواجبٌ عليهم أن يهاجروا بدينهم ويحموا أنفسهم وأولادهم مما يجدونه من البلاء.
قال الله تعالى (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي في نصرته وأمره.
/ ثم قال الله (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام، عوّضه الله خيراً مما تركه، من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه، ترك قومه فعوّضه الله ووهب له هؤلاء الأنبياء (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) هذا يبيّن أن كلّ نبي بعد إبراهيم فهو من سلالته، وكلّ كتاب بعد إبراهيم راجعٌ إلى ملّته.
قال الله (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) ما الذي آتاه الله آجره في الدنيا؟
- أن جعل له ذكراً حسناً
- وأن الله أبقى ملّته في العالمين إلى يوم الدين
- وأيضاً تحقيق نشر التوحيد الذي كان سبيلاً له.
- بقاء نسله، والنبوّة فيه.
- وأيضاً تحقيق دعوته أو استجابة دعوته ونصرته على أعدائه إلى غير ذلك.
(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي لممن كمُل صلاحه وجزاؤه عند ربه ولذا قال (وَإِنَّهُ) (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) هذا التأكيد بـ (إنّ) و"اللام" مؤكدة على كمال أجره في الآخرة كما كمل حاله في الدنيا.
نقف هنا ونكمل إن شاء الله تعالى في المجلس القادم بإذن الله تعالى، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم التوفيق والهدى وأن يجعلنا جميعاً من الصالحين في الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لحفظ الملف الصوتي:
------------------------
المصدر: ملتقى أهل التفسير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق