بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وبعد .. أيها اﻹخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا هو اللقاء الثالث في هذه السورة المباركة .. في هذه القصة الكاملة في سورة يوسف.
واليوم نحن نتحدث عن مقطع مهم جدا وهو أحد صور اﻻبتلاء التي ابتُلي بها يوسف عليه السلام. وإذا تيسر أو من خلال الدروس القادمة ستلحظون صور اﻻبتلاء التي تعرض لها يوسف عليه السلام منذ أن كان صغيرا إلى أن أصبح كبيرا. وهذا اﻷمر -أيها اﻹخوة الكرام - وهو اﻻبتلاء أمر يتعرض له كل إنسان في هذه الدنيا لكن الله سبحانه وتعالى يبتلي بعض الناس بالسرّاء وبعضهم بالضرّاء وبعضهم بالمعصية وبعضهم بالطاعة ﻻ يستطيع أن يفعلها، فاﻹنسان بين هذا وهذا، والمتأمل في القصة يرى كيف كان يوسف عليه السلام يتعامل بنور الله مع كل ابتلاء بحسبه. وأخطر اﻻبتلاءات هو اﻻبتلاء بالسراء الذي يظن الناس أن هذا أبسط شيء ولذلك تجد أكثر الناس شقاء وأكثر الناس قربا للضلال هم الذين يُبتلون بالمال والملذات ولذلك ما ذكر الله المترفين في القرآن إلا ذمّهم، وﻻ ذكر الترف إلا ذمّه ولو كان في الغنى والترف والنعيم مكانة لكانت لمحمد صلى الله عليه وسلم، لقد توفي صلى الله عليه وسلم وهو مدِين ليهودي، ما كان عنده شيء من الدنيا وﻻ اﻹرث وﻻ العقارات وﻻ اﻷموال، ما كان شيء وإنما ورّث علما.
حديثنا اليوم .. أذكر أننا أطلنا كثيرا في قوله تعالى (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وقضية اﻹحسان التي ظهرت معالمها في خلال هذه السورة وخلال هذه القصة قوله تعالى (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وكأن فيه إشارة أن هذا العطاء الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) هذه اﻷشياء التي أعطاها الله ليوسف عليه السلام جعل الله عز وجل لها علة وسبب قال (وَكَذَلِكَ) أي بسبب هذه .. إنا أعطيناه هذه اﻷشياء بسبب ماذا؟ أنه محسن (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ولذلك - إخواني الكرام - اﻹنسان يستفيد من هذا أنه يُحسن بقدر ما يستطيع بقوله أو بفعله أو برأيه أو بأي شيء يستطيعه في هذه الدنيا فإن الله عز وجل سيصرِف عنه من البلاء بسبب إحسانه ما لم يكن له به طاقة، وسنرى اﻵن.
اﻵن جاءت الحادثة اﻷولى بعدما كبِر يوسف عليه السلام، كان الخوف عليه وهو صغير أن يموت في البئر أو أن يقتله إخوته أو إلى غير ذلك، اﻵن أصبح كبيرا بدليل قوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) اﻵن كبر. أعطاه الله سبحانه وتعالى حكما وعلما، وبلوغ اﻷشد قالوا ما بين الخامسة والثلاثين إلى اﻷربعين، وسن اﻷربعين هي السن التي يُنبأ فيها اﻷنبياء فدل ذلك على أننا نتكلم عن مرحلة جديدة في حياة يوسف عليه السلام مرحلة عمر مُتقدم أصبح كبيرا اﻵن .. شابا .. قويا في قوة شبابه، في هذه اللحظة في هذا العمر يقول الله عز وجل (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ) وهنا كلمة "راودته" كلمة تدل على إعادة الفعل مرة بعد مرة ﻷن "راود" فعل يدل على المعاودة وهو مأخوذ من رود اﻹبل وهو أنها تأتي إلى الماء وتذهب عنه ثم تعود له مرة ثانية -هذا في كلام العرب- فدل ذلك أن هذه المرأة فعلت مع يوسف عليه السلام هذا اﻷمر أكثر من مرة وقد تمنّع لكن لماذا ظهرت هذه الحالة التي هي أمامنا اﻵن؟ ﻷنها هي اﻷظهر وربما تكون هي الحالة اﻷخيرة .. الكبيرة لكنها قطعا ليست الحالة اﻷولى ﻷنه ﻻ يُعقل أن إمرأة تكون بهذا العقل مباشرة بدون مُقدمات تقول لمملُوك عندها تعال افعل كذا وكذا بدليل قوله تعالى ( وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) هذه الصراحة ﻻ يمكن أن يُقدِم عليها إنسان مباشرة إﻻ أن يكون قد فكر في أشياء قبلها، حاول محاوﻻت قبلها إما تلميحا أو قريب من التلميح ثم جاء اﻵن وقت التصريح. فذكر الله لنا هذه الحالة التي هي اﻷكبر واﻷضخم وآخر ما وصلت إليه هذه المرأة.
أنا أريد أن أقف هنا وقفة: امرأة بهذا اﻷمر -يا إخوتي الكرام - بهذه الصورة اﻵن التي أمامكم:
أوﻻ: توفر فيها كِبر السِن
ثانيا: توفر فيها الغِنى
ثالثاً: توفر فيها السلطة فهي زوجة هذا العزيز هذا الرجل المسؤول الكبير فهي مُستغنية بمثل هذه الأشياء عن مثل هذا الطلب فكيف حصل هذا منها؟! نريد أن نقول استدلالا من هذه اﻵية أنه ما اجتمع رجل بامرأة اختلفت السن أو ما اختلفت .. واحد منهم صغير وإﻻ واحد منهم كبير تبقى المرأة مرأة والرجل رجل، ويُزين الشيطان المرأة الكبيرة في عين الصغير والعكس ﻷن هذا هو فعل الشيطان. وإلا يا إخواني الكرام تخيلوا معي حال يوسف عليه السلام، تراه حال عجيب.
نحن فهمنا أن انتقال يوسف عليه السلام من بيته كان في سن صغيرة واستدللنا على هذه السن الصغيرة من أنه يرتع ويلعب والذي يرتع ويلعب في العادة في العاشرة أو دون العاشرة والذي يُخاف عليه هو في مثل هذه السن فهو في مرحلة اللعب، ولم يطُلْ بقاؤه طويلا في البئر بل انتقل مباشرة إلى القصر فدعونا نقول -ولو توقعا- إنه دخل بيت العزيز وعمره عشر سنوات والآن الكلام يتحدث عن (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) وكما في اﻵية اﻷخرى (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) إذا نحن نتحدث عن سن خمس وثلاثين سنة إلى أربعين، دخل عمره عشر سنوات، كم بقي في هذا البيت؟ سنوات طويلة -يا إخواني الكرام- يمكن خمس وثلاثين سنة إلى أربعين سنة في كل هذه الفترة كان هؤﻻء الناس يتعاملون معه على إنه ابنٌ لهم ، وإذا كان ابن لهذه المرأة فالمُتوقع أن تقول له يا بُني كل هذه الفترة وتعامله معاملة أنه ولد لها وهو أيضا يدعوها بأمه، هذا المتوقع، ومع هذا هذا لم يشفع، هذا اﻷمر كله لم يشفع أن تتحرك شهوة هذه المرأة بخلوها مع فتى كبِر .. وكبِر حتى استوى وأصبح رجلا نسيت اﻷمومة .. نسيت البنوة ونسيت التربية وجاء الشيطان ليُشغلها بشيء واحد هو الفاحشة -عياذا بالله- هذا يدل على أنه لا حجة ﻷحد بأن يقول والله القلوب طيبة وهذه صغيرة وهذه كبيرة وهذا ربيّناه عندنا، ما ينفع هذا الكلام مافيه أظن حالة مثل هذه الحالة مرّت ومع هذا فعلت هذه المرأة هذه الفعلة الشنيعة، صحيح إن ما فيه دين يردعها لكن نحن أيضا نحتاج أن نأخذ باﻷسباب ( ما خلا رجل بامرأة إﻻ كان الشيطان ثالثهما ) ما فرّق اﻹسلام بين امرأة صغيرة وﻻ كبيرة، الكبيرة لها أحكام مُعينة في قضية الحجاب لكن ليس في قضية الخلوة، ولذلك هذه اﻵية دليل واضح على خطورة اجتماع الرجل بالمرأة في خلوة تأمن أو هو يأمن معها، إذا أمِنوا من الرقيب تحرّك الشيطان في هذه الحالة فأغرى هذا الشيطان هذه المرأة بهذه الفعلة الشنيعة التي فيها خيانة لزوجها ولذلك الله سبحانه وتعالى قال مُشنِّعا عليهم -انظر اللفظة القرآنية هنا قال (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) لماذا لم يقل وراودته سيدته مع أنه لم يذكر في القرآن أنها سيدة له وهذا لعُلو مكانة يوسف عليه السلام ما ذُكرت السيادة وﻻ العبودية لكن هم اشتروه وعاملوه هذه المعاملة أو معاملة اﻻبن لكن في النهاية هم اشتروه.
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) قال لزيادة التوبيخ والتقريع لها وكأنه يريد أن يقول أنه كان المفترض في مثلها أﻻّ تراود أحدا هو يعمل عندها وتحت إمرتها وفي بيتها بل يقولون وحتى هذا اﻷمر مذموم عندهم في المجتمع المُخملي المُترف هذا أيضا مذموم ولذلك ذمته النِسوة يعني كأنه يريد أن يقول لو كان يريد أن يُراود ما يراود مثل هذا، هذا عامل عندها يعني خادم عندها تبحث عن رجل آخر، هذا ماعندهم مشكلة فيه لكن كان الذم أن يكون هو فتاها. هذا جانب.
الجانب الثاني: في قوله تعالى (عَنْ نَفْسِهِ) فيها دليل على تمنّع يوسف عليه السلام حتى لكأنها دخلت إلى داخل نفسه وأصبحت تحاول في نفسه وتفصِله عن نفسه لتجعل هذه النفس تتجه إليها هي، تراوده عن نفسه .. عن روحه .. عن نفسه، هذا في ذمها هي، فعُرِّفت في هذه اللحظة .. في هذا الموقع بالذات بالاسم الموصول الذي جاءت صلته (هُوَ فِي بَيْتِهَا) وكأنه قيل عيبٌ عليها أن تفعل مثل هذا لفتى تربى في بيتها فالمُفترض في مثلها أن تحفظه وترعاه وهي في منزلة أمه فعيب عليها فذُكرت هذه الصلة لمزيد من الذم لها.
لكن في المقابل رفع الله قدر يوسف عليه السلام في مثل هذا الموقع فإن يوسف عليه السلام لما نتأمل حاله قد ابتُلي في مثل هذا الموقف وتراكمت عليه أسباب اﻻبتلاء بحيث لو حصل واحد منها لبعض الناس لربما رسب في اﻻمتحان فهو :
أوﻻ : شاب في ريعان الشباب ومعلوم أن الشهوة عند الشاب دافعها أقوى من غيره.
ثانيا : أنه غريب وعادة الغريب ﻻ يستحي مما يستحي منه ابن البلد فقد يردعك أحيانا نظر الناس أو المجتمع أو خوف -وهذه الحمد لله أحيانا تفيد اﻹنسان بشيء- لكن هذا غريب، ولذلك ﻻحظ أي إنسان منا اﻵن يمكن يذهب عن جماعته أو ناسه حتى لبسه يمكن أن يلبس أشياء لم يتعود أن يلبسها أمام الناس، هي ليست حراما لكن هناك نوع من أنواع النظر للمجتمع في بعض القضايا فما بالك بمثل هذه القضايا.
ثالثا : أن يوسف عليه السلام في مثل هذه الحالة لم يطلب وصال هذه المرأة بل هي التي طلبته وهذا أمر معكوس فإن العادة أنه هو الذي يسعى لمثل هذا، يعني الشاب هو الذي يسعى لمثل هذا فهي اختصرت عليه مثل هذا وهي التي طلبت مثل هذا الطلب.
رابعاً : أن هذه المرأة كانت صاحبة جمال. أما كيف عرفنا أنها صاحبة جمال فنحن ما رأيناها؟ لكن عادة مثل هؤلاء المترفين يبحثون عن الفتاة الجميلة بمواصفات خاصة.
خامسا : أنها صاحبة منصب، صاحبة أمر ونهي.
سادسا : أنها صاحبة غِنى. والغِنى -ا المكان المترف- يدعو اﻹنسان للتفكير في أمور أخرى فإن اﻹنسان الجائع -مثلا- أو الذي ﻻ يجد شيئا يلبسه ﻻ يفكر في مثل هذه اﻷشياء أهم شيء عنده يأكل ويشرب فإذا شرب وأكل وشبع فكر في الشهوات اﻷخرى فلذلك يقول شهوة البطن تُقدم على الشهوات اﻷخرى فإذا شبع اﻹنسان جاءت المعاصي اﻷخرى ولذلك الصوم يمنع اﻹنسان من أشياء كثيرة.
هذه اﻷشياء وغيرها كثير تدعو هذا الشاب في مثل هذه اللحظة إلى أن يفعل هذه الفعلة.
لو زدنا عليها أيضا بعض اﻷمور اﻷخرى المتعلقة بالمكان.
زد عليها سابعا أو ثامنا تحصين المكان (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) .
زد عليها وجود اﻷمن فإن يوسف عليه السلام لن يشك أحد فيه وهو يدخل وهو يخرج ﻷنهم تعودوا أن يروه في هذا البيت فما هناك شك، ما هناك خوف من هذه الناحية. كل هذه اﻷسباب تدعو اﻹنسان إلى أن يفعل الفاحشة وهو ﻻ يفكر.
سبب واحد أحيانا يعرض - للأسف- لبعض شبابنا يضيع بسببه. فكل هذه اﻷسباب يعني فصّلناها أو جمعناها كل هذه اﻷسباب بفضل الله عز وجل وحمايته ليوسف عليه السلام لم تؤثر فيه بل إنه مباشرة لما قالت له الكلمة (هَيْتَ لَكَ) قال (مَعَاذَ اللَّهِ) وهذا القرار السريع دليل على قوة إيمانه واعتماده على ربه وتوفيق الله له ﻷنه أخطر شيء في مثل هذه المواقف هو التأجيل، التفكير زين لكن ليس في كل مكان، التأجيل جيد، المُهلة طيبة لكن ليس في كل شيء، في مثل هذه المواقع لا، الحرام إذا كان واضحا أمامك ﻻ تفكر، أتتك صفقة وفيها شيك وفيها توقيع وفيها تزوير وفيها رشوة لا تقل والله أنا ظروفي اﻵن .. يمكن أستفيد .. يمكن أرجع، ما ينفع، حرام .. حرام توقف عنه مباشرة ﻷن مجرد تفكيرك فيه سيقُودك الشيطان إلى خطوة أخرى وغالبا يقع اﻹنسان في الخطأ إذا أجّل.
هذه في المقدمة الأولى في قضية (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ).
(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) تغليق اﻷبواب دليل على اهتمامها بتحصين المكان وذلك لسببين:
اﻷول: أنها ﻻ تريد يوسف أن يهرب وهي تتوقع ذلك منه.
الثاني: أنها ﻻ تريد أن يدخل أحد.
وأما كلمة "غَلَّقَتِ" دون "أغلقت" مع أن كِلا المثالين يدل على تعدية الفعل لكن إذا جاءت الشدَّة في الكلمة فإنها تدل على التشديد في المعنى فإننا عندما نقول كسرت الزجاج ليس كما نقول كسّرت الزجاج بل إن اﻹنسان العاميّ الذي ﻻ يعرف لغة وﻻ بلاغة إذا وجد شيئا محطما -كالسيارة مثلا- يقول وجدت سيارتي مكسّرة، هذا التعبير يدل على التكسير إما الكثير يدل على الكثرة أو الشدّة أو يدل على اﻹثنين معا فدل ذلك على أنها اهتمت بتغليق اﻷبواب إما بكثرة اﻷقفال أو بزيادتها أو بتمنيعها أو بأي صورة المهم دلّت كلمة "غلّقت" على أن المرأة اهتمت اهتماما بالغا ليس فقط إغلاق بسيط إنما غلّقته إغلاقا مُحكما. وأنت ترى بعض الناس يُغلق ثم يُغلق مرة أخرى وإذا فيه إغلاق ثالث، ما يفعل هذا إﻻ في حاﻻت معينة تستدعي مثل هذا اﻷمر.
ثم قال (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) ولم يقل الباب فجمعت اﻷبواب وجمعُ اﻷبواب إما أن يكون الباب نُزِّل منزلة أبواب ﻷنه باب عظيم فإغلاقه كإغلاق أبواب كثيرة أو أن هناك أبواب كثيرة فباب داخلي وباب بعده وباب خارجي. وهذا المعهود في القصور في الغالب أبوابها كثيرة تجد باب داخلي وباب خارجي وباب الغرفة فهي أبواب كثيرة. فهي غلّقت كل هذه اﻷبواب (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ) .
بعد ذلك بعدما استتب الأمن لها ونظرت أنها أحكمت الخطة إحكاما بالغا (وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ)
"هيت لك" كلمة اختلف فيها المفسرون كثيرا حتى قال بعضهم هي كلمة ليست عربية. على كل حال الكلام فيها يطول لكن من معانيها : "هيت لك " أي أقبل أنها اسم فعل بمعنى أقبل يعني تعال " هيت لك " فدعته صراحة وبدون تلميح صراحة ، وهذه مرحلة أي امرأة في الدنيا مهما حصل فيها من التبجح في مثل هذه اﻷحوال يصيبها خجل لكن هذا دلّ على أنها تمرّست على هذا اﻷمر وهو ليس أول محاولة لها بل هذه المحاولة اﻷكبر واﻷخيرة ولذلك قالتها بصراحة (هَيْتَ لَكَ) أقبل إليّ.
مباشرة قال يوسف عليه السلام (مَعَاذَ اللَّهِ) وﻻحظوا معي ما الذي فعله يوسف عليه السلام. بعضنا يلجأ إلى الهرب -مثلا - إلى الدفع .. إلى الضرب، هذا سلوك حسن لكن هناك شيء قبله وهو اللجؤ إلى الله سبحانه وتعالى ولذلك موسى عليه السلام لما قال الله له (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) [طه:٢٤] كلمة (إِنَّهُ طَغَى) "إن" هنا تفسيرية يعني ﻷنه طاغية، والطاغية هو الظالم الذي تجاوز في ظلمه كل حد. الله يقول لموسى اذهب إليه ﻷنه طاغية ظالم، ولو في تعبيرنا البشري وفيه أب يقول لولده كان سيقول له ﻻ تذهب إليه ﻷنه طاغية .. ﻻ تذهب إليه ﻷنه مجرم .. ﻻ تذهب إليه لكن الله يقول اذهب إليه ﻷنه مجرم فماذا قال؟ انظر الرد .. مباشرة لجأ إلى الله (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) [طه] بعد ذلك تأتي الحلول اﻷخرى معي واحد يساعدني ولساني ينطلق -أمور أخرى .. مهارات أخرى- لكن أول حاجة دائما يعملها الواحد إذا جاءته مشكلة مثل هذه يلجأ إلى الله ويطلب عون الله ثم بعد ذلك يقوم بفعل اﻷسباب اﻷخرى. إذا ﻻبد أن نتعلم أن فعل اﻷشياء وتحقيقها يحتاج إلى سببين :
/ سبب شرعي وهو التوكل على الله واﻻستعاذة بالله واﻻعتصام بالله.
/ سبب مادي وهو القيام بالسبب الذي تقدر عليه من الهروب أو الذهاب أو الرفض هذه أسباب كلها تقدر عليها ﻻزم تقوم بهذه اﻷسباب، فإذا اجتمع السبب المادي مع السبب الشرعي -غالبا - يكون النجاح، وإذا ما حصل نجاح فليس من السبب الشرعي، هذا سببه السبب المادي أن اﻹنسان كان يمكن أن يقوم بأكثر من هذا ولكن لم يقم بهذا يعني قصّر في شيء كان يمكن أن يقوم به.
طيب على كل حال قال (مَعَاذَ اللَّهِ) يعني أعوذ بالله .. التجئ إلى الله أن أفعل هذا (مَعَاذَ اللَّهِ).
وكلمة "الله" هذه اللفظة العظيمة التي ﻻ يوجد في الوجود مثلها، كلمة "الله" والعجيب أيضا أن كلمة " الله" هي التي تألفت منها كلمة ﻻ إله إلا الله فحروف لا إله إلا الله كلها في كلمة "الله" وهذه الحروف كلها ينطقها اﻹنسان دون أن يحرك شفتيه، وهذه الكلمة يخافها الكافر حتى لو لم يفهم معناها ولذلك أحد المفسرين وهو أبو السعود إذا ذكر كلمة الله دائما يذكر عندها " وذِكر لفظ الجلالة لتربية المهابة " فكانوا يخافون من كلمة "الله" وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم اخترط السيف وهو نائم صلى الله عليه وسلم فلما أفاق فإذا الرجل واقف على رأسه ومعه السيف -سيف النبي صلى الله عليه وسلم- فقال من يمنعك مني يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله، فخاف الكافر وانتفض وسقط السيف من يده ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم السيف وقال: من يمنعك مني اﻵن؟
ليس لديه شيء، عنده أصنام ﻻ تضر وﻻ تنفع، (فقال: يا محمد كن خير آخذ) يعني سامحني، فسامحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أسلِم، قال أنا ﻻ أريد أن أُسلم فذهب وبعد فترة جاء بقومه كلهم وقد أسلموا، قال لماذا لم تُسلم عندي؟ قال: خشيت أن يقال أسلم من أجل السيف. فأسلم من أجل ماذا؟ من أجل اﻷخلاق. عفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. نحن ﻻ نعفو -أحيانا - عن مسلمين إخواننا، وهذا في حالة حرب ترى، في لحظة حرب وليس في لحظة عادية.
على كل حال .. فكلمة (مَعَاذَ اللَّهِ) تزلزل حتى هذه المرأة، لما قال (مَعَاذَ اللَّهِ) قوّى نفسه وضعّفها هي.
( إِنَّهُ رَبِّي) "إن" هنا تفسيرية ﻷنه، فأنا أستعيذ بالله ﻷنه. (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) فأنا أستعيذ بالله أن أفعل هذا اﻷمر، السبب؟ هذا طبعا لجؤ منه إلى الله سبحانه وتعالى ولكن عنده أيضا سبب آخر يدفعه فإن اﻷخلاق تؤثر في اﻹنسان، واﻹنسان الوفي يكون وفيا دائما. ( إِنَّهُ رَبِّي) هذه اللفظة تحتمل أحد معنيين :
- إما ( إِنَّهُ رَبِّي) يعني الله أحسن مثواي فأنقذني من مثل هذه المهالك التي مررت بها.
- أو ( إِنَّهُ رَبِّي) يعني الرجل الذي رباني الذي هو هذا العزيز الذي سكنت عنده ثلاثين سنة أو عشرين سنة أو اللي يكون.
والذي يظهر -والله أعلم - على اﻷقل في نظري أن المعنى الثاني هو اﻷقرب وأن المقصود هنا أنه استعاذ بالله، هذا سبب أول وهو عظيم.
اﻷمر الثاني -العلة الثانية- تختص بها هي فقال ( إِنَّهُ رَبِّي) يعني الزوج -يعني زوجك- هو ربي يعني هو رباني كما نقول رب البيت وهذا تعبير صحيح ﻻ شيء فيه. ( إِنَّهُ رَبِّي) يعني الرجل الذي رباّني، والدليل على ذلك يعني على اﻷقل في تأييد هذا المعنى إنه قال (رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) وقد قال في اﻵية التي قبلها (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) فحفِظ يوسف عليه السلام لهذا الرجل فِعل المعروف هذا، يقول هذا رجل أحسن إلي يوم أن دخلت عليه وأنا صغير قال أحسني مثواي، أنا ما نسيت هذا له والله لن أخونه أبدا في زوجته. -هذا أيضا من فعل المعروف ومن الوفاء- فقال لا والله أنا لا أفعل هذا في رجل حصل أنه فعل بي هذا الفعل الطيب وهو زوج المرأة.
(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) في كلا الحالتين إما بفعل الفاحشة فإن الإنسان يظلم نفسه أو أنني أفعل مثل هذا الفعل وأخون هذا الرجل الذي أحسن إلي وهذا ظلم، إنسان أحسن إليك لا تنسَ هذا اﻹحسان. وأنا أقول إذا كان يوسف يتذكر هذا الفعل بعد عشرين سنة أو أكثر فما بالنا نحن لا نتذكر -أحيانا- المعروف الذي قبل أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين؟! بعض الطلاب اﻵن يرون مُعلمهم الذي علمهم القرآن أو مُعلمهم الذي علمهم في المدرسة اﻻبتدائية والمتوسطة ﻻ يقيمون له وزنا وﻻ مكانة، أنا ﻻ أقول كل الناس لكن بعض اﻷشخاص أثروا في حياتك، أكيد قدموا لك معروفا ﻻ تنسَ هذا المعروف ولو كان هذا المعروف كلمة قالها هذا العزيز ، كلمة قال "أكرمي مثواه"، كلمة قالها ومع هذا حفظ يوسف عليه السلام له هذا المعروف، وعلى فكرة ترى حفظ له هذا المعروف طيلة القصة كلها فلم يذكر هذا البيت بسوء أبدا في كلامه إلى أن انتهت القصة كلها، وهذا مالا يقدر عليه كثير من الناس.
/ يقول الله عز وجل بعد ذلك، بعدما وضّح يوسف عليه السلام موقفه اﻵن (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) بعدما بيّن هذا الموقف، هذه المرأة لم تقف عند هذا الحد ورأت أن هذه هي الفرصة اﻷخيرة لها فلذلك حاولت أن تعمل عملا آخر فهي ما زالت عازمة على فعل هذه المصيبة وعلى هذا الطلب لأنه انفضح أمرها اﻵن.
يقول الله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) هذه القضية كثُر الحديث فيها عند المفسرين وهي قضية حصول الهمّ من يوسف عليه السلام أو عدم حصوله وأنا أريد أن أوضح أمرا اﻵن ونرجح أمرا في آن واحد.
اﻷمر اﻷول : مجرد الهمّ بالمعصية ﻻ يُحاسب عليه اﻹنسان فما فيه وﻻ واحد إﻻ وحصل في نفسه ميل إلى معصية ولكنه يراجع نفسه فيعود ويتركها ومن نعمة الله أنه إذا عاد وتركها -مع أم أنه مجرد همّ- كتبها الله له حسنة وهمّه بها ﻻ يكتبه الله شيئا. همّ ثم بعد ذلك عاود نفسه وراجع نفسه ولم يعلم به أحد ونزع عن هذا الهمّ الذي في نفسه وهذه المعصية كتبها الله له حسنة وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى. فحتى الذين قالوا بمجرد وقوع الهم من يوسف عليه السلام فهذا أيضا قول مقبول لكن الذي يترجح لنا أن الهمّ لم يحصل أصلا وسأذكر اﻷدلة على ذلك اﻵن من خلال النصّ القرآني الذي أمامكم.
يوسف عليه السلام لم يحصل منه الهمّ أصلا -من أصله- وهذا ما تدل عليه اللغة واﻷمر فيه صعوبة نوعا ما لكن أنا سأحاول أن أُبيّنه بشكل مبسط اﻵن.
أولا: بعض الذين قالوا بهذا الرأي قالوا: ومما يوضح هذا: الوقوف في القراءة على قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) المصاحف التي أمامنا مكتوب عليها "صلي" معناه أن الوصل أولى، على الرأي الذي نقوله يفترض أن يكتب عليها "قلي" الوقف أولى. أنا سأقرأ بالوصل وسأقرأ بالوقف ونرى معنى كلاهما. الوقف له دور كبير في كشف المعاني. والوقف عِلم من علوم القرآن، الوقف واﻻبتداء أُلفت فيه مؤلفات خاصة.
يقول الله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) هذا بالوصل.
بالوقف (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ثم نقف (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) ﻻحظوا لما فصلت ووقفت أنني أثبت الهمّ لها بدون استثناء وبدون قيد وجعلت "اللام" و "قد" التي هي مثبتات في لغة العرب تتعلق بالهمّ الخاص بها (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أما الهمّ الذي عنده هو (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) يقول لك سقط من السطح لوﻻ ستر الله هل تفهم أنه سقط أم لم يسقط؟ ما سقط، مادام أني قلت "لوﻻ" ما سقط. الذي أشكل على كثير من المفسرين أو الذين قالوا بغير هذا الرأي هو "لوﻻ ".
" لوﻻ" في لغة العرب حرف يدل على امتناع لوجود. سأشرحها بشكل مبسط.
" لوﻻ" حرف يدل على امتناع شيء لوجود شيء [ لوﻻ عطل السيارة لزرتك ] أنا أعتذر منك إني لم أزرك فقلت لك لوﻻ عُطل السيارة يعني لوﻻ أن السيارة تعطلت لزرتك، هل أنا زرتك أو ما زرتك؟ ما زرتك، فتوقفت الزيارة .. تعطلت الزيارة .. لم تحصل الزيارة بسبب وجود العطل ولذلك هذا يقول لك حرف امتناع لوجود امتنعت الزيارة لوجود العطل. بينما "لو" يقولون حرف امتناع ﻻمتناع، امتناعان وليس امتناع واحد وهذه فيها كلام آخر.
فدل ذلك على أنه إذا وُجد شيء مترتب على شيء ودخلت " لوﻻ" فإنه يمتنع أحد هذين الشيئين لوجود اﻵخر، وهذا ﻻ مشكلة فيه لكن المشكلة التي جاءت عند المفسرين: أنه كيف تقدمت " لوﻻ" في قوله تعالى (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) فإنه لو كان المُراد عدم الهمّ لقيل "لوﻻ أن رأى برهان ربه لهمّ بها" وهذه أجاب عنها كثير من المفسرين والمختصين في اللغة مثل أبي حيان في البحر المحيط بأن اللغة ويوجد شواهد من كلام العرب تقدم فيها "لوﻻ" ويبقى عملها قائما .
وعلى هذا -يا إخواني الكرام - عندنا الكلمة الأولى أو الداعم اﻷول لعدم الهمّ أنه يمكن الوقف على كلمة (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) وتكون المؤكدات في "اللام" و "قد" خاصة بهمِّها هي وأما همُّه هو فيكون مُعلّقا بـ "لوﻻ" فوُجِد البرهان فانتفى الهمّ.
ثالثا : أن وجود "لوﻻ" بمثل هذه الصورة أيضا هي حرف يدل على امتناع لوجود فامتنع الهمّ لوجود البرهان.
رابعاً : أن الله عز وجل قال (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) ولم يقل سبحانه وتعالى كذلك لنصرفه عن السوء.
ركزوا معي في هذه العبارة:
الموجود عندنا في النص القرآني (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) ولم يقل سبحانه وتعالى كذلك لنصرفه عن السوء. دعونا نفكر بهذا بصورتين:
- إذا كان السوء قادم إلى إنسان
- أو إذا كان اﻹنسان قادم إلى السوء.
- إذا كان اﻹنسان هو ذاهب إلى السوء معناه أن الهمّ موجود عنده واﻵن هو ينفذ وماشي في الطريق.
- إذا كان السوء قادم إليه فمعناه أنه ليس عنده شيء لكن فيه سوء قادم إليه.
الذي جاء في القرآن (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) لو كان هو متجه إلى السوء لكان الذي يناسب ذلك أن يُقال كذلك لنصرفه -يعني نصرف يوسف عليه السلام- عن السوء لكن الله عز وجل قال (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) والسوء هذا : قد يكون في الخاطر الذي يأتي في الذهن أو في الهمّ الذي يأتي إلى الإنسان.
(السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أيضا هذا من اﻷشياء التي استدل بها من يقول بهذا القول فإن المُخلَص والمُخلِص، فالمُخلَص هو: الذي أخلَص لله ثم أخلَصه الله سبحانه وتعالى، والذي يُخلِص ليس للشيطان سبيل إليه. ونحن نعرف أن الهمّ من الشيطان، هذا الهم للمعصية في داخلك من الشيطان، والشيطان ليس له سبيل على المُخلِصين بشهادة إبليس نفسه أنه ﻻ يستطيع له سبيل، هؤﻻء المخلصين. قالوا وزيادة على ذلك فقد شهد كل من له علاقة بالقصة ببراءة يوسف عليه السلام من هذا الفعل سواء المرأة نفسها وإلا النساء وإلا الزوج وإلا إبليس -إبليس طبعا له شهادة عامة- بشكل عام أنه ﻻ يستطيع أن يُغوي المُخلِصين.
هذا فيما يتعلق بقضية الهم لكنني أقول أيضا: حتى لو قيل بالهم -كما ذكرت لكم- لا بأس يعني لو أتى أحدهم رأى أن أحد المفسرين المعروفين قال بموضوع الهمّ فاﻷمر بسيط في هذا، لأنه ليس في هذا قدح للنبي وليس هذا فيه تجني عليه لأن الهمّ أمر ﻻ يُحاسب عليه اﻹنسان إنما يُحاسب اﻹنسان على الفعل والقصد.
/ (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ)
(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) معناه هو المرأة معناه كلاهما ركض إلى الباب أما هو -أي يوسف عليه السلام- فيريد النجاة وأما هي فتريد أن تلحق به. (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) كلاهما يريد الباب أما هو فيريد الخروج وأما هي فتريد منعه من الخروج أو إغلاق الباب إذا كان يمكن إغلاقه، قد يكون الباب الداخلي غير مغلق أوقد يكون مما يُفتح من الداخل، المهم له مُراد وهي لها مراد.
وكلمة الاستباق معناه أن كل واحد منهم بذل أقصى جهده في السِباق -في للركض يعني- حتى يصِل إلى هذا الباب.
وكلمة "استبقا الباب" قد تدل من معنى آخر سِعة المكان، وهذا الغالب في القصور حتى الغرف كبيرة، وقد يكون المقصود الباب الخارجي - الله أعلم - المُهم قضية اﻻستباق هنا تدل على سعة المكان وفساحته والتسابق إلى هذا المكان.
(وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) هنا باب وهناك أبواب هناك "غلّقت اﻷبواب" وهنا استبقا باب .. باب واحد!! مثلما ذكرنا قد يكون هو الباب الخاص ففتحه يعني فتح بقية اﻷبواب، أو هو الباب اﻷول الذي أمامهم اﻵن ويتسابقون إليه، أو هو الباب اﻷول اﻷكبر الذي يمكن أن يفضي إلى الخارج. المهم أنه باب مهم الذي يصِله منهما إما أن يخرج أو يُغلق.
(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) وهذا يدل على أن يوسف عليه السلام قد سبقها وهذا هو المعهود في الرجل إذا سابق امرأة فإنه يسبقها فهو أقوى منها في هذا الجانب وهو شاب. وهي .. على فكرة كم تتوقعون عمرها؟ نحن كيف يمكن أن نعرف عمرها؟
أوﻻ : أنها امرأة جاء إليها يوسف عليه السلام وهي متزوجة وليست فقط متزوجة، انتظرت الولد .. وانتظرت الولد .. وانتظرت الولد، أكيد هذه سنوات وليست سنة أو سنتان، يمكن ﻻ تقل عن عشر سنين وهم ينتظرون الولد ،فلما يئسوا من الولد أصبحت الآن تتمنى أن يكون عندهم ولد وإلا ما يمكن أن يتبنوا ولد وعندهم أمل في أن يكون فيه ولد.
طيب يعني تزوجت وعمرها كم؟ عشرين .. خمس وعشرين وبعدين عشر سنوات .. خمس وثلاثون، وبعد ذلك جاءهم يوسف وجلس عندهم فترة. وصلنا خمسين وإﻻ ستين. إذا هذه المرأة كبيرة حتى لو قلنا في اﻷربعينات والخمس أربعين، هي كبيرة ومع هذا تطلب هذا الفعل الشنيع.
فسبقها يوسف عليه السلام فما استطاعت إلا أن تمسك بآخر ثوبه .. قميصه من الخلف فمن قوة الشدّ عندها وقوة الجذب عنده هو انقدّ القميص. كلمة ( انقدّ ) انقد القميص معناه أصبح فيه خرق يعني ليس تشقق، قُدّ من الخلف يعني أمر ماهو بسيط. سبحان الله القميص مع يوسف عليه السلام له قصة من أول حياته إلى آخر حياته والقميص له علاقة به.
فقُدّ هذا القميص (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) انظروا الوصف القرآني، هذا لو جاء واحد في الجنايات وفي الجرائم فهذا الوصف كافٍ لمعرفة الجريمة ولذلك بعض الناس اﻵن يكون محقق أو غيره يصف الجريمة بعشرين صفحة يمكن ما تستفيد منها شيء، وفيه ناس يصفونها لك بسطرين أو ثلاثة هذه كافية .. هذا فن، فيه شيء مفيد وفيه شيء غير مفيد، فهذا الوصف اﻵن استُدل من خلاله من المجرم .. من المخطئ .. من الصادق .. من الكاذب.
(وَأَلْفَيَا) انظروا إلى الكلام ما أجمله (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) اﻹلفاء يدل على وجود شيء فجأة .. غير متوقع.
(وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) وما دام اشتركا في الضمير (ألفيا ) يعني ما ألفا هو أو هي (ألفيا) فدل ذلك على أن رؤيتهم أو وجود السيد أو الزوج في مقابل الباب حصل منهما دفعة واحدة ﻻ نعرف من اﻷول والثاني، أو ﻷنه لا قيمة ﻷن يكون هذا اﻷول أو الثاني.
لكن تعالوا معي إلى مواقف أخرى، يقول الله سبحانه وتعالى في قضية آدم وحواء (اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ) [البقرة:٣٥] ما قال (اسكنا) ولما جاء للأكل قال (وَكُلَا) ما قال (وكل أنت) تعلمون لماذا؟ لماذا هذا التفريق (اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ) فجعل ضميره أوﻻ وضميرها أو اسمها أو وصفها ثانيا، لماذا لم يقل اسكنا؟ ولما جاء عند اﻷكل قال (وَكُلَا) وعند النهي قال (وَلَا تَقْرَبَا) ، أيضا هناك مع موسى عليه السلام (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) [طه:٤٢] ؟
هذه اﻵيات وهذه المواقع طبعا كل موقع له سِر أو تفسير خاص به لكن بشكل عام إذا أُريد توصيل مسؤولية معينة ﻷحد وكان واحد هو اﻷصل في المسؤولية والثاني تبعٌ له فيُفصّل في الضمير، ونحن نستخدمها فنقول اذهب أنت وأخوك .. امش أنت وأخوك افعل كذا وكذا. أخوك تابع لك لكن أنت المسؤول، وإذا أردت اﻷمر أنهما سواء فيه مافيه واحد أفضل من واحد وإلا واحد مسؤول وواحد غير مسؤول تقول اذهبا. فدل ذلك على أن موضوع السُكنى المسؤول اﻷول فيه هو الزوج فالمسؤولية اﻷولى في البيت هي على الزوج فالزوج الذي ﻻ يقوم بمسؤوليته قد فرّط بهذه المسؤولية، أما في قضية اﻷكل والشرب فإن المرأة مثل الرجل مافيه واحد مسؤول وواحد غير مسؤول فلا يقول كل أنت وهي (وَكُلَا) وكذلك قضية اﻷوامر والنهي (وﻻ تقربا) .
فهنا قال الله سبحانه وتعالى (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) مافيه واحد أفضل من واحد وإلا إلفاء هذا له قيمة مختلفة عن هذا كلهم وُجِدوا في لحظة واحدة.
لكن ﻻحظوا معي الذي اختلف ماهو؟
قال (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا) ولم يقل سبحانه وتعالى "وألفيا سيده" فذكر ضميرها ولم يذكر ضميره هو ولم يذكره معها فيقول "وألفيا سيدهما" يعني هو وهي. هذه واحدة.
الثانية: لماذا ذكر الله وسمّى الزوج في هذا الموقع الوحيد في القرآن سمّى الزوج سيدا لزوجته قال (سيدها) ما قال زوجها مع إنه كل اﻵيات وكل المواقع اﻷخرى ما نجد فيها سيادة وﻻ كلام عن السيادة ، الكلام (امرأة العزيز .. التي هو في بيتها .. امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه) لكن ما نجد سيد إلا في هذا المكان ما السر في ذلك؟
أن الله سمّاه في هذه اللحظة سيد فقط في هذه اللحظة .. فقط في هذا الموقف وقال (سيدها).
- أما لم يقل سيده فدل ذلك على أنه لم يكن يوسف عليه السلام عبدا عندهم وإنما هو يُعامل معاملة اﻻبن ولذلك ﻻ نجد شيئا يدل على العبودية في حياته عليه الصلاة والسلام عندهم. وهذا اﻷمر من الله سبحانه وتعالى فإنه أول ما دخل عندهم البيت قال (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) فعاملوه معاملة خاصة تختلف عن معاملة كل من يشترونه من الناس اﻵخرين فلماذا سماه الله سيدا لها في هذه اللحظة؟
السبب: أن السيادة تعني عبودية، إذا ذُكرت السيادة تعني أن فيه مسُود فسُمي الزوج سيدا في هذه اللحظة قالوا ﻷن الزوجة انحطت عن منزلة الزوجية العالية بسبب الخيانة، بما أنها أصبحت خائنة اﻵن أصبحت خائنة لزوجها، الزوجية شرف ولذلك ﻻحظ لما يصير زواج نعلن عنه أم ﻻ نعلن عنه؟ ونقيم له حفل أو ﻻ نقيم له حفل؟ ونقول فلان تزوج فلانة صح أم ﻻ؟ لكن الحرام يتم في الخفاء وفي الستر وفي الظﻻم .. وحالة . ﻷن هذا شرف .. ومكانة .. هذا قاموس .. ناموس من قوانين الله في هذا الكون حتى يستمر الوجود البشري. فالزوجية لها مكانة فلما تخلت عن الزوجية فلما خانت الزوجية انحطت عن مكانة الزوجية فما أصبحت الزوج زوجا في هذه اللحظة أصبح ماذا؟ سيدا لها. هذه واحدة .
الثانية : أن المجتمع المترف غالبا ما تكون فيه السيادة للمرأة لا للرجل، المجتمعات المترفة تكون السيادة فيها للمرأة ولذلك تجد المجتمع كلما أترف كثيرا تجد أن القرارات للنساء. انظر إلى الحفلات اﻵن -لما كثُرت اﻷموال عند الناس- نقول للرجل لا تأتي باﻷغاني والموسيقى فيقول والله ما احنا قادرين على الحريم ، احنا اللي قادرين عليه نسويه بس والله ما احنا قادرين. كيف ما احنا قادرين؟! أصبح الناس ﻻ يستطيعون اﻵن أن يقاوموا. فالمجتمعات المُترفة وخاصة القصور -يمكن ما تشعرون بهذا- لكن فيه مجتمعات مترفة الزوج ﻻ يعرف زوجته إلا نادرا هو مشغول وهي مشغولة .. وكل في عالمه، فهذه المجتمعات المترفة يقِل فيها الشرف والعناية به وتكثر فيها سيادة النساء والدليل على هذا أن هذا الرجل لما اكتشف أن زوجته خائنة كل الذي فعله لها ( وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) فقط ﻻ شيء آخر، دليل أنه ضعيف وأن اﻷمر بسيط بالنسبة له .. خطأ بسيط يعني، أنت يا يوسف أعرض عن هذا يعني ﻻ تتكلم في الموضوع .. لا عاد تذكر الموضوع هذا وإن لزم الأمر يُسجن يُسجن -كما سنعرف بعد ذلك- وأما أنت استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين. هذه تعتبر جراءة كبيرة اﻵن .. قرار عظيم بعدما ظهرت الفضيحة ﻻزم يقول هذا الكلام لكن لماذا قال في اللحظة هذه سيد ﻷنه انكسرت عينها -كما يقولون- فأصبحت اﻵن غير سيدة بل هو السيد بس في اللحظة هذه ترى، بعد قليل ترجع لها صفتها. في اللحظة هذه انكسرت عينها - كما يقال- بسبب المعصية والمعصية تُذِل صاحبها، سبحان الله اﻹنسان اﻵن إذا فعل طاعة يرفع رأسه وإذا فعل معصية لا يود أن يراه أحد ولو سأله أحد يحاول يخفي رأسه ويبعد عن الناس. ذُل .. المعصية ذل فلذلك لم يذل اﻹنسان نفسه؟! لا اليوم ولا غدا، وأصعب من هذا أن اﻹنسان يذل نفسه بالصور -أحيانا - وينشرها ويكبر اﻹنسان يوم من اﻷيام ويرى ... بعضهم ينشرها على اﻹنترنت. يا أخي الواحد يكون عاقل، الله عز وجل يسترك استر على نفسك خاصة اﻵن في مواضع التواصل الاجتماعي ووسائل اﻹنترنت بعض الناس ينزل صور غير مناسبة له أو ﻷهله أو ﻷوﻻده أو غير ذلك ﻻ يدري أنه في يوم من الأيام سيندم لكن ما فيه خط رجعة -كما يقولون - خلاص اللي راح .. راح. اﻹنسان يكون حكيم لا تكتب شيئا وﻻ تنشر شيئا يمكن أن تندم عليه يوم من اﻷيام، انشر ما تفخر به في يوم من الأيام. على كل هذه كلمة " سيدها" .
( لَدَى الْبَابِ) يعني عند هذا الباب المقصود وجدوا الزوج -الرجل- واقف .
الحالة هذه -يا إخوان - حالة عجيبة وغريبة بل وحالة المرأة أعجب منها بكثير فإن يوسف عليه السلام لما وصل إلى هذا المكان ووصلت معه هذه المرأة طبيعي جدا أن يكون يوسف عليه السلام قويا ﻷنه صاحب الحق، وصاحب الحق حتى لو كان ضعيفا -يعني ما عنده أعوان- له لسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي رفع صوته ويريد حقا من النبي صلى الله عليه وسلم -يريد منه شيئا يعني هناك دين بينهما أو شيء من هذا- فيرفع .... فكأنهم زجروه فقال عليه الصلاة والسلام (دعوه فإن لصاحب الحق مقاﻻ) صاحب الحق يستطيع أن يقول لكن المشكلة أن تأتي هذه المرأة العجيبة وتقول هذا الكلام الذي ستسمعونه اﻵن.
أول ما وصلوا عند الباب المعهود في مثل هذه الحالة وفي مثل هذه الجريمة الكبيرة والزوج موجود والمسابقة حصلت قبل قليل والشاهد موجود اللي هو يوسف عليه السلام يعني كارثة بالنسبة لها والمفروض أن تنهار وإلا يُغمى عليها وإلا تتلعثم في الكلام ومع هذا لم يحصل شيء من هذا بل قالت مباشرة .. مباشرة دون أن يتكلم الزوج، الزوج ﻻ يدري ما الذي حصل أصلا قالت -والزوج ذاهل ﻻ يعرف شيء- قالت ( مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) قالوا كلمة ( مَا جَزَاءُ) إما أن تكون "ما" استفهامية يعني ما جزاؤه يعني أي شيء جزاؤه؟ ( مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا) ايش جزاؤه؟ سؤال يعني، وقبل أن يُجيب أجابت هي، لماذا أجابت هي على السؤال الذي سألته؟ ﻷنها ﻻ تريد منه أن يُقرر قرارا قد يضرُها هي فقبل أن ينطق ﻷنه ﻻ يعلم ما القصة .. ما الموضوع فطبيعي أن يقف هكذا فقبل أن يُجيب أجابت هي (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يعني القرار واحد من اثنين إما أن يسجن أو عذاب أليم يعني هي بريئة خلاص انتهى الموضوع حصلت المحاكمة .. حصلت المُرافعة ونُطق بالحكم -كما يقولون - وهذه قوة غير طبيعية في المرأة في مثل هذه اللحظة ولذلك المفسرون نظروا في هذا اﻷمر وقالوا إن هذه المرأة كانت من الحنكة والخبرة في الحياة بحيث مرت عليها مواقف كثيرة أصبحت مثل هذه الأشياء عادية بالنسبة لها، وأنتم تعرفون أن المرأة في أول حياتها يمكن من أشياء بسيطة يصيبها إغماء وإلا يصيبها مشكلة، كلما مرت في الحياة وصارت مشاكل وأمور كلما قويت في مثل هذا .. كلنا ذلك الرجل يعني.
أو تكون داهية وأنها حضّرت لكل شيء مقاله فغلقت اﻷبواب وقالت لو حصل كذا يحصل كذا .. ولو صار كذا يصير كذا .. ولو دخل علينا يكون كذا فحضّرت لكل شيء ما يُناسبه فكانت حضّرت هذا الكلام -كما يقولون في علم الإدارة- يسمونه احتمالات، يعني عندك مشكلة اعمل لها احتمالات، الاحتمال الأول أن يكون كذا إذا القرار كذا .. الاحتمال الثاني .. في علم الرياضيات فيه شيء اسمه احتمالات ما يمكن أن يكون فيه احتمال غير كذا ، فعندك احتمالات محددة أربعة أو خمسة لا يوجد غيرها أنجح .. أرسب .. لا أستطيع ، كل واحد ضع له قرار يُناسبه، وهذه من اﻷشياء الجميلة في القرارات خاصة إذا احتار اﻹنسان ماذا يفعل ينظر ماهي اﻻحتماﻻت الموجودة والله اﻻحتمال اﻷول كذا، طيب ماذا أفعل لو حصل هذا .. أفعل كذا وكذا، طيب لو حصل الثاني .. أفعل كذا وكذا فلما تحصل أشياء المفاجاءات بالنسبة له يكون محضِّر القرار المناسب.
فتكون هذه المرأة قد حضّرت الجواب. هذا أحد التفسيرات التي قيلت في هذا المجال. أو أنها صاحبة خبرة وحنكة في الحياة.
/ (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ) تأملوا معي كلمة " أهلك" قبل قليل سماه الله سيدا واﻵن هي تسمي نفسها "أهل" ما قالت "ما جزاء من أراد بزوجتك" قالت ( مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ) لماذا قالت هذا؟ قالوا : حتى تستجيش عنده كوامن الغيرة والغضب بحيث يغضب ﻷجل أهله. والزوجة تسمى "أهلا" ولذلك تعبير الناس اﻵن صحيح حين يقول أخبر أهلي أن يخرجوا من عندكم .. أهلي عندكم، هذا صحيح هو يقصد زوجته .. هذا صحيح، واﻷهل تطلق أيضا على ماهو أوسع من ذلك (وَسَارَ بِأَهْلِهِ) [القصص:٢٩] أي بزوجته. فأرادت أن تستجيش عنده وتُحرك عنده كوامن الغيرة كيف واحد يعتدي على زوجتك؟! لكن "أهل" أعمّ من الزوجة، أعمّ وأكبر فأنت الذي تتأهل عندهم. فحاولت أن تُحرك هذا اﻷمر عنده لعله يغضب ويجيبها على طلبها مباشرة.
( سُوءًا) كلمة " سوءا" يستخدمها المجرمون أحيانا أو ما يسمى بالتمويه العام في اللغة كلمة كبيرة لكن لا نعلم لكن المهم أنه سوء وبس ولذلك إذا سمعت أحدهم يتكلم بعموميات هكذا ﻻ تأخذ بكلامه انتظر. والعموميات هذه هي نوع من أنواع التمويه في اللغة وتضخيم اﻷمر على غير صورته الحقيقية، "سوءا" ماهو السوء؟ ﻻ ندري. فقد يكون هذا الرجل ﻻ يتحرك بسبب مثل هذا الفعل لكن قد يتحرك بسبب سوء آخر مثلا اعتُدي عليها بالضرب أو السرقة أو غيره هذا يعتبر سوء أيضا، فهي جعلت كلمة "سوءا " تصلح لكل سوء يمكن أن يأتي في ذهنه هو، المُهم أن يحرك هذا السوء شيئا عنده. ماهو هذا السوء؟ لم تحدد.
(مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) قالوا إما أن تكون "ما" -كما ذكرنا قبل قليل- تكون استفهامية يعني سؤال، يعني أي شيء جزاؤه؟ أو تكون نافية "ليس جزاؤه إلا أن يسجن أو عذاب أليم" والعجيب أنه يمكن أن يكون هذا وهذا، هذه من عظمة لغة القرآن ممكن أن تُفهم الكلمة بمعنيين وكل معنى يعطينا لمحة أخرى مختلفة عن المعنى اﻵخر.
(إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فاقترحت على الزوج -الذي لم يجب من هول الصدمة وﻻ يعرف الموضوع- اقترحت اقتراحين في الجزاء، اﻻقتراح اﻷول أن يسجن، الثاني عذاب أليم، أن يسجن نطقته بالفعل، وعذاب أليم نطقته باﻻسم، ﻻحظوا معي لم تقل أن يسجن وما قالت أن يعذب قالت عذاب أليم، ولم تقل في اﻷول إﻻ السجن أو عذاب أليم، جعلته بالفعل، ﻷن السجن إذا ذُكر يُقصد به المكان -غالبا- وأما ( أن يسجن ) أول ما تسمعها يُقصد به الفعل، والذي يُهِم الكرماء والفضلاء والعظماء هو فعل السجن نفسه فإنه أحيانا حتى لو لم يكن هناك جدران -مكان مخصص- لكن قيل إن هذا اﻹنسان مسجون أو محجوز أو غير ذلك هذا يؤثر في سمعة اﻹنسان كثيرا خاصة أصحاب المكانة والكرم، أما أصحاب الجرائم فالسجن ﻻ يعني عندهم شيء، عادي جدا، يُسجن أو ما يُسجن عادي، لكن بالنسبة لمثل مكانة يوسف لما يُهدد بالسجن هذا أمر ليس بسيطا، لذلك أحيانا الإنسان يكون له مكانة ومنزلة و ذُكِر السجن وتخيل أنه في يوم من الأيام يمكن أن يدخل السجن ويقال عنه أنه سيُسجن هذا أمر ليس بالهين أن يتحمله اﻹنسان ولذلك ذكرت هذا أوﻻ ﻷنه أكثر إيلاما له من العذاب اﻷليم ﻷنه يتعلق بالكرامة، أما العذاب اﻷليم قد يتعلق بالجسد اﻹنسان ممكن يصبر عليه لكن ذاك يتعلق بكرامة اﻹنسان وسمعته. هذا ضد ما نسمعه -للأسف - في مجالسنا ومن شبابنا السجن للرجال، عادي ايش يعني السجن، خليني انسجن السجن للرجال ويتفاخرون بها إلى يومنا هذا.
( قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) قلنا إنها اقترحت اقتراحين: اﻷول السجن وقدمته ﻷنه أنكى وأصعب على أصحاب النفوس الكبيرة فلعل يوسف عليه السلام أن يرعوي لطلبها بسبب ذلك.
اﻻقتراح الثاني: عذاب أليم وﻷن العذاب يصيب الجسد أخرته ﻷنها ﻻ تريد في قرارة نفسها أن يصيبه عذاب، هي ﻻ تريد أن يبتعد يوسف عليه السلام رُغم هذا كله. وقالوا أيضا: إنما قدمت السجن والتهديد بالسجن ﻷن السجن يعني وجوده وعدم بعده . ﻷنه مسجون قريب مكانه وممكن عودته في أي لحظة إذا أرادوا ذلك، وأيضا يقع المراد وهو تهديده عليه السلام من أجل أن يفعل ما تأمره ولذلك هددته حتى في المرة الثانية (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ) فهي مصرة على وقوع هذا اﻷمر الذي أخلّ بمكانتها وبأمرها وبمنزلتها. فلأجل هذا اقترحت هذين اﻻقتراحين على الزوج. والذي يظهر أن الزوج لم يتخذ أي قرار ﻷنه ما ظهر له كلام، وهناك حوادث حذفت ليست موجودة هنا وهذا كثير أن تسقط حوادث كثيرة في القصة ﻷنه ﻻ يتعلق بها فائدة.
المهم، أنه حصل أن يوسف عليه السلام هو الذي تكلم وأصبح الزوج مستمعا، استمع إلى كلامها أوﻻ والذي يظهر أنه لم يُقرر شيئا، يعني ما علق على كلامها بشيء. يوسف عليه السلام دافع عن نفسه وهذا مطلوب، اﻹنسان إذا ظُلم يدافع عن نفسه وﻻ يسكت ﻷنه يُفسّر سكوته أحيانا على أنه إقرار بقول الخصم.
قال يوسف عليه السلام (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) قال بعض أهل العلم "هي" ضمير يدل على الغائب والمرأة ليست بغائبة بل هي واقفة معهم اﻵن عند الباب، والموجود عندك لا تقول عنه "هو" إنما تقول عنه "أنت" إذا أردت أن تُخاطبه أو تقول عنه "هذا" إذا أردت أن تحدده إنما تقول "هو" وكأنه غير موجود. قالوا وإنما قال عنها "هي" بضمير الغائب كأنه أراد أن يشير أنها ﻻ تستحق الذكر مع وجودها، بسبب فعلتها هذه أصبحت كأنها غير موجودة ﻷنها ليست أهلا أن تخاطب أو أن تُذكر حتى، ولذلك يقول الزركشي في [البرهان في علوم القرآن] : "وكثيرا ما تجد اﻵيات في خطاب الله للمشركين أن يذكرهم بضمير الغيبة إعراضا عنهم -يعني كأنهم غير موجودين- ويُخاطب المؤمنين بضمير الخطاب إكراما لهم" فحين تأتي وتخاطب أحدهم وتقول أنت وتذكره بالخير ......
عبدالله بن عباس كان يسرح شعره ويهتم بهندامه ويقول (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء:١٩] هذه من المعاشرة بالمعروف كما تريد زوجتك أن تكون حسنة المنظر أمامك كذلك هي تحب أن تكون حسن المنظر أمامها وهذا أمر يغيب عن بعض اﻷزواج فننتبه لهذه النقطة .. أمر مهم جدا في هذه النقطة.
/ ( فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) يعني لا تتكلم في الموضوع .. الموضوع سري .. الموضوع ﻻ تتحدث فيه حتى ﻻ تنتشر الفضيحة. وأنتِ -يلتفت عليها - (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) اﻻستغفار للذنب لا يعني أنها على دين الإسلام وإلا دين سماوي ليس بالضرورة فإن اﻻستغفار والطلب هذا موجود في كل شيء.
(وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) يعني أخطأتي يعني من المذنبين. و"مخطئ" قالوا : غير خاطئ ، فخاطئ معناها مذنب أما "مُخطئ" فمعناه أنه فعل شيئا غير الصواب وليس بالضرورة أن يكون ذنبا، يعني ممكن تعمل شيء لكنه غير صواب، تعمل شيء بس تُخطئ فيه، الخاطئ غير المُخطئ، الخاطئ يعني المذنب .. الذي عليه ذنب، فعل حرام يعني، أما مُخطئ فيكون اجتهد في شيء معين من أمور الحياة فأصاب أو أخطأ، ما له علاقة بهذه النقطة.
إلى قوله تعالى (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) نتوقف عند هذه النقطة وسيكون حديثنا في اللقاء القادم إن شاء الله عن كيد مجموعة النسوة وكيد امرأة العزيز مقابل ذلك فقد ذكر فيه ابن القيم فوائد عظيمة وجيدة لعلنا نسردها ونذكرها لكم في اللقاء القادم إن شاء الله. هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق