د. رقية المحارب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ)
يعني أعرض عن الذي أعرض عن الحق. واﻹعراض عمّن أعرض عن الحق إعراض بالكلية، إعراض عن نهجه وإعراض عن خطابه وإعراض عن مُحاكاته وإعراض عن مُعايشته،لِمَ؟ ﻷنك إذا لم تعرض عنه بالكلية أثّر فيك. بعض الناس يظن أن اﻹعراض المطلوب إعراض دعوة ثم إذا به يُعايشه ويُؤاكله ويُشاربه ويُجالسه فإذا فعل ذلك تأثّر به، وقد جاء النهي عن هذا وذمّ الله بني إسرائيل أنهم كانوا يأمرون وينهون ثم إذا لم يُؤتمر بأمرهم ولم يُنتهى عمّا ينهون عنه كفوا وجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم فيأخذهم الله جميعا بعذابه. فاﻹعراض عمّن تولى كما قال الله سبحانه وتعالى عن ذكرنا إعراض مُجمل لما في هذا اﻹعراض من حماية للمنهج .. حماية للمعتقد .. حماية للنفس -النفسية- حماية للسلوك .. حماية للحسنات ﻷنه أيضا سيتعامل اﻹنسان مع من يعامله ويعايشه معاملة تُودي بحسناته، ولذلك جاء تأكيد هذا المعنى بأمور منها:
- نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اﻹقامة بين ظهراني المشركين.
- منها ذمُّ الله جل وعلا للذين آمنوا ولم يهاجروا قال (مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا) [الأنفال:٧٢] فما يستوي الذين آمنوا وهاجروا بالذين آمنوا ولم يهاجروا يدلك على أن اﻹعراض عمن تولى عن ذكر الله جل وعلا إعراض بالكلية ليس إعراض الدعوة. أما إن كان المرء يبقى على الدعوة وﻻ يُعرض عنها ، يعني مستمر في دعوته فلا مانع أن يعايش مادام مصرا على دعوته. المصيبة أن يدع الدعوة ويدع اﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم هو يُعايش ويُجالس ويؤاكل ويشارب إﻻ واحد فقط هو الذي تجوز معايشته ومصاحبته ولو كان لم ينتفع بموعظة وهو الوالد ﻷن الله جل وعلا قال:
(وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) متى؟ (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [لقمان:١٥] ما قال أعرض عنهما قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) .
(وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) متى؟ (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [لقمان:١٥] ما قال أعرض عنهما قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) .
- وأيضا من اﻷمور التي أردت التنبيه عليها في مسألة اﻹعراض هو اﻹعراض عن الحزن عليهم ﻷنه إذا لم يهتدِ ولم يتبِع ولم يستمِع ولم ينتفِع فحينئذ يُصاب اﻹنسان بشيء من الحزن، وهذا الحزن عليه يجلب اﻹحباط والضيق والتأثر .. التأثر القلبي والتأثر المزاجي وبالتالي يتغير حاله، فينبغي له حينئذ أن يعرض عنه ﻷجل أﻻ يقع التأثر فيه ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن التأثر بالذين ﻻ يؤمنون به والحُزن عليهم فقال (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) [الكهف:٦] فنهاه أن يكون ...
مداخلة : حزن النبي صلى الله عليه وسلم على عمِه.
د. رقية : ونُهي .. نعم نُهي عن حُزنه عليهم قال(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) [فاطر:٨] ﻷن النفس، ما للإنسان إﻻ نفس واحدة يحتاج إليها في الدعوة ويحتاج إليها في العبادة ويحتاج ...، فإذا كان عنده من لم يؤمن فإنه يحزن حزنا شديدا فيُقعده هذا الحزن عن كثير من مصالحه فلذلك قال الله جل وعلا (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) ولكن هنا أعرج على قضية وهي : أن تلك القضية أو ذاك اﻷمر باﻹعراض عمن يكفر لا من يعصي فقط، عمن ﻻ يكون له رغبة في اﻵخرة إطلاقا وﻻ يُلقي لها بالا، ليس معنى ذلك أن اﻹنسان إذا ما رأى الناس على ما هو عليه من الهدى والعبادة تولى عنهم وأعرض عنهم واعتزلهم، ﻻ .. وإنما هؤﻻء يستمر في نُصحهم وعظتهم ﻷنهم إخوانه وهم بحاجة إليه ﻷن الله جل وعلا قال (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ) يعني الدنيا هي مبلغهم من العلم ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ) ولذلك فلا تقل إني أنا السبب في أن ضلوا ﻷني أعرضت عنهم، ﻻ .. الله جل وعلا ما شاء هدايتهم وقد عرضت عليهم .. قد عرضتِ عليهم الهدى وبينتيه لهم ودعوتيهم فلم يستجيبوا فإذا انشغلي بأشياء أخرى. يعني بعض الناس -مثلا- قد ﻻ تُوفق مع زوج صالح أو زوج على اﻷقل فيه تقدير لدينه فتجدينها -مثلا - تتزوج رجل ﻻ يصلي وتعيش معه عشرين سنة .. خمسة وعشرين سنة .. ثلاثين سنة، بعد ثلاثين سنة إذا ساء طبعه وساء خُلُقه وبخُلت يده وصار سخُوط وغضُوب ويُقبح بدأت تقول هو ﻻ يصلي أنا أريد أن أفارقه، أين المفارقة من قبل؟! اﻵن -توك- تفكرين أنه لا يُصلي؟! ﻻ ألومها اليوم عند السؤال ولكن ذلك ليس لله، الغيرة ليست لله، الغيرة التي لله تكون رغم كل المعطيات (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ) فيجعلها اﻹنسان فراق ، يجعل هذا فراق إما أن تكون على ما أنا عليه من الهُدى -يعني الصلاة- هذا أقل عهد وأقل تقدير أن يصلي ( العهد الذي بيننا وبينهم الصﻻة فمن تركها فقد كفر) وأذكر مرة جاءت سائلة للشيخ عبد العزيز بن باز وقالت زوجي ﻻ يصلي وأنا أسألك ماذا أفعل؟ قال : إذا أصرّ على ترك الصلاة تفارقينه، ففارقته ثم جاءته بعد فترة ليست بالطويلة وقالت أنه رجع -صلى- فهل يكون لي عقد جديد؟
قال : لك عقد جديد ومهر جديد ﻷن ذاك الزواج أو ذاك العقد أصبح فاسدا بتركه الصلاة أو بعدم صلاته من قبل.
فمن يدع شيئا لله فإن الله جل وعلا يُعوضه عنه وعلى اﻹنسان أن يكون مُتكلا على الله سبحانه وتعالى راغبا فيما عنده وأﻻّ ينظر إلى تقادير الحياة الدنيا فإن للدنيا قوانين كلها مُلك لله جل وعلا ليس ﻷحد فيها ملك وﻻ قدر أُنملة وهذا ما ستُظهره لنا السورة في آخرها مما سنتناوله إن شاء الله. هذا المعنى الذي أردته. وننتقل إلى موضع ما وصلنا.
-------------------------------------------
من درس تفسير سورة النجم / د.رقية المحارب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق