ذكرت سورة النحل مجموعة من الحقائق ذات الصلة بالنِعم الواردة في السورة ويمكن أن نستنبط منها فوائد تؤثر في السلوك الإنساني كالآتي :
١ - توحيد الله والشعور بعظمته:
يتضح من خلال ما تقدم، أن من يتلو آيات الله ويكون عاقلا مُنصفا ويملك أدنى تفكير فإنه يقر بالوحدانية؛ لأن الله سبحانه خاطب العقل ومن ذلك :
أ - قال تعالى : (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ). النحل / 17.
أيها الناس أفلا تذكرون نعم الله عليكم وعظيم سلطانه وقدرته على ما يشاء، وعجز أوثانكم وضعفها ومهانتها، وأنها لا تجلب إلى نفسها ولا لغيرها نفعا، ولا تدفع ضرا، فتعرفوا بذلك خطأ ما أنتم عليه مقيمون من عبادتكم لها، وبإقراركم لها بالألوهية (١)
- وهذا التعقيب يأتي في أوانه لأن النفس مهيئة للإقرار بمضمونه، فهل هناك إلا جواب واحد : لا؛ لأنه لا يجوز أن يسوي إنسان في حِسه وتقديره بين من يخلق ذلك الخلق كلـه، ومن لا يخلق لا كبيرا ولا صغيرا - (٢).
ب - وصف الله الشركاء بقولـه تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) النحل/ 20 - 21.
ج - وصف الله قلوب الكافرين بقولـه : (فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ) النحل /22
- أي : جاحدة للوحدانية، أو للآيات الدالة عليها، (وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ) عن الاعتراف بها، والفاء في قولـه (فَالَّذِينَ) تدل على استمرارهم وإصرارهم على الإنكار (٣). وهذه الحقيقة تجعل المسلم على بصيرة بحقيقة ودوافع المنكرين لدعوته إنها الكِبر (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) غافر / 56.
٢ - تحمل مسؤولية الدين .
دراسة هذه النِعم تُربي الإنسان على تحمل المسؤولية، أمانة العقيدة، وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) النحل/ 36
- والشعور بهذه المسؤولية يربي في الإنسان الوعي الدائم واليقظة المستمرة فيبعد عن المزالق ولا يستسلم للهوى، ويدفعه إلى الاستقامة في كل سلوكه وشؤونه (٤) والعقيدة من أهم النعم التي تستوجب الشكر، والدفاع عنها.
٣ - الخضوع لله والاستسلام لـه.
أ - قال تعالى : (أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) النحل / 48. وهذا يؤدي إلى خضوع الإنسان لربه واستسلامه لـه.
ب - قال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) 49/ النحل. أو لم يروا خضوع الأشياء كلها لله سبحانه فيخضعوا ويسلموا, فالملائكة تسجد ودواب الأرض تسجد، فلماذا الانسان لايسجد ولا يخضع لله؟ (٥).
وإضافة الملائكة مع هذه المخلوقات تشكل حشدا كونيا يصور جوا من الخشوع والخضوع، ولا يشذ إلا من لا يسجد لله وهم الشواذ في هذا المقام الرهيب العجيب (٦).
ج - قال تعالى : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) النحل/3.
في هذه الآية ربط للإنسان بخالقه وخالق الكون وتدعوه للتفكير في هذا الكون بجدية وليكون تأملـه في هذا الكون تأملا منطقيا علميا. (٧) فهو المستحق للعبادة والشكر وحده.
٤ - صبر الله على عباده وحلمه بهم
قال تعالى : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) النحل/61. لو يؤاخذ الله الناس بذنوبهم لأهلكهم جميعا ولكن الله جل علاه يحلم عليهم ولا يعاجلهم بالعقوبة ولو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا (٨)، وجاء في الحديث القدسي : " إن رحمتى سبقت غضبى " (٩). وهذه النعم الكثيرة يتمتع بها العباد فمنهم من يشكر ومنهم من يكفر أو يعصى الخالق ومع هذا فالله حليم رحيم بعباده، ليعطيهم فرصة التوبة، وفي هذا تعليم لنا لنصبر على العصاة ونتحمل أخطاءهم لعل الله يصلحهم أو يخرج من أصلابهم من يوحد الله.
٥- توضيح الأساليب التي تساعد على تطبيق منهج الله تعالى.
قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النحل/90
- فحري بالإنسان أن يتربى على العدل في كل جوانب حياته ولو مع أقرب الأقربين ضد خصومهم وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. والتعقيب بقولـه : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فيها إشارة إلى أن خير الأساليب والوسائل للتذكير هو كتاب الله، وذكر نعمه وفضائلـه، ويجب الوفاء بالعهود والمواثيق فهي من الأساسيات في حياة المسلم.
٦ - السعادة مرتبطة بالإيمان :
قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) النحل/ 97. وهذه حقيقة لا تقبل الجدل، فالسعادة مرتبطة بالإيمان والشكر، والحياة الطيبة هي الرزق الحلال، أو العمل بالطاعة، أو القناعة، أو يشمل كل هذا (١٠).
الخاتمة : من خلال سياق هذا البحث يتضح أن نعم الله سبحانه لا تعد ولا تحصى، قال تعالى : (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا).
وقد اشتملت هذه السورة على معظم النعم التي ذكرت في سياق الآيات في سائر سور القرآن الكريم، وتناولت بعض الحقائق والأمثال التي تتضمن فوائد تربوية كثيرة. وضرب الحقائق والأمثال نعمة تذكر بالنعم. إن هذه النعم من عند الله وحده ولا موجد لها إلا الله. ولا ينبغي لأحد أن ينازعه في ذلك؛ فالتذكير بالنعم وضرب الأمثال والحقائق هو تقرير توحيد الله سبحانه لأن النعمة لابد لها من منعم وهي من صنع الله الواحد الأحد، لا شريك لـه لذلك يجب على العباد شكر المنعم وتوحيده وتعظيمه. إن دراسة هذه النعم تربى شعور الإنسان وعواطفه وانفعالاته، ليتربى على شكر الله وحمده فيستفيد مما سخره الله لـه في الكون في جوانب الخير ولا يتجاوز فلا يفسد نهرا ولا يقتل كائنات في البر والبحر, ولا يستخدم هذه النعم في الدمار، وكل ذلك ينسجم مع قولـه تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ... ) النحل/12 - 18. وبهذا يكون الفرد فاعلا يستفيد ويفيد وهذه هي الإيجابية المطلوبة في حياة المسلم.
ومعرفة النعمة تؤدي إلى ملازمة شكر المنعم، وقلّ نعمة زالت عن قوم وعادت إليهم؛ فالشكر يؤدى إلى حفظ النعم وزيادتها، قال تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم / 7.
وليس شكر النعمة يكون باللسان فقط، بل في استعمال النعمة في تمام الحكمة التي أريدت حسب تعليمات الشريعة الإسلامية، وهي طاعة الله جل علاه. وإذا لم تؤدِ هذه النعم إلى شكر الله فإنها تكون استدراجا، والاستدراج هو : أن ينعم الله على العبد الذي لم يشكره على نعمه، قال تعالى (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام / 44 - 45 هذه النعم تهون الابتلاء على المسلم فإذا ابتلى المؤمن فإنه يعد نعم الله عليه فيجد أن كفة النعم راجحة فيصبر ويحتسب. هذه النعم تربى النفس الإنسانية وتؤدى إلى تنظيم نفسي واجتماعي ومما هو مقرر عند علماء التربية أن التنظيم النفسي والاجتماعي يؤدى إلى صواب الفكر وهدوء النفس وذلك من شأنه إن تحقق أن يؤدي إلى اعتناق الإسلام وتطبيقه في حياة الأفراد والجماعات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
----------------------
(١) الطبري، جامع البيان، م7 / ص573.
(٢) قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2164.
(٣) الألوسي، روح المعاني، ج14 / ص179.
(٤) النحلاوي، أصول التربية الإسلامية، ص38.
(٥) حوى سعيد، الأساس في التفسير، ج6 / ص2943
(٦) قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2173.
(٧) النحلاوي، عبد الرحمن، أصول التربية الإسلامية وأساليبها، ص39.
(٨) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص757.
(٩) مسلم، صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله تعالى، حديث رقم (2751) ج4 / ص1674.
(١٠) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / 773.
/ الفوائد التربوية المستنبطة من سورة النحل/ د. محمد عيد الكردي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق