د. عبدالرَّحمن بن معاضة الشِّهري
---------------------------
المَجلس الأوَّل:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم.
الحمدُلله ربِّ العَالمين، وصلَّى الله وسلم وبارَكَ على سيِّدنا ونبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
حيَّاكم الله أيُّها الإخوةُ الفُضَلاء في هذا المَجلس من مَجالسِ تفسيرِ سُورةِ الأَنعام، والتِّي وقَفَ تَفسيرُها في اللِّقاء الأخير عندَ قولِ اللهِ سبحانه وتعالى في الآية الثَّالثة والسَّبعين : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)) وسوف نَستكمل بإذن الله تعالى في هذا المَجلس، الحَديث عن آياتِ هذه السُّورة العظيمة - سورة الأنعام - وهي سورةٌ - كما تقدَّم معكم في المَجالِس السَّابقة - سورةٌ مَكيِّة كُلُّها وقد نَزَلت هذه السُّورةُ العَظيمة التِّي تُعتبر أَطولُ أوَّلِ سُورة مكية في السَّبع الطِّوَال فإنَّها تَأتِي سُورةُ الفَاتحة وهي سورةٌ مكية، ولَكنَّ كثيرًا من العُلماء لا يَعُدُّونها سُورةً من السُّوَر المَكيِّة باعتبار أنَّها قصيرة الآيات، فيَعُدُّون البقرة ثُمَّ آلِ عِمران ثُمَّ النِّساء ثُمَّ المَائدة ثُمَّ الأَنعَام، فتأتي الأنعام فإذا بِها أوَّلُ سُورةٍ مكيِّة طَويلة (165) آية، وهذه السُّورة نَزلَت جُملةً واحدة وسوف يأتي الحَدِيثُ عنها.
المَقطَع الأوَّل:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79))
يقول الله تعالى
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) سورةُ الأنعام أيُّها الإخوة -كما قُلنا- سُورةٌ مكية، نَزَلت على النَّبي في المَرحلة الثَّالثة من مَرَاحِل العَهد المَكيِّ وهي مَرحلةُ المُحَاجَّة، والمُجَادَلة، وسورةُ الأَنعام تُعتبَر في هذا البَاب بالذَّات في تقرير التَّوحِيد، والمُحَاجَّة، والمُجَادَلة للمُعارِضِين المُعانِدِين ، وهي أوسَعُ سُورةٍ في القرآن الكريم بِهذا الموضوع في مُجادلة المُشركين، والرَدِّ على المُشركين الذِّين يُشركُون مع الله آلهةً أخرى. وقد نَزَلَت كما قُلنا دُفعةً واحدة ولعلَّ - والله أعلم- من حِكَمِ تنزيلها دُفعةً واحدة أنَّها مَليئة بالأَدِلة والحُجَج،والأَدِّلَة والحُجَج تأتي دُفعةً واحدة حتى يكون النَّبي مُتَسَلِّحاً بها كُلَّها.
وقد خَصَّ اللهُ هذه السُّورة بخصائص:
• فَأَنَزَلَها، وأَنزَلَ بِها جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام كَمَا وَرَدَ في عِدَّة أحاديث:
(يُشِّيعُه في أثناء نُزوله بِها سَبعونَ ألف مَلَك).
• وقد نَزلَت على النَّبي في اللَّيل، ولا شَكَّ أنَّ هذه من فضائل هذه السُّورة العَظيمة سورة الأنعام.
وسُميِّت سُورة الأنعام بهذا الاسم: لأنَّهُ وَرَدَ فيها الحَدِيث عن تَحريمِ الكَثير من الأنعام التِّي وَرَدَت في الآيات من الآية (140-143)، وَرد فيها تَفصيل لِتَعامُل المُشركين مع الأنعام، وكيف انعكس الشِّرك الذِّي يَعتقدُونه على تَعامِلِهِم مع المَطعُومات، والمَشروبات، وتحريمِهِم لِمَا أحلَّه الله سبحانه وتعالى، وذَبحِهِم لِغير الله، ونحو ذلك من تَعامُلات النَّاس اليومية
وهي الذَّبح لغير الله، ونحو ذلك.
وتذكُرُون في سورة المائدة جَاءَ الحديثُ كثيراً عن التَّحريم والتَّحليل - الحَلال والحَرام - وأيضًا في سورة الأنعام وَرَدَ شيءٌ من ذلك، وورد فيها تفصيل لِبعضِ ما أُجمِل في سورة المائدة، وتقدَّم.
هَذَا أمرٌ مهم جِدَّاً وهو أن نعرف: ما هُوَ مَوضوعُ سُورةِ الأَنعام؟
وهو أنَّه في تَقرير التَّوحيد - توحيد الرُّبوبية، وتوحيد الأُلوهية - والاستدلال لِذَلك، والرَدّ على المُنكرين لذلك.
تَأتي هذه القِصَّة وهي طَرفٌ من قِصَّة إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام في سورة الأنعام (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ )
خَصَّ الله إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بالذِّكر هُنا لأنَّ إِبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام يَكادُ يجتمِع عليه الجميع، فالمُشركون - وهم مُشركو مكَّة - يَزعُمُون أنَّهم يَنتسِبُون إلى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وأنَّهم على دِينِهِ،مع أنَّهم قَد حَرَّفوا وبَدَّلُوا، إلاَّ أنَّ شُيُوخ قُريش وهم أَجدادُ النَّبي صلى الله عليه وسلم قُصيِّ بن كِلاب وأجدَادُه، وأبنائه، كُلُّهم كانُوا هم سَادةُ قريش، وآخرهم النَّبي وهو أَشرَفُهُم،كانوا كُلُّهم من ذُرِّية إبراهيم عليه الصَّلاةُ والسَّلام، ولذلك فَهُم يَنتَسبُون إليه ويعرِفُون مَكانته عليه الصَّلاة والسَّلام، وهو الذِّي بَنَى الكعبة هو وابنه إسماعيل وأيضاً اليَهُود يٌؤمِنُون بإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ؛لأنَّه جَدُّ مُوسَى عليه الصَّلاة والسَّلام، وأيضاً النَّصارى يُؤمنون بإبراهيم لأنَّه جَدّ عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام، فإبراهيم عليه الصَّلاة والسلام شخصيةٌ يُجمِعُ عليها كُلُّ أصحابِ الأديان، ويَعرفون له مكانته وقَدرَهُ،ولذلك جاء ذكره في هذه المُجادَلة والمُحاجَجَة لِيَكُونَ مُقنِعًا وحُجَّة للجميع.
فالله سبحانه وتعالى يَذكُر لنَا مَشهداً من مَشَاهِد مُجادَلة إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لقومه المُشركين الذِّين يعبُدُون الأصنام وكان على رأسِهِم والدُهُ آزر.
فالله يقول هُنا: "واذكر يا مُحمَّد إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عليه الصَّلاة والسَّلام لأَبِيهِ آزَرَ"
فـ (آزر) هو اسمُ والدِ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام على الصَّحيح، ورُبَّما يقرأ بَعضُكُم في بعض كُتُب التَّفسير خِلافاً هَل آزر هو اسمُ والدِ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام؟ أو عَمُّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام؟ لأنّكم عندما تقرأون في كُتُبِ الأنساب تجِدُون أنَّ اسم والدِ إبراهيم عليه الصَّلاة السَّلام يقولون هو: إبراهيمُ ابنُ تَارَح ولا يَذكرون آزر، ولذلك يَقُول المُفَسِّرُون لأنَّ أهلَ الأنساب يُجمِعُون -وهذا إجماعٌ غيرُ صحيح - على أنَّ اسم والد إبراهيم تَارَح، ولذلك فآزر هُوَ عَمُّه وليس والدُهُ،ونحن في غِنى عن هذا كُلِّه.
فالله سبحانه وتعالى يقول :(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ) فسمَّاهُ آزر، وأيضاً ورَدَ في صحيح البُخاري في حديث أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم : أنَّه في يَوم القيامة يقول إبراهيم لأبيه آزر: (يا آزرُ) والحديث واضحٌ أنَّ آزر هو اسمُ والد إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام، ويقولُ ابن جرير الطَّبري: ولا مانعَ أن يَكونَ والدُ إبراهيم اسمه (آزر) ولقَبُه (تَارَح) أو أن يكون له أكثر من اسم -كما هو الحَال في اسم نبيِّنا محمد فاسمه (محمد،وأحمد) ، وأذكرُ مَبحَثًا جيِّداً ذكره الشِّيخ أحمد شاكر في آخر تحقِيقه لكتابِ (المُعرَّب) للجَـواليقي، تَكلَّم عن اسم (آزر) لأنَّه ذَكَر أنَّها من ضِمن الأسماءِ الأعجمية التي في القرآن الكريم.
فيقول: (آزر هو اسمٌ أعجمي) وذكر معناه وهو (والدُ إبراهيم) فتكلَّم أحمد شاكر - رحمه الله - في آخرِ الكتاب عن تحقيق: أنَّ آزر هو اسمِ والد إبراهيم فِعلاً وليس اسم عمِّه كما يَذكُر كثيرٌ من المفسرين.
/ يقول إبراهيم لأبيه آزر (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) أيّ يُعاتِبُهُ على عِبَادته للأصنام ،والأصنام هي: ما يُصنَع من التُراب أو يُصنع من الحَجَر، أو من الشَّجر أو من التَّمر عَلى هيئةِ إنسان أو نحو ذلك ويُعبَد من دُونِ الله سبحانه وتعالى، وقد انتشرت هذه الجريمة وهي جريمةٌ بِكُلِّ ما تَعنِيها الكَلِمة - من اتِّخَاذ الأَصنام مَعبودةً من دُونِ الله سبحانه وتعالى - انتشرت في الأُمم السَّابقة للأسف.
وأوَّل من أظهرها في العَرب - كما ذكر ذلك - النَّبي عليه الصلاة والسلام عمرو بن لُحيّ الخُزاعي عندما سَافر إلى الشَّام فوَجدَ النَّاس يسجدون لهذه الأصنام فسَأل، فأراد أن يُجدِّد. فأقبل بهذه الأصنام إلى مكَّة وأصبحَ النَّاس يَسجدون لها ويعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى، وبُعِثَ النبي وحول الكعبة ما يزيد عن الثَّلاثمائة صَنَم، حتى كسَّرها النَّبي في فتحِ مكَّة وكان النَّبي يُشير إليها ويُكسِّرها واحِدًا واحِدًا وهو يَقول عليه الصلاة والسلام
(وقُل جَاءَ الحقَّ وزَهَق البَاطِل إنَّ الباطل كان زَهُوقاً).
فإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو جَدُّ النَّبي - كانت له قِصَّة مع هذه الأصنام عندما تركَها، كان يعاتِبُ والده فيها ويعاتبُ قومه فيها ويقول هذه الأصنام التي لا تنفعُ ولا تَضُّر كيف تسجدون لها وتعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى وفي نهاية المَطاف كما تعرفون في سُورة الأنبياء تركَهُم حتى ذهبوا إلى احتفال لهم ثم أخذها فكسَّرها كُلَّها وترك أكبر واحد فيها، وعلّق -كما يقولون في بعض الرِّوايات الإسرائيلية- عَـلَّق الفَأس في رقبة هذا الصَّنم الكبير (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ.قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ.قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ.قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ. فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ. ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ)
فإبراهيمُ كان قويّ الحُجَّة في مُجادلة المشركين من قومه ولذلك عَجَزُوا عن مجادلته فأقدموا على رميه في النَّار كما تعرفون في قصته عليه الصَّلاة والسَّلام.
/ هذه الآيات التي في سورة الأنعام فيها موقف من هذه المُجادَلة فهو يقول (أتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) وقدَّم ذكَر الأصنام (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا)
اِتَّخذ: في اللُّغة العربية تنصِبُ مفعولين أيّ :أتتَّخِذُ يا والدي (أَصْنَامًا) مفعول به أوَّل (آلِهَةً) مفعول به ثاني، أي يقول :أين عقلُك؟ (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ )
ولاحظوا أنَّه هنا يَخُصُّ والدَهُ بالنَّصيحة، وتذكُرون في سورة مريم وهي قد نَزَلت قبل سورة الأنعام فيها حديثٌ لطيف وحوارٌ لَطيف بينَ إبراهيم وبين والده قال الله تعالى (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ
يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا.
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا.
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا .
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)
فتكرّر لفظةُ (يَا أبتِ، يا أَبَتِ) وكُلُّهَا في غاية الأدَب. لكن الذِّي في سُورة الأنعام بعد أن يَئِسَ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لاستجابة والده فكأنَّ فيه شيءٌ من الشِّدة كما تُلاحظون (إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) وقدَّم ذكرَ الضَّمير (والده) إنِّي أراك يا والدي وقومك في ضلال مبين للإشارة إلى شِدَّة عنايةِ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بوالده، لأنَّه هو الذي يُهِمُّه أمرُه أكثر من قومه وهذا من بِرّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بوالده.
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أيّ وكذلك كما بصَّرنا إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بأننَّا نحنُ الذِّين نستحقُّ العبادة وبصَّرناه بحقيقة الأُلوهية، أَردنا أن نُريه ملكوتَ السَّموات والأرض
والمَلكوت: هو المُلكُ الـوَاسِع. المَلكوت وهذه قليلة في اللُّغة العربية على وزن (فَعَلُوت) هذا قليل في اللُّغَة العَربية (المَلكُوت، والجَبَروت والرَّهبُوت، والرَّغَبُوت) وهي كلماتٌ معدودةٌ في اللُّغة العربية ربَّما خمس، أو ستّ، أو سبع في هذا الحُدود،ولذلك يقولون في أمثلتهم "رَغبُوتٌ خيرٌ من رهبُوت" فالرَّغبة أحسن من الرَّهبة. والمَلكوت هنا أي "التَّاء" إذا لَحقت المَصدر فإنّها تَدُلّ على العظمة فيقول (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)
للإشَارة إلى عَظَمَة مُلك الله سُبحانه وتَعالى.
/ (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أيّ نحن أردنا أن نُريــَه خَلق السَّماوات والأرض، ذكَرَ المُفسِّرون كيف كانت هذه الرؤية، أيّ كيف رأى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام مَلكُوت السَّماوات والأرض، هل معناها أنَّ الله قد كَشفَ لإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام من مُلكِهِ، ومن عَظَمَتِه في السَّماوات وفي الأرض ما لم يكشِفِهُ للنَّاس العادِّيين الذِّين يَرَون السَّماوات والأرض كما نراها نحن اليوم؟
الجواب: هناك من المفسرين من يقول ذلك بأنَّه كشَفَ له السَّموات السَّبع وكشَفَ له الأرضين السَّبع حتى رأى الأرض السَّابعة، ورأى السَّماءَ السَّابعة، لكن الأدلة على ذلك غير ثابتة. ولكن معنى الآية واضح أنَّ الله قد أرى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام من عَظمته في مُلكه ما وَصل به إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى مرتبة اليقين وهذا معنى قوله (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)
والمُوقِن :هو المُصدِّق الذِّي لا يَدخُل الشَّكُ قلبَه، لأن اليَقين في اللُّغة العربية لها معنى جميل يقولون في اللُّغة العربية يَقَنَ الماء إذا استقر في الأماكن المُنخفضة ، يعني إذا جَاءَ مَطَرٌ الآن ثم توقفت السَّماء عن المطر يبقى الماء في بطون الأودية، وفي الأحواض التي تكون في الحجارة والأماكن القاسية فتقول العرب يَقَنَ الماء أيّ استقر وثبت. فكذلك المُوقــِن يصل الإيمان في قلبه إلى هذه المرتبة فيستقر الإيمان في قلبه ويطمئن، كما يطمئن الماء في بطون الأودية وفي الأماكن التي تَحفظُ المياه، وإبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لا شَكَّ أنَّه قد وصل إلى هذه المَرتبة العالية وهي مرتبةُ اليقين.
وهي التِّي يسعى المؤمن دائماً للوُصول إليها بكثرة دراسته،وفَهمِه وتَدبُره لكلام الله سبحانه وتعالى حتى يَصِلَ إلى هذه المَرتبة التي يطمئن فيها قلبُه بالإيمان واليقين بالله سبحانه وتعالى .
/ ثُمَّ أَخَذَ يذكر الله لنا كيف استطاع إبراهيم عليه الصَّلاة السلام أن يحتَّج على قومه، يحتج على فساد شِركهم وكُفرهم.
قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام يذكر المؤرخون أنهم كانوا صابئة يعتقدون في الكواكب، ويعبدون الكواكب، فيعبدون الكواكب ويعبدون الأصنام أي أنّ دينهم مشكَّل. وهذه طبيعة الشِّرك في التَّاريخ دائماً لا تجد المشركين يعبدون شيئاً واحداً، صنماً واحداً يُخلِصُون له. ولِذلك لما سأل النبي أحد مُشركي قريش
فقال له :كم إلهًا تعبد يا فُلان .
قال: أعبد عشرة، تسعةٌ في الأرض، وواحدٌ في السَّماء،
فقال :فمن لِرَغَبِك ورَهَبِك.
قال:الذِّي في السماء.
هَذِه طبيعة الشِّرك طبيعة الاضطراب والفَوضى، ولذلك الله سبحانه وتعالى يذكُر عن المشركين أنَّهم إذا ركِبُوا في الفُلك دَعُوا الله مخلصين له الدِّين،فإذا رأوا شِدَّة أخلصُوا لله سبحانه وتعالى وهذا هو داعي الفطرة في نفس الإنسان يتشبَّث بالخالق الذِّي يعلم أنه هو المُنقِذ، وهو القادر لكن إذا رجعَ إلى البَرّ قال (إذا هم يُشركون)
فالله سبحانه وتعالى هنا يذكر لنا قصَّة إبراهيم، وكيف أنَّ إبراهيم استطاع أن يُقنِعَ قومه أو على الأقل يُلجِمُهُم، وهم يعبدون هذه الكواكب ويعتقدون فيها وأنَّها تنفع وتَضُرّ من دون الله فأخَذَ يتدرَّج معهم.
وهذا أسلوب رائع أيُّها الإخوة في مُحَاجَجة الآخرين التَّدرج والتَّنزُل مع الخصم أن تَجُرَّ الخَصم شيئًا فشيئا حتى تُقيمَ عَليه الحُجَّة.
فهو عليه الصَّلاة والسَّلام قال لهُم هذا الكَلام، وهذه المُجُادلة كما يذكر المُفسِّرون:
بعد أن بُعث عليه الصَّلاة والسَّلام بالنُّبوة. وعلَّمه ربُّه الحُجَج. ورزَقَهُ اليَقين. وأراهُ الآيات
فقال الله (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ)
هذا الكلام من إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام على سبيل المُجادلة يُريدُ أن يقيمَ عليهم الحُجَّة، وإلاَّ فهو عليه الصَّلاة والسَّلام مُوقِن ومُطمئِن ولذلك يقول الله في آخر الآيات (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) ولم يَقُل (على نفسه) لأنَّه مُؤمنٌ ومُصَدِّق فقوله هنا عندما رأى هذا الكَوكب (هذا ربِّي) يقوله من باب الحِيلَة على قومه، يعني عندما رأى الكوكب (قال هذا ربِّي) حتى يَجذبَهُم إليه فيقولوا والله إبراهيم بَدأ يتَّبِعُ آلهتنا،وهذه خُطوة جيِّدة يرونَها له. وكان المُشركون يحرصُون من النبي أن يقول شيئاً من هذا (ودُّوا لو تُدهِنُ فَيدهِنون) .
(قَالَ هَذَا رَبِّي ) ويذكر بعض المُفَسِّرين هذا الكوكب الذِّي رآه أول مرة هو كوكب الزُّهرة- طبعاً هذا لايَهمنا أيُّها الإخوة - أيّ الله سبحانه وتعالى (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) فلا يَهُمُّنا أن يكون هذا الكوكب هو عُطارِد أو الزُّهرة المُهم أنه رأى كوكبا أصغرَ من القَمر (فقال هذا ربي ) .
ومعنى (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ) وهذه فائدة لغوية جَنَّ: في اللُّغة العربية بمعنى أَظلَم (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) أيّ غطَّاه الليل بظلامه. لأن جَنَّ وكُلُّ مشتقاتها العربية تَدُل على السِّتر والتَّغطية.
• الجِنّ لأنَّهم لايُــرَون.
• الجَنين في بطن أمه لأنه لايُرى.
• المِجَنّ الذِّي يَتَّقي به المُحارِب في المعركة، ويُسَّمى (التِّرس) أيضاً لأنه يَحمي الذِّي يتِّقي به "وكان مِجَنِّي دونُ مَن كُنتُ أتَّـــقِي"
• المِجَنَّة التي هي المقبرة تسمى مِجَنَّة ؛لأنها تُجِنّ من بها.
• المَجنون سُمِّي مجنوناً لأنَّه فاقدٌ لِعَقلِه.
• فمشتقات كلمة "جَنَّ " كُلَّها تَدُلُّ على السَّتر والخَفَاء.
فيقول الله ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ) أَفــَلَ: بمعنى غــَاب (قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ)
الآن عندما قال هذا ربي لقومه طبعاً هُوَ قاله بمشهد قومه، حتى يكون للمُجادلة قيمة، فأنت لا تجادِل نفسك إنّما تجادل قومك في مَجمَع فهذا هو المشهد الأوَّل، لمَّا رأى هذا القَمر الذِّي يعبده الكثير ، أو هذا النَّجم، والكوكب قال هذا ربي فلمَّا غاب (قال لا أحب الآفلين) لماذا ؟ لأنَّه مادام أنَّ هذا الكوكب يغيب، هذا لا يستحِقُّ أن يكون إلهاً ؛لأنَّ الإله يجب أن يكون حاضِراً دائماً.ولذلك الله سبحانه وصَفَ نفسه بهذا فقال (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ) ولاحظوا هنا هذا الكوكب غابَ هذه الخُطوة الأولى، الآن زعزعت هذه الخُطوة بعض النُّفُوس والقَنَاعَات في نفوس قومه، فعلاً كلامه صحيح .
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا) أيّ ظاهراً يقال بَزَغَ إذا ظهر (قَالَ هَذَا رَبِّي) فالكوكب قد غاب إذاً دعُونا نرى القمر (فَلَمَّا أَفَلَ) أيضاً (قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) يعني يقول الآن الكوكب الذي قبله غاب، والقَمر أيضا غاب، والله هذه مُشكلة (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) لاحظُوا هذا فيه تعريضٌ بقومه أنَّهم على ضَلال ولم يقل (لئن لم يَهدِنِي ربي لأكوننَّ مثلكم) أو (مثل قومي ضالاًّ) وإنَّما قال (لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً) لاحظُوا هذه المُجادَلة، وإقامة الحُجَّة ليست خلال عشر دقائق أو في ربُع ساعة، وإنَّما أخذت وقتاً.وهذا فيه إشارة – أيَّها الإخوة- إلى أنَّ إقناع النَّاس بما تُــريد أن تُقنِعُهُم به يحتاج إلى وقت،وأنَّ العجلة ليست مطلوبة .
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ) ولم يَقُل (هذه ربي) مع أن الشَّمس مُؤنثة لكن التَّأنيث مجازي ؛ تنزيهًا لمقام الرُّبوبية من التَّأنيث.
(قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ) وكأنَّ هذا فيه إشارة إلى أنَّ المسألة عندكم أيُّها المشركون مسألة حَجم،كوكبٌ صغير، ثم القمر أكبر قليلاً، ثم الشمس أكبر منه قليلاً، قال (هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ) لاحظوا كيف عبَّر عنها عندما أثبَت لها الربوبية بضمير المُذكَّر (قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ)، ولم يقل (هذه ربي هذه أكبر). (فَلَمَّا أَفَلَتْ) فهذا يُناسبها أصلاً لأنها ليست في مَقَام الألوهية، فَلَمَّا أَفَلَتْ عبَّر عنها بالمؤنث قال (فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) الآن طالَ الموضوع. رأينا الكوكب، ورأينا القمر، ورأينا الشمس قد غابت. فلابد أن نكون صريحين قليلاً (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) وهذا فيه إِشارة إلى أنَّه قال ما قال في الآيات الماضية على سبيل المجادلة وليس مُشركًا،وليس معتقدًا في هذه الكواكب أبداً عليه الصلاة والسلام.
(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهذه فيها تصريحٌ لقومه في توحيده لله سبحانه وتعالى وجَّهتُ وجهيَ لمَن؟ للذِّي هُــو أكبر؟ للذِّي يظهر؟ لا.
بل (لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ)
فطرَ السَّماوات والأرض: أيَّ خَلقَهَا على غيرِ مثالٍ سَابِق. وتُلاحِظُونَ في القرآن الكريم يقول الله سبحانه وتعالى (فاطرَ السَّمواتِ والأرض) ويقول (فَطَر السَّموات والأرض) فَطَرَ الشيء بمعنى ابتدأه على غير مثالٍ سَابق، ويقول في آيات أخرى (بديعُ السَّموات والأرض)
وبديع السَّماوات والأَرض
هُو فَاطرُها وخَالقها على غير ِمثالٍ سَابق. بعضُ المُفَسِّرين يقول: (بديع) بِلغَةِ قُريش، وبِلُغَةِ مُضَر،والقَبائل التِّي في وَسط الجزيرة،
وفاطِر بلغة أهل اليمن بنفس المعنى (بديع،فاطر) ولذلك يذكُرون عن ابن عبَّاس أنَّه كان يقول "ما كُنتُ أدري ما فاطر - أيّ ما هو معناها الدَّقيق بالضبط - حتى جاءَ رَجُلان من أهل اليمن يَختصمانِ في بـــِئر يقول أحدُهُمَا أنا حَفرتُها،فقال الآخر أنا فَطرتها" أيّ صحيح أنت أكملت الحفر، لكنِّي أول من بَدأَ في حَفر البئر فأَنا أولى بها. ففَطر بمعنى ابتدأ على غير مثالٍ سابق .
(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ) الحَنَف في اللُّغة هو: الميل، فالحنيف هنا المائل عن كُلِّ آلهةٍ يُشرك بها مع الله سبحانه وتعالى إلى توحيده،فالحنيف هُنا المَائِل هو عن الشرك إلى التوحيد، (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لتأكيد المقصود بالحنيف هنا .
(وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ ) أي قومه هؤلاء لم يَتركُوه وإنَّما بَدأُوا يُجادِلُــونه،وسورةُ الأنعام كُلُّها هذا زُبدَتُها وهو: مجادلةُ المشركين وتقرير توحيد الألوهية والربوبية.
(وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ ) أيّ واصَلُوا مُحاجَجته، ولم يَكتفوا بهذا (قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ ) أيّ يقول هذا على وجه الاستنكار لهم، يقول: كيف تُحَاجِجُوني وتُجادِلُونني في توحيدي وفي عبادتي لله سبحانه وتعالى وقَد هَدَاني الله سبحانه وتعالى بأدِّلَةٍ قَاطِعةٍ .. واضحةٍ وضَّحتُها لكم وبيَّنتُها لكم فأنتم تعبدون أصناماً لا تَضُّر ولا تنفع، وتعبُدون كواكبَ لا تَضرُّ ولا تنفع، وتغيبُ وتَـأفُل.
قال ( وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ) لأنهم هدَّدُوه، وكُلُّ المُشركين يَصنعون ذلك.
حتى اليوم - أيُّها الإخوة - نحنُ نتحدَّث عن المُشركين وعن عبادة الأصنام في عهد النبي إبراهيم، وفي عهد محمد وقد يَظُنُّ بعضَ الذِّين يَسمعُونُنا اليوم أنَّ الشِّرك قد ارتفع من الكُرّة الأَرضية اليوم. ولكنَّ الشِّرك مازال في الكرة الأرضية وكثيرٌ من النَّاس مُشركون بالله، يعبدُون الأصنام، ويسجدون لها من دون الله وتجدون اليوم مع القَنوات الفَضائية، هناك قنوات تدعُوا إلى الشِّرك، وتَدعُوا لعبادة القبور والسُّجود لها ،والسُّجود للأصنام تماماً كَمَا كانَ في عهد إبراهيم وعهد نبينا فالحُجَج التِّي احتَجَّ بها إبراهيمُ صالحةٌ لكُلِّ زمان .
قال الله (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ) أيّ لا أخافُ ما تُهدِّدُوني به من إضرار هذه الآلهة وأنَّها سوف تضُرُّني، وسوف تعاقبني إلاَّ إذا قدَّر الله عليَّ شيئاً فصادَفَ أن ظننتم أنَّه بِسبب عقوبةٍ من الآلهة، فهذا بِمشيئة الله وليس للآلهة عَلاقةٌ فيه .
قال الله (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ)
(وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) إشارةً إلى سَعةِ عِلمِ الله سبحانه وتعالى وإحاطته بِكُلِّ شيء.
وقوله هنا (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فيه إشارة - أنا أحرص أيُّها الإخوة في حديثي أن أختصر- لكن أريد أن أتوقف عند بعض الأشياء التي قد تكون مفيدةٌ لكم- في قوله هنا (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) فيه إشارةٌ إلى أنَّ الفطرة تحتاج إلى إثارة فقط في نفس كُلِّ أحد حتى المشرك الذي يُشرِك بالله يحتاج إلى تذكير فقط، لأنَّ التذكير هو تذكيرٌ بشيء تــَعرفُه، وشيء مرَّ عليك فيذكِّرُك به.
فالله يقول هنا إبراهيم يقول (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) بمعنى أنَّكُم لا تحتاجون إلى اليقين والتَّصديق بهذه الأدلة إلاَّ إلى أن تتذكروا شيئا تعرفونه وهو توحيد لله سبحانه وتعالى. (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا)
يقول الآن أنتم أولى بالخَوف مني أنتم تُخوِّفُونني بالآلهة،وأنا أخوِّفُكُم بالله.
أنتم تُخوِّفونني بآلهة لم يقُم دليلٌ واحِد على استحقاقها للعِبادة وأنا أخوِّفكم بإلهٍ قامت الأَدِّلة كُلَّها على استحقاقِهِ للألوهية.
فأيُّنا أحقُّ بالخَوف!! وأيُّنا أحق بالأمن؟!
(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا ) أيّ هذان الفَريقان (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) لاحظوا – يا إخواني- أنَّه يقول (فأيُّ الفريقين) فكان المُتوَّقع أن يقول (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) أو (الذِّين أشركوا) لكنَّه سكَتَ عن الفريق الثَّاني فقال (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) وترك الفريق الثاني لأسبابٍ:
أوَّلاً: لأنَّه في ذِكرِه للفريق الفائز (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) هذا هو الفريق الأول (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فيفهم السَّامع أنَّ الفريق الثاني ضالٌّ فليس بمهتدي، وخائِفٌ فليس بآمن.
وهذه الآية لمَّا نزَلت وقرأها الصَّحابة - كما في الصحيح - قال عبد الله ابن مسعود للنَّبي صلى الله عليه وسلم - وشقَّت هذه الآية على الصَّحابة – فقالوا: يا رسول الله وأيُّنا لا يَظلمُ نفسه؟ أي الآية تقول (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) يلبِسُوا: أي يَخلِطُوا ( إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فهم فَهِمُوا منها معنىً آخر: معنى الآية أي أنَّ الذِّين آمنوا ولبَّس إيمانهم أو خالَطَ إيمانهم شيءٌ من الظُّلم فليس له الأمن وليس بمهتدي وقالوا أيُّنا لا يَظلِمُ نفسه يا رسول الله؟ أيّ الواحد يِظلِم نفسه مع صِغَار المعاصي. والآية تَدلُّ على ذلك في مَنطوقها، فلو أخَذتها مفصولة عن سياقها لدلَّت على ذلك كيف؟
الأصوليُّون يقولون: أنَّ النَّكرة إذا وَرَدَت في سياق النَّفي أو النَّهي فإنَّها تدُلُّ على العُمُوم. فالله تعالى يقول (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ) "لم" للنَّفي (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) نكرة وردت في سياق النَّفي "لم" فتدل على العُموم. والمقصود بظلم أي: مُطلق الظُّلم، لكن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :لا، - طَمْأَنَ الصَّحابة - قال ليس الأمر كذلك ألم تَسمعوا ما قال العبدُ الصَّالح يقصِد لقمان (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فسمَّى الله الشِّركَ ظُلمًا. فالنَّبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول لهم الظُّلم في هذه الآية ليس هو الظُّلم - مُطلق الظلم - وإنَّما هو الشِّرك.
وأنا أقول أيُّها الإخوة لو تأملتم سياق الآيات لوجدتم أن الدَّلالة الواضحة في المقصود به هُو الشِّرك، لأنَّه في سِيَاق مُحاجَّة إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لقومِه في الشِّرك وفي التَّوحيد.
فهو يقول (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ) وقال قبلها (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ) ثم يقول (الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فالحديث كُلّه عن الشرك فنَاسَب أن نفسِّر الظُّلم في هذه الآية الأخيرة: بأنَّه المَقصود به الشِّرك.فالله يقول أنَّ الذِّين وَحَّدُوا الله سبحانه وتعالى (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ) أي توحيدُهُم بِشِرك (أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) في الدُّنيا وفي الآخرة (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أيّ هُم أهلُ الهِدَاية الحقيقية. وأعرَضَ اللهُ عن ذكر الصِّنف الثاني أو الفريق الثاني لهَوَانِهِم، وعدم وجود دليلٍ لهم.
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) أيّ ما تقدَّم من إقامة الحُجَّة على هؤلاء المشركين قال (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) هُنا - أيُّها الإخوة- فوائد:
الفائدة الأولى: ضرورة المُجَادلة بالتِّي هي أحسن لإقناع المُخالــِفين - إبراهيم عليه الصَّلاةُ والسَّلام- جَادَل قومه مُجادلةً مُتدرِّجة بالتي هي أحسن، وتَنزَّل معهم غايَةَ التَّــنزُّل، فقال لهم لمَّا رأى الكوكب الصغير قال: (هذا ربــِّي) وهُو لايُـــؤمِنُ بذلك، ولكن مِن بابِ إقامةِ الحُجَّة عليهم ولمَّا رأى القَمَر قال مثل ذلك، ثُمَّ لمَّا رأى الشَّمس قال مثل ذلك، وليس هناك مُصادمةً لهم، لكنَّه أخَذهُم خُطوةً خُطوة حتى أقام عليهم الحُجَّة،وأثبت لهُم أنَّ هذه الكواكب،وهذه الأصنام التِّي تعبدونها من دُونِ الله لا تَضُّر ولا تَنفَع. وقد نَجَح إبراهيم في زَعزَعة هذا الإيمان في نُفوس قَومِه، وبدأ بعضُهم فعلاً يَقتنع بما يقوله إبراهيم، ولذلك لمَّا جاءَ إبراهيم وكسَّر الأصنام في آخرِ المَطاف (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) فأقبل بعضهم على بعض يتلاوَمُــون، ويقول بعضهم: لا (إنَّكم أَنتم الضَّالون) أيّ أنَّ كلامَ إبراهيم، كلامٌ صحيح وهذا في حدِّ ذاته يُعتبَر مكسبًا للدَّاعية الذي يريد أن يُقنِع المَدعُو بضَلالِ شِركه وما عليه من الكُفر، وعدم الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
الفائدة الثانية: بــِرُّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بوالده، لأنه قد خصَّه بالدَّعوة في أكثر من موضع واستغفر له لأنَّه وعَدَه ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) وقد يقول قائل إبراهيم قد استغفر لأَباه (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) وهذه حكمة عظيمة أنَّ الله سبحانه وتعالى يبتلي الأنبياء بأقاربهم المُشركين المُكذِّبين فقد ابتلى نوحاً بابنه وزوجته ثم إبراهيم ابتلاه بوالده، ثم ابتلى الله محمّد بعمِّه أبي لهب، وفي هذا إشارة قوية جِدَّاً بأنَّ مسألة الدِّين مَسألة لا علاقة للقرابة فيه، وأنَّ القرابة الحقيقية هي قرابة الدِّين والعقيدة وأنَّ أباك، أو أمك،أو زوجتك أو ابنك إذا خَالَفَكَ في العقيدة فلا قرابة بينهم. فهذه حقائق ينبغي أن نؤكِّد عليها - أيُّها الإخوة- لذلك إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام مع بِـــرِّه بوالده إلاَّ أنَّه فاصَلَهُ في النِّهاية، وتبَرأ منه تمامًا.
الفائدة الثالثة: وفيه إشارة إلى أنَّ حُجُج الكافرين والمبطلين حُجَج باطلة وضعيفة، وتحتاج فقط إلى شخصٍ عندَهُ قدرة على المُجادلة بالتي هي أحسن.
زمَانــنا -كما تلاحظون- زمَن انفتحت فيه المُناظرات والمجادلات على الهَواء مباشرةً، وأصبَح الجَدَل على أشُّدِّه وأنصح أخواني الذِّين يَخرجون في مثل هذه المجادلات أن يستفيدوا من سورة الأنعام ومن أساليب الحُجَج فيها فالذِّين كتبوا في مَناهج الجَدَل في القرآن اعتمدوا اعتماداً كبيراً على سورة الأنعام لأنَّه قد ورد فيها الكثيرُ من الجَدَل، والكثير من إقامة الحُجَّة على المُكذِّبين بِأوضح بُرهان،وأقرَبِ وسيلة. وجاء مثالُنا الذِّي مَعنا هنا في قصة إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام من أوضح الأمثلة على نبيّ من الأنبياء جَادَل، وحَاجَج عن دعوته، وعن التَّوحيد بأوضَحِ حُجَّة، وأقوى برهان.
وأختمُ بفائدة: وهي ظواهر القرآن الكريم كما في قوله ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً ) هي التِّي ينبغي المصير إليها فهناك من المفسرين من قال (آزر) هو عَمُّ إبراهيم ثم أخذ يتكلَّف كيف أنه يُطلَق على عمِّ الرجل (والد) كما في قوله وتعالى (واتَّبعتُ ملَّة آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) مع أنَّه لَيس والده، وإنَّما عمُّه. وقال سُمِّي والدَ الرَّجُل عمُّه ونحو ذلك. لكن الآية واضحة وصريحة في أنَّ (آزر) هو اسمُ والدِ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام .
وإلى هنا ينتهي - مجلسنا الأوَّل- نتوقف عند هذا،ونُكمِل إن شاء الله في المَجلسِ القَادِم وصلى الله على سيِّدنا ونبيِّنا مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المجلس الثاني:
بسم الله الرحمن الرحيم ،الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرا .
المقطع الأوَّل
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ. وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ.أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)
نكمل أيُّها الإخوة الكرام المجلس في تفسير سورة الأنعام وقد توقفنا عند قوله سبحانه وتعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تأمَّلُوا معي – أيُّها الإخوة الفضُلاء- كيف كان حال النبي وهو في مكة، وتكذيب المشركين ومجادلتهم ومَحاججتهم للنَّبي على أشُدِّها وتَنزِل عليه هذه الآيات العظيمة لكي تُخبِر النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام كيف كان حال الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام قَبله. ويذكر الله له مثالاً من جَدِّه إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام: تعال يا محمد هذا جَدُّك إبراهيم قد وقع له كذا .. وكذا .. وكذا .. جَادَلهُ قومه في الله سبحانه وتعالى في أكثر من مَوضع واحتجاجِه بكذا(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) وهذه هي حُجَّتُكَ يا مُحمِّد، وحُجَّة كُلَّ من سار على نَهجِك.
وأنا أقولُ أيُّها الأخوة أنَّ هذا شَرَفٌ عظيمٌ للمُسلم الذي يتَّبِع محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، فهو يتَّبِع كُلّ هذه الصَّفوة التِّي ذكرَها الله في هذه الآيات، يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات ثمانيةَ عشرَ نبيِّاً من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، وتكاد تكون هذه الآيات هي أكثرُ الآيات التِّي وردَ فيها سَردٌ لأسماءِ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام في القرآن الكريم أي الفريقين كما قال الله ( فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) الفريق الذي فيه [إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وعيسى وموسى وهارون وزكرِّيا ويحيى ويوسف ومحمَّد] عليهم الصَّلاة والسَّلام. أم الفَريق الذِّي فيه [النَّمرود، وآزر، وأُبِّي ابن خلف، وأبو جهل] فقط ضعها صورتين متقابلتين واختــَـر.
اُنظُر كم لهؤلاء من الشَّرف، ومن الأخلاق، ومن المَزايا، ومن الصِّفات واُنظر كم لهؤلاء، لا مقارنة. والله سبحانه وتعالى عندما سَردَ هذه الأسماء العَزيزة الجَليلة أسماء هؤلاء الصَّفوة على مسامِع النبي واستمَعهَا الصَّحابة رضِي الله عنهم، واستمعنَاها نحن حتى اليوم
كم تبعث من الطُّمأنينة في نفس المسلم، ومن الإيمان، واليقين في نفسه بأن هؤلاء هم قُدوته هؤلاء هم الصَّفوة من البَشَر.
والبَشرية في تاريخها الطَّويل جاءَتها الرُّسل لكن إذا مرّت فترة دَخَلَها الانحراف فظلَّت في بَيداء الشِّرك. ولكن لا غرابة
لأنَّ إبليس قد أخذ عهد وميثاق وأقسم بالله العظيم أنَّه لايزال يَجرِف هذه البشرية - ذُريِّة آدم - لايزال بهم يَصُدُّهُم عن الدين ويُزيِّن لهم الشِّرك حتى يوم القيامة ولذلك يتَّبِعهُ كثير من الناس
(وما أكثرُ النَّاس ولو حرصت بمؤمنين) فلذلك اُنظُر كيف استطاع إبليس أنَّه يزيِّن لهؤلاء الملايين والمِليارات من النَّاس الانحراف وأنه لم يثبُت إلا من ثبَّتهُ الله سبحانه وتعالى.
بالرَّغم من أنَّه قد أرسل هذه الآلآف المُؤلَّفة من صَفوَةِ خلقه وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فما زالت الرُّسُل نوح، ومن قبله إدريس، وهود، وصالح، وشعيب، وموسى ،وعيسى وهارون وسليمان وداود وغيرهم وإبراهيم عليه السلام من قبلهم حتى محمد عليه الصلاة والسلام عدد كبير جدا من الأنبياء والرُّسُل أتوا لكي يَـــرُدُّوا النَّاس إلى الطَّريق السَّوي .
تعالوا اليوم إلى الفَلسفَات الموجودة في العالم الغربيّ والفَلسفَة المُعاصرة. كيف يتحدَّثُــون عن الآلهة، ويُنكرون الله سبحانه وتعالى، ويُنكرون وجُودَه. ولذلك تَجِدُون الآن بعض الأفلام الوثائقية التي تتحدَّث عن المخلوقات، وعجائب الكون، والبِحَار إلى آخره لا يذكرون الله
ولا يعترفون بأنَّه هو الذي خَلَق هذه المخلوقات، وإنَّما يقولون الطَّبيعة هي التي جعلت هذه الحيوانات تفعل كذا وهذه الأشجار تفعل كذا وهذه الأجرام تفعل كذا ويُنكرون هذه الأدلة الباهرة القاهرة التي بيَّنها الله سبحانه وتعالى في هذه السُّورة العظيمة . / ثم يقول الله سبحانه وتعالى (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) فيه إشارة – أيَّها الإخوة- أنّه إذا آتاك الله سبحانه وتعالى علماً، وآتاك حجة في دينه فإنَّه قد رفعكَ بها درجة. ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام عندما احتج بهذه الحُجَّة الباهرة قال (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) فيكون نصيبُ كُلِّ واحد يتَّبِعُ إبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام من الرِّفعَةِ بقدر نَصِيبه من الحُجَج، والاستدلال، والعِلم.
وهذا دافع قوي للتّزَوُّدِ من العلم، وللتَّفقه في كتاب الله، وللتَّفقه في سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم فهي دَرجات يرتفع بِها الإنسان عند الله، وعند خَلقِه.
نسأل الله أن يرزقنا وإيَّاكُم الإخلاص، فأنتم في جلوسكم في هذا المجلس أنتم تُحصِّلُون بإذن الله درجات من الرِّفعة عند الله سبحانه وتعالى بقدر تَعَلُّمِكُم، وحِـرصكم، ونيَّاتِكُم .
(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فقدَّمَ وصف نفسه بالحِكمة على العلم للإشارة إلى أنَّ هذه الحُجَج التي أقامها لإبراهيم عليه الصلاة والسلام من كمالِ حكمته سبحانه وتعالى ومن كمال علمه .
/ ثم يذكرُ الله سبحانه وتعالى ما أكرَمَ به إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام، لاحظوا ذِكر إبراهيم في القُرآن الكريم، فإنّ الله يذكُر قَصَص إبراهيم في مَواضع إثباتِ الألوهية وتقرير التوحيد. فهو شيخ الموحدين عليه الصَّلاة والسلام عندما كسَّر الأصنام .. وعندما حاجَجَ قومه .. وعندما دعا والده إلى التوحيد كما في سورة مريم .. وعندما أراد أن يَطمئن كما ذكر الله ذلك في سورة البقرة (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)
(لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) هو معنى الآيات في أوّل السُّورة - الأنعام - قال الله (وكذلك نُري إبراهيم مَلكُتَ السَّموات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ). فإبراهيم كان حريصاً على تقرير التوحيد ودعوة قومه إليه، والاحتجاج إليه ولذلك رفــع الله ذكره في الأنبياء، وجعل كُلّ الأنبياء الذِّين من بعده من ذُرِّيته، ولاشك أنَّ هذا فضلٌ عظيم ولذلك الله سبحانه وتعالى ذكر في سورة النساء قال الله (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا)
وإذا أعطى الله سبحانه وتعالى فعطاؤُه العَطَاء الذِّي لايَنفَذ، ابحث عن من حازَ مثلَ شَرفِ إبراهيم، لا يوجد ، كُلّ الأنبياء الذِّين جاءوا من بعده من ذريته، هذا شَرفٌ عظيم،ومكانة سامية كبيرة فموسى من أبنائه،ومحمد عليه الصَّلاة والسَّلام من أبنائه، وعيسى، وسليمان، وداود كُلّ هؤلاء من أبناء إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وإسحاق. لاشك أنَّ هذا شرفٌ ليس له نظير.
فيقول الله (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا) إسحاق هو ابنه الثّاني من سَارَّة عليهما السلام ويعقوب هو ابن إسحاق. فإسحاق ابنه الثاني بعد إسماعيل. لأنَّ إسماعيل كما تعلمون ولِد قبل إسحاق من زوجته هاجَر، وأمَّا سارة فهي والدة إسحاق وهي زوجته الأولى، لكنه تأخَّر حملها بإسحاق عن حمل هاجر بإسماعيل عليه الصلاة والسلام، فلما ذهب إسماعيل إلى مكة مع والدته،رزَق الله سارة بإسحاق على كِبَر، ويذكر المفسرون أنَّ إسحاق ولِدَ لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وقد زادت سِنُّهُ عن المائة، وقاربت سِنُّ سارة تسعين سنة، فبشَّرتها المَلائكة بإسحاق في القِصَّة المَعروفة في سورة الذَّاريات قال الله (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) وخصَّ هاذين الابنين بالذِّكر وقال (كُلًّا هَدَيْنَا) أي أنَّ الله قد خصَّ هؤلاء الثَّلاثة [إبراهيم،وابنه إسحاق،وابن ابنه يعقوب] بهدايةٍ عظيمة قال الله (كُلًّا هَدَيْنَا).
ثم قال (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) فأراد أن يذكُرّ فَضلَ إبراهيم بأنَّه قد وهبه أبناءً صالحين الذِّين هم [إسحاق ويعقوب] وأيضا هو من نَسل آباء صالحين وهم نوح فإبراهيم عليه الصلاة والسلام من ذُرِّية نوح .
قال (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) هنا من ذرية نوح أم من ذرية إبراهيم؟
كلاهما صحيح. فالمفسرون ذكروا هذا وهذا. فإذا قلنا (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) رجَع الضَّمير إلى أقرب مذكور وهو نوح (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)
إن قلنا ومن ذرِّيته إبراهيم يُصبِح عندنا إشكال في لوط، وفي يونس عليهما السَّلام، فلوط ليس من ذرية إبراهيم إنَّما هو ابنُ أخِ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وهو الذي آمنَ بإبراهيم، وهاجَرَ معه من العراق إلى فلسطين فالضَّمير هنا يكون على نُوح أشمل، فإذا قلنا يعُود الضَّمير على نوح في قوله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أيّ ومن ذرية نوحٍ (دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ) كُلّ هؤلاء فعلاً من ذُرِّية نوح (يونس) (لوط).
وإذا قُلنا من ذرِّية إبراهيم فيقولون يَدخُل ابن أخيه في ذرِّيته تَبَعاً. لأنَّ عَمّ الرَّجل صِنوُ أبيه كما يقولون.
وعلى كُلّ حال إن قلنا هذا أو هذا فالكلام مُستقيم، وإن كان البَعض يُرَجِّح أنّه إبراهيم لأنَّ الكلام كُلّه عن إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام فالسِّياق هو السِّياق عن إبراهيم لذلك يُرَجِّح بعض المُفسِّرين أنَّ المقصود (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ) أي ومن ذرِّية إبراهيم كذا فلان وفلان وفلان طبعًا أسماء هؤلاء الأنبياء مَعلومةٌ لديكم:
فداوُود عليه الصَّلاةُ والسَّلام هو من أنبياء بني إسرائيل الكِبَار وكان مَلِكاً نَبيَّا.
وسليمان هو سليمان بن داود وقد بَلغَ مُلك بني إسرائيل في عهد سليمان وفي عهد داوود أوجهه، وأول ما بدأ ذكرُ داوود عليه الصَّلاة والسَّلام يظهر في قِصَّة جَالوت التِّي في سورة البقرة عندما حاربَ مع طالوت قال الله سبحانه وتعالى (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ)
هذا أوَّلُ مظهرٍ يظهَرُ فيه داوود في بني إسرائيل، وكان شابّاً يافعاً (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) من بعد تلك المعركة فظهرَ داوود، وظهَر بعده ابنه سُليمان عليهما الصَّلاةُ والسَّلام، وأيوب أيضا هُو من أنبياء بني إسرائِيل الكِبَار، ويوسف هو ابن يعقوب وموسى هو من ذُريَّة يعقوب،وهارون هو أخو موسى (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) دائماً تَجِدُون هذه التَّعقيبات القرآنية في الآيات أيّ ليس الجزاء الذِّي نَالَــهُ هؤلاء مُختصٌّ بهم، وإنَّما هُوَ لِكُلّ من عَمِل عملُهُم فهؤلاء من المُحسنين قال الله سبحانه وتعالى (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أيّ نَجزيهم بالهِدايَة، وبالمآل في الآخرة، وبِرفعة الدَّرجات في الدُّنيا والآخرة كذلك.
ثُمَّ قال (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ) وهؤلاء كُلُّهُم من أنبياء بني إسرائيل وهم أيضا من ذُريَّة إبراهيم (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ )(وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ) لاحظوا إسماعيل هو ابنُ إبراهيم، وكيف أخَّرَهُ إلى هنا (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا) وَالْيَسَعَ اُختلف فيه من هو، هل هو إلياس أم هو إدريس، أم هو اليسع نبيٌّ قد خُصَّ بهذا الاسم. لكن على كُلِّ حال هو نبيٌّ من الأنبياء الذِّين ذَكَرَهُم الله تعالى في كتابه،والرَّاجح أنَّه من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصَّلاة والسَّلام.
(ويونُس) هو يونُس بن متَّى الذِّي أرسله الله إلى قرية اسمها نَينوى، وهي من القُرى القريبة من المَوصل، وقد ذكر الله أنّه أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، وكيف أنَّ الله قد هَدَى هؤلاء القوم فاستجابوا ليُونس بعد أن كانوا مُكذِّبين له، لذلك قال الله (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فهم يُعتبَرُون مثال جّيد للذين استجابوا لنبيِّهم في اللَّحظات الأخيرة.
قال (وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) ولا شَكَّ أنَّ هؤلاء الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام هُم أفضلُ البَشَر،وصفوَتُهُم. والله سبحانه وتعالى فاضَلَ بين الأنبياء فقال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة (تلك الرُّسُل فضَّلنا بعضهم على بعض) لكن التَّفضيل خاصّ بالله سبحانه وتعالى هو الذِّي يَرفع من يشاء ويَخفِض من يشاء. وأما أن يأتي واحد منا فُيفَاضِل بغير دليل. فهذا لا يجوز والنبي كان يقول (لا تُفضِّلُوني على يونس ابن متى)
والله قد فضَّل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال (أنا سيِّدُ ولد آدم) أليس كذلك، فكيف نجمع بينها ؟
فنقول: أنَّ التَّـفضيل إذا ثَبَتَ به دليلٌ صحيح بالقرآن والسُّنة فنقول به، ولكن ليس التَّفضيل على سبيل التَّنَقُصِ للأنبياء الآخرين.
سؤال: قَــرنَ الله ذِكرَ إسماعيل مع اليسع في القرآن الكريم، فما الحكمة في ذلك؟
ليس عندي فيها جواب، لكن يُمكن أن يُتأمَّل في الموضعين الَّــذَينِ وردَا فيهما ذِكرُ إسماعيل مع اليسع، لعلَّهُ له صلةٌ بهما.
/ ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ)
ومن آباء هؤلاء الأنبياء (وذرِّيَاتهم) أي أبنائهم وإخوانهم وهذا يدخُل فيه مثلا (موسى وهارون) فهؤلاء أَخَوَان,وموسى عليه الصلاة والسلام كان لَهُ دورٌ مُبَارك في نبوَّة أخيه هارون، فقد طلبَ ودعَا الله سبحانه وتعالى أن يُرسِل معه هارون نبيِّاً ، فاستجاب الله له (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ) وهذه أكبَر واسطة أن تتوسَّط لأَحَدٍ أن يكون نبيِّاً، فموسى عليه الصلاة والسلام أخٌ مُبُارك. ولُوط هو ابن أخِ إبراهيم وليس والده فيدخل فيها هذه الآية (وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ) .
قال (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (اجْتَبَيْنَاهُمْ) أيّ اصطفيناهم،واخترنَاهم، واختيار الله سبحانه وتعالى واجتبائِه لَهُ وحده سبحانه وتعالى كمَا قال (ورَبُّكَ يخلُق ما يشاءُ ويختار) يَختَارُ من النَّاس،ويختارُ من البَشر، ويختَارُ من الأنبياء، ويَختَارُ من البِقاع، ويختارُ من الأزمنة، لا يُسأَل عمَّا يَفعل سبحانه وتعالى.
قال الله (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لاحظوا (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) والحديث كُلُّه هنا عن (التوحيد) ذكرَ الله المشركين ومجادلة المشركين والآلهة التِّي يعبدونها وذكَـــرَ احتجاج إبراهيم عليه الصلاة والسلام لتوحيده الله سبحانه وتعالى، وأنَّه أولى بالعبادة من هذه الآلهة التي لا تَضُرّ ولا تنفع ، ثم قال الله (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هذا الصِّراط المستقيم يا مُحمَد هُو توحيد الله وإفراده بالعبادة. ولاحظوا أنَّ المُخَاطب، هذا القرآن يتنزَّلُ على النبي ويتنزَّل عليه وهُو في مكة وهو في غَمرة المُجادلة والمحاججة مع المشركين.
/ ثم يقول الله سبحانه وتعالى (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )
أي هذا الهدى والتَّوفيق الذي وفَّق الله هذه الصَّفوة المُبَاركة من الأنبياء الذِّين ذكرتُ لك أسماءهم يا محمد من نوح وإبراهيم كُلُّ هذه الأسماء التِّي سَردتها لك هديناهم بهُدى الله سبحانه وتعالى، والهداية المقصود بها هنا هداية التَّوفيق أنَّ الله سبحانه وتعالى قد وفَّق هذه الصَّفوة من الأنبياء إلى التوحيد وإلى الهداية فيقول (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ) ولاحظوا أنَّ التَّعبير إذا جاء في القرآن الكريم باسم الإشارة البعيد الذَّي يدُلّ على البعيد (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ) إشارةٌ إلى عَظَمَة هذه الهداية،وأنَّ أعظم نعمةٍ يُنعِمُ الله بها عَليك هي هدايَتُكَ إلى الدِّين الحقّ، وإلى الطَّريق الحقّ ولذلك تَجِدُونها في سورة الفاتحة نقرأُها في كُلِّ ركعة (اهدنا الصراط المستقيم) (صراط الذين أنعمت عليهم) فهؤلاء الأنبياء من الذِّين أنعم الله عليهم فلذلك قال الله سبحانه وتعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) هؤلاء النبيين
(وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) فلا شك أن هؤلاء الأَنبياء الذِّين هَداهُم الله وذكرَهُم الله في سُورة الأنعام هم الذِّين يَنصرِف إليهم أوّل ما ينصرف إليه معنى الهداية، وكيف أنَّهم هم الرَّمز للهداية، فإذا أردتَ أن تقتدي فاقتدِ بهؤلاء ولذلِك جاءت الآيات بعدها (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ).
ثم قال الله سبحانه وتعالى (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) فيه إشارة – أيُّها الإخوة- إلى أنَّ هداية التَّوفيق ليست لأحدٍ من الخَلق.
هذا إبراهيم والِدَهُ ما استطاع أن يُقنِعَهُ بالإِسلام، فالله سبحانه وتعالى يقول هذا فضل من الله سبحانه وتعالى (يَهْدِي بِهِ) أي يُوفِّق إليه من يشاء من عباده، ولا شَكّ أنَّه فضلٌ عظيم يختصّ الله به من يشاء من عباده يعطيه الله سبحانه وتعالى ضِعَاف خَلقِه ويحرِمُ منه كبارَ النَّاس في عُيُون الناس.
ولذلك أبو جهل شيخ قريش وسيد قريش عمرو بن هشام رجلٌ وجيه معروف له مَكانة كبيرة جدا في قريش حَرمَه الله من هذه النِّعمة وحال الله بينه وبين الهداية حتى قُتِل في بدر، وأُبيّ بن خلف أيضا من سادات قريش رجل له مكانه وله صَولة وجولة، وأولاد حال بينه وبين هذه النِّعمة، وهدى الله إليها بلالُ بن رباح - كان عبداً من عَبيد قُريش - هداه الله إلى اتِّباَع النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان يقول عمر بن الخطاب "أبو بكر سيُّدُنا" يقصد أبو بكر الصِّديق قال"أبو بكر سيُّدُنا وأعتقَ سيِّدنا" لأنَّ الذِّي أعتَقَ بلال ابن رباح هُو أبو بكر الصِّديق اشتراه وأعتقه لِوجه الله فيقول عمر أن بلالٌ سيُّدُنا وقد كان عبداً من عَبيد قُريش لأنَّه أسلم واتَّبع النَّبي ولذلك كان هو الذِّي يُؤذِّن للنَّبي
فنسأل الله أن يهدينا وإيَّاكم إلى الحقّ - أيُّها الإخوة- وأن يثبِّتنا عليه حتى نلقى الله سبحانه وتعالى غير مُغيِّرين وغير مبدِّلين فالقُلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن فمن شاء أقامه ومن شاء أزاغه.
فنحن نسألُ الله دائماً وأبداً أن يُثبتنا وإيَّاكم على الحقَّ والهداية وأن يجعلنا من المُتبِّعِين لهؤلاء الصَّفوة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
/ ثم لاحظ هنا كلمةً في غاية الخُطُورة والشِّدة فالحديث عن الأنبياء إبراهيم، وأبنائه، والخِطاب للنّبي أي أجدادك هؤلاء كُلُّهُم ثم يقول (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) هل يُتصوَّر الشِّرك من إبراهيم وإسماعيل وعيسى وموسى وإسحاق؟
هؤلاء هُم الأنبياء الذِّين يَدعُون إلى التَّوحيد لكن يقول الله لو أشركوا لو وقَع أحد منهم في الشِّرك - وحاشاهم- (لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) حبِط بمعنى بَطَلَ، واضمحل وذهب كأنّه لم يكن شيئاً لذلك قال (إنَّه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النَّار) ولاحظُوا أنَّ الشِّرك أكبر الكبائر (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول الله قال : الشِّرك بالله) الله أكبر، وقال في القرآن الكريم في سورة النِّساء (إنَّ الله لا يغفر أن يُشرَكَ به) هذه لا يغفرها أبداً (ويغفر ما دَونَ ذلك) فمعنى هذه الآية أنَّ أعظم الذُّنوب هُو الشِّرك، وما دونه فهو أقل منه. فإذا كان الله سبحانه وتعالى يقول هذا في حقِّ أنبيائه عليهم الصلاة والسلام (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فكيف الحال بنا نحن؟ لاشكّ أنَّ هذا الخطاب يُتوجَّه إلينا من بابٍ أَولى.
/ قال (أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) أيّ أولئك الصَّفوة من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام من إبراهيم ومن بعده (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) لاحظوا النُّبوة والكُتُب المُقدَّسة لا تَـأتي بالحُظُوظ ولا تــَأتي بالنَّسَب وإنَّما الله يؤتيها من يشاء فقال (أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ) أي آتيناهم على سَبيل التَّفضُّل منَّا والتَّشريف لهم والإكرام لمن استجاب من أقوامهم قال (أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) هذه ثلاثةُ أمور فالمقصود بِالكتَاب هنا هُو جنس الكُـتُب السَّماوية:
فإبراهيم آتاه الله الصُّحُف - صُحُف إبراهيم -
وداوود آتاه الله الزَّبــُور
ومُــوسى آتاهُ الله التَّوراة
وعيسى أتَاهَ اللهُ الإنجيل.
هذه هي التي ذكرها الله لنا، وإلا فربَّما أعطى الله الأنبياء الآخرين كُتباً لكنَّه لم يَصِل إلينا خَبرُها والله سبحانه وتعالى لم يذكُر لنا أخبارَ الأنبياءِ كُلِّهم ولم يذكر لنا أخبار الأنبياء كلهم قال (ورُسُلاً قد قَصصنا عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك) فهناك من الرُّسُل من لم يأتيك خَبَرهُم يا محمد. فقال (آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) المقصود بالكتاب هنا جنس الكتب السَّماوية.
(وَالْحُكْمَ) الحُكم هنا المقصود به: الفَهم والعقل والقُدرة على الاحتجاج. وهذا مُناسبٌ لِمَا مَــرَّ من احتجاج إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام على قومه. فالأنبياء عليهُم الصَّلاةُ والسَّلام هُــم أكمَلُ النَّاس عقولاً، وأقدرُ النَّاس على المُحَاجَجة، وأقدرُ النَّاس على الاستدلال. فلذلك استدلالات الأنبياء واستدلالات القُرآن هي أقوى الأدلة وأقوم الأدلة وهي أَفضل من منطق اليُونان ومَنطق الرُّومان. ولذلك ألَّف ابن الوزير اليماني كتاباً جميلاً سمَّاهُ (ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان).
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَالنُّبُوَّةَ) والنُّبوة هي: الاصطفاء بالنُّبُوَّة وهذه منزلةٌ عظيمة اصطفى الله بها هؤلاء الأنبياء وقد ذكَر الله منهم في القرآن الكريم خمسةَ وعشرين نبيِّــاً، وذكر العُلماء أنَّ عددَ الأنبياء الذِّين أرسلهم الله 125 ألف نبيّ، وخصَّ منهم أولي العَزم من الرُّسل وهم الخُمسة (نوحٌ، وإبراهيمَ، وموسى، وعيسى، ومحمد) عليهم الصَّلاة والسَّلام، ولا شَكَّ أن محمدا هو أفضلُ الأنبياء وقد خصَّه الله بفضائل عليه الصَّلاة والسَّلام.
/ (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ )
(فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ) الخطاب للنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أيّ فإن يكفر بها هؤلاء المُشركين يا محمد (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) المُفسِّرون يقولون فإن يكفر بها قَومُك فقد يا محمد - قريش - فقد وكَّلنا بها الأنصار الذِّين سوف يَحمُونك ويدافِعُون عنك. وهذا معنى صحيح.
وإن قلنا (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا) فسوف نقيِّض لهذا الدِّين قوماً يَحمُونه، وينصُرونه سواءً الأنصار، أو غيرهم وهذه حقيقة تاريخية في تاريخ الدَّعوات أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا ضَعفَ قومٌ أو شعبٌ عن حملِ أمانة الدِّين فإنَّ الله ينصُرُ الدِّين بقومٍ آخرين من غيرِ هذا الجِنس.
والتاريخ الإسلامي - كمثال- فالله سبحانه وتعالى جعل العَــرَب هم مادَّة هذا الدِّين فلما مات النبي انتشر العرب يفتحون الأمصار، ففتحوا بلاد فارس وبلاد الروم. ثم بعد ذلك دخل أهل فارس في الإسلام فأصبحوا هُمُ الذين يَحملُون هَمَّ هذا الدين ولذلك تجدون كثيراً من أئمة الإسلام من العَلماء المُحدِّثين والمفسرين من غير العرب حملوا الأمانة.
وأيضاً لمَّا تقاعس الفرس حمَلَها التَتار وأصبَحُوا يرفعون هذا الدِّين، والهنود وغيرهم من أجناس أُمَم الأرض التي آمنت بهذا الدِّين، وحملته، ورفعَت رايَته عبرَ التَّاريخ.
قال ( فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ) أيّ ليسوا عنها بِمُعرضين وليسوا بِمُكذِّبين لها. وبعض المفسرين يقول فإن يكفر بها هؤلاء الأنبياء الذِّين تقدًّم ذكرهم -وحاشاهم- فإنَّ هذا ليس نهاية المطاف، حتى هؤلاء الأنبياء لو حدَث أنَّهم كَفَرُوا بما أرسلتَهُم به فسوف نقيِّض لِديننا من يقومُ به.
سؤال: أحسن الله إليكم في قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ والنُّبُوَّة ) هل المقصود بالحُكم هنا المُلك؟
الجواب: نعم يَدخُل فيه. لأنَّ من معاني الحُكم (المُلك) لكنَّ المُفسِّرين يقولون أن الحُكم بمعنى العَقل عن الله تعالى، والفَهم، وإقَامَة الحُجَّة، لأنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يَكونُوا كُلُّهم ملوكاً، وإنَّما جاء بعضهم مَلِكاً مثل دَاوود عليه الصلاة والسلام وسليمان عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ جميعاً.
قال (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، وقد عَّبر عنهم بقوله "أولئك" للإشارة إلى رِفعة مكانتهم.
(فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) أيّ فَسِر يا محمد على منهجهم في التَّوحيد وفي الدَّعوة.
قال (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) قُل يا محمد لقومك لا أريد منكم مكافأة، ولا أريد منكم ثمناً على هذه الدَّعوة التي أدعوكم إليها (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ )
وفي هذا تنبيه وإشارة: إلى أنَّ الدَّعوة إلى الله سبحانه وتعالى الأصل فيها أن تكونَ بغير ثمن وبغير مقابل، وأنَّ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام هُمُ القُدوة في ذلك فكانوا يَدعُون أقوامهم للهداية ولا يطلبُون منهم مُقَابل.
وقد ورد في آيات كثيرة على ألسنة الأنبياء عليهم السلام يقول (قُل لا أسألكم عليه أجرا) إلا اثنين من الأنبياء لم يَرد هذا على ألسنتهم وهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومُوسى ويظهر - والله أعلم - أن السبب في ذلك:
- أنَّ إبراهيم كان أكثر ما يُجادِل والده (آزر) والوالد مهما كان فله على ولده مِنَّة فإذا قال إبراهيم لوالده أنا لا أريد منك مقابل فسيقول أنا الذي ربيتك، أنت ولدي. فلم يكن من المُناسب أن يقول له ذلك.
- وموسى أيضاً كان أكثر ما جادَل فرعون، وقد تربَّى موسى في بيته فلم يكن أيضاً من المُناسب أن يقول له أنا لا أريد منك مُقابل فأنا قد تربيتُ في بيتك. فلذلك لم يَرِد ذلك.
وأما في نُوح،وهُود،وشُعيب، وعيسى كُلُّهم - والله أعلم - ورَد على ألسنتهم مثل هذا القول (لا أسألكم عليه أجراً) .
وأنا أقول -أيُّها الإخوة- ما دَامَ أنَّ الدَّاعي والمُعلِّم لا يأخُذُ أجراً، فسيكتُب الله سبحانه وتعالى لِدَعوته القَبُول، يَرزُق كلامَه شيئاً من القَبُول، فإذا دخل المال في الدَّعوة إلى الله شَابها ما شَابه، وأنا لا أقول هذا لكي أُحرِّم الأَخذ لِمن أراد أن يأخذ مقابِل تَعَبِه، أو إعداده، أو نحو ذلك ولكن أنا أقول هذا من خلال استقرائي آيات، وآيات دعوة الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام أنَّ هذه تكاد تكون مُضطرِدة، فالأنبياء يَدعُون إلى الله، لــِـوَجـــهِ الله (إنَّما نُطعِمُكم لِوجه الله لا نُريدُ منكم جزاءً ولا شُكوراً) .
ونُرجئُ الحديث عن الآية ا (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إلى المجلس القادم بإذن الله تعالى حتى نعطيها حقَّها من الحديث ونختَم هذا المجلس.
أسئلة:
١- في قوله (فإن يكفر بها هؤلاء) أيّ بهذه الدَّعوة ؛ لأنَّ الحديث كُلَّه عن دعوة التوحيد، أحيانا لا يَرد لها ذكر، وأحيانا يَرِد لها في بعض الآيات ثم يَأتي الحديث مثلاً (إنا أنزلناه في ليلة القدر)
الضَّمير في قوله (إنَّا أنزلناه) يَعُـود على القُرآن الكريم مع أنَّها أوَّل آية فالضمير يعود على القرآن الكريم ولو لم يَجرِ لَهُ ذكرٌ من قبل فكذلك في قوله (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا) أيّ بهذه الدَّعوة وبهذه الطَّريقة التي سَار عليه هؤلاء الأنبياء وبهذه الهداية (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا) الضَّمير يعود عليها،وهذا ظاهرٌ من خِلال السِّياق.
٢- تأخَّرَ ذِكرُ إسماعيل في سورة (ص) عن أخيه إسحاق، مع أنَّ إسماعيل هو الكبير؟
الجواب: قد يظهر - والله أعلم- وهذا أقولُهُ من باب المذاكرة أن المُجادَلة مع المشركين ومع اليهود، واليهود كانوا يتصلون بالمشركون كثيراً. وخاصَّةً لمَّا ذهبوا لهم. فأوردوا إليهم أسئلة يسألونها للنَّبي في سورة الكهف عن أصحاب الكهف، وعن الرُّوح، وعن ذِي القـَرنين. فكان هناك اتِّصَال. فكأنَّ الذي يُجَادل بهذه الآيات ويُقصد بها في الدرجة الأولى هم (المشركون واليهود) فقدَّم ذكرَ إسحاق، وذرِّيَــتِه، أمـَّا إسماعيل فهو لم يَأتِ من ذريته نبيّ إلاَّ محمد عليه الصلاة والسلام وهو المخاطَب، فقد يكون هذا من أسباب تأخيره في هذا المَوضع والله أعلم ويبقى أيضاً البَحث الدَّقيق يمكن أن يَدُل على شيء أوسع إن شاء الله..
٣- من لطائف التفسير: أنَّ (موسى) عليه الصلاة والسلام لمَّا صَحِبَ الخَضر عليه السَّلام قال (ستجدني إن شاء الله صابراً) بصيغة المُفرد أيّ - إن شاء الله أنَّي أصبر- لكن إسماعيل عليه الصلاة والسلام لمَّا قال له والده (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) وهذا فيه إشارة إلى أنه لم يَعتَد بنفسه ويقول ستجدني إن شاء الله صَابراً لكنَّه قال (سَتَجدني إن شاء الله من ضِمن النَّاس الصَّابرين) وهذا فيه نوعٌ من هَضم النَّفس، ولاشك أنَّها فائدة لطيفة فصَبرَ إسماعيل، ولم يصبِر موسى عليه الصلاة والسلام وكُلُّهُم ، لا شكَّ أنَّ مُوسى عليه الصَّلاة والسَّلام مِن أولي العَزم من الرُّسل لا أريد أن أقول هو أفضل من إسماعيل لأننَّا لا نريد أن نُفاضِل بين الأنبياء إلا بدليل لكن لاشك أن مكانته عالية.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
---------------------------
/ مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق