الحمد لله الذي نَـزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا ، والحمد لله الذي أنـزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا ، حمدًا كثيرًا دائمًا ما تتابع الليل والنهار ، كلما حمِد اللهَ – جل وعلا – الحامدون ، وكلما غفل عن حمدِه – سبحانه – الغافلون .
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين .
أما بعد :
فأسأل ربي – جل جلاله – وهو المجيب لمن سأل ، والمُعطي لمن أقبل أن يجعلنا ممن بارك قولهم وعملهم ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأن يَقِيَنَا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يُلزمنا كلمة التقوى في الحياة والممات ، إنه سبحانه جواد كريم .
كما أسأل ربي – جل وعلا – أن ينفعنا بما نقرأ من العلم ، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا ، وأن يقيمنا على دينه ما أبقانا .
من أنواع البركة فهم القرآن :
إن من أنواع البركة التي يفيضها الله – جل وعلا – على خاصّة عباده أن يَمُنَّ عليهم بمحبة العلم ومحبة تدارسه والإقبال على ذلك . وحقيقة العلم : هو العلم بكتاب الله – جل وعلا – ، وبسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – إذ لا أرفع في الكلام ولا أعظم قدرًا من كلام ربنا – جل جلاله – ، ولا أعظم ولا أرفع بعده من كلام نبينا – صلى الله عليه وسلم – فالموفق والمبارك من عَلِم وعلَّم واجتهد في ذلك ، حتى يصيب مما كتب الله له ، « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » ([1]) ، ولهذا وصف الله – جل وعلا – كتابه بأنه مبارك ، وجعل من أصناف بركته – سبحانه وتعالى – أن أنـزل هذا الفرقان ، كما قال – سبحانه – : ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَـزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ ([2]) ، وكما قال – جل وعلا – : ﴿ كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ ([3]) ، وقال أيضًا – جل جلاله – : ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْـزَلْنَاهُ ﴾ ([4]) ، ونحو ذلك من الآيات التي فيها وصف القرآن بأنه مبارك ، يعني كثير الخير لمن أقبل عليه .
القرآن فيه الهداية :
فالقرآن فيه شفاء الصدور والقلوب ، وفيه الهداية والتوفيق لمن أراد الله – جل وعلا – أن يوفقه ، وفي الآية التي ذكرنا وصف الله – جل وعلا – كتابه بأنه مبارك ، وأنه أنـزله لأمرين : فقال – سبحانه – في سورة ص : ﴿ كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ ، واللام هنا هي لام كي ، يعني أن العلة من إنـزال القرآن وجعله مباركًا ، أن يتدبر العباد آيات القرآن ، ثم لكي يتذكر أولو الألباب ، وهذا فيه عِظَمُ شأن تدبر القرآن ، وعِظَمُ شأن التذكر حين التلاوة ، وهذا إنما يكون بالتدبر ، فلا تَذَكُّرَ إلا بتدبر القرآن ، ولكن خصّ الله – جل وعلا – في التذكر أولي الألباب ، فقال : ﴿ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ .
العاقل هو من يتدبر القرآن :
وفي الحقيقة أن الذي يتذكر بعد التدبر ، ويُقبل على القرآن هو العاقل ، وهو ذو اللُّبِّ الذي بلغ الغاية في ذلك ، وقد سُئل أحد سادات التابعين في الكوفة وهو إبراهيم النخعي ([5]) – فقيل له : من أعقل الناس ؟ فقال : أعقل الناس فلان الزاهد . فذهبوا لينظروا من عقله ولينظروا من أمره ، فما وجدوه إلا مُقبلًا على القرآن ، وعلى أمر آخرته . فعلموا أن قصد إبراهيم أن أعقل الناس هو من أقبل على أشرف الكلام ، وأقبل على أشرف مقصود ، وهو الدار الآخرة ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ ([6]) ، فحضّ الله – جل وعلا – في هذه الآية على تدبر القرآن .
مقاصد السور وأهميتها :
إن حديثنا هنا عن علم مقاصد سور القرآن ، وأثر هذا العلم بالمقاصد في فهم التفسير ، وهو أثر من آثار تدبر القرآن عند أهل العلم ، ومعلوم أن التفسير إنما هو بتدبر القرآن ، فالذي يعلم التفسير لا شك أنه قد تدبر قبل ذلك ، فعلم إذا كان عنده أهلية بالعلوم التي ينبغي توفرها في المفسر ، والناس بعد ذلك نَقَلَة ، أو يتلقون ما قاله المفسرون ، فلما حضّ الله – جل وعلا – على تدبر القرآن , وجب حينئذ أن يُقبل العباد بعامة وأن يُقبل العلماء بخاصّة على هذا القرآن ليخرجوا كنوزه .
لأن القرآن حجة الله الباقية إلى قيام الساعة ، ويخرج منه بقدر العلوم ، وبقدر ما فتح الله على عبده ، يخرج منه من الفهوم ومن العلم ما هو تفصيل وبيان لبعض كلمات المتقدمين من الصحابة والتابعين ، مما قد لا يدركه كل أحد ، وهذه الجملة يأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى .
العلوم التي يحتاجها المفسر :
علم التفسير من العلوم المهمة ، فهو مما يحتاج إليه طالب العلم بجانب العقيدة ، وعلم الحديث ، والفقه ، لأن القرآن هو أعظم ما يقبل عليه القرآن ، ولهذا قالت طائفة من العلماء : المفسر يحتاج إلى علوم كثيرة منها :
- علم اللغة لأن القرآن أنـزل بلسان عربي مبين :
﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ ([7]) ، واللغة أقسام : منها النحو ، ومنها علم المفردات ، ومنها البلاغة بأقسامها الثلاثة ، ومنها الاشتقاق إلى آخر علوم اللغة .
- علم التوحيد : الذي هو الأساس ، فالقرآن كله في توحيد الله – جل وعلا – من أوله إلى آخره .
فالقرآن إما أن يكون خبرًا عن الله – جل وعلا – وعن صفاته – سبحانه وتعالى – ، وعمّا يستحقه – جل وعلا – من توحيده بالعبادة ، والبراءة من الشرك وأهله ونحو ذلك ، فهذا واضح في أنه في توحيد الله – جل وعلا – .
وإما أن يكون خبرًا عن أنبياء الله – جل وعلا – ورسله ، وعن قصصهم ، فهذا خبر عن أهل التوحيد وما جعل الله – جل وعلا – لهم في الدنيا من الأحوال ، والعاقبة ﴿ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ ([8]).
وإما أن يكون أمرًا ونهيًا ، أمرًا بأداء الفرائض ، ونهيًا عن ارتكاب المحرمات ، وهذا في حقوق التوحيد ومكملاته ، لأن من وحّد الله – جل وعلا – أطاع الله في أمره وانتهى عن نهيه ، وتخلّص من داعي شهوته وهواه .
وإما أن يكون خبرًا عن الأمور الغيبية وما يحصل بعد الممات من النعيم والعذاب، ومن الجنة والنار ، ومن الْحُبُورِ والسرور لطائفة ، ومن العذاب والنكال لطائفة ، فهذا جزاء الموحدين ، وهذا جزاء المشركين .
هذا المعنى العام من العلوم المهمة للمفسر ، لأن سور القرآن لا تخرج من هذه الأحوال الأربعة ؛ فكل سورة إما أن تتناول هذه الأقسام الأربعة ، وإما أن يكون في السورة بعض من هذه الأقسام .
- العلم بالسنة : لأن السنة مُفسرة للقرآن ومُبيّنة له .
العلم بالفقه ، وأحكام الحلال والحرام ، والعبادات والمعاملات : لأن القرآن فيه آيات كثيرة في هذا الباب .
- علم الجزاء يوم القيامة وأحوال الناس فيه : وهذا في القرآن منه الشيء الكثير.
- علم أصول الفقه والعلوم المساعدة لأصول الفقه : لأن بها فهم كثير من آيات الله البينات .
إذا تبين ذلك ، فإن المُفسِر الذي تكونت عنده حصيلة راسخة من هذه العلوم يمكنه أن يتدبر القرآن ، وأن يكون مُستخرجًا لما فيه من الدلالات والعِبر وموضوعات السور ومقاصد السور ، كما سيأتي بيانه مقتفيًا في ذلك بما فسر به الصحابة والتابعون كتاب الله – جل وعلا – .
سبب اختيار هذا الموضوع :
سبب اختيارنا مقاصد السور وأثر ذلك في فهم التفسير ، بل واهتمامنا عموما بعلوم التفسير أن العناية بعلم التفسير قلّت ، فالكثير من طلبة العلم – الآن – يظنون أنهم يعلمون كلام الله – جل وعلا – ، ولا شك أن الذي يعلم كلام الله – جل وعلا – ويعلم معانيه ، ويدرك مراميه وإعجازه وبلاغته وما فيه ، فإنه سيكون ملتذًا بهذا القرآن ، مُقبلًا عليه ، يخشع قلبه ، وينشرح صدره حين يقبل على هذا القرآن ، فالوصية الاهتمام بالقرآن حفظًا وتلاوة ، ثم الاهتمام بتدبر القرآن وتفسيره عبر كتب التفسير المعتمدة ، وخاصة كلام الصحابة ، والتابعين ، وتابعيهم ، والمأمونين من أئمة أهل العلم والدين والتفسير .
نشأة علم مقاصد السور والمقصود منه :
العلم بمقاصد السور لم ينصّ عليه الأوائل ، وإنما اعتبره الصحابة والتابعون بالاستقراء ، ولم ينصّ على هذا العلم بهذا الاسم إلا عند المتأخرين ، وذلك شأن جميع العلوم ؛ فإن العلوم كانت ممارسة عند السلف , لكن لم تكن التسمية موجودة ، فعلم النحو كان ممارسًا ولم يكن موجودًا ، والبلاغة كانت ممارسة ولم تكن موجودة ، وعلم أصول الفقه كان ممارسًا ، استنباط الأحكام من القواعد الأصولية ، ولم يكن موجودًا بهذا الاسم ، وهكذا في علوم القرآن في أنحاء شتى ، ومصطلح الحديث وعلوم أخرى .
ما المقصود بعلم مقاصد السور ؟
معلوم أن الله – جل جلاله – هو الذي تكلم بهذا القرآن ، وأن القرآن كلامه : ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ([9]) ، فالقرآن كلام الرب – جل جلاله – ، ومقاصد السور يعنى بها عند أهل هذا العلم : الموضوعات التي تدور عليها آيات سورة ما .
يعني أن سورة من السور التي في القرآن ، أو أن معظم السور ، أو كل السور لها موضوع ومقصد تدور عليه الآيات والمعاني التي في هذه السورة ، إذا علم هذا المقصد – يعني هذا الغرض – فإنَّّ فَهْمَ التفسير سيكون سهلًا ، بل سيفهم المرء كلام الأولين ، سيفهم كلام المحققين بأكثر مما إذا أخذ الآيات مجردة عن موضوع السورة ، كما سيأتي في مثال نستعرضه إن شاء الله – تعالى – .
مناسبات الآيات :
والبحث في مقاصد السور لم يكن مبكرًا ، وإنما بُحِثَ قبله بحث يسمى المناسبات، والعلماء اختلفوا في موضوع المناسبات ، ويعنون بها مناسبات بين الآيات المتتالية ، هل بين الآية والتي تليها رابط ؟ هل بين المجموعة من الآيات في نظامها اتصال ؟
أسباب قلة اهتمام العلماء بمقاصد السور :
هذا الموضوع يبحث في علم التفسير وفي إعجاز القرآن ، لهذا عد طائفة من العلماء أن من وجوه إعجاز القرآن أن يكون للسورة موضوع تدور عليه ، وأن يكون بين الآيات ترابط ، هذه القصة بعد تلك لغرض معلوم . لهذا قل من يطرق هذا الموضوع من المفسرين أو من العلماء ، ولعدم كثرة طَرْقِهِ أسباب منها :
أولًا : أن فيه نوعًا من الجرأة على كتاب الله – جل وعلا – ، ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن السور ليس لها موضوعات ، وإلى أن الآيات لا تناسب بينها ، وهذا قال به قليلون وغلطوا في ذلك ، فموضوع السورة يحتاج إلى قراءة السورة عدة مرات وتدبر ذلك ، ومعرفة كلام العلماء في التفسير حتى نفهم الموضوع الذي تدور عليه السورة.
السبب الثاني : أن كثيرًا من أهل العلم لم يتناولوا التفسير إلا عبر مدرسة تفسير الآيات ، ومدرسة تفسير الآيات منقسمة إلى مدرستين: مدرسة التفسير بالأثر ، ومدرسة التفسير بالاجتهاد ، وكلها راجعة إلى تفسير الآية وتفسير الكلمات في الآيات .
أما الربط بين الآيات فلم يكن من مدارس التفسير المعروفة ، ولذلك لم يكن له قوة عند أهل العلم بالتفسير .
والسبب الثالث : في عدم اشتهار هذا الموضوع : أن من تجرأ وكتب من أهل العلم وقال : إن للآيات تناسبًا ، وإن للسور موضوعات ، رد عليه طائفة من العلماء وغلطوه ، بل رموه إلى القول على الله – جل وعلا – بلا علم ، فهاب كثيرون أن يدخلوا هذا المضمار لأجل براءة الذمة ، وحتى لا يُحمِّلوا أنفسهم ما لا يطيقون ، وهذا مقصد صالح .
ولهذا نقول : العلماء في موضوع ترتيب الآيات ، والتناسق بين الآيات ، وأن هذه الآية بعد هذه الآية لغرض ، وأن هذه القصة بعد هذه القصة لغرض ، وأن السورة لها موضوع ومقصد ، اختلفوا على ثلاثة أقوال :
أما القول الأول :
فهو أنه لا تناسب بين الآيات ، بل تنــزل الآية بحسب الوقائع وتوضع في المصحف بحسب ما يأمر الله – جل وعلا – به جبريلَ – عليه السلام – فيأمر به النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الآية ضعها في سورة كذا في موضع كذا ، وأن هذا بحسب الوقائع وحسب الأحوال ، ولا يقتضي ذلك تناسبًا بين الآية والآية ، وصلة بين الآية والآية .
القول الثاني :
أن سور القرآن لا تخلو منها سورة إلا ولها موضوع ، وليس ثَمَّ آية بعد آية إلا وبينهما تناسب وصلة ، وأنه بين أول السورة وبين ختام السورة تناسب ، وأنه بين آخر السورة وأول السورة التي تليها تناسب واتساق في الموضوع ، إلى آخر الأسرار واللطائف في علم التفسير . فجعلوا ذلك لا يخرج عنه شيء البتة ، وهذا قول قليلين من أهل العلم منهم : البقاعي فيما صنف في ” نظم الدرر ” ، والسيوطي ، وجماعة ممن قبلهم وبعدهم .
القول الثالث :
وهو القول الوسط وهو أعدل الأقوال ، أن سور القرآن منها سور يظهر للمجتهد والعالم بالتفسير موضوعُها ، ويظهر بين آياتها تناسب ، فهذا إذا ظهر فلا حرج في إبدائه لأن الله – جل وعلا – جعل القرآن محكمًا : ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ ([10]) ، فالقرآن كتاب لو بحثت فيه عن عدم اتساق لن تجد ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ ([11]).
فإذا ظهرت المناسبة وظهر الموضوع ، فلا مانع أن يقال هذه السورة موضوعها كذا ، وهذه الآية بينها وبين ما قبلها المناسبة الفلانية ، بحسب ما يظهر للعالم بالتفسير وللمجتهد دون أن يكون الْهَمُّ طلبَ ذلك والتكلفَ فيه ، لأن التكلف في الشيء قد يفضي إلى القول في المسألة بلا علم ، والاجتهاد فيما لا طائل منه . وقد يكون الاختلاف فيه كثيرًا .
وهذا القول الثالث هو القول المعتدل ، الذي سلكه طائفة من العلماء بالتفسير والعلماء بالاجتهاد ، ومنهم : ابن تيمية ، وابن القيم – رحمهما الله – ، وجماعة من المحققين في التفسير ، ويظهر لك صوابه فيما إذا نظرت إلى الكتب المؤلفة في مقاصد السور وتناسب الآيات والسور ونحو ذلك ، فإن فيها أشياء متكلفة وفيها أشياء يتضح حسنها ، بل إذا نظرت إليها ، وتدبرت ما قيل من المناسبات ، والاتصال وموضوعات السور زادك يقينًا بأن هذا القرآن إنما هو كلام الله – جل وعلا – ، وإذا قرأت السورة أحسست بتأثير فيها ليس كتأثير من لم يعلم موضوع السورة ، ولا تناسب الآيات فيما يذكر .
لهذا نقول : إن المختار من هذه الأقوال الثلاثة : هو القول الثالث ، وهو الذي ينبغي أن تعتني به من كلام أهل العلم ؛ لأن فيه الفائدة المرجوة – إن شاء الله تعالى – .
المصنفات في علم مقاصد السور :
المصنفات في هذا الباب كثيرة ، فهذا ابن العربي المالكي – وهو من أهل الأندلس قد اتصل بالمشرق في فترة من عمره وهو صاحب ” أحكام القرآن ” و” عارضة الأحوذي ” ، و” شرح الموطأ ” وكتب كثيرة معروفة – ألف كتابًا في مقاصد السور ، وتناسب الآيات والسور ، وعرضه على الناس في زمانه قال : فرأيت الناس بَطَلَة -لم يقبلوا عليه ولم يهتموا له مع عظيم علمه وشرف معلومه – قال: فلما رأيت ذلك الإعراض منهم أحرقته وجعلته بيني وبين الله – جل وعلا – .
وكتب أيضًا الرازي في تفسيره بعض المناسبات إلى أن وصل الأمر إلى الزركشي فعرض في كتابه علوم القرآن ، الذي هو مسمى بـ” البرهان ” كتب فيه أبوابًا جيدة في التناسب والمقاصد ، وهي قصيرة لكن فيها تأصيل لهذه المسألة .
ثم جمع ذلك مع تأمل البقاعيُّ في كتابه الكبير في التفسير الذي أسماه ” نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ” ، وهو مطبوع في الهند ، وهو كتاب كبير في نحو اثنين وعشرين مجلدًا ، والتزم فيه أن يذكر مقصد السورة ، وأن يذكر التناسب بين كل آية والتي قبلها والتي بعدها ، والتناسب بين آخر السورة وقبلها ، إلى آخر ما ذكره مما جعله مُتكلفًا في كثير من المواضع ، حتى قال عن نفسه : إنه ربما مكث شهرًا في تأمل آية بعد آية ما المناسبة بينها ؟ ورد عليه بعض علماء عصره لهذا التكلف الذي تكلفه في كتابه .
ثم كتب السيوطي عدة كتب في ذلك . وذكر في كتابه إعجاز القرآن وهو ” معترك الأقران في إعجاز القرآن ” ، أن من وجوه الإعجاز العلمَ بالمقاصد وتناسب الآيات والسور ، إلى آخر ذلك .
اشتمال معظم كتب التفسير على مقاصد السور :
فهذا العلم فيه بحوث عند علماء التفسير ، ولكن الذين كتبوا فيه ما بين مجيد فيه ومقصر في ذلك ، وإذا تأملنا هذا الموضوع وجدنا أن كثيرًا من المفسرين يقولون : هذه السورة فيها الموضوع الفلاني ، مثل ما قال شيخ الاسلام ابن تيمية مثلًا في سورة المائدة بأن هذه السورة كلها مختصة بعلم الأحكام ، الحلال والحرام ، والعقود بخاصة ، حتى قصص الأنبياء التي فيها لها صلة بالأحكام ، وحتى قصة ابني آدم لها صلة بهذا الموضوع .
سورة الفاتحة سميت أم القرآن ، لأن مقاصد القرآن التي فيه هي في سورة الفاتحة ، وهكذا ، فمن أهل العلم بالتفسير من نص على الموضوع والمقصد ، ومنهم من عرض له بدون التنصيص عرضًا عمليًّا .
طرق فهم المتدبر لموضوع السور والآيات :
كيف يمكن أن يفهم المتدبر أو المفسر موضوع السورة ؟
أو ما هي الوسائل التي بها يعرف موضوع السورة ؟
من هذه الوسائل :
أولًا : أن ينص العلماء أو طائفة من العلماء المحققين على أن هذه السورة في الموضوع الفلاني ، مثلًا :
سورة الإخلاص : في توحيد الأسماء والصفات ، أو في التوحيد العلمي الخبري .
سورة الكافرون : في التوحيد الطلبي , توحيد العبادة .
سورة الفاتحة : في بيان محامد الرب – جل وعلا – .
سورة النحل : في النِعم .
سورة الكهف : في الابتلاء .
سورة العنكبوت : في الفتنة .
سورة البقرة : في بيان الكليات الخمس ، والضروريات التي تدور عليها أحكام الشريعة ، وبيان عدو من أعداء الإسلام وهم اليهود .
سورة آل عمران : في تكميل ذلك ، مع بيان عدو جديد وهم النصارى والحوار معهم ، ثم مجاهدة المشركين .
سورة النساء : في بيان أحكام النساء والمواريث ، وخصص ذلك بالنساء لأجل هضم الجاهلية لحقوق النساء ، ونحو ذلك ، ثم بيان أحكام العدو الثالث وهم المنافقون.
سورة المائدة : في بيان أحكام الحلال والحرام والعقود ، إلى آخر ذلك مما هو تفصيل للأحكام الكلية الخمس ، وأحكام الشريعة التفصيلية ، وهكذا في أنحاء شتى .
كذلك المناسبات بين الآي ، بأن ينصّ بعض أهل العلم المتحققين الراسخين بأن هذه الآية جاءت بعد هذه الآية لأجل كذا لما بينهما من الارتباط ، أو هذه السورة بعد هذه السورة لما بينهما من الارتباط وهكذا .
الوسيلة الثانية لمعرفة موضوع السورة والمقصد الذي تدور عليه السورة :
والوسيلة الثانية هي أن يكون موضوع السورة ظاهرًا من أولها ، فالمفسر يقرأ فيظهر له أن كل السورة مبني على أولها ، مثلًا سورة القيامة ، ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ ([12]) ، كل ما فيها ذكر لأحوال القيامة ثم أحوال الموت ، أو وسائل الإيمان بيوم القيامة ، هنا بحث في سورة القيامة ، بحث عند من اعترض على موضوع السورة في قول الله – جل وعلا – : ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ ([13]) ، قال طائفة من العلماء : إن هذه الآيات لا صلة لها بموضوع القيامة ، ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ ([14]) ، ما صلتها بموضوع القيامة ؟ وما صلتها بموضوع الموت والعاقبة ؟ … إلى آخره . ذكر الآخرون مناسبة ذلك وبينوا ما هو ظاهر بَيِّن .
كذلك في سورة الواقعة ، ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ﴾ ([15])، سورة الواقعة صار موضعها حول تقسيم الناس يوم القيامة ينقسمون إلى أقسام ثلاثة : السابق ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، ثم بعد ذلك أدلة تتعلق بهذا الأصل ، ثم حال الناس عند النــزع ، وأين تذهب أرواحهم ، فتلحظ من السورة أن الموضوع بيّن من أولها إلى آخرها ، وهذا يتضح لك من أول السورة .
الوسيلة الثالثة : الاستقراء ، فالاستقراء للآي من عالم بالتفسير ، إما أن يكون استقراءً كاملًا ، أو استقراءً أغلبيًّا ، وقد ذكر علماء الأصول أن الاستقراء الذي يحتج به على قسمين :
الاستقراء الكامل ، أو الاستقراء الأغلبي لأنه حتى القواعد ما من قاعدة إلا ولها شواذ ، فالاستقراء الأغلبي حجة كالاستقراء الكلي في الاحتجاج ، ولكن في القوة فإن الاستقراء الكلي أعظم من الاستقراء الأغلبي ، فإذا استقرأ الآيات واستخرج المفسر موضوعًا ولو لم يسبق إلى ذلك ، فإن هذه وسيلة ظاهرة من وسائل إدراك المعنى ، لا سيما إذا كان مُصِيبًا فيه غيرَ متكلف في ذلك . وهناك وسائل أخرى .
أمثلة لاستنباط مقاصد السور :
والآن نضرب مثالين لمقصد السور ، ثم النظر في الآيات التي تدور حول هذا المقصد ، وهاتان السورتان هما : سورة الفاتحة ، وسورة العنكبوت .
أولا: سورة الفاتحة :
وهي فاتحة الكتاب ، وهي أم القرآن ، وتسمى أيضًا سورة الحمد ، افتتحها الله – جل وعلا – بحمده فقال :
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ([16]) ، وحمده – جل علا – هو الذي تدور عليه السورة ، بل أول ما بدأ الله به الخلق هو الحمد ، وآخر ما ينتهي إليه الخلق هو الحمد ، والناس في الأولى والأخرى ، بل الخلق كله من المكلفين وغير المكلفين يدورون بين الحمد ، كما قال – سبحانه وتعالى – : ﴿ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ﴾ ([17])، فالله – عز وجل – خلق السموات والأرض بالحمد ، ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ ([18])، وحين ينتهي الجزاء ، ﴿ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ([19])، قيل : يعني قالت الملائكة وغيرهم من الخلائق بعد أن دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، واستقرت الأمور .
فافتتح الله – جل وعلا – الكتاب بحمده ، كما أنه حمد نفسه على إنــزال القرآن ، قال : ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ ([20]) ، فإذا كان كذلك ، فالحمد هو الذي دارت الحياة والخلق عليه ، وبعث الرسل ، وإنــزال الكتب عليه , ولهذا صار الحمد هو أعظم ما يفتتح به الكتاب الخاتم .
معاني الحمد في القرآن :
إذا تأملت القرآن وجدت الحمد يدور على خمسة معانٍ :
المعنى الأول : أن يُحْمَدَ الله – جل وعلا – على ربوبيته .
والثاني : أن يُحمد على ألوهيته .
الثالث : أن يُحمد على أسمائه وصفاته .
الرابع : أن يُحمد – جل وعلا – على خلقه – سبحانه وتعالى – ، وإحداثه وإبداعه للكائنات .
والخامس : أن يُحمد الله – جل وعلا – على شرعه وكتابه .
وهل يدخل الحمد بمعنى الشكر في أحد هذه الأقسام الخمسة للحمد ؟
نعم ، وهو الحمد على خلق الله للصغير والكبير ، لأنه ما من نعمة تسدى إليك إلا والله – جل وعلا – هو الذي خلقها ، فيحمد على ما أسدى وعلى ما أرسل .
القرآن يدور على أنواع حمد الله – جل وعلا – :
إذن سورة الفاتحة تدور في موضوعها على أركان حمد الله – جل وعلا – . والقرآن كله لو استوعب فإنه يدور من أوله إلى آخره على أنواع حمد الله – جل وعلا – ، فإما أن تكون الآية أو السورة في حمده – سبحانه – على ربوبيته ، أو على ألوهيته ، أو على أسمائه وصفاته ، أو على شرعه وكتابه ، وما أنــزل ، أو على خلقه وقدره – سبحانه وتعالى – .
معنى الحمد :
قال العلماء : الحمد هو إثبات أنواع الكمال للمحمود لا نقص له فيه بوجه من الوجوه ، والله – جل وعلا – هو الْمُثْبَتُ له أوجه الكمال في ربوبيته ، وأوجه الكمال في ألوهيته ، وهو الْمُثْنَى عليه بأوجه الكمال في ألوهيته ، وربوبيته ، وأسمائه وصفاته , وفي شرعه ، وتنــزيله وكتابه ، وفي قدره – سبحانه وتعالى – ، وفي خلقه .
قال العلماء : ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ معناه : أنواع الحمد ، لأن الألف واللام هنا للاستغراق .
والألف واللام تأتي على ثلاثة أنواع في التفسير : للتعريف ، للاستغراق ، للمِلْكِ والاختصاص .
ومتى تكون الألف واللام للاستغراق ؟ إذا كان يصح أن نضع مكانها « كلّ » فنقول : الحمد لله . إذا قلت : « كل حمد لله رب العالمين » . يصح ، إذن فهي للاستغراق .
فنقول هنا : ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ هذه مستغرقة لجميع أنواع المحامد الخمسة لله – جل وعلا – ، وقد ذكرناها قريبًا .
﴿ لله ﴾ اللام لام الاستحقاق ، يعني كل حمد لله – جل وعلا – ، فهو مستحق له – سبحانه وتعالى – .
﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ([21]) وهذا فيه توحيد الربوبية ، فمن أركان الحمد : الحمد على ربوبيته لخلقه . فقال ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ .
﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ ([22]): هذا فيه الصفات .
﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ ([23]): فيه توحيد الصفات ، وفيه الشرع والكتاب ، وفيه أيضًا الخلق والأمر .
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ([24]): فيه توحيد الألوهية ، ﴿ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ([25]) فيه توحيد الربوبية ، وفيه أيضًا القدر لأنك تستعين بمن يُعين ، بما يحدث في ملكوته .
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ ([26]): النعمة الدينية ، وهي الهداية إلى الصراط المستقيم ، فهو – سبحانه – المحمود على كل نوع من أنواع الهداية للصراط المستقيم ، ثم وصف الصراط فقال : ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ ([27])، وهذا نوع من أنواع النِعم التي يُحمد عليها ، وهي راجعة إلى أحد أركان الحمد ، ثم أيضًا يفصل في الموضوع بأشياء من نظر آخر في أنواع المحامد ، وأنواع الصفات ، وأنواع العبودية ، أنواع الاستعانة . هذا عرض موجز لما في هذه السورة مما يدور حولها مما ذكره بعض العلماء .
ثانيا : سورة العنكبوت :
سورة العنكبوت قال بعضهم : إنها تدور حول الفتنة ، فالفتنة ظاهرة في أول السورة قال – جل وعلا – :
﴿ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ ([28])، فالفتنة ذُكِرَتْ نصًّا في أول السورة ، فالمرء قد يُفتن بعقله ، أو يُفتن بالدنيا ، أو يُفتن بوالديه ، أو يُفتن بأهله ، أو يُفتن بطول المكث وطول العمر ، أو يُفتن بالتنعم في الدنيا ، فيُفتن عن أدراك الحقيقة بأنواع من الفتن ، كلها موجودة في هذه السورة .
أنواع الفتن :
في سورة العنكبوت ذكر الله – جل وعلا – أنواعَ وأصولَ الفتنِ ، وذكر كيف ينجو المرءُ من هذه الفتنة ، لأن الحياة إنما هي ابتلاءٌ وفتنةٌ ، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث عياض بن حمار – رضي الله عنه – الذي رواه مسلم في الصحيح قال – صلى الله عليه وسلم -: « قال الله تعالى : يَا مُحَمَّدُ إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ » ([29])، فحقيقة الحياة أنها فتنة ، والفتنة بالشر و الخير معًا ، ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ ([30]).
فهذه السورة ذكر الله – جل وعلا – في أولها
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ ﴾ ، لفظ الناس يشمل المؤمن والكافر ، ويشمل الكبير والصغير . ويشمل جميع طبقات الخلق وفئاتهم في تعاملهم فيما بينهم ، ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ ، يقول : مؤمن . فمتى يَصْدُقُ الإيمان ؟ إذا عرضت له الفتنة فنجا منها بشرع الله – جل وعلا – ، فقد يفتتن بنفسه ، أو يفتتن بجماله ، أو تفتتن امرأة بحسنها ، أو يفتتن رجل بماله ، أو يفتتن بوالديه ، لذلك تجد في هذه السورة ذكرًا لجميع أنواع وأصول الفتن والمخرج منها .
فتنة الوالدين :
قال الله – جل وعلا – : ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ ([31]) ، ففي الآية الوالدان يَفتنان ، يجاهدان للشرك ، وهي فتنة عظيمة . وقد ذكر المفسرون أنها نزلت في قصة سعد بن أبى وقاص – رضي الله عنه – لما أرادته أمه على الكفر والشرك ([32]) .
فما المخرج من هذه الفتنة ؟
المخرج منها في تحقيق شرع الله أن لا يطيع في الكفر والشرك ، أو في معصية الله ، لكن يصاحب بالحسنى ، ومن الناس من تعرض عليه الفتنة فيصاحب والديه لا بالحسنى ولكن بالعقوق ، ويكون قد وقع في بعضها ، لكن من يصبر على هذا الأمر العظيم .
من الفتن كثرة أهل الباطل :
من أنواع الفتن أن يكون أكثر الناس يكفرون بالله – جل وعلا – ، فيأتي المرء فيظن أنه وأهل الإيمان قليل ، وأن الكفار أو المنافقين أو المجرمين أو العصاة كثير ، فكيف يستقيم ، وكيف يثبت على دينه وإيمانه ؟ هذا نوع من الفتنة يعرض على القلوب ، وقل من الناس من يثبت .
من الفتن قوة الباطل وطول مكث أهله :
ومن الفتن أيضًا التي ذكرت في هذه السورة أن الإنسان ينظر إلى طول مكث أعداء الله وأعداء رسوله – صلى الله عليه وسلم – في الأرض ، يتمتعون بالقوة ، وهم الذين يسيطرون ، فربما يحمله ذلك على أن تُزَيَّنَ له الدنيا ، وأن يُصَدَّ عن سبيل الله ، كما قال تعالى في سورة البقرة : ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ ([33]) .
وفي سورة العنكبوت ذكر الله – جل وعلا – أولًا قصة نوح – عليه السلام – في آيتين قال – جل وعلا – ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ ([34])، فما مناسبة هاتين الآيتين لموضوع السورة وهو الفتنة ؟
طوال هذه المدة تسعمائة وخمسين سنة وهو يدعوهم ، والمؤمن معه قليل ، كما قال تعالى : ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ ([35])، قال بعض العلماء : كان المؤمنون ثلاث عشرة نفسًا . وقال آخرون : كانوا بضعة وسبعين من الرجال والنساء . مكث نوح عليه السلام ألف سنة والشرك بالله – جل وعلا – يعلو ، عبادة الأوثان ، ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، وهو ينصحهم ، ويدعوهم ليلًا ونهارًا ، سرًّا وجهارًا ، ولا مستجيب إلا هذه الفئة القلية ، وفي هذا لقلوب المؤمنين فتنة أيما فتنة .
إذن قد يفتتن المرء بطول مكث الأعداء ، فهذه السورة نبهت المؤمن الصادق ﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾ ([36])، وقال في الآية التي قبلها : ﴿ الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ ([37]) ، وإنما يكون العلم المقصود هنا إذا عرضت الفتن للقلب فنجا .
فموضوع سورة العنكبوت أسباب الفتنة والمخرج منها ، حتى قصة النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مرجعها إلى الفتنة ، بما ينجو المؤمن من الفتنة التي طال أمدها ، بعض الناس يظن أن أمر الله – جل وعلا – يحصل له كما يريد . لا ، فحكمة الله ماضية، والله – جل وعلا – يبتلي كما ابتلى نوحًا – عليه السلام – وقومه ، بأنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا ، ومع ذلك لم يستجب منهم إلا القليل ، هذا نوع من الافتتان ، والْمَخْرَجُ منه في هذه السورة هو الصبر ، ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ ([38]).
الصبر على الحق :
قصة إبراهيم – عليه السلام – في نوع من الفتنة ، فيمن يجادل ويحاور ، فيمن يُذَكِّرُ قومًا لا يستسلمون ، وإنما يكيدون ويتخذون أشياءَ للمودة وللدنيا ، ﴿ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ﴾ ([39])، فهذا يحصل فيها نوع افتتان ، قلّ من يصبر على الحق، ويمكث عليه ، ولا يتأثر بهذه الفتنة في الشُّبَه التي يلقيها المشركون والكفار ، وهذه الشُّبَه تتجدد بتجدد الأزمان .
الافتتان بالشهوة :
قصة لوط – عليه السلام – فيها الافتتان بالشهوة ، والشهوة هنا هي شهوة الرجال المناقضة للفطرة ، والإعلان بها وأنه لا ضرر منها ، ومن نهى عنها إنما هو الذي يُرد عليه ، نهاهم لوط – عليه السلام – : ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ﴾ ([40])، ولكنهم قالوا له : ﴿ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ ([41]).
فتنة أخرى وهي زوجة لوط التي في بيته ممن وقعوا في شراك أولئك ، فتدل الرجالَ على الرجالِ الذين يأتون لوطًا ، أو نحو ذلك ، ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ ([42]).
فما المخرج من هذه الفتنة ؟
المخرج منها بأن يعلم الإنسان أن فتنة الشهوة التي في الإنسان أرادها الله – جل وعلا – لبقاء النسل ، وليختبر العبد هل يصبر أم لا يصبر ؟ هل يتحمل ويسير على ما أراد الله – جل وعلا – أم يُتبع نفسه هواها ويطلق الحبل على ما يريد ، ولكن لما وقع قوم لوط تحت هذه الفتنة ، أوقع الله – جل وعلا – العقوبة بمن لم ينتهوا عن نهيه – جل جلاله – .
من الفتن المخالفة مع العلم :
من الفتنة أيضًا أن يكون لدى الناس علم منتشر بينهم ، ولكنهم لا يأبهون ولا يعملون بهذا العلم ، فيعلم الناس الحدود ولكنهم مع ذلك يخالفون حكم الله – سبحانه وتعالى – ، فهؤلاء لم يكن العلم في حقهم نعمة ، بل كان فتنة ، ولهذا ذكر الله – جل وعلا – أن عادًا وثمود كانوا علماء علموا وكانوا مستبصرين ، لكنهم مع ذلك خالفوا ، فقال – سبحانه – : ﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾ ([43]).
زين لهم الشيطان أعمالهم ، وصدهم عن السبيل ، وكانوا مستبصرين لا يجهلون ، ولكن زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل . وهذه فتنة عظيمة أن يكون المرء على علم ، فيطيع الشيطان ويترك العلم الموروث عن الرب – جل وعلا – ، وعن نبيه – صلى الله عليه وسلم – .
القوة فتنة :
القوة أيضًا فتنة ، المجادلة والحوار فتنة ، والآن يطرح في كثير من الأحيان مباحث الحوار، الحوار مع النصارى ، والحوار بين الحضارات ، والحوار بين الديانات ، والحوار بين المذاهب ، وهذا الحوار نوع من أنواع الفتنة ، والآن تبثه بعض القنوات الفضائية ، لأن فيه تأثيرًا على ذوي القلوب الضعيفة يرى مِلَلًا ونِحَلًا ، وهذا يعبد كذا ، وهذا يعبد كذا ، قد يشك ويفتتن ، لكن المؤمن الصادق يعلم أن هذا التنوع ، وهذا التعدد والاختلاف إنما هو دليل من أدلة أن الحق واحد ، وأن هؤلاء كما قال الله – جلا وعلا – : ﴿ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ﴾ ([44]) ، أرادوا الطريق إلى الله – جل وعلا – فأخطؤوه .
من الفتن الجدال بغير علم :
تعرض للمرء هذه الفتنة فيضطر للجدال بالحسنى ، ولكن الواجب ألا يجادل غير الذي عنده علم ، وليس كل أحد . لهذا ذكر أن أناسًا جادلوا صاحب ملة من الملل أو مذهب من المذاهب الضالة ، فربما غُلِبُوا أو ربما غلب صاحب المذهب الضال فيفتتن الناس به .
الله – جل وعلا – بيّن في هذه السورة أن الفتنة تقع إذا لم يكن الحوار من عالم وبالتي هي أحسن ، فقال – جل وعلا – : ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ ([45]) ، فذكر – جل وعلا – النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، لكن ممن ؟ مِمن هو عالم بالقرآن ، ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ ([46]).
فمن لم يعلم القرآن وحججه وبيّناته ، والبراهين التي في القرآن ، وكيف جاء في القرآن الحوار مع المُلحد ، والمتجبر ، والطاغوت ، ومع الناس بجميع أصنافهم ، من لم يعلم ذلك فإنه لا يصلح للحوار ، فليس كل أحدٍ يحاور برأيه وبفكره ، وإنما الحوار للعلماء الذين يعلمون حدود ما أنزل الله على رسوله – صلى الله عليه وسلم – .
فلا بد أن ينظر المرء في هذه الحال ، أن يكون معتزًّا بدينه ، وأن يعلم أن القرآن هو الحق ، وأنه من كان في صدره القرآن فهو الذي على الحق ، لأن القرآن حجة ماضية على الجميع ، ولهذا قد يكون المرء جاهلًا ببعض الحجج ، فإذا كان كذلك ، فإنه يقول كما قال الله – جل وعلا – : ﴿ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ ([47])، وهذه هي المجادلة الإجمالية ، ثم التفصيل عند من يعلم القرآن ويعلم الشريعة .
من الفتن الدنيا :
من الفتن التي ذكرت أيضًا في هذه السورة : أن يجعل الله – جل وعلا – الحياة جميلة بلهوها ولعبها وما فيها من الملذات حتى ينسى المرء الآخرة ، قال – جل وعلا – في آخر السورة : ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ ([48])، لأن كثيرًا من الناس افتتنوا بالحياة باللهو واللعب ، ويظن أنها ستمتد به ولا يعلم حقيقة الحياة ، قال – جل وعلا – بعدها : ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ([49])، الحيوان صيغة مبالغة من الحياة يعني الدار الآخرة وهي الجنة والنار هي الحياة الباقية الكاملة ، فمن أراد قمة النعيم وكماله والتلذذ فهو في الجنة في الآخرة ، ومن أراد الهرب من المؤذيات فالمؤذيات كلها في النار ، ولهذا قال طائفة من العلماء : ما ذكر الله – جل وعلا – في القرآن من أنواع نعيم الدنيا لتنظر إلى نعيم الدنيا ، ولتتذكر به نعيم الآخرة ، فكل مثال في الدنيا للنعيم أو للتلذذ هو حجة عليك في تذكرك نعيم الجنة ، وكل مثال في الدنيا لأنواع المؤذيات ولو كانت حشرة صغيرة أو كان حرًّا يسيرًا فهو مثال يذكرك الله – جل وعلا – به لما يكون في الآخرة من النكال والعذاب والحرمان .
فمن أراد حقيقة الحياة والسعادة فليبحث عن السعادة الأبدية ، والحياة الدنيا هذه لهو ولعب ، ﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾ ([50]) ، ما افتتن الناس إلا باللهو واللعب .
لماذا قست القلوب ؟ لأن الناس أقبلوا على اللهو واللعب .
لماذا أعرضوا عن الآخرة ؟ لأنهم أقبلوا على اللهو واللعب .
لماذا قل نصيبهم من القرآن ؟ لأنهم أقبلوا على اللهو واللعب .
العاقل هو الذي ينظر إلى قوله – سبحانه وتعالى – : ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ ([51]) .
من الفتن أمن الابتلاء :
من الفتن التي ذكرت في هذه السورة وذكر فيها المخرج من الفتنة ، الفتنة بالأمن ، فيسود الأمن سنواتٍ وسنواتٍ وسنواتٍ ، فيغتر الناس فيقولون : « إننا لن يصيبنا ما أصاب غيرنا ، الزلازل تصيب الآخرين ، أما نحن فلن تصيبنا الموبقات ، وضيق المعيشة والنكد يصيب الآخرين أما فنحن فأبناء الله وأحباؤه ». أو يقولون : نحن الخاصة .
قال – جل وعلا – في بيان هذه الفتنة في آخر السورة : ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ ، هذا لفت نظر إلى هذا النوع من الإنعام من الله – جل وعلا – ، وأن لا يكون هذا الإنعام سببًا للافتتان بهذه النعمة ، وهذا الرخاء الذي جعل الله – جل وعلا – أهل مكة فيه زمن النبوة ، وما شاء الله من الأزمان بعده .
ما الغرض من هذا ؟ ﴿ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ ، أفبالباطل يؤمنون بعد هذا الإنعام ، أي: أيؤمنون بالباطل ، وبالشرك ، والكفر ، وإنكار رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – ، وإطاعة الشياطين ، أو بما هو دون ذلك من المعاصي والموبقات والآثام ﴿ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ من الذي أنعم ؟ الله – جل وعلا – ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ ([52])، فمن الافتتان الذي قد يصيب الله به بعض العباد – كما ذكر في هذه السورة – أن يظن العبد أن البلاء إنما هو للآخرين ، وأما هو فلن يبتلى ، نقص الرزق يكون لفلان من الناس ، أما هو فلا ، المرض يكون لفلان أما هو فلا ، الإصابة بالأمراض الشديدة – أجارنا الله منها - إنما يصاب به الآخرون ، أما هو فصاحب صحة وعافية .
قال – جل وعلا – في بيان هذا المثال : ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾ ([53]). هذه أمثلة من أنواع الافتتان وأنواع البلاء ، وما في هذه السورة مما يتصل بهذا الموضوع .
ثم يتعانق في هذه السورة الابتداء مع الختام ؛ ليدل على قول من قال من أهل العلم : إن موضوع السورة يتعانق فيه البداية مع النهاية ، فقال – جل وعلا – في بدايتها ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ ([54]) ما المخرج في جميع هذه الحالات ؟ الجواب في آخر السورة في آخر آية : ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ ([55]).
موضوع مقاصد السور وأثر ذلك في التفسير له شُعَبٌ من جهة التنظير ، وله أيضًا شُعَبٌ من جهة التطبيق ، وإذا تأملنا هذين المثالين في سورة الفاتحة ، وسورة العنكبوت تكون لنا نظرة ورؤية إلى ما يذكره العلماء في موضوعات السور وما تشتمل عليه ، ففهم آيات سورة العنكبوت مثلا ، ولماذا أتى بقصة النبي فلان ، ولماذا أتى بقصة النبي الآخر – عليهم جميعا السلام – إلى آخر ما هنالك ، كل هذا موضوعه هو علم مقاصد السور . وهذا العلم نادر عزيز ، لكنه مهم لكل طالب لعلم التفسير بالضوابط التي ذكرناها سابقًا.
أسأل الله – جل وعلا – أن يبارك لنا في علمنا ، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته ([56]) ، وأن يزيدنا منه علمًا ، وأن يذكرنا منه ما نسينا ، وأن يجعلنا من الْمُحِلِّينَ لحلاله الْمُحَرِّمِينَ لحرامه ، المعتقدين لما فيه من الغيب ، إنه سبحانه جواد كريم .
----------------------------------------------------------------
([1]) أخرجه البخاري (1/458 ، رقم 1296) ، ومسلم (4/2039 ، رقم 2647) .
([2]) سورة الفرقان : الآية 1 .
([3]) سورة ص : الآية 29 .
([4]) سورة الأنبياء : الآية 50 .
([5]) هو إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي، من مذحج : من أكابر التابعين صلاحًا وصدق روايةٍ وحفظًا للحديث. من أهل الكوفة. مات مختفيا من الحجاج. قال فيه الصلاح الصفدي : فقيه العراق ، كان إمامًا مجتهدًا له مذهب. ولما بلغ الشعبي موته قال : والله ما ترك بعده مثله ، انظر ترجمته : تهذيب التهذيب ، وحلية 4: 219 ، وتاريخ الإسلام 3: 335 ، وطبقات القراء 1: 29.
([6]) سورة القصص : الآية 83 .
([7]) سورة الزخرف : الآيات من 1- 4 .
([8]) سورة فصلت: الآية 18 .
([9]) سورة التوبة : الآية 6 .
([10]) سورة هود : الآية 1 .
([11]) سورة النساء : الآية 82 .
([12]) سورة القيامة : الآيتان 1 ، 2 .
([13]) سورة القيامة : الآيات من 16 – 19 .
([14]) سورة القيامة : الآيات من 16 – 19 .
([15]) سورة الواقعة : الآيات من 1 – 7 .
([16]) سورة الفاتحة : الآية 2 .
([17]) سورة القصص : الآية 70 .
([18]) سورة الأنعام : الآية 1 .
([19]) سورة الزمر : الآية 75 .
([20]) سورة الكهف: الآية 1 .
([21]) سورة الفاتحة : الآية 2 .
([22]) سورة الفاتحة : الآية 3 .
([23]) سورة الفاتحة : الآية 4 .
([24]) سورة الفاتحة : الآية 5 .
([25]) سورة الفاتحة : الآية 5 .
([26]) سورة الفاتحة : الآية 6 .
([27]) سورة الفاتحة : الآية 7 .
([28]) سورة العنكبوت : الآيات 1- 3 .
([29]) أخرجه مسلم (4/2197 رقم 2865) .
([30]) سورة الأنبياء : الآية 35 .
([31]) سورة العنكبوت : الآية 8 .
([32]) القصة أخرجها الترمذي (5/341 ح 3189) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
([33]) سورة البقرة : الآية 212.
([34]) سورة العنكبوت : الآيتان 14 ، 15.
([35]) سورة هود : الآية 40.
([36]) سورة العنكبوت : الآية 11 .
([37]) سورة العنكبوت : الآيات 1- 3 .
([38]) سورة العنكبوت : الآية 15.
([39]) سورة العنكبوت : الآية 25.
([40]) سورة العنكبوت : الآية 29.
([41]) سورة العنكبوت : الآية 29.
([42]) سورة الأعراف : الآية 83 .
([43]) سورة العنكبوت : الآية 38.
([44]) سورة الغاشية : الآيتان 3 ، 4 .
([45]) سورة العنكبوت : الآيات 46 ، 47 ، 48 ، 49.
([46]) سورة العنكبوت : الآية 49.
([47]) سورة العنكبوت : الآية 46.
([48]) سورة العنكبوت : الآية 64.
([49]) سورة العنكبوت : الآية 64.
([50]) سورة العنكبوت : الآية 64.
([51]) سورة العنكبوت : الآية 64.
([52]) سورة النحل : الآية 53.
([53]) سورة العنكبوت : الآية 67.
([54]) سورة العنكبوت : الآيتان 2 ، 3.
([55]) سورة العنكبوت : الآية 69.
([56] ) قال – صلى الله عليه وسلم – : « إن لله أهلين من الناس » قيل : من هم ؟ قال : « أهل القرآن هم أهل الله وخاصته »، أخرجه الطيالسي (ص 283 ، رقم 2124) ، وأحمد (3/127 ، رقم 12301) ، والنسائي في الكبرى (5/17 ، رقم 8031)، وابن ماجه (1/78 ، رقم 215) ، والدارمي (2/525 ، رقم 3326) ، والحاكم (1/743 ، رقم 2046) ، وقال: وقد روى هذا الحديث من ثلاثة أوجه عن أنس هذا أمثلها . وأبو نعيم في الحلية (3/63) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/551 ، رقم 2688) . قال المنذري (2/231) : إسناده صحيح.
________________________
المصدر: الموقع العلمي للشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق