قال أصدق القائلين : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ ) مرَّ معنا أن "إذ" لما مضى من الزمان فهي وعاءٌ ظرف لحدَث والمعنى من الآية -وهذا يتكرر في القرآن كثيراً- معناه : اُذكر إذ قال موسى لفتاه معناه : إذكر إذ قال عيسى لفتاه، قال ربنا جل وعلا : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْن )
أولاً : مناسبة الآيات مع ما قبلها
والأمر الثاني : لمَ قال موسى هذا الكلم ؟
فأما الأول وهو مناسبة الآيات مع ما قبلها فإن الله جل وعلا قال قبلها بآيات : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيس ) ذكر الله جل وعلا استكباره وإعراضه ، ثم ذكر الله جل وعلا جُملةً من حال أهل الكفر ، فلما ذكر الله جل وعلا أهل الهوى الذين لا يُحَكِّمون إلا هواهم و يفسقون أي يخرجون عن طاعة الله ذكر الله جل وعلا بعد ذلك عبداً من عباده انقاد لأمر الله وهو موسى ، ليس فيه من الاستكبار الذي كان في إبليس يوم أن امتنع من السجود وقد قد قال أهل العلم أن الحسد والاستكبار جعلا إبليس لعيناً بعد أن كان مكيناً ، كيف عرفنا أنه لعين ؟ بقول الله جل وعلا : ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ) ، لكن كيف عرفنا أنه كان مكيناً ؟ بدليل وجوده بين الملائكة عندما أمرهم الله جل وعلا بالسجود لآدم ، أُعِيد : كيف عرفنا أنه لعين ؟ بقول الله جل وعلا : ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ) وهذا نصٌ صريحٌ ظاهر ، وعرفنا أنه كان مكيناً يعني ذو مكانه من أنه كان موجوداً بين الملائكة حاضراً عندما أمر الله جل وعلا الملائكة بالسجود لآدم .. هذا علاقة الآيات بالتي قبلها .
قلنا الباعث على موسى الباعث جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال بعد مقدمةٍ -أي ابن عباس- قال : حدتني أُبيّ بن كعب - من أبي بن كعب ؟ صحابي جليل أنصاري هو أحد من أُمِرنا أو أُمِرَ الناس أن يأخذوا القرآن عنهم ( خذوا القرآن من أربعة) وذكر منهم أبي بن كعب ، فابن عباس يقول - لأن ابن عباس من صغار الصحابة - يقول : حدثني أُبَيّ بن كعب
قال : أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل حتى إذا وجلت القلوب وذرفت العيون -أي من خطبته من وعظه- تبعه رجل فقال : يا نبي الله ءأحدٌ أعلم منك - في الأرض يعني - ؟ قال : لا ، بقَدَر الله نسيَ موسى أن يردَّ العلم إلى الله فعاتبه ربه وقال له : إن لي عبداً هو أعلم منك بمجمع البحرين فقال موسى -طلباً لأن يزداد علماً- قال : كيف لي به ؟ فقال الله جل وعلا له -أمره- أن يأخذ حوتاً في مِكتَل قال له : حيثما فقدت الحوت فهو ثَم - يعني فهو هناك - فأخذ موسى حوتاً في مِكتل ليجعله طعاماً له وأخذ معه فتىً يخدِمه قال الله جل وعلا : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ ) هذا الفتى الأصل في لغة القرآن أن الفتى إذا أُضيفت بمثل هذا السياقات أنه عبد لكن يوشع بن نون ليس بعبد وإنما قيل فتىً تأدباً مع موسى ، وحاجة الفضلاء إلى من يخدمهم حاجةٌ دلّ عليها القرآن ودل عليها السُّنة، فأما القرآن فالآية التي بين أيدينا وأما السُّنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان له من الصحابة من يقوم بخدمته كما نعلم أنه لما ذهب إلى الطائف كان معه زيد بن حارثة وإلا كلمة فتى في سياقات القرآن إذا أُطلِقَت مضافةً يراد بها العبد المملوك .
قال الله جل و علا هنا : (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ ) على المشهور أنه يوشع بن نون ( لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) معنى ( لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) أي لا أزال -أظل- سائراً حتى أبلُغَ مجمع البحرين لألتقيَ بمن ؟ بالخَضِر (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا) الحِقبة: يقول بعض أهل العلم أنها ثمانون عاماْ لكن ليس مقصود موسى هنا تحديد الثمانين وإنما مقصود موسى عليه السلام : أن أظل سائراً وإن طالت المدة حتى أصل إلي مقصودي وهذا من دلالة عزمه صلوات الله وسلام عليه .
والخَضِر جاء في الحديث الصحيح أنه (سُميَ خَضِراً لأنه جلس على فروةٍ بيضاء فأضحت خَضِرة فسُمِّي بالخَضِر) والحديث في البخاري ذهب القرطبي رحمه الله إلى أن معنى قوله عليه الصلاة والسلام : (جلس على فروة بيضاء) أنها الأرض وفي ظني هذا بعيد و أنه يبقى على الفرو المعروف لكن هذا ما ذكره القرطبي رحمه الله ، والمقصود قال الله جل وعلا : ( لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا ) أي حين ( بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ) أي وصل موسى وفتاه إلى المكان المقصود على خلاف بين أهل العلم قيل أنه في طنجة جهة المغرب، وقيل بحر الروم وبحر فارس، وقيل غير ذلك وهذا فيما يظهر لي أنه بعيد ولا يبعد كثيراً عن أرض سَيناء لأن هذا وقع و موسى في أرض سَيناء ، قال الله جل و علا : ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) أي أن موسى عليه السلام و فتاه ناما ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبَاً ) يقال مَسْرَب يعني مسلك والمعنى أن الحوت خرج من المِكتَل وذهب إلى البحر ، قال بعض أهل العلم: أن هذا كان عند عين تسمى عين الحياة وأن رَشَاشاً من هذه العين أصاب الحوت فدبت فيه الحياة فعاد، ويظهر لي أن هذا لا دليل عليه والعقل لا يقبله وعلى هذا يعني الذي له صلة بالأدب العالمي يعرف أن كثيراً من الروايات العالمية إنما أُلِّفت على هذا الباب على باب وجود عين فيها ماء الحياة .
المقصود بقدَر الله خرج الحوت من المِكتَل ، تنبّه يوشع ولم ينتبه موسى فرأى يوشع الحوت يخرج من المِكتَل إلى البحر فلما استيقظ موسى نسي الفتى أن يُخبر موسى عليهما السلام ومضى في طريقهما فلما مضيا في طريقهما أصاب موسى الجوع وهذا يدل قطعياً على بشرية الأنبياء ، أصابه الجوع فسأل فتاه الطعام فلما سأله الطعام تذكر يوشع خبر الحوت ( قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا ) أنا و أنت ( إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ) أي نسيت أن أحفظه و أرعاه ( وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) يعني أمرٌ عَجَب فتنبه موسى أن هذا هو المقصود قال الله جل وعلا : (قَالَ ذَٰلِكَ ) أي ذلكم المكان ( مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ) أي السبب الذي خرجنا في طلبه ، فلما علم أنه قد تجاوز الأمر - العاقل حتى يصل إلى مقصوده يطَّرِح الكِبْر و العناد وراء ظهره ولا يحب أن يظهر عظيماً أمام الناس معانداً - قال الله جل علا عن كليمه : ( فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا ) أي رجعاً وفي قوله جل شأنه : ( فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا ) أي رجع من نفس الطريق الذي قَدِمَ منه حتى لا يتكلف طريقاً آخر قد يضل فيه ويضيع فيُبطئ ويتأخر (فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا ) وهناك إيجاز حذف ( فَوَجَدَا ) أي موسى و يوشع ( عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ) الذي هو الخَضِر (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) وهذا ثناءٌ من الله عظيم لعبدٍ كريمٍ هو الخَضِر عليه السلام .
قول الله جل وعلا (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ) قَدَّم الرحمة على العلم كما قال جل وعلا في سورة الرحمن : (الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) ومن أراد أن ينتفع الناس بعلمه فليشعر الناس منه أنه بهم رحيم ، وهذا في حق المُعلمين لكن هذا لا ينازع الهيبة والحزم لكن باستطاعة المرء أن يكون مُهاباً رحيماً في آن واحد .
( آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) وهذا هو الخَضِر وقد اختلف العلماء فيه، اختلفوا هل هو نبيٌّ أو غير نبي، واختلفوا هل هو حيٌّ باقٍ أو قد مات، والذي يظهر لي أنه نبيٌّ قد مات قال السيوطي رحمه الله :
واختلفت في خِضر أهل النقول ** قيل نبيٌّ أو وليٌّ أو رسول
فنقول أن ظاهر القرآن على أنه نبي لكن لا نجزم ، لمَ لا نجزم ؟ لعدم وجود النص الصريح. ما الفرق بين قولنا ظاهر القرآن وبين النص الصريح ؟ لو كان هناك نصٌّ صريح بنبوته فجاء أحدٌ من الناس فقال أنه غير نبي يكفُر و لكن عدم وجود النص لا يجعلنا نحكم بالكفر على من قال أنه غير نبي وإن كنا نُرجِّح أنه نبي عليه السلام .
قال الله جل وعلا : ( قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ ) الآن موسى كليم الله وهذا في أرفع أحواله نبي ( قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) فَقَبِل وهو كليم الله أن يكون تَبَعاً له وأخبر في طي كلامه أنه يجهل وأخبر أنه لا يريد علم الخَضِر كله ( مِمَّا عُلِّمْتَ ) وهذه "من" بعضية مُدغَمة ( مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) أي أمراً ينفعني في دنياي وآخرتي و لهذا دلت نصوص الشرع من هذه وغيرها على أن الإنسان ينبغي عليه أن يشد الرحال لطلب العلم، و قد ذكر الإمام البخاري رحمه الله أن جابر رضي الله عنه سار مسيرة شهر إلى عبدالله بن أُنَيس ليأخذ منه حديثاً واحداً، وقد مرَّ معنا هذا الحديث في القصاص، و قد جاء في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة بإسنادٍ حسن : أن موسى عليه السلام سأل الله جل وعلا عن سبع خصال وكان يرى أن ستةً منها له خاصة والسابعة كان موسى لا يحبها .. كم خصلة ؟ سبع
قال : أي رب أيُّ عبادك أتقى ؟ قال : الذي يذكر ولا ينسى - يذكر أي يذكر الله - قال : أيُّ عبادك أتقى ؟ قال : الذي يذكر ولا ينسى ، قال : أيُّ عبادك أهدى ؟ قال : الذي يتبع الهدى
قال : أيُّ عبادك أحكم ؟ قال : الذي يحكم لغيره كما يحكم لنفسه
قال : أيّْ عبادك أعلم ؟ قال : الذي لا يشبع من علم يجمع علم غيره إلى علم نفسه
قال : أيُّ عبادك أعز ؟ قال : من إذا قَدَرَ غفرَ
قال : أيُّ عبادك أغنى ؟ قال : الذي يرضى بما يؤتَى .
هذه كم ؟ ست بقيت واحدة و هي التي لا يريدها موسى
قال : أيُّ عبادك أفقر ؟ قال : صاحبٌ منقوص .. صاحبٌ منقوص
معنى صاحب منقوص : أي يحب الخير لنفسه ولا يحبه لغيره . فهذه موسى كان يبغضها و لهذا ترى مع أنه مع فتاه -مع يوشع- كان مُنصفاً فلما أخبره يوشع أنه نسي الحوت لم يُثَرِّب عليه لأن السفر يحتاج إلى صبر السفر يحتاج إلى صبر كما سيأتي .
( قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) لما قال له ذلك قال له الخَضِر : ( قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) ثم قال له : ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) وهذا يدل على أن الإنسان كلما عرف المآل كان أقدر على الصبر ، أما إن لم يكن على علمٍ بالأمر يكون أشد عجزاً وهذا ظاهر القرآن ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) هذا من تعجب الخَضِر من أنه مُحال على الإنسان أن يصبر على شئٍ لم يحطه لكن موسى قوَّى نفسه بقوله : ( قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ) قيل قالها للتيمن..للتبرك، وقيل قالها لينال العون من الله جل وعلا، وقيل قالها تعليقا ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) فاشترط عليه الخَضِر ( قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي ) أي قبلت أن تكون تبعاً لي ( فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) أي لا تفاتحني بالحديث.
وأنا أقول وأختم بهذا اللقاء الأول: لمن أراد أن يطلب علماً ويلزم شيخاً لا يفاتحه بالحديث فينتظر حتى يأتيه الأمر العلم من الشيخ ، لا تفاتح من هو أكبر منك أو من صحبته لتتعلم منه بالحديث ، هو أدرى -إذا كان عاقلاً- أدرى بما يصلحك فسيؤتيك إياه تدريجياً ، وما انتفت علاقة طالبٍ بمعلم إلا بسبب أن الطالب يُلح في شئ يجب أن يؤخَر ويفاتح في شئٍ يجب أن يُغلَق لكن هذه منازل لا يعلمها كل أحد ، علمنا الله وإياكم إياها ومتعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمد لله رب العالمين .
____________________________________
الشكر موصول للأخت (**) على تفريغها للحلقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق