الثلاثاء، 20 ديسمبر 2016

تأملات في سورة الواقعة / د. مساعد الطيار

د. مساعد الطيار

 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ..
أحمدُ الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً الذي يسر لي اللقاء بكم في هذا اللقاء المبارك فأسأله سبحانه وتعالى أن ينعم عليّ وعليكم بفضائله وأن ينزل علينا من بركات هذا الكتاب الذي نتفيأ بركاته آناء الليل وأطراف النهار فأسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا بسبب ذنوبنا من هذه البركات.

 أشكر الأخوة القائمون على هذا المسجد الذين حرصوا على هذه اللقاءات النافعة وأسأله سبحانه وتعالى أن يجزيهم خير الجزاء على ما يقدمونه من أجل الارتقاء بالناس في علم كتاب الله سبحانه وتعالى، ثم أشكر لكم حضوركم وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيكم خير الجزاء وأن يبارك لكم في أعمالكم وأعماركم وأولادكم وأموالكم إنه سميع مجيب.
 العيش مع القرآن لا يعدله أي عيش ، ومن نعمة الله على عبده أن يجعله دائماً مع كتابه فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياكم ممن يعيش مع هذا الكتاب وممن يفرح بالقرب منه، فإننا نعلم يقيناً أن هناك من الناس من يكره أن يسمع كلام الله -والعياذ بالله- وهناك من يُقصِّر من المسلمين في سماع كلام الله سبحانه وتعالى أو قراءة كتابه فأسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يجعلنا من المحرومين وأن يرفعنا بهذا الكتاب.
 لعلكم أخذتم مع بعض المشايخ قبلي سوراً ورأيتم عدداً من طرحهم واستفدتم مما ذكروه وكما يقال العبارة الشهيرة : < لكل شيخ طريقة  >  وكلها إن شاء الله نافعة فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لي ولكم ولهم بما نقول ونسمع.
 سورة الواقعة على الصحيح أنها سورة مكية بل حكى الإجماع على ذلك بعض المفسرين ولكن وقع خلاف في بعض الآيات وهذا الخلاف مُخرَّجٌ فتؤول جميع آيات السورة في النهاية إلى أنها سورة مكية، وهذه السورة المكية كشأن السور المكية الأخرى وغالب السور المكية تركز على قضايا الاعتقاد الكبرى، والقضية التي بين يدينا من قضايا الاعتقاد الكبرى هي قضية يوم القيامة وأحوال الناس في هذا اليوم ، وهذه أحد القضايا الكبرى التي طرقها القرآن المكي، فقد طَرق قضية الوحي والقرآن وهما معاً ، وطَرق قضية الإيمان بالله، وطَرق قضية الإيمان باليوم الآخر ، ومن خلال الكلام عن الوحي يكون الكلام عن المُرسَل به وهو جبريل عليه السلام والمُرسَل إليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم يشتمل أيضاً على الرسالة وهي الوحي ، ومما تتضمنه هذه الرسالة الخبر عن اليوم الآخر وهو من أشد الأخبار وقعاً على المشركين لأنه لم يكن في حدس أحد منهم أنه يكون بعث بعد الموت، وأقصى ما يصل إليه عالِمهم هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى وهو قوله : { إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } فهذا أقصى ما يصل إليه حد العالِم منهم بهذه القضية أما جمهورهم وجُلهم فإنهم كانوا يكذِّبون باليوم الآخر ولا يؤمنون به، ولهذا جاء الاستغراب الشديد منهم في مسألة اليوم الآخر، وجاء القرآن بالأدلة العقلية الكثيرة التي تُذكر مرة بعد مرة لإثبات اليوم الآخر لأن هذا الأمر كان عندهم شبه محسوم في أنه لا بعث ولهذا كثُر الجدل من المشركين في هذا الباب الذي هو باب القيامة.
 فإذاً هذه السورة جُلها في هذا الموضوع، ثم عرّجت على قضية الكتاب فتحدثت في الآيات الأولى عن أقسام الناس يوم القيامة وابتدأت الحديث عن القيامة نفسها ثم أقسام الناس فيها ثم إشارة إلى هذا الكتاب ثم جاءت بالموعظة فيما يكون في آخر حياة الإنسان وهي تُعد من سور الرقائق.
 ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بقوله :
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } وبعض السور ابتدأ بالشرط مثل قوله سبحانه وتعالى : { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } وهنا أيضاً دعوة لتدبر فواتح السور، فواتح السور من حيث الإجمال إما أن تكون خبرية وإما أن تكون إنشائية ، ثم الإنشائية تنقسم إلى الأقسام المعروفة في الإنشاء والخبرية أيضاً لها أنواع.
 عندنا أيضاً من الأقسام - وقد ذكرها الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن - ذكر عشرة أقسام من أقسام فواتح السور ويمكن للمشاهد أن يُنقص في ذلك أو أن يزيد حسب نظره في هذه الفواتح، فعندنا مثلاً من بعض الفواتح التي تُعتبر فواتح بالأحرف المقطعة يعني جملة من السور اُفتتحت بالأحرف المقطعة ، وجملة من السور اُفتتحت بالأمر، وجملة من السور اُفتتحت بالفعل الماضي، وجملة من السور اُفتتحت بالفعل المضارع، فهذه كلها تدخل في باب الأفعال، وبعضها أُفتتح بالمصادر وهو يرجع إلى الاسم، وهكذا قسمها بتقسيمات عشرة، وكما قلت لكم يمكن للناظر أن يبتكر غير ما ذكره الزركشي وهذا مجال للتدبر والتأمل ولهذا أنا أدعو من أراد أن يتأمل ويتدبر أن يجعل له نظر وتدبر في بدايات السور ، يعني مثلاً نلاحظ قول الله سبحانه و تعالى : { أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } جاء بصيغة الفعل الماضي { يُسَبِّحُ لِلَّهِ } { سَبَّحَ لِلَّهِ } { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } { سَبِّحِ اسْمَ } أنواع من الفواتح فلو أن طالب العلم جعل لها تقسيماً شجرياً ووزعها ونظر فيها وتأمل فقد يخرج له من خلال تأمله في هذه الفواتح شيئاً من أسرار الله سبحانه وتعالى في كتابه.
 وهاهنا فائدة أُنبه إليها وهي أن باب الاستنباط من كتاب الله سبحانه وتعالى لن ينقطع ، أما باب المعاني فإنه محدود لأن المعاني محدودة فمثلاً لما نأتي إلى قول الله سبحانه وتعالى : { خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } إذا بحثت في معاجم اللغة في معنى الخفض والرفع فهو محدود ، فالمعاني من هذه الجهة محدودة ولا يمكن أن يدّعي أحد أنه يوجد معاني كثيرة إلا إذا كان عنده من الله برهان أن الألفاظ لها معانٍ لا يعلمها إلا هو، أو إنها تُعلم من جهة الغيب وهذا لا يمكن، ولهذا مهما جمعنا من أقوال المفسرين في الآيات فإنها في النهاية القول الأول القول الثاني القول الثالث القول الرابع فهي إذاً محدودة ومعدودة، لكن باب الاستنباط أوسع من باب المعاني ، وبعض الناس يخلط بين باب الاستنباط وباب المعاني فيقع عنده التباس وتقع عنده أحياناً إشكالات في عدم فهم الفرق بينهما.
إذاً لاحظوا كلامي أن باب المعاني في النهاية محدود لأنها في اللغة معانيها محدودة، أما باب الاستباط فهو مفتوح فأنواع الاستباطات كثيرة جداً ولهذا قد يقف عالِم مع آية من الآيات ويستنبط منها أربع فوائد ويقف عالم آخر معها ويستنبط أكثر من ما استنبطه الأول، فهذ قضية أرى أنه مهم جداً أن تنتبهوا لها وأن تفرقوا بين الأمرين، فكلامي مثلاً عن فواتح السور وأسرارها هذا يدخل في باب الاستنباط فقد يستنبط قوم ما لا يستنبطه آخرون ومن أجل هذا أيضاً وقع إشكال عند بعضهم في ظنهم في الأحرف المقطعة أن لها معاني محددة وظن أيضاً أن ما توصَّل إليه من استنباط هو المعنى المراد في هذه الأحرف المقطعة، وهذا لا شك أنه خلل في هذه القضية التي ذكرتها لكم هوعدم فهم الفرق بين الاستنباط وتحديد المعاني، فالأحرف المقطعة على الصحيح أنها أحرف ليس لها معاني ولكن لها حِكم وأسرار فهذه الحكم والأسرار لا تدخل في باب المعنى ولهذا قد يستنبط العلماء من الحِكم والأسرار في الأحرف المقطعة الشيء الكثير، ومن أعظم الحِكم التي تكاد تكون اتفقت عليها كلمتهم أنه جيء بها للتحدي والإعجاز، لكن قد يكون هناك لبعض الأحرف من اللطائف التي تُستنبط غير هذه القضية يعني زيادة على ما ذكروه من قضية التحدي والإعجاز، فعلى سبيل المثال بعضهم لاحظ أن سورة (ق) يكثر فيها حرف القاف وهذه تعتبر من اللطائف ، أو أن (ص) تكثر فيها الخصومات وكأن حرف الصاد يتميز فيها ، أولاً خصومة قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم خصومة الملائكة مع داوود عليه الصلاة والسلام ، ثم تآتي الخصومات إلى آخرها اختصام الملأ الأعلى، فهذا يدخل في باب اللطائف المستنبطة وليس له علاقة بالمعاني. فإذاً حينما نتحدث نحن عن الفواتح في هذا الجانب فهي تدخل في باب الاستنباطات.
  فقوله سبحانه وتعالى : { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } هذا شرط يعني إذا وقعت الواقعة ماذا سيحدث؟ سيأتي الحديث عنها بعد ذلك لكن ماهي الواقعة ؟
 الواقعة المراد بها يوم القيامة { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } أي القيامة وكما ذكر علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن الواقعة من أسماء يوم القيامة وهذا مشهور ومعروف، وسُميت واقعة بمعنى التي تقع يعني كأنها وقعت لأنه قال { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } فهذا لما يُستقبل من الزمان.
 قال{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي أن لا مثنويه لها يعني تقع مرة واحدة ليس في خبرها كذب بمعنى أنه متحقق وقوعها بلا ريب ولهذا قال قتاده وغيره : ليس لها مثنوية ، ومعنى مثنوية أي ليس لها معنى ثانٍ أي أنه أمر واحد إذا جاء هذا الأمر وقعت وانتهت إذا جاء هذا الأمر وقعت وانتهت وكأنه تنبيه على أن قوله سبحانه وتعالى { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَة } أي أنه أمر لا كذب فيه ولا يمكن أن يتخلف فإذا أمر الله سبحانه وتعالى بهذه الواقعة فإنها تقع.
 ثم قال : { خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ } خافضة لأقوام ورافعة لأقوام فهي خافضة لأهل الكفر ورافعة لأهل الإيمان ولهذا جاء تفسير هذا المعنى في قوله سبحانه وتعالى { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً } فهي ذكرت أهل الخفض وذكرت ايضاً أهل الرفع.
 قوله : {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}
 الرج معروف ولا زال يستخدم حتى عندنا في لغتنا الدارجة الآن، فرجُّ الأرض معناه أنها يحصل لها الزلزال - الاهتزاز - فهذا معنى رجّ الأرض.
 ثم قال : { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا } فمعنى ذلك أن رجّ الأرض يقع ثم يتبعه ماذا ؟ أن تكون الجبال في حالة البس ومعنى البس قوله :
 { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا } أي فُتِتت فتتت ولهذا قال {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } فهذه الجبال العظيمة التي نراها اليوم شامخة وهي تُمسك الأرض أن تزول كما أخبر الله سبحانه وتعالى { أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } هذه الجبال الكبيرة الضخمة التي نراها في جميع الأرض سيحصل لها هذه الحالة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن أحوال الجبال وهذه من ضمن الفوائد التي ننتبه لها أن القرآن تحدث عن أحوال يوم القيامة في مواطن متعدده فإذا جمعها القارئ فإنه يستطيع أن يرتب بعض الأحداث ، صحيح أنه قد يقع عنده اختلاف في بعض الأحداث لكن غالب الأحداث ستترتب له، فالجبال مثلاً أول حركة تكون لها فهي حركة القلع ثم حركة التسيير - تسير - ثم حركة الدكّ أو التصادم بعضها ببعض أوتصادمها أو دكّها في الأرض، ثم حالة الهباء المنبث وهي التي قال عنها الله سبحانه وتعالى : { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا } يعني ذكر أول الأمر وآخره { فَكَانَتْ سَرَابًا } لأن الرائي يراها وهي في حال الهباء على شكل جبل ولكنها في حقيقتها هباء منبث يعني هباء صار مثل الشيء المفتوت مثل الدقيق الذي لو أنت ذَرَيته هكذا لتطاير، والهباء كما تعرفون هو ما يكون في خلل الزجاج إذا دخلت عليه الشمس وفيه شيء من الغبار يتطاير يسمى الهباء فتكون هذه الجبال العظيمة الضخمة بهذه المثابة، فإذاً انتقلت من حالتها الأولى إلى حالة جديدة، وهذا إشارة إلى أن ما أمر الله سبحانه وتعالى به الجبال من أن تكون حافظة للأرض من الزوال والتغير قد انتهى وهو آخر ما يكون من الزمان. ثم بعد ذلك تُُبَدّل الأرض كما قال الله سبحانه وتعالى لكن في هذه الحالة في قوله{ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } قال { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً } يعني كأنه إذا وقعت الواقعة وحصلت هذه الأمور فإن الناس سينقسمون إلى ثلاث أقسام ، وهذا الموطن الوحيد الذي ذُكرت فيه الأقسام الثلاثة مُفصّلة فقال { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً } والأزواج هنا بمعنى الأصناف لأن الزوج في لغة العرب يُطلق على القرين يعني زوّجت فلان بفلان أي إذا جعلته قريناً له ومنه سُميت الزوجة زوج للرجل والرجل زوج للمرأة لأن هذا يجعل الفرد شفعاً والثاني يجعل أيضا الفرد شفعاً فيكون بمثابة الزوج هذه من جهة.
 أو الزوج الذي يكون من صنف واحد أي يكون من صنف واحد فهنا المراد الأزواج الذين يكونون من صنف واحد ولذا قال :{ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } و { أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } و
{ السَّابِقُونَ } فإذاً كم صار عندنا كم صنف؟ ثلاثة أصناف.
 فإذاً هذا تقسيم ثلاثي لأهل المحشر لكن الغالب في تصنيف القرآن هو أن يصنفهم على صنفين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، المتقون والفجار وهكذا، فإذاً نلاحظ أن الأصناف تكون في الغالب كم ؟ صنفين ، لكن هذه أحد المواضع الذي ذكر فيها ثلاثة أصناف وأشار إليها في سورة الإنسان وأشار إليه أيضاً في سورة المطففين التي هي الأصناف الثلاثة { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } وهناك { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } فالمقربون هم الذين الذين سيأتون في قوله : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} و { أَصْحَابِ الْيَمِينِ } الذين هم
 { الأبرار } في الآيات الأخرى، { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ } الذين هم الكفار كما ورد في الآيات الأخرى، فإذاً عندنا تقسيمات القرآن الغالب في التقسيمات أن تكون ثنائية أصحاب الجنة وأصحاب النار وما شابهها، وأحياناً تأتي ثلاثية أصحاب اليمين والسابقون وأصحاب الشمال، وفي موطن واحد ذُكر أهل الإيمان بتصنيف ثلاثي ذكر أهل الإيمان الذين هم أهل الإسلام بتصنيف ثلاثي فما الآية الدالة على ذلك؟
 { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } فابتدأ بمن؟ بالاقل شأناً قال : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } لو تأملنا المقتصد والسابق بالخيرات هم الذين أشير لهم في هذه الآية، أما المقتصد في تلك الآية دخل مع أصحاب اليمين هنا في هذا التقسيم، وهذه الآية أنا أعدها من آيات الرجاء، لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى يقول : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } والمراد به القرآن { الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } فهذه نعمة من الله علينا نحن أصحاب الذنوب أنه عدنا من المصطفيين قال : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} ومن أعجب ما أقف عنده في هذه الآية إذا قرأتها قول عائشة رضي الله عنها لما سألها مسروق عن هذه الآية قالت : " أما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك " ولا أدري ماذا أبقت لنا الصديقة رضي الله عنها إن كانت تعد نفسها من الظالم لنفسه إذاً ماذا سنكون نحن؟! فهذا النوع الأول الذين اصطفاهم الله، وكما قلت لكم هذه أعُدها من آيات الرجاء لأنه جعلنا نحن المذنبين من أهل الاصطفاء وهذه نعمه كبيرة.
 ثم المقتصد ثم السابق بالخيرات الآن عندنا في هذه الآيات الثلاث لما صنفهم ثلاثة أصناف ابتدأ بأصحاب الميمنة قال : { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } هذا الآن إجمال وسيأتي التفصيل ، طبعاً لاحظوا القرآن في قضية التفصيل بعد الإجمال له طرق متعددة، يعني عندنا في التفصيل بعد الإجمال - وهذا مبحث أيضا من مباحث التدبر - التفصيل بعد الإجمال في القرآن لو تأملناه سنجد أنه متعدد، فهنا الآن يُتصوَّر أنه بعد أن عدّ الثلاث طوائف يبتدئ بالطائفة التي ابتدأ بها، هنا لا.. ابتدأ بالطائفة التي انتهى إلى ذكرها وهي طائفة { السَّابِقُونَ } وكأن في هذا إشارة الى أنهم بالفعل هم السابقون هم الآخرون ذكراً السابقون تفصيلاً ، يعني لما انتهى بهم رجع لم يرجع الى أصحاب اليمين وإنما ابتدأ بالتفصيل بهم كأن فيها إشارة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (نحن الآخرون الأولون) فإذاً هذا نوع من أنواع التفصيل بعد الإجمال في القرآن.
 أحيانا يذكر الأمور بعضها مع بعض يسوقها ثم يبدأ يفصّل الأول على الأول والثاني على الثاني وهكذا.
 وأحيانا يكون مثل هذه الطريقة وهذا ما يسمى عندهم باللف والنشر المرتب وغير المرتب يدخل في هذا الباب ما يحكيه علماء البلاغة في النشر المرتب أو اللف المرتب وغير المرتب.
 الآن لما قال : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } أيضاً هنا مسألة هو الآن لما قال : {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} وهذا الاستفهام فيه نوع من التعظيم لكي تتشوف النفس لمعرفة خبر هؤلاء اللذين هم { أَصْحَابُ الْيَمِينِ } ومن عادة العرب أن اليمين عندهم أفضل من الشمال التي تُعتبَر جهة الشؤم ولهذا مرةً يقول : { أَصْحَابُ الشِّمَالِ } ومرة يقول { الْمَشْأَمَةِ } هنا لما قال : {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} المأخوذة من الشؤم وهي جهه الشمال وأصحاب اليمين فتتطلع النفس إلى أن تعرف هؤلاء اللذين استفهم الله عنهم تعظيما لخبر هؤلاء من يكون هؤلاء ومن يكون هؤلاء ، ولاشك أن لازم هذه الاستفهامات وما سياتي من إخبارات لازمها أن المستمع لها في كل حين يجتهد أن يكون في أهل اليمين أو في السابقين ويبتعد عن أعمال أهل الشمال الذي سيرد ذكرها مفصلاً.
 لما قال : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } لم يقل والسابقون وما أدراك ما السابقون وإنما قال : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } فالتكرار هذا { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } إشارة الى أنه كما تقول أنت .. أنت يعني كيف تقول لرجل لما يصنع لك معروف ويُحسن في عمله ؟ تقول له أنت أنت، هنا مبالغة في الدلالة على الكمال يعني أنك أنت السابق. لما قال: {السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } هنا إشارة إلى أن كمال السبق قد حصل لهؤلاء، يعني كمال السبق قد حصل لهؤلاء فلم يجد أن يصفهم الا بوصف السبق نفسه فقال : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } زاد على ذلك فقال: { أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ }، في قوله : { أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } هنا أيضاً ننتبه إلى فائدة تتكرر في القرآن وهي الإشارة إلى أهل القُرب من الله سبحانه وتعالى لأنه قال : { أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } لم يُشِر مقربون إلى من ؟ أو مقربون من ماذا ؟ وعدم الإشارة لأنه معروف أنهم مقربون من ربهم يعني مقربون من ربهم، فهنا لما قال  { أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } ينبغي للمسلم أن يعرف ماهي الأعمال التي تُقرِّبه إلى الله سبحانه وتعالى فيحرص عليها ليكون من قوله : { أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } وهذه إشارة مهم جدا أن ننتبه لها وهي ما يمكن أن نسميه بلازم الخبر لازم الخبر، بمعنى لما قال لنا الله سبحانه وتعالى : {أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} هل مجرد الخبر هو المراد فقط أن تعرف أن السابقين هم المقربون؟ هذا جزء من المراد لكن هناك مراد أعظم وهو لازم هذا الخبر فإنه لما قال عنهم : { أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } أن تجتهد أنت في أن تعرف الأعمال التي تُقربك الى الله فتوصلك الى قوله : {السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} وحديث الولاية المشهور قال : ( وما تقرب عبدي إلي  بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه) ثم قال : (ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) إذاً درجة المحبوبية التي توصل إلى السبق هي بالإكثار من النوافل وهي التي تُوصِل إلى الدرجة الثالثة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } فالسابق بالخيرات - كما ورد عن السلف - أن السابق بالخيرات هو الذي يأتي الفرائض ويزيد عليها بالنوافل وإن اختلفت عباراتهم في نوع الطاعات فهم ذكروا أنواع من الطاعات من باب التمثيل وليس من باب التخصيص ، فمنهم من ذكرها في الصلاة ، ومنهم من ذكرها في الربا يعني الأموال، ومنهم من ذكرها بغير ذلك وليس مرادهم أنها خاصة بهذه الأعمال وإنما أشاروا إلى نوع من الأعمال التي يقع فيها هذا التقسيم الثلاثي الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات. فإذاً الآن لما قال لنا : { أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } من الأشياء التي نتطلع عليها لنعرف ما هي الأشياء التي تقرب إلى الله سبحانه وتعالى لنصل إلى مرحلة السبق.
 ثم قال سبحانه وتعالى : { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِين * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ } الثلّة الآن المراد بها الجماعة وأقل منهم الذين قال عنهم القليل، هل الآن الأولين والآخرين بالنسبة لهذه الأمة أو إلى الأمم السابقة بالنسبة للأمة؟
 هذا وقع فيه أيضاً خلاف بين المفسرين يعني وقع خلاف بين المفسرين لما نقول : { ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ } أي من الأمم السابقة بمعنى أنه إذا جمعنا السابقين من جميع الأمم السابقة مع السابقين من هذه الأمة فإنه لكثرة الأمم السابقة عدداً يكونوا أكثر من هذه الأمة، وليس هذا تقليلا من هذه الأمة لأن نسبة السابقين في هذه الأمة أكثر من نسبة السابقين في الأمم السابقة وإن كان هؤلاء أكثر عدداً ، وأيضاً نرجع إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( نحن الآخِرون الأولون ) فهذا قول.
 والقول الآخر: أن المراد بالسبق هنا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقط ، فالسابقون الذين هم { ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ } أي ثلة ممن عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل مع السابقين قليل من الآخِرين، وهذا يشير إليه حديث السبعين الذين يدخلون الجنة بلا حساب يعني يشير إليهم.
 لكن أياً ما كان في هذا الخلاف نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى أجمل لنا الأولين والآخرين ولم يُقِم دليلاً بيّنا على المراد في هل هو هذا أو ذاك فيحتمل هذا ويحتمل ذاك، يعني يحتمل هذا المعنى ويحتمل ذاك المعنى.
 ثم قال عن هؤلاء المقربين السابقين قال : { عَلَىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ } يعني هم { عَلَىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } السرر الآن لما قال : { عَلَىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ } هذا كان في السابق وقلّ الآن، كان الملوك في السابق تكون لهم أسِرّة وهم يستقبلون الناس هذه الأسِرّة تكون كما هو معلوم من أربع قواعد في الغالب وتكون هذه السُرر منسوجة فالـ { مَوْضُونَةٍ } بمعنى منسوجة.
 وبعضهم قال : مرمولة بالذهب وهذا زيادة في التمتع بنعيم الجنة، وسواء كانت مرمولة بالذهب أو بغيره فلا شك مادامت من نعيم الجنة فهي من أعلى النعيم، فالمنسوجة إذاً بمعنى المرمولة بمعنى التي نُسجت وأُدخلت خيوطها بعضها ببعض حتى تشابكت فصارت كالشبكة هذه سُرر، السرير في الغالب لا يحوي الإنسان بل يكون زائداً عليه بخلاف الكرسي في الغالب - الذي نستخدمه نحن الآن كثيرا - الكرسي في الغالب يكون يأخذ مساحة الرَّجُل وزيادة قليلاً أما السرير فهو أوسع، فلماذا يتخذون الاسرّة ؟ هذا من زيادة التمتع والارتياح، فتجد أنه مرة يكون متربعاً ومرةً يكون متكئاً مادّاً قدميه فيكون بأحوال متعددة تكون أكثر راحة له إذا كان على سرير ، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم { عَلَىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ } فدلّ على أنهم على حالة من الارتخاء والارتياح، فإذاً تمدّح سبحانه وتعالى بهذا النعيم - أهل هذا النعيم - بأنهم يكونون بهذه الحالة وهي الاتكاء فقال : { عَلَىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ }. أيضاً التقابل وكأنه يشير إلى أنهم لو كانوا مجتمعين فأشبه ما يكونون في حالة دائرة لأنه يكون بعضهم مقابلاً لبعض.
 الآن تصور أنت لما تدخل إلى الزواجات - في هذا العصر - بعض الكراسي يكون بعضها في ظهر بعض فأنت الآن جالس في كرسي وأحد أحبابك الذي تريد أن تخاطبهم جالس في ظهرك مزعج الأمر أو غير مزعج في حال الحديث؟ لكن لو كانت متقابلة تكون أكثر راحةً، فإذاً التقابل بين الأحباب هذا جزء من التنعم والارتياح. فزاد الله سبحانه وتعالى وصف هؤلاء أنهم على سرر وأنهم متكئون عليها وأنهم متقابلون يقابل بعضهم بعضاً وهذا أحسن ما يكون حالاً بين الأهل أو الأصحاب.
 ثم زاد على ذلك في التنبيه على ما آتاه الله سبحانه وتعالى من نعمة لهؤلاء فقال : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } إذاً هم الآن يُخدَمون، لكن لاحظ حالك في الدنيا ليس كل الناس أهل ثراء فيستطيع أن يأتي بالخدم والحشم بل غالب الناس لا يستطيع ذلك، فإذاً لما تقرأ في هذه الآيات وتتأمل وتعرف أنك إن دخلت الجنة - إن شاءالله - سيكون لك هذا الحال، تصوّر هذا المشهد، مشهد الجلوس على هذه السُرر وأن يكون معك من تحب وأن تكون في حالة الارتخاء التام هذه ثم لا تتحرك من مكانك بل يأتيك الولدان هؤلاء ويطوفون عليك بجميع ما تحتاج من النّعم واللذائذ فإذاً هذا زيادة في التنعم.
 هنا مسألة أيضاً لطيفة لعلي أشير إليها هنا ، هذا فيه إطناب في ذكر النعيم، وذكر النعيم وكذلك مقابل له ذكر العذاب كثيراً ما يأتي فيه باب الإطناب ، الإطناب المراد به: إطالة الحديث عن هذا الأمر، مقابله الاختصار ، يأتي الاختصار أحياناً في مواطن ويأتي الإطناب في مواطن، في سورة السجدة جاء بالاختصار، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، خطاب مختصر موجز يفتح للأفق والذهن أن يتصور كل ما يُتصور من النعيم الذي أُعِد لهؤلاء، وهنا مقام إطناب ما الفائدة هنا؟ هنا نبحث ما هي فائدة الاختصار وماهي فائدة الإطناب يعني الإيجاز هناك والإطناب هنا.
 وننظر أيضاً فائدة أخرى هل الأكثر في ذكر نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار الإطناب أو الإيجاز ؟ هذا يحصل بالاستقراء، لكن من مواطن الإطناب ذكر العذاب وأصنافه وذكر النعيم وأصنافه ولهذا جاء هذا المجال مجال إطناب.
 أيضاً وأنت تقرأ في هذا المجال - مجال الإطناب - تجد أن نفسك تتشوف لكل ما يُذكر من هذا النعيم، يُذكر لك هذا وهذا وهذا وهي أشياء محببة للنفس. وهنا قاعدة مهم جداً ننتبه لها: أن ما يذكر الله سبحانه وتعالى من النعيم لأهل الجنة هو مما حببه الله تعالى للنفس سواء كانت هذه نفس بَر أو نفس فاجر، يعني النعيم الذي يذكرمما حُبِب للنفس لأن الله سبحانه وتعالى الذي خلق هذه النفس فطرها على محبه هذه الاشياء، ولهذا - من باب الفائدة - بعض من يطعن في القرآن أو يطعن في المسلمين فهو طعن من يكره وإلا لو نظر بعين العقل فإنه سيجد أنه أول من يحب هذا النعيم، فإنه يدّعي أن المسلمين إنما هم أهل شهوات فنقول له - كما يقول بعضهم يا حبة عيني - أنت في الدنيا ماذا تفعل لو حصلت لك هذه الاشياء هل تتزهد ؟ بل تجده من أكثر الوالغين في نعيم الدنيا ويتمنى إن كان فيه موت وبعث أن يكون كذلك وما ذاك إلا لأنه قد فُطِر على هذا، لكن هذا من مكابرة الإنسان ومن عدائه للإسلام وإلا لو وقف مع نفسه وقفة صادقة فإنه يعلم أن هذا مما يتمناه اليوم قبل أن يموت لكن هذا النعيم الذي ذكره الله تعالى للدنيا فقال:{بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } والأكواب ليس لها عُرى { وَأَبَارِيقَ } التي لها عُرى.
 وقال : { وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } الكأس إذا أُطلق في القرآن فالمراد به الخمر ، الكأس إذا أطلق فالمراد الخمر كما قال:{ وَكَأْسًا دِهَاقًا }.{ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ } أي من عين خمر ظاهرة للعيون يعني مرتفعة يرونها يعني عين الخمر تُرى يعني يرونها وهي تجري في الجنة فيُسقون من هذه الخمر، وهذا نوع من التنعم والتلذذ الذي ذُكِر للسابقين، وذُكر لهم أيضاً في سورة المطففين نوع آخر لم يُذكر هنا -كما قلت لكم إذا جمعنا هذه الأنواع سنعرف ما هو نعيم المقربين وما هو نعيم أصحاب اليمين- فهناك قال لما قال : { وَمِزَاجُهُ } أي مزاج الخمر { مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } فإذاً عين تسنيم عين خاصة بالمقربين يشربونها صِرفاً ، وأما أصحاب اليمين فلا يشربونها صِرفاً وإنما تُمزج لهم وتُخلط بغيرها من أنواع الشراب أما المقربون السابقون فإنهم يشربون من هذه العين صِرفاً لا يشوبها أي شيء.
 قال بعد ذلك : { لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ } الآن أشار إلى الصُّداع { لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } وبعضهم قال : أنها سببية أي { لَا يُصَدَّعُونَ } بسببها. ويجوز أن يقال : { لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أنها ضُمِّنت التفرُّق يعني { لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } فيتفرقون عنها حالة تفرقهم مُصدعين فأشار إذاً إلى أنه قد انتفى عنها مساوئ خمر الدنيا.
{ وَلَا يُنْزِفُونَ } أي لا تذهب عقولهم، خمر الدنيا تصيب بالصداع وأيضاً تذهبُ بالعقل ، أما خمر الجنة فليس فيها فقد نفى عنها هذا وهذا { لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ }.
 قال : { وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ } يعني يطوف عليهم الولدان بأكواب ويطوفون عليهم بماذا ايضاً ؟ بفاكهة مما يتخيرون.
 ثم قال : { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ } غاير بين الفاكهة وبين اللحم لأن اللحم محط الشهوة والاشتهاء يعني القَرم يقولون قَرِم إلى اللحم إذا اشتدت شهوته له ، أما الفاكهة فإنه في الغالب لا تكون طبيعة الإنسان بالنسبة له كطبيعته مع الفاكهة لأن الفاكهة مأخوذة من التفكه فهي أقل طلباً من اللحم ، فعبّر عن اللحم بالاشتهاء وعبرّ عن الفاكهة بالتخير ، وأيضاً الفاكهة في الغالب أنها تأتي متنوعة فيقع فيه تخيّر من الإنسان لما يحبه من هذه الفاكهة.
 ثم قال سبحانه وتعالى : { وَحُورٌ عِينٌ } طبعا بعض المفسرين أو بعض المعاصرين يستنبط من هذا فائدة ويقولون أنها فائدة طبية أن الفاكهة تكون قبل الأكل أو قبل الطعام، وهذه الفائدة طبعا فيها كلام بين الأطباء، طبعا الأطباء يقولون القاعدة أن الفاكهة تؤكل مفردة يعني لا تُسبق بطعام ولا تُلحق بطعام لأن هذا أفضل ما يكون من حال الاستفادة من الفاكهة، أما ما يصنعه الناس اليوم من الأكل المخلوط بين الفاكهة والطعام فقد اختلف الأطباء فيه فمنهم من يظن أنه سُم ناقع ومنهم من يرى أنه فيه صحة على خلاف بين الأطباء. لكن القاعدة أن الغالب التي يحب أن ننتبه لها هي أصل في الحقيقة أن أحوال الآخرة مختلفة عن أحوال الدنيا .. هذه واحدة.
 قاعدة أخرى أيضاً أو أصل آخر: أن عوائد الناس تختلف من جيل إلى جيل ومن بلد إلى بلد، فهذه لابد من مراعاتها ونحن نستببط من القرآن، فمثلاً بعض المستنبطين يقول : أن تقديم الطعام للضيف دليل على الكرم أكثر من أن تُقدم الضيف  للطعام ويستدلون بـ {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} هذا في الحقيقة الاستنباط فيه نظر لاختلاف العوائد بين الناس، فقد يكون عند أُناس تقديم الضيف إلى الطعام أولى من العكس وقد يكون عند قومٍ العكس فلا يمكن أن نجعل هذا أصلاً، كذلك في قضية نعيم الجنة لا يمكن أن نطبِّقه على أحوال الدنيا لأن الأحوال في الآخرة تتغير ، كل شيء في الإنسان يتغير، الآن طولك سيتغير، قُدراتك ستتغير، فإذاً الاستنباط من أحوال الآخرة لأحوال الدنيا عندي أن فيه هذا النظر، لكن كما قلت لكم بعضهم يستنبط هذا والأمر فيه واسع لكن رأيي أنه يحسُن أن لا تُنزّل أحوال الآخرة على أحوال الدنيا لاختلاف الطبائع في هذا وكذلك ما قلت لكم في قضية اختلاف أحوال الناس فما فعله إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد يكون عند بعضٍ هو الكرم وقد يكون عند البعض الكرم هو بخلافه أن يُقدَّم الضيف إلى الطعام فهذا مما تختلف فيه الأحوال.
 قال بعد ذلك : { وَحُورٌ عِينٌ } وبعضهم قرأ {وَحُورٍ عِينٌ} كأنه قال ويطوفون عليهم أيضا بحورٍ عين، أو { وَحُورٌ عِينٌ } فهذا ذكر نعيم آخر لأهل الجنة. المرأة الحوراء كما قال أهل اللغة وكذلك المفسرون : هي شديدة بياض العين وشديدة سواد العين يعني سواد عينها شديد وبياض عينها شديد فهذا أفضل ما يكون من وصف المرأة، ولما قال:{ عِينٌ } هذه إشارة إلى سعة العيون ولاتزال المرأة تُتمدح بسعة عينها فهذا مما اتفقت فيه نعيم الجنة ونعيم الدنيا لأنه لايزال يُتمدح قبل نزول القرآن بسواد سواد العين وبياض بياض العين وكذلك سَعة العين.
 قال : { كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } أي هؤلاء الحور العين {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ} وهو الدُر وزاد عليه أنه كون لؤلؤ أصلاً فهذا محبب للناس فكيف إذا كان مكنوناً أي محفوظاً فهذا يزيد في الدلالة على أنه غالٍ وأن النفس تتشوف إليه ولهذا كلما كان الأمر مكنوناً تشوفت النفس إليه أكثر ، فلما وصفهن بأنهن { كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ } ببياضهن { الْمَكْنُونِ} أي المحفوظ ولا شك أن النفس تتشوف إليه وهذه قاعدة معروفة في نفس الإنسان لأنه لو كان - على سبيل المثال - لو كان قُدّم لك صندوق فيه شيء لا تعرفه وصندوق آخر مكشوف فيه حلوى وقيل لك أن الصندوق هذا فيه نفس هذا الذي تراه في الخارج لاتزال نفسك تتطلع إلى أن تعرف ما في هذا الصندوق حتى لو قال المُخبر وهو لك ثقة هو نفسه وأنا وضعته بيدي هذا وهذا ولكن هذه من طبيعة النفس فأخبر الله سبحانه وتعالى عما ترغبه النفس وهذا بالإضافة إلى قوله مكنون ، وهنا أيضاً قد يُستنبط منها التنبيه للنساء في أنهن كلما كن أكثر ستراً كن أرغب للرجال ولهذا الرجل أحب إليه المرأة الستيرة أكثر من المرأة الخراجة الولاجة لأنها كلما كانت مكنونة ومحافظة على نفسها فهذا قصدي تكون قعيدة بيتها فهذا لاشك أمدح لها من كثرة الخروج.
 قال سبحانه وتعالى : { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا } لاحظ لما نفى عنهم قال
 {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} يعني نفى عنهم أن يسمعوا { لَا يَسْمَعُون } معنى ذلك أن كل واحد منهم لا يتكلم باللغو والتأثيم لأنه قال جميعهم لا يسمعون لأن لو كان فيه واحد يقول كلام فيه لغو أو تأثيم فإذاً وقع السمع فلما قال : { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا } دلّ على أن كل كلامهم في أمر مباح وأمر حق ليس فيه أي لغو ولا أي تأثيم فهذا مدح للجميع لما نفى هذا النفي العام، فلو كان واحد منهم تكلم بلغو أو بتأثيم لسمعوا فلما نفى ذلك دلّ على سلامة منطِقهم.
  { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا } أي قولاً باطلاً { وَلَا تَأْثِيمًا } أي ما يحرّج أو يؤثّم به غيره يقول : لغيره أثمت بقولك هذا لكن كما قال : { قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا } لا يسمعون إلا قول {سَلَامًا سَلَامًا} سلاماً الأخرى إما أن تكون مؤكدة وهذا قول، أو أن تكون مشيرة للكثرة أي كثرة السلام ، يعني لا يسمعون إلا السلام مرة بعد مرة ، فإذاً هذا تمدّح لهم.
 ولاحظ الآن لو أنت تأملت الحال الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في المقربين فيه لذائذ نفسية وفيه لذائذ روحانية ، اللذائذ النفسية ذكرها الله سبحانه وتعالى واللذائذ الروحانية أيضاً ذكرها الله سبحانه وتعالى ، وبعضها يأتي فيه اللذة الروحانية واللذة أيضاً النفسية مثل قضية الجلوس على السرائر والاتكاء وهذه الراحة التي يجدونها جمعت بين اللذة الروحانية واللذة أيضاً والجسمية، كذلك الأكل والشرب من لذائذ الجسم، وأيضاً ما يجدونه من الحور العين أيضاً لذائذ الروح ولذائذ الجسم.
 لما قال : { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا } من لذائذ الروح وأنت تأمل أنت الآن لو كنت في مجلس لا تسمع فيه إلا كلاماً باطلاً نفسك تتأذى أو لا تتأذى؟ تتأذى ، لكنك في هذا المجلس لا تسمع إلا ما تحب، ولهذا لعله استطراد تنبيه ومن اللطائف أن بعض الناس إذا كان من أهل الشر ومن أهل اللسان القبيح إذا هداه الله سبحانه وتعالى تجد - سبحان الله - لسانه يتعدل شيئاً فشيئاً فبعد تلك الألفاظ التي كان يسمعها ويُسمعها من ألفاظ القبائح تجد أنها تغيرت إلى ألفاظ حسنة، فقبل كان إذا أحد نافره أو نازعه لا يُخرج من لسانه إلا كلاماً سيئاً لكن بعد أن يمُنّ الله سبحانه وتعالى عليه بالهداية ويجتمع بالأخيار ولا يسمع إلا كلاماً طيباً لا تجد منه إلا غفر الله لك .. أسأل الله أن يهديك ، من الألفاظ والأدعية الحسنة التي تجعل المقابل له تلين قناته شيئاً بخلاف ما كان يقابله مثل ما كان يقابل به أصحابه قبل لكان كمن يكب الزيت على النار فيزيدها اشتعالاً.
الآن بعد ذلك دخل في أصحاب اليمين فأعاد وقال : {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} فإذاً ثنى بمن بدأ بهم وهم أصحاب اليمين ثم ذكر نعيمهم { فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ } طبعاً السدر مشهور ومعروف عند العرب، والسدر له شوك وشوكه مؤذي، والسدر أنواع منه ما يُسمى الآن عندنا الذي هو العبري ، وفيه أنواع من السدر تكون في الصحراء يكون لها ثمر وتُستخدم للصابون وغيره وهي مشهورة عند الناس الذي هي السدر، لكن هذا السدر سدر الدنيا حاله أنه ذا شوك وشوكه مؤذٍ لكن في الآية قال : { فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} فإذاً زاد في هذا الوصف التنبيه على أن هذا السدر الذي يحبه الناس في الدنيا يجدونه في الآخرة وعندنا خبر عن سدرة المنتهى وهي سدرة من شجر السدر التي كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (يمشي فيها الراكب مائة عام) ، فإذاً هذا النعيم الذي نراه في الدنيا سنجده في الجنة وكما قال ابن عباس : "ليس في الجنة من دنياكم إلا الأسماء" فإذاًهذا السدر تمدّح الله به للمؤمنين بأنه مخضود أي قد قٍطع شوكه.
 { وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ } الطلح هنا في إجماع السلف من المفسرين أنه الموز وهو إسم من أسماء الموز عند أهل اليمن ولا يزال الموز إلى عند أهل اليمن لهذا اليوم يعرفونه فسمي الطلح، وهناك شجرة اشتهرت أيضاً بإسم شجرة الطلح ، ابن عباس لما قال : الطلح الموز ، هل كان يخفاه - وهو من سكان الطائف - هل يخفاه طلح الطائف ؟ فلماذا يُعرض ابن عباس عن الطلح وهو طلح الطائف وأمثاله ويذهب إلى طلح اليمن؟ ولماذا يُعرض ابن زيد ، ولماذا يُعرض عكرمة، ولماذا يُعرض غيرهم من المفسرين على أن يقولوا أن الطلح هو الطلح المعروف ؟ فإذاً إعراضهم عن هذا مع معرفتهم به تنبيه على أن المراد بالطلح هنا هو الموز ، وورد قول عن مجاهد أنه أشار إلى أنه الطلح قال : كان يعجبهم طلح وادي وج - وادي في الطائف - فذكر الله سبحانه وتعالى لهم الطلح فقال : {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} لكن المنضود لا يتناسب مع الطلح ذي الشوك لأن الطلح لو قيل طلح مخضود لتناسب لأن الطلح أيضاً فيه شوك لكن لما قال { وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ } دلّ على أن الطلح هو الموز لأن الموز منضود أي متراكب ثمره بعضه على بعض، ولهذا المُقدم في التفسير هو قول السلف بأن المراد بالطلح هو الموز، وقولهم إن لم يكن إجماعاً فهو اتفاق ولم يخالف في هذا إلا قول ذُكر عن مجاهد أن المراد به الطلح المعروف.
 ثم قال : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } أي هذا الطلح وذاك السدر له ظل ممدود ، وهذا أيضاً مما يحتاجه الإنسان فلاحظ إذا ذهبت إلى البر وكنت تحت شجرة من سدر أو طلح أو غيره ألست تتخير الشجرة تكون أكثر ظلاً ؟ فإذاً هذا مما ترغبه النفس فذكره الله سبحانه وتعالى ، ولاحظ هذا النعيم الذي ذكره الله في { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } سيأتي مقابل له في العذاب في قوله سبحانه وتعالى : { فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ } يعني الظل من يحموم هؤلاء الكفار يُعذَّبون في ظل ولما قال : { وَظِلٍّ } يُتصور أنه مما يستظل به الإنسان فيرتاح لكنه قال {مِنْ يَحْمُومٍ} والمراد باليحموم الدخان الحار وهذا شاهدناه قريباً الذي يعني عاصر ما حدث في آبار الكويت في غزو العراق للكويت الأول فإنه شاهد مثل هذا الحدث الذي يكون قريب من الآبار يجد أنه ظل ولكنه حار فهو - والعياذ بالله - سيكون عذاباً كما سيأتي لأهل النار ، أما في أهل الجنة فقال عنهم سبحانه وتعالى الذين هم أصحاب اليمين {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ }.
 { وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ } الماء المسكوب بمعنى أنه جاريا أمامهم ليس ممنوعاً وليس مغطىً إنما مسكوب وجارٍ أمامهم كما قال :{ أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } وقال أيضاً : { مِنْ مَعِينٍ } في بعض الآيات من وصف على أنها أنهار جارية وكأنه ماء مسكوب يجري جرياناً لا يردهم عنه أي شيء.
 ثم قال سبحانه وتعالئ : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } هناك لما ذكر { وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ } ذكر لأصحاب اليمين فاكهة كثيرة وأشار إلى كثرتها.
 ثم قال : { لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } ولاحظ الآن النفي المركب هذا يعني لا هذا ولا هذا وعادة النفي هذا إذا جاء في مثل { لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } أن ينفي أمرين معاً وأحياناً يريد ما بينهما مثل قوله : { لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ } أي أنها متوسطة ليست شرقية فتشرق عليها الشمس ثم تغيب ولا غربية بحيث أنها تأتيها الشمس في آخر المغيب ثم تغيب عنها لا ، وإنما هي في مكان وسط كأن الشمس تأتيها من جهة الشرق وأيضا من جهة الغرب فهي حالة بين الحالتين ، أما هنا قال : { لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } تأمل أيضاً حال الدنيا وما يحصل مثلاً من قضية الفاكهة وهي أقرب ما يكون عندما نقول : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } الآن الفاكهة عندنا بالنسبة لنا يحصل فيها القطع لأنه عندنا فاكهة الصيف وفاكهة الشتاء، نحن لا نتكلم عن الوقت الذي نعيشه لكن سابقاً لم يكن هناك قدرة على إيصال أو على هذه السرعة على إيصال خيرات تلك البلاد بعضها إلى بعض، وقت الشتاء فاكهة الشتاء ثم تنقطع ثم فاكهة الصيف تم تنقطع فالله سبحانه وتعالى نبههم إلى أن ما يحصل لكم من حال الدنيا من انقطاعها ليس موجوداً في الجنة فهي غير مقطوعة أبداً.
طيب .. لما انتفى عنها الانقطاع هل هناك من يكون خازناً لها فيتنعم بها ويمنع غيره؟ الجواب لا ، أيضاً لا يُمنعون منها فهي غير ممنوعة وإنما هي كلأ مباح لهم جميعاً ولذلك قال : { لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } فنفى عنها هذا وذاك مما قد يحصل في الدنيا ، فإذاً الآن قد يحصل في الدنيا انقطاع وقد يحصل في الدنيا منع ، لكن هذه في الجنة لا يحصل فيها لا هذا ولا ذاك.
 ثم قال : { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا } لما قال : { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ } أشار إلى فِرش الزوجية بدلالة أنه قال : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً } وعبّر عنها بالارتفاع مما يشير إلى أن الارتفاع من الأشياء المحببة الى النفس ، فكلما كان بالنسبة له سرير مرتفع عن الأرض فإنه أكثر رغبة للإنسان من افتراش الأرض ودلالة أيضاً على تمام الغنى.
 قال عنهن : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً } الإنشاء هنا بمعنى الإيجاد ، { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا } هؤلاء المنشأت قد يكنّ أُنشئِن في الجنة بمعنى أنهن من نعيم الجنة أصلاً وهن الحور العين وهو مقابل قوله في المقربين { وَحُورٌ عِينٌ } ، ويحتمل أيضاً إنشاء نساء الدنيا بإعادتهن مرة أخرى ليكنّ متوائمات ومتلائمات مع نعيم في الجنة فيشملهن أيضاً قوله : { إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم لما سألته العجوز عن دخول الجنة فأخبرها الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ( لا يدخل الجنة عجوز ) ومراده صلى الله عليه وسلم أنها ترجع شابة وتُنشأ مرة أخرى بما يتلائم مع طبيعة الجنة.
 قال : { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا } وهذا لاحظ الآن رجعنا إلى محببات النفوس وهي أن الرجل أرغب إليه المرأة البكر من المرأة غير البكر وهذا هو الأصل أما الثيب فأحياناً يكون بعض الأسباب التي تجعل الرجل في الدنيا يُقبل على الثيب لأمور أو أسباب خاصة لكن الأصل أن رغبة الرجل أن تكون المرأة بكراً فقال : { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا } العُرُب جمع عَروب والعروب هي المتحببة إلى زوجها لما نقول هي المتحببة إلى زوجها وهي إحدى تعبيرات المفسرين اسرح بخيالك ما شئت المتحببة إلى زوجها هي التي تصنع ما يحب زوجها ماذا يحب زوجها فتصنعه له، كل واحد من الرجال هناك شيء يحبه ويرغبه فعلى قدر ما يحب فإنها تصنع له مايحبه ولذا قالوا : المتحببة إلى زوجها ، هناك عبارات ذكرها المفسرون والعبارات صحيحة لكنها تبقى أنها نموذج أو مثال للعروب وليس هذا بمعنى العروب إنما المعنى الجامع لها : المتحببة إلى زوجها ، فماذا يحب زوجها فإنها تفعله ولهذا المرأة - وعلى سبيل المثال - المرأة التي طُلّلقت وتزوجت رجل آخر فستعرف من محبوبات ذاك الرجل ما يكرهه الآخر ومن محبوبات الزوج الجديد ما يكرهه الأول لأنهم يختلفون الرجال فيما يحبون لكن الجامع في هذا أن تبحث عما يحبه زوجها فتعمل بما يحبه فهذه هي العروب ولذا قال : { عُرُبًا أَتْرَابًا } الأتراب : المتساويات في السن، التريبة أي التي استوت في سنها مع غيرها وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أنهن يكنّ في سن واحدة ولهذا لما يكنّ في سن واحدة بالنسبة للزوج يعني ما فيه امرأة كبيرة والأخرى صغيرة فإن من العادة أن يُفضل الصغيرة على الكبيرة فجُعلن متساويات لأن مقياس الجنة غير مقياس الدنيا ، فجُعِلن في هذا الاستواء لتكون الرغبة إليهن واحدة ، ولهذا فإن المسلم في الجنة له من الحور وله من هؤلاء المنشاأت ما شاء الله سبحانه وتعالى من النعيم .
قال بعد ذلك لأصحاب اليمين : { ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ } وسبق الإشارة إلى نفس الخلاف المذكور هناك.
 ثم قال : { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ }
يعني الآن قابل الطلح والسدر قابله بقوله سبحانه وتعالى أنهم { فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ }السموم معروف ولايزال الناس يستخدمونه إلى يومنا هذا الهواء الحار { وَحَمِيمٍ } الذي هو الماء الحار ، قال : { وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ } قلنا ظل من دخان النار الذي يكون هذا الدخان أيضاً حاراً ، فلما قال : { وَظِلٍّ } يُتصور أن يكون ظلاً كريم { وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ } فنفى عنه البرودة { وَلَا كَرِيمٍ } أي ليس فيه تنعّم بخلاف ما يحصل لأصحاب اليمين. 
ثم قال : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ } وهذا رجعٌ إلى الدنيا لمعرفة ماهو سبب هذا العذاب الذي ذكره الله سبحانه وتعالى لهؤلاء لكي يتجنب العبد هذه المذكورات فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ } والترف هنا بالنسبة للكفار نسبي كافر فقير غير كافر غني ، لكن أيضا مايزال حتى الكافر الفقير قد أُترف في هذه الدنيا بحسبه وعقوبة كل واحد بحسبه ولهذا قال الله سبحانه وتعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا } أي كل هؤلاء الذين دخلوا النار { قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ } الذي هو الشرك بالله فكلهم اتفقوا على الكفر بالله سبحانه وتعالى ولهذا كل يتنعمون في الدنيا كلٌ على حسب أنواعهم وطبقاتهم وهي ليست حقاً لهم لأن حق التنعم في الدنيا  لمن آمن بالله، فوجود الكافر فيها وتنعّمه كأنه أخذ حق غيره ولهذا يوم التغابن تنعكس المسألة على قول بعض المفسرين أنه سُمي يوم التغابن لأنه يحصل الغبن في أن يأخذ أهل الجنة مكان من كان من أهل النار لو كان من أهل الجنة، ويأخذ أهل النار مكان من كان في الجنة  لو كان في أهل النار فهذا كأنه مقابل لذلك.
 ثم قال سبحانه وتعالى : { وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } هي القضية الكبرى التي كانت عند كفار قريش وعند غيرهم ممن يلحق بهم ممن ينكرون البعث { أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ } لاحظ أوصافهم لما قال : { الضَّالُّونَ } ثم قال {الْمُكَذِّبُونَ} فكأنهم ضلوا بسبب تكذيبهم.
 ثم عاقبهم الله تعالى قال : { لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } وهذا أيضاً تفصيل في العذاب ، الآن هؤلاء - والعياذ بالله - بعد أن ذكر لهم أنواع العذابات السابقة أضاف وذكر منها الأكل من شجرة الزقوم وهي شجرة تنبت في سواء الجحيم - كما أخبر الله سبحانه وتعالى - إذاً هي شجرة من نار فإذاً هم يأكلون هذه الشجرة وهي - والعياذ بالله - نار ، الآن أجوافهم صارت حارة بسبب هذا الزقوم وزيادة ونكاية بالعذاب - والعياذ بالله - يملأون بطونهم منها يعني يأكل حتى يمتليء بطنه فيطلب ماذا ؟ إذا الإنسان أصابه مثل هذا الحرارة ماذا يطلب في العادة ؟ ماءً يبرّد جوفه قال : { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ } لو قال : { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ }احتمل أن يكون شرباً يبرّد هذه الحرارة لكنه قال : { مِنَ الْحَمِيمِ } فإذاً يأكلون حرارة - والعياذ بالله - ويشربون ماءً ماذا ؟ حاراً ، فهذا زيادة في العذاب.
 ثم قال ليس هذا فقط : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } مع أنه ماء حار - والعياذ بالله - فإنهم يزدادون من شُربه ، لماذا يزدادون من شربه لأنه قال : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } لأنهم يريدون الارتواء من ماء يُبرد حرّ أجسامهم مما أكلوه من الزقوم فلا يجدون - والعياذ بالله - إلا حاراً فوق حار ، والهيم كما قيل هي : الإبل التي أصابها الهُيام وهو داء يصيب الأمعاء تُحس الإبل فيه بالعطش فلا تروى يعني تشرب وتشرب وتشرب وتشرب وهي لا تروى.
 وفي بعض التفسير أن الهيم المراد به الأرض السهلة - النفود - إذا الإنسان أخذ منه قليلاً ماذا يحصل ؟ ينزل التراب وكلما أخذ شيئاً قليلاً منه نزل تراب فإذا كان هذا هو المعنى فهو نفس المعنى أيضاً ، فمعنى ذلك أنه يزداد من شيء يكرهه رغماً عنه فهو -والعياذ بالله - يزداد في شرب هذا الماء الحار مرة بعد مرة رجاء أن يطفئ ما في جوفه من حرارة لكنه لا يزداد إلا حرارة والعياذ بالله. 
قال : { هَٰذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } يعني هذه ضيافتهم وهذا ما سيكون لهم يوم الدين.
 قال : { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ } والآن يتكلم في الأول لاحظوا وهي عن الغائب هنا قال : { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ } انتقل من الغيب إلى الحضور { فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ } كأنه إشارة إلى المخاطَبين الأولين بها وهم الذين كذّبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا بالبعث . { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ } معناه فهلا تصدقون أي هلّا تؤمنون بما يخبركم به هذا الكتاب، ثم بدأ يذكر أدلة البعث .
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } هذا الدليل الأول .
 ثم الدليل الثاني : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }.
 ثم الدليل الثالث : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ }.
ثم الدليل الرابع : { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ } 
هذه أربعة أدلة ذكرها الله سبحانه وتعالى أدلة للبعث لأنه قال في أول الآية : { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ } ثم بدأ يذكر أدلة البعث التي كذّب بها هؤلاء. هذه أربعة أدلة ذُكرَت في الآية وهناك أدلة أيضا ذُكرت في القرآن في مواضع متعددة وقد ذكر بعض العلماء هذه الأدلة وجمعها.
هذه الأدلة الآن لنأخذ منها دليلاً للإشارة فقط إليها ومن أشهر الأدلة في قوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } 
الآن ما هي العلاقة بين الزرع وبين البعث؟ 
هذا ورد في أكثر من آية، الإشارة إلى الإنبات - إنبات الزرع - بإنبات الناس من قبورهم حال البعث فهو شبيه جداً بخروج الزرع ، فهذه الأجساد كما أخبر الله سبحانه وتعالى تتحلل هذه الأجساد وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يبقى منها إلا عجب الذنب فإذا جاء إذن الله سبحانه وتعالى بالبعث نزل من السماء ماء كمني الرجال فيقع على هذه البقايا فيُنشأ منها الإنسان مرة أخرى فخروجهم من قبورهم بهذه الصورة كخروج النبات من الأرض فهذا أحد أدلة البعث، فالذي قدر على أن يُخرج من هذه النبتة التي ترونها وتضعونها في الأرض يُخرج منها ما ترون من الزرع قادر على أن يعيدكم مرة أخرى بعد أن تفنون.
 ثم ذكر بعد ذلك قوله سبحانه وتعالى : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ * فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } نقف ونستعرض هذه الآيات.
 فقوله : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } هنا فائدة وقف عندها العلماء وهي هل التسبيح يكون للإسم أو للرب ؟ 
وقد أجاب عن ذلك السُهيلي و شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم من العلماء أنه لا يمكن أن يكون هناك تسبيح إلا بذكر إسم من أسماء الله سبحانه وتعالى ، لو قلت لك مثلاً سبح الله بأسمائه ؟ فتقول مثلاً : سبحان ربي العليم سبحان ربي العظيم سبحان ربي الكريم سبحان ربي القدير، فأنت ستذكر إسما من أسماء الله الحسنى في حال التسبيح فلما قال : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ } فإذاً دل ذلك على أنه لا يكون تسبيح الرب إلا بالنطق وهذا هو المراد في الآية وليس التسبيح القلبي وإنما التسبيح الذي يواطئ فيه اللسان القلب فيكون إشارة إلى التسبيح الذكري والتسبيح القلبي على أن يُذكر الله باسمه { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ } وهذا بإسمه ويكون مواطيء للقلب كما يقول : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } فلا يمكن أن يقع تسبيح إلا بالنطق بإسم من أسماء الله سبحانه وتعالى وهذا كما يقول السُهيلي لما جاء عند قوله : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قال : "إن هذا كع عنده الكثير من الناس" يعني كأنه يقول أنهم وقفوا عنده وما استطاعوا أن يجيبوا عنه ثم ذكر طبعاً هذا الجواب، وذكر في الجواب المختصر الذي ذكرته لكم أن هذه الفائدة تسوى الدنيا بحذافيرها كونك تعلم مراد الله في هذه الآية.
 وابن القيم لما ذكر عن شيخه ابن تيمية حل هذه المسألة أيضاً قال يقول ابن القيم : "وهذه فائدة تسوى رحلة" يعني لو أنك رحلت قيل لك أن هذه الآية يعلمها فلان في المكان الفلاني وأنشأت رحلة إليه من أجل أن تعرف هذه الفائدة وترجع يقول عنها ابن القيم أنها تسوى رحلة ، ومن قرأ في أقوال المفسرين ورأى تنوع أقوالهم واختلافهم في معنى الآية يشعر بالفعل بقيمة ما ذكره شيخ الإسلام وكذلك ما ذكره السهيلي من أن المراد بهذه الآية وأمثالها هو التسبيح المقالي الذي يواطيء القلب وأنه لا يمكن أن تسبح الله إلا إذا ذكرت إسما من أسمائه.
 الآن جاء الحديث في قوله {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} الحديث عن القرآن .
 في قوله : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } هل المراد بالنجوم النجوم المعروفة - وهذا هو الأشهر والأظهر من تسمية النجوم في القرآن- أو المراد بالنجوم التي هي نجوم القرآن وتنزلاته؟ ومثله قوله : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } وقع نفس الخلاف هل المراد هو النجم المعروف في السماء أو القطعة من القرآن إذا نزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم؟ خلاف بين المفسرين والآية تحتمل هذا وذاك.
 قال : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } إذاً القسم بالمواقع أي منازل النجوم إذا كانت نجوم السماء، أو بمواقع النجوم أي بتنزلات القرآن في الأرض هذا القول الثاني. 
 { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ } أي القسم بمواقع النجوم على الاحتمالين { لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } أي أنه قسم عظيم لو تعلمون ولذلك قدّم { لَوْ تَعْلَمُونَ }للاهتمام به وأن المراد تأكيد هذا الأمر أنه لو كان عندكم علم وبصر فإن الإقسام به عظيم.
 ولاحظوا أن الله تعالى يُقسم وليس بحاجة إلى أن يُقسم لكن لأن الحال مع الكفار معرضين فجاء القسم في مثل هذا الأمر ولهذا قال : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }
الآن قبل هذه الآيات هل وردت إشارة إلى القرآن ؟ الجواب لا ، إذاً لما جاء القسم بالقرآن هنا ما علاقة القرآن بما سبق ذكره؟
 وتأملوا هذا وستجدونه في مجموعة من السور، إذا جاء الخبر عن اليوم الآخر في مثل هذه الأمور التي يكون فيها إنكار يأتي الحديث عن القرآن لماذا ؟ لأن الخبر عن اليوم الآخر جاء في القرآن ، فالتصديق بالقرآن يلزم منا التصديق باليوم الآخر والتصديق باليوم الآخر يدل على أنك قد صدقت بالقرآن .
 { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } على القول أنه القرآن ثم أتى بعد ذلك { أَلَمْ نَجْعَلِ } ...الخ في قضية البعث.
{ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ } بعدما ذكر الآيات المرتبطة بيوم القيامة قال : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } لم يُذكر من هو ولكن عادة العرب أنها إذا جاءت بالإضمار دون أن يكون شيئ قد سبق ذكره إنما تجيء به لأنه معلوم ، فإذاً { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} واضح أنه المراد به القرآن.
 فإذاًٌهذا يتكرر في القرآن التلازم بين ذكر اليوم الآخر وذِكر القرآن ، ويأتي بهذه الطريقة التي تجعل الإنسان يتساءل ما علاقة هذه الآيات بتلك ؟ العلاقة واضحة أنه إنما جيء بها لأنه لم يأت بهذا الخبر إلا القرآن، ومن آمن بالقرآن آمن بجميع أخباره ومن أهم أخباره اليوم الآخر، ومن آمن باليوم الآخر فإنه دلالة على أنه آمن بهذا الكتاب.
 قال : { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ } والآية طبعاً مشهور جداً الخلاف بين العلماء هل هي آية دالة على أنه لا يجوز للمحدث أن يمس مصحف؟ أو هي آية خاصة بالكتاب الذي في السماء فيكون ليس لها علاقة بأنه لا يمس المصحف إلا طاهر؟ ويستدل بأنه لا يمس المصحف إلا طاهر من دليل آخر.
 وهذه قاعدة تنتبهوا لها ، بعض طلاب العلم لما يسمع التحليل في هذه المسألة ويخرج العالم بأن هذه الآية لا تدل على أنه لا يمس القرآن إلا طاهر يظن أن هذا العالِم يُجيز أن يمس أحدهم القرآن وهو غير طاهر .. لا ، هو يقول لك هذه الآية لا تدل على هذا الحكم لكن لا يعني أنه ينفي غيرها من الأدلة وهذه قاعدة علمية انتبهوا لها أعيدها مرة أخرى لأهميتها إذا نفى العالم دلالة آية على حكم ما لا يلزم من هذا الاستدال أنه ينفي الحكم مطلقاً وإنما هو ينفي دلالة هذا على هذا فقط. وهذه إذا تأملناها ستفيدنا في مواطن وأذكرها استطراداً أيضاً واسمحوا لي بهذا لأهميته:
 بعض مؤلة الصفات يستدلون بتفسير ابن عباس وأصحابه في قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } بأن ابن عباس يؤول صفة الساق، وهذا جهل بطريقة الاستدلال لماذا ؟ لأنه نقول : يصح قولكم لو أن ابن عباس نفى الساق ثم فسر الآية هنا على ما فسر ، أثبتوا أن ابن عباس أولاً ينفي الساق ليصح لكم الاستدلال ؟ فابن عباس لا ينفي الساق والساق قد ورد فيها أحاديث صريحة وواضحة جداً (يكشف ربنا عن ساقه) فإذاً هذه مغالطة أحيانا يستخدمها بعض أهل التأويل في مثل هذا.
 كذلك أيضاً من باب الفائدة في الكرسي لو أحد العلماء قال : الكرسي المراد في هذه الآية هو العلم هل نقول أنه ينفي وجود الكرسي ؟ الجواب لا ، لكنه يرى أن الكرسي في هذه الآية ليس الكرسي المخلوق الذي هو موضع القدمين.
 فهذه القضية في الاستدلال من المهم أن ننتبه لهذا لأنه بعض طلاب العلم قد يأتي فيسمع تقرير لعالم أنه ينفي أن هذه الآية الدالة أنه لا يجوز مس المصحف فيقول هذه الآية لا تدل على عدم جواز مس المصحف لمن كان طاهراً فيقع عنده الإشكال، فنقول : هذه دلالة خاصة، وهذا هو الأقرب أن الآية التي في الكتاب الذي في السماء وأن المطهرون هم الذين قد طُهٍروا وهم الملائكة.
 وقد أشار شيخ الإسلام من باب التفسير الإشاري أشار إلى أنه كما أنه لا يمس هذا الكتاب لا يمسه إلا المطهرون فكذلك لا يمس معانيه والوصول إلى حقائقه إلا من طهر قلبه من البدع والمعاصي والذنوب وهذا يدخل في باب التفسير الإشاري.
 قال : { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } هذه وقع فيها إشكال في هل السورة مدنية أو مكية لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية لما قالوا مُطرنا بنوء كذا فظن بعضهم أن هذه الآية للتو نزلت وإنما الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم استدل بهذه الآية في هذا الحدث المدني.
 ثم جاءت آية المواعظ أو خُتمت بآية الوعظ في أحوال الناس عند خروج الروح وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله:{ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } ومن لطائف الختم والبدء أنه ختم قوله في سورة الواقعة بالتسبيح وابتدأ الحديد بالتسبيح.
 أيضاً من اللطائف المرتبطة بالبلاغة ما يُسمى برد العجُز على الصدر فلما ابتدأ بذكر أصحاب اليمين وأصاحب الشمال ثم السابقين ذكرهم، هنا ذكر أيضاً هؤلاء وما يحصل لهم عند خروج الروح فهذا أيضاً من باب رد العجز على الصدر فتناسب أول الآيات التي هي فاتحة الآيات مع أواخر الآيات.
 ولعلنا نقف عند هذا الحد وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعني وإياكم بما قلت وأن يجعله حجة لنا إنه سميع مجيب .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق