الأربعاء، 25 يونيو 2014

الوقفــ الثانية ـــة من جـ (٣٠) / في سورة البلد


هذه الوقفة الثانية من الجزء الثلاثين وهي في سورة البلد أو حول سورة البلد
قال ربُنا (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)  لفظ الإشارة هُنا يجعل أن تأويل البلد لا يُختلف عليه لأن هذه السورة مكية فلمَّا قال الله جل وعلا لا أقسم بهذا البلد عرفنا أنَّ البلد مكة كما أنَّ قول الله جل وعلا في سورة التين ( وهذا البلد الأمين ) أقسم به بيَّن لنا أنَّ اللام في لا ليست نافيةً للقسم لأنَّ الله أقسم بالبلد الأمين. (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) وهو مكة، ومكَّة حرَّمها الله يوم خلقَ السماوات والأرض ولم يُحلَّها إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ساعةً من نهار .
(لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) مامعنى (حِل)؟ على أقوال:
 قال بعضُ العُلماء المعنى أننا نُقسم بهذا البلد حال كونك ساكِناً فيه فذلك يزيدُه حُرمةً على حُرمة فهو بلدٌ حرام يخطو عليه ويمشي ويسكُن ويحِلُّ فيه نبيٌّ مُكرَّم آخِرُ الأنبِياء صلوات الله وسلامه عليه هذا معنى.
 المعنى الآخر (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) أي أنَّ هؤلاء القوم مع أنهُم يسكنون في بلدٍ حرام إلا أنهُم لم يُراعوا حُرمتك فتعرَّضو لك ووصفوك بما وصفوك به لم يُراعوا حُرمتك فجعلوك حلالاً يعني مُستباحاً يقولون في عِرضك ويرُدُّون رسالتك وينتهِرونَ من والاك (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ).
 ثم جاء قَسَمٌ آخر قال الله (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال بعضُ العُلماء (والِد) تشمل أيُّ والد، و(ولد) تشملُ أي مولود والذي يترجَّح أننا إذا أخذنا المُناسبات فإِنَّ مكَّة هي أُم القرى فأقسم الله بأُم القُرى فناسبَ أن يكون المُقسم به هاهُنا ووالدٍ وما ولد هُو أبونا آدم فكما أنَّ آدم عليه السلام هُو الأصلُ الذي خرجت منه ذُريته فإنَّ الأرضَ دُحِيت من جهة الكعبة ولذلك قال الله جل وعلا ( لتنذر أم القرى ) فمكَّةُ أُم للقرى وآدمٌ والِدٌ للناس أجمعين فحملُ القسم هُنا على آدم أولى وأحرى (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ).
 ثم جاء جواب القَسَمْ (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) أي في مشقَّة، في عناء، خلقناه في مشقَّة وعناء ليس المقصود في مشقَّة وعناء من قِبل الله، مُحال، الله لا يمسُه نصبٌ ولا لُغوب لكن جعلنا عِيشتَهُ عيشة كبد ومشقَّة لِم ؟! لأنَّ أباهُم آدم أبحنا لهُ الجنَّة (إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى*وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ) مع ذلك خرجَ بعد أن قال الله له (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) فتشقى هُنا في (طه) هيَ هاهُنا في البلد (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) وأنت ترى أنَّ الإنسان يرى من كَبَدِ الدُنيا ما يرى لأنَّها طُبعت على ذلك
 طُبِعت على كدَرٍ وأنتَ تُريدُها ** صفواً من الأقذاء والأكدار
 ومُكلِّف الأيامِ فوقَ طباعِها ** مُتطلِّبٍ في الماء جذوةَ نارِ
 مُحال أن يكون في الماء جذوة نار مُحال، على هذا حتى تتعزى تعزى برسولك صلى الله عليه وسلم، جعفر ابنُ أبي طالِب ابنُ عمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أشدِّ خلقِ الله شبهاً به (أشبهتَ خلْقي وخُلقي) هاجر إلى الحبشة قبلَ الهِجرةِ إلى المدينة، في أوَّل الدعوة فلنقُل قبلَ الهجرة بثلاث أو أربع سنين مكثَ في الهجرة حتى العام السابع -عامَ خيبر- أي غابَ عن رسولِ الله وهو ابنُ عمِّه إحدى عشرَ عاماً -على الأقل- فلَقِيهُ النبيُ يوم خيبر فقبَّلَ بينَ عينيه وقال: لا أدري بأيِّهِما أُسَر بقُدوم جعفر أم بفتحِ خيبر، كانَ سِنُّه ٤٢ عاماً -هذا جعفر- فدخلوا المدينة زوجٌ لأسماء بنتُ عُميس ولهُ -أي لِجعفر- منها أبناء بعدها مكثوا في المدينة سنةً واحدة بعثَه النبيُ إلى مُؤته فلم يُمتَّع به صلى الله عليه وسلم إلا عاماً أو أقل فاستُشهد مع زيدٍ وعبد الله ابن رواحة فرقيَ صلى الله عليه وسلم المنبر ونعى للناسِ وأخبرهُم في اليومِ الذي ماتوا فيه وعيناهُ تدمع -صلوات الله وسلامه عليه- قال: (أُصيبَ زيدٌ فأخذ الراية جعفر فأُصيب فأخذ الرايةَ عبدُ الله فأُصيب ثمَّ أخذها خالدٌ من غيرِ إمرة ففتح الله عليه) يقول الراوي وإنَّ عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرِفان. فأمهلَ أهل جعفرٍ ثلاثاً لأنَّهُم لهُم وقت يبكون فيه لو دخلَ رسول الله سكتوا فأمهلهُم ثلاثاً بينَ قوسين بالعامِّية ( يأخذون راحتهُم ) بعدَ ثلاث دخل قالَ أينَ أبناءُ أخي؟! فجيءَ بِهم كإنَّهُم أفرُخ فدُعى بالحلاق فحلق رؤوسهُم من بابِ الفأل لعلَّ الله يُغير حالهم فأخذت أُمهم تقُصّ وتقُصّ لأن هي لِتوِّها قادِمة سنة وأصبحوا يتامى ولهُم أحدى عشر سنةً في الغربة في الحبشة فقال: (ألعيلة -يعني الفقر- تخافين عليهم ؟! والله إنِّي لوليُّهم في الدنيا والآخرة) -صلوات الله وسلامه عليه- موضوع الشاهد: هذا مع جعفر ابن عمه.
 مع بناته -صلى الله عليه وسلم- فَقَدَ زينب ورقية وأم كلثوم هذا بعد البعثة، وَفَقَدَ القاسم وعبد الله قيل قبل البعثة وقيل بعدهُما فأصبح ليس له إلا فاطمة، فتسرَّى مارية فحملت ففرح فلمَّا فرح أنجبت فأتى الصحابة قال (ولد لي الليلة غُلام أسميتُه إبراهيم) وجاء في رواية (أنَّ جبريل حيًّاه قال له السلام عليك يا أبا إبراهيم) ومكث يُرضعُه في عوالي المدينة لماذا أُرضع ؟! من شفقة الأنصار بالنبي قالوا إنَّ النبي -عليه السلام- ما أتى هذه الجارية إلا أنَّه يُحبها فحتى يكون لهُ وقت معها خُذوا الصبي وأرضعوه حتى لا يُشغل الصبيُّ أُمه عن رسول الله فأخذوه فكان يعودُه -صلى الله عليه وسلم- وزوجُها كانَ حداداً ينفُخ الكير فأنس صبي يسبِق النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء إلى البيت قال أبا سيف أبا سيف هذا زوج الجارية أقصِر أقصِر، يعني توقف جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتوقف حتى الدُخان لا يملأ البيت والكير، فيأتي -صلى الله عليه وسلم- فيأخُذ الصبي وهو ابنهُ ويُقبِّله ويفرح ويرُده فجاء يوم وإذا بالصبي يخفِق صدره وروحه تُغرغر، مات في يدِه صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه وقال: (إنَّ القلب ليحزن وإنَّ العين لتدمع وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا) هذه كُلها تكفيك في تفسير (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) حتى تعرف حقيقة الدنيا هذا خيرُ الخلق عاش هذه الحياة فلا يُؤمِل بعد ذلك أحد أن يجد أو أن يرى أن تكون الدُنيا مطمعاً كبيراً له إن جاءك من فضل الله فللّٰه الحمد والفضل والمِنَّة.
 قال الله في السورة (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) أمَّا قوله جلَّ شأنه (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) فظاهِرة المعنى، وقوله جل وعلا (وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) فظاهرة المعنى، لكِنَّ الإشْكال في قوله (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال بعض العُلماء: أي الطريقين طريق الخير وطريق الشر واستدَلُّوا بقول الله في فُصلت (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ) وقولِ الله جلَّ وعلا في سورة الإنسان (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) وهذا المعنى صحيح لكِن هل تحتمِلُه الآية هذا هو السؤال؟ 
وقال آخرون: إنَّ المقصود بالنجدين هُنا ثديَيّ أُمّه أو ثديَيّ من تُرضعه ولهُم في ذلك حُجج: الحُجَّة الأولى: السِياق فإنَّ الله يذكُر امتِنانهُ على الإنسان ويقول (عَيْنَيْنِ*وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) ويخرُج الصبيُّ أو الجنينُ من بطنِ أُمه لا يفقه شيئاً لكِنَّ الله يدُله يهديه هداية دلالة إلى أن يعرِف الثديينِ فيطعَمَ منهُما. قالوا ومِن القرآئن أنَّ النجد في اللغةِ: ما ارتفع ويُقال لديارِ بلادِ نجدٍ (نجد) لارتفاعِها، فقالوا لا شك أنَّ الثديينِ مُرتفِعان في الصدرِ بِجلاء لا يرتابُ في هذا أحد وسِياقُ الآيات ليس في سِياقِ الخبر عن الضلالة والهُدى، وعن الإيمانِ والكُفر إنما في سياق المِنَّة  بالجوارح فكأنَّ الله يتكلَّمُ عن مخلوقٍ لتَوُّه وعن مولودٍ لساعتِه وُلِد فلذلك قال الله (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
 ثُمَّ أخبر جل وعلا أنَّ هُناك عقبةً كؤداً ما بينَ العبد وبينَ وصوله إلى أعظمِ الغايات أعظمُها انتِصارُه على شهواتِ نفسه قال (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ) فبدأ بِفكِ الرِقاب والمُراد بفكِ الرِقاب: عِتقُها. ومِنَ الخطأ الشائع في أهلِ عصرِنا أنَّهُم يرونَ أنَّ من أنقذَ من حُكِم عليه بالقصاص أنَّه أعتَقَ أو فكَّ رقبة وهذا غير صحيح هذا عملُ بِر عملُ خير عملُ معروف لكِنَّه لا يُسمى كما سمَّاه الله في القُرآن (فَكُّ رَقَبَةٍ) لا يُسمى ماذا ؟! فكُ رقبة.  فكُ رقبة في القُرآن يُطلق ويُراد به أن يؤتى لمُسلمٍ أو مُسلمةٍ رقيق مملوك، أو رقيقة مملوكة فيُعتِقها وهو من أعظم مقاصِد الشرع.
 ويقولون إنَّ أحدَ خُلفاء المُسلمين في الأندلُس ظَاهَرَ من زوجتِه أو وطِئها في نهارِ رمضان فسأل العُلماء فلمَّا سأل العُلماء أجابهُ مُقدِّمُهم -يعني من قَدَّمه العُلماء- وأظُنه يحيى بنُ يحيى -وإن كانت الجهالةُ في مِثل هذه الحالة- لا تضُر فقال عليك إطعام ستين مسكيناً ولم يقُل لهُ عِتق رقبة، قال لهُ عليك صيامُ شهرين ولم يقُل لهُ عِتق رقبة فلمَّا خرجوا تبِعهُ الناس -العُلماء- قالوا لِمَ لم تقُل لهُ عِتق رقبة قال هذا ملِك يملِك رِقاب لا حصر لها لو قُلت لهُ عِتق رقبة كُلُ يومٍ يطأ زوجتهُ ويعتق رقبة وأنا أُريدُ أن أُؤأدبه. لكِنَّ العُلماء لم يُوافقوه على قوله هذا لأنَّ هذا رأيٌ في مُصادمة النص ومن حَكَمَ بِهذا جلَّ شأنُه يعلمُ أنَّ هُناك مُلوك وهُناك عامة لكِنَّه نسيَ أن عِتق الرِقاب من أعظم مقاصِد الشرع.
 هذه الوقفة الثانية ونفيءُ إن شاء الله إلى الوقفة الثالثة وبِها نختِم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق