الاثنين، 23 يونيو 2014

الحلقــ الثامنة عشرــة / شِرعة ومِنهاجا /



الحمد لله الذي أحسن كل شيء خَلَقه وبدأ خلق الإنسان من طين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين. وبعد:
أيها المباركون عنوان درس هذا المساء المبارك ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُم ْشِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ فيصبح العنوان المُقتضب: شرعة ومنهاجا.
 وليس هذا من باب المضاف والمضاف إليه لكنه غير بعيد عنه، وقد قلت -والمسلمون على شروطهم- إن غالب الدروس تحمل اسم المضاف والمضاف إليه لكننا أحيانا قد نخرج عن هذا الشرط.
 قال رب العزة ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾  ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾ من الذي أنزل؟ الله.
 ﴿إِلَيْكَ﴾ باعتبار نهايته، باعتبار وصول نهايته إلى نبينا ﷺ ونزل هذا الكتاب على نبينا ﷺ بواسطة ملك عظيم هو جبريل، وقد نسب الله في بعض آيه القرآن إلى جبريل قال ربنا ﴿‏‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ وهذه كلها في وصف جبريل.
 ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَاب ﴾ فورد لفظ الكتاب مرتين، قول ربنا ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ الألف واللام للعهد والمراد به القرآن ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَاب المراد به الجنس والمعنى جميع الكتب التي نزلت قبل القرآن سواء كان التوراة أو الإنجيل أو زبور داود أو صحف إبراهيم أو صحف موسى أو غيرها مما لا نعلم من الكتب التي أنزلت على أنبياء الله. فاﻷلف واللام في (الكتاب) الثاني للجنس واﻷلف واللام في (الكتاب) الأول للعهد، أي عهد؟ عهد ذهني ﻷن العهد عهدان عهدان: عهد لفظي وعهد ذهني.
 ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ كلمة (مهيمن) اختلف العلماء فيها ﻷنه لا يعلمون فعلا ثلاثيا مجردا -واﻷصل في اللغة السماع- من اسم الفاعل مهيمن ﻷنه لايوجد في اللغة فعل (هَمَنَ) لا يوجد في اللغة شيء اسمه هَمَنَ، لكنهم يقولون إن هيمن لها أوزان مشابهة لها فيقولون (بيقر) في العربية بمعنى خرج من الحجاز إلى الشام، ويقولون (سيطر) بمعنى قهر ، ويقولون (هينم) بمعنى قرأ أو دعا. لكنهم قالوا بهذا اللفظ الذي جاء منه اسم الفاعل أو تقل صفة مشبهة لم يرِد. لكن المعنى العام:
 ﴿مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ قال بعضهم: عالٍ عليه، وبعضهم قال: حفيظ عليه، وبعضهم قال:مؤتمن عليه. وهي معانٍ قال بها سلف الأمة وهي متقاربة جدا. والمقصود: أنه ما من شيء في الكتب السابقة التي أنزلت على الرسل من قبل نبينا ﷺ إلا والقرآن محتو على مثلها أو على ما هو أعظم منها. هذا الذي ينبغي أن يستقر في اﻷذهان في مثل هذه المعاني.
 ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم﴾ اﻷصل بين المؤمنين لكن اليهود حصل عندهم قضية زنا ثم إنهم أخفوا الحُكم الذي في التوراة وهو الرجم خوفا من أن يرجُموا بعض ساداتهم فقدِموا إلى النبي ﷺ يسألونه رجاء أن النبي -عليه السلام- ﻷنه لن يحكم لهم بالقرآن يواطئهم فغلب على ظنهم أن النبي سيرى أن مصلحة اﻹسلام تقتضي موافقتهم وإرضاءهم ولم يدُر في خَلَدِهم أن النبي لن يقبل هذا وسيقول الحكم الشرعي الذي أنزله الله في كتابه -عز وجل- وعلّمه نبيه وهو الرجم. فلما أتوا أمر الله نبيه أن يحكم بما أنزل الله وقال
 ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ ﴾.
نعود اﻵن إلى مسألة كنا قد عرضنا لها في الدرس السابق وهي قضية أن اﻷحكام الشرعية لا يجوز التغيير فيها رجاء أن تقول رجاء أن يدخل الناس في اﻹسلام فاﻹسلام لا يقبل أن يكون ضعيفا لمُريديه. هذا هو اﻹسلام من يقبله فالمِنّة للإسلام عليه ومن لم يقبله فهو الذي خسر نفسه. هذا هو اﻹسلام من قبِلَه فالمنة للإسلام عليه ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ فالمنّة لله ولرسوله وشرف ﻷي أحد أن يدخل في الدين لكن لا تأتي للدين تزعزع أركانه تقول رجاء أن يدخل الناس فيه. وفَرِّقْ ما بين التعامل واﻷخلاق والتعايش وما بين أحكام اﻹسلام. وقد نبهنا في الدرس الماضي أن التعايش أمر ممكن لكن لا يتعلق بأحكام الشرع أما أحكام الشرع ما أحله الله، ما حرمه الله فلا يمكن أن نتنازل عنها أو نقبل شيئاً من التغيير فيها رجاء أن يدخل الناس في دين الله ﻷنه لو غيّرنا ودخل الناس لا يعتبر أنهم دخلوا في اﻹسلام، دخلوا في الشيء الذي نحن ابتكرناه نحن جعلناه لهم وهذا ليس بدين ولا يمكن ﻷحد كائناً من كان أن يُغير في الدين رجاء أن يدخله الناس لكن عندنا طريق آخر وهو أننا نأتي في اﻷخلاق، في التعامل فنبين الصورة المثلى التي جاء بها اﻹسلام وأعظمها التعايش بين الناس فنقدمها للناس رجاء أن يدخل الناس في دين الله وﻻ نُكلّف أكثر من هذا.ظاهر.
 قال ربنا ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) على اختلاف أهل اللغة فيها، في بيان معناها لكن الذي استقر عليه أهل التفسير ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) سنة وسبيلا. وهذا قاله كبار اﻷئمة من الصحابة كأُبيّ بن كعب وابن عباس وغيرهما -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- والمراد: اﻷصل في اللغة كلمة شريعة تطلق على الماء، الماء الجاري يسمى شريعة. وجه الشبه: سميت المِلّة والدين شريعة من باب كما أن الماء يُطهّر اﻷبدان فإن الدين يطهر القلوب.
 ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ( لِكُلٍّ ) هنا تنوين وهذا التنوين تنوين عوض، عوض عن كلمة وأصل الكلام: لكل أمة جعلنا شرعة ومنهاجا. فالشرائع تختلف والدين واحد. فما من أحكام فقهية وشريعة في التوراة غير الذي في اﻹنجيل وعيسى يقول لبني إسرائيل ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ والشريعة التي في القرآن ليست كلها موافقة لما في التوراة والإنجيل فثمة أشياء تُوسع فيها وثمة أشاء غُيرت، وثمة أشياء حُرِّمت، وثمة أشياء بقيت. فمثلا: كان يجوز لهم الصلوات في مواطن الصلوات -في البيع- والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول (جُعلت لي اﻷرض مسجدا وطهورا) هذا ليس نسخا لكن توسعا، كان اليهود يصلون جهة الصخرة والنصارى تصلي جهة المشرق والله أمر نبيه أن يصلي جهة الكعبة قال ﴿وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْض﴾ لا اليهود تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود. والمقصود: هذا تغيير للشرع الذي كانوا عليه، ويوم الجمعة أضلهم الله عنه وهدى هذه اﻷمة إليه. فالشرائع تختلف لكن الدِّين الذي بُعث به اﻷنبياء واحد.
 ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ قال أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه وأرضاه- "إنه من كان على السنة والسبيل فاقتصد -يعني في دين الله- ثم ذكر الله ففاضت عيناه فإن الله لا يعذبه أبدا" وهذا رواه ابن مالك في الزهد وقال بعض العلماء:ربما كان لهذا الحديث حكم الرفع. والمراد: أن اﻹنسان يكون على سُنة بيّنة واضحة مُقتصدا في عبادته. ورأى علي -رضي الله عنه وأرضاه- رجلا من من الخوارج يقوم يصلي الليل -على ضلالة فكرهم- فقال -رضي الله عنه وأرضاه- "نوم بيقين خير من عبادة على شك" لكن نُعرِّج قليلا في فهم اﻵية وقد بينا ما المقصود في اﻵية.
 يمكن أن يُستل من فهم اﻵية: أن اﻷشياء تختلف بمعنى حتى أنت في حياتك، في سياستك ﻷمور كثيرة في شأنك كل شيء له طريقة فيصعب على العاقل أن يخلط بين هذا وذاك. نأتي بمثال: يقولون إن كسرى -طبعا ملك- بقدر الله مر على المكان الذي يُطهى فيه الطعام له فرأى من أُوكِل إليه إعداد الطعام يذبح الغنم ويسلخها ويعلقها ويفري أوداجها ويصنع بها ما يصنعه الناس ليُعدوا طعاما فلما رأى هذا الحال عاف الطعام وعاف اللحم فأصبح ﻻ يستطيع أن يأكله ﻷنه رآه وهو يُقطع وهو يُسلخ وهو...الخ أشياء لا تخفى. ثم مكث أياماً ﻻ يأكل اللحم فسأل حكيماً ممن يجاوره وأخبره بالخبر. قال: يا أيها الملك الطعام على المائدة -ثم قال كلمة- لا يليق بمثلي أن يقولها ولا يليق بمثلكم أن تسمعوها ولا تقال في المساجد.تقيسها عليها أنت. قال: الطعام على المائدة وذكر شيئاً آخر. والمقصود من كلام الحكيم هذا أن ثمة أشياء لو رأيتها تفصيلا لعفتها إجماﻻ. وثمة أشياء من اﻷفضل أن تكون غائبة عن عينيك وأكمل اﻷشياء أن تأتيك وهي منتهية ﻷنك إن شغلت نفسك بها -لكن اﻷشياء تختلف-. لكنني قصدت من الحديث أن سياستك ﻷحوالك تختلف من حال إلى حال. يقول أحد من يحسن مرافقة الملوك يريد أن ينصح ملكا قال: الناس ثلاثة: خُلّص أحباب، وعامة، -وحاشاكم وعافاكم الله-سفلة -مجرمين، فساق، بذيئين- وﻻ يمكن أن يخرج الناس عن هذا. قال له: عامل الخلص بالمحبة وإﻻ تخسرهم، وعامل عامة الناس بالترغيب والترهيب ﻷنك إذا أعطيتهم الرغبة الكاملة أكلوك، وإن أعطيتهم الرهبة التامة عافوك. فلا يساس العامة إلا بالترغيب والترهيب ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ . بقي السفلة قال: السفلة سوسهم بالسيف، لا ينفع معهم إلا هذا والله يقول ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ ثم قال ﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ معنى ذلك أن البأس الشديد ينفع، ثمة أقوام لا ينفع معهم إلا السيف، إلا السوط، فالناس ثلاثة لكنك إذا جئت أنت لمن يُعينك والخُلّص الذين حولك في الرأي والسفر والترحال وعاملتهم كما تعامل غيرهم بالترغيب والترهيب لم يبقوا أُمناء على سرك ولا معينين لك على أمرك لكن يعاملون بالمحبة والاحتمال، لكن عامة الناس الذين ﻻ تربطهم بك محبة مثل اﻷولين فيعاملون بالترغيب والترهيب أما من -الله لا يبتلينا ولا يبتليكم- من يبتلى بالسفلة من الناس نقول إذا كان حاكما عليه بالسوط والسيف لكن المشكلة إن لم يكن حاكم لا يملك سوطا وﻻ سيفا ﻻ تنازعهم وتغافل عنهم وﻻ تقبل أن تجعلهم خصوما لك وهذا كله يندرج ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ﻻ تقبل أن يكونوا خصوما لك ﻷن ما تملكه أنت من الحياء والكمال والشرف والسؤدد ﻻ يملكه هو فهو ﻻ يبالي ما تقوله أنت فيه وأنت ترقُب -خوفا- ما يقوله فيك فتجنب أمثال هؤلاء ولو خسرت خير من منازعتهم قال أبو تمام:
 إذا جاريت في خُلقٍ دنيئا ** فأنت ومن تجاريه سواء
رأيت الحرّ يجتنب المخازي** ويحميه عن الغدر الوفاء.
 هذه قضية التعامل مع الناس  ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾.
 كذلك فيما تنصح به غيرك فلابد أن تكون النصيحة موافقة لحال من تريد أن تنصحه، من تريد أن تبث الخير فيه من قرابتك، من أبنائك، من أهلك، من ولدك، فالناس يتفاوتون وما يؤمِلون فيه وما يطلبون وﻻ يحسن أن يُساس زيد بما يساس به عمرو، حتى في أبنائك، حتى في بناتك فالعاقل يأخذ من قول الله -جل وعلا- ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ما يمكن أن ينتفع به في تعامله وأخذه وعطائه، وغُدُوِّه ورواحه مع الناس. وكثرة التجارب مُعين عظيم للعقل إذا كان العقل مطبوعا على الخير، كثرت التجارب تُعين اﻹنسان متى يتقدم، متى يتأخر، متى يتعامل. على أنه ينبغي للإنسان في جميع أحواله أن يُراعي مشاعر من حوله وهذه تجعل لك وُدَّا في قلوبهم مهما كان حالك. قال (سبقك بها عكاشة) وهي كلمة لطف خير من أن يقول له لست منهم لكن قال (سبقك بها عكاشة) فاﻹنسان يتخير ألفاظا تجيب عنه دون أن تؤذي سامعها والمُوفق من وفقه الله . وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق