د.أحمد بن محمد البريدي
سميت بذلك لقول الله عز وجل (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) كما سميت بسورة الشريعة لقوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ).
والتسمية تكون بأنواع كما ذكرنا ذلك مراراً كأن تسمى السورة بأول كلمة منها فيقال سورة سبحان ويُقصد بها الإسراء وإن كان هناك تشابه في مطلع السورة فإنه يذكر من السورة ما يميزها بها عن غيرها كما قال الراوي «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر الجمعة (الم (1) تَنْزِيلُ)» قال (الم (1) تَنْزِيلُ) لأنه لو قال (الم) واكتفى فإن (الم) تشترك فيه خمس سور وبالتالي فهو قال (الم (1) تَنْزِيلُ) ليميزها عن بقية ما افتتح بكلمة (الم). ومن أنواع التسمية أن تسمى السورة بذكر قصة فيها أو بذكر كلمة بذكر قصة كما في سورة البقرة فإنها سميت لورود قصة البقرة فيها.
عندنا في سورة الجاثية سميت الجاثية لورود كلمة (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) وكما تسمى سورة الشريعة لأنه قال الله عز وجل فيها (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ) وهذه التسميات منها ما هو ورد النص به عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنه ما هو أثر عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن السور ما يكون لها اسم واحد، ومن السور ما يكون لها أكثر من اسم كالفاتحة لها أكثر من خمس وعشرين اسم.
ومن الأشياء المتعلقة بتسمية السور: أن تسمى أكثر من سورة باسم واحد كأن يقال سور الحواميم وهي المفتتحة كما قلنا بـ (حم)، أو سورة المعوذتين يقصد بها الفلق والناس، الطواسين إلى آخره.
بعض الباحثين تتبع تسمية السور فلاحظ أنها تشتمل على أربعة أصناف:
الصنف الأول يا إخواني أنا دائماً أبدا في مقدمة السورة نعطي فوائد عامة ولا نذكرها يعني نربط بين علوم القرآن وعلم التفسير بما يتعلق بما نحن فيه لأنه نذكر في هذه السورة فائدة ونذكر في هذه السورة فائدة ونذكر من هذه السورة فائدة ليكون أنفع.
فأسماء السور -لوحظ- أن تشتمل على أصناف أربعة:
- الصنف الأول: الظواهر الإنسانية والاجتماعية، وهناك أكثر من ستٍ وعشرين سورة تدخل تحت هذا الصنف مثل سورة التوبة، سورة الأحزاب، الشورى، المُجادِلة أو المُجادَلة، الطلاق، المطففين... إلخ، كل هذه تتعلق بالظواهر الإنسانية أو الاجتماعية.
- الصنف الثاني: الظواهر والآيات الكونية، وهناك أكثر من اثنتين وعشرين سورة مثل الرعد، النور، الدخان، النجم، القمر، البروج، الزلزلة.
- الصنف الثالث: الأقوام والأمم وأسماء الأنبياء، وهي تزيد عن أربع عشرة سورة مثل يونس، هود، يوسف، سبأ، الروم، قريش، الأحقاف.
- الصنف الرابع: أسماء الحيوانات وما يتعلق بها، مثل البقرة، النحل، النمل، العنكبوت، الفيل، الأنعام... إلخ.
محور سورة الجاثية:
ما الذي تدور حوله سورة الجاثية؟ سورة الجاثية كما قلنا سورة مكية ولذلك من الطبعي أن تدور حول حقيقة الإيمان وقضية البعث وأصناف المكذبين كسائر السور المكية.
قال الله عز وجل:
بسم الله الرحمن الرحيم (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)) تقدم الحديث عن مطلع هذه السورة كما في سورة الدخان.
ثم قال سبحانه (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5))
إرشاد من الله سبحانه وتعالى إلى التفكر في آلائه ونِعمه وقدرته العظيمة التي خلق بها السماوات الأرض وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس والدواب والطيور والوحوش والسباع.
كما أمر الله عز وجل أن نتفكر في اختلاف الليل والنهار في تعاقبهما، الليل بظلامه والنهار بضيائه، كما دعنا الله سبحانه وتعالى أن نتفكر فيما أنزل الله من السحاب من المطر في وقت الحاجة وسماه رزقاً لأن به يحصل الرزق وجعله سبباً لحياة الأرض بعد موتها. والحديث عن المطر هنا -أيها الإخوة- وحياة الأرض بعد موتها إنما هو تمهيد لتقرير قضية البعث كما سيأتي في هذه السورة. لاحظوا أنه في بعض السور تفتتح بشيء تعالج القضية الأساسية التي من أجلها سيقت هذه السورة وبالتالي فقوله (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) سيأتينا أنه كالتمهيد أنه كما أحيا هذه الأرض بالمطر فإن الله سبحانه وتعالى قادر أن يحيي هذه الأجساد ويبعثها مرة أخرى.
(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي جنوباً وشمالاً، بحرية وبرية، ليلية ونهارية، منها ما هو للمطر، ومنها ما هو للقاح، ومنها ما هو غذاء الأرواح، ومنها ما هو عقيم لا يُنتج.
لكن ألا تلاحظون شيئاً يا إخواني في هذه الآيات الثلاث؟
هل تلاحظون شيئاً في هذه الآيات الثلاث؟
خاتمتها مختلفة، الآية الأولى ختمت (لِلْمُؤْمِنِينَ) والثانية (يُوقِنُونَ) والثالثة بـ (يَعْقِلُونَ) فما السر؟
قال ابن كثير -رحمه الله-: (لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) ثم (يُوقِنُونَ) ثم (يَعْقِلُونَ) تَرَقٍ من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى. هذا رأي ابن كثير وهو غير بيّن أن نجعل التعقل والعقل أشرف من الإيمان.
لكن أحسن منه كلام ابن عطية -رحمه الله- فإنه قال: "ذكر الله الآيات التي في السماوات والأرض مجملة غير مفصلة فكأنها إحالة على غوامض يثيرها الفكر ويخبر بكثير منها الشرع فلذلك جعلها للمؤمنين" لما كانت هذه الأمور يخبر بكثير منها الشرع جعلها للمؤمنين "إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق، ثم ذكر تعالى خلق البشر والحيوان وكأنه أغمض مما أحال عليه أولاً وأكثر تلخيصاً فجعله للموقنين الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين في معتقداتهم، أما في الآية الثالثة فقد ذكر اختلاف الليل والنهار والعبرة بالمطر والرياح فجعل ذلك (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) إذا كل عاقل يُحصِّل هذه ويفهم قدرها". هذا رأي ابن عطية رحمه الله في اختلاف خواتم هذه الآيات الثلاث.
وقال الأنصاري مُتلمساً حكمة أخرى في ختم هذه الآيات الثلاث مختلفة قال:
"لأنه تعالى لما ذكر العالم ضمناً ولا بد له من صانع - ولو قلنا من خالق لكان أولى - من صانع موصوف بصفات الكمال ومن الإيمان الإيمان بالصانع - ولو قلنا بالخالق لكان أولى هذا من عندي قول ولو قلنا بالخالق لأنه عبّر بلفظ الصانع - ناسب ختم الآية الأولى بالمؤمنين، ولما كان الإنسان أقرب إلى الفهم من غيره وكان فكره في خلقه وخلق الدواب مما يزيده يقيناً في إيمانه ختم الآية الثانية بقوله (يُوقِنُونَ)، ولما كان جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار وما ذُكر معهما مما لا يُدرك إلا بالعقل ناسب ختم الآية بقوله تعالى (يَعْقِلُونَ)" ولذلك العلماء وضعوا قاعدة فقالوا: إن خاتمة الآية تترجم عن معناها، خاتمة الآية غالباً تترجم عن معناها.
ثم قال الله سبحانه وتعالى:
(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)
(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ) أي القرآن بما فيه من حجج وبينات (نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أي متضمنة الحق من الحق فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون قال الله سبحانه وتعالى (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) إذا كانوا لا يؤمنون بهذا القرآن بما فيه من الحجج والبراهين فبالله عليكم بأي شيء يؤمنون؟! فبأي شيء؟ هل هناك شيء أوضح حججاً وبراهيناً من القرآن؟ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ).
ثم قال سبحانه وتعالى متوعداً المكذبين (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) "ويل" كلمة دعاء بالمصائب (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) الأفّاك الكذاب وهو الذي يقع منه الإفك والكذب مرارا، الذي يكذب مراراً ويتكرر يسمى أفاكاً (أَثِيمٍ) مبالغة في الإثم (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) حلاف مهين، أثيم في فعله وقيله.
ثم قال سبحانه لماذا؟ (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ) أي يقرأ (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) أي على كفره واستكباره وجحوده (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا) كأنه ما سمعها. كيف يُصر على كفره وهذا القرآن لو أنزل على جبل (لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)؟!.
يقول الله سبحانه وتعالى (فَبَشِّرْهُ) أي من هذا حاله (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أي موجع.
(وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا) هذا حال شخص آخر، الحال الأول تجاهلها كأنه ما سمعها استكباراً وعناداً. الصنف الثاني من اتخذها هزوا إذا حفظ منها شيئاً استهزاء بها وسخر.(أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) أي في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به (مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ) من ورائهم أي أمامهم جهنم كقوله (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ)، أي كل من اتصف بذلك الذين صدوا واستكبروا وتجاهلوا سماع القرآن كأنهم لا يسمعون أو الذين اتخذوه سخرية واستهزاء هؤلاء كلهم (مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا) أي لا تنفعهم الأموال ولا تنفعهم الأولاد ولا الُملك ولا الرئاسات (وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ) إشارة إلى الأصنام أي تلك الآلهة التي عبدوها لن تنفعهم كذلك.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) العذاب وصف في الآية الأولى بأليم وفي الآية الثانية بمُهين وفي الآية الثالثة عظيم كل ذلك تعظيماً وصفاتاً للعذاب وتعظيماً لهذا العذاب فهو أليمٌ ومهينٌ وعظيم فكما اختلفت أصنافهم اختلف العذاب عليهم.
ثم قال سبحانه وتعالى (هَذَا هُدًى) أي القرآن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي مؤلم وموجع.
ثم قال سبحانه وتعالى (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تذكير من رب العباد لعباده فيما سخر لهم من البحر وجريان الفلك فيه، ولابتغائهم من فضله في المتاجر والمكاسب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم والآفاق القاصية، فإن الله قد جمع لكم بين خيري البر والبحر فهذا أجدى أن تشكروه.
ثم قال سبحانه (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) ما في السماوات وما في الأرض من الكواكب والجبال والبحار والأنهار وغير ذلك (جَمِيعًا مِنْهُ) أي من عنده سبحانه وتعالى لا شريك له، وهذه من الآيات التي استُدل بها على أن الأصل في الأشياء الإباحة لأن الله عز وجل سخر كل شيء للناس جميعاً منه سبحانه وتعالى كما قال سبحانه (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53].
ثم قال سبحانه وتعالى (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)
(لَا يَرْجُونَ) قيل لا يخافون، وقيل هي على بابها لا يرجون، (أَيَّامَ اللَّهِ) وقائع الله، وقيل عذاب الله للأمم السابقة، وإذا قلنا عذاب الله فالرجاء هنا بمعنى الخوف وإذا قلنا وقائع الله فالرجاء هنا على بابه.
(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) دعوة للصفح ولتحمل الأذى وكان ذلك في ابتداء الإسلام أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وهذه الآية من الآيات التي سُلطت عليها آية السيف بالنسخ فقالوا: إنها آية منسوخة، ولذلك ابن عطية -رحمه الله- لما ساق الخلاف في نسخها وإحكامها هذه دعوة ليست للمجادلة ولا للجهاد أمرهم الله أن يغفروا للذين لا يرجون أيام الله وبالتالي فبعض أهل العلم قال أنها منسوخة بآيات الجهاد. ابن عطية -رحمه الله- لما ساق الخلاف في النسخ والإحكام قال: "والآية تتضمن الغفران عموما فينبغي أن يقال إن الأمور العظام كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك قد نُسخ غفرانه بآية السيف والجزية وما أحكمه الشرع لا محالة، وأن الأمور المحقّرة كالجفاء ونحو ذلك يحتمل أن يبقى مُحكماً وأن يكون العفو عنها أقرب للتقوى" وهذه الآية من الآيات التي استثناءها بعض العلماء من مكيتها فقالوا إنها نزلت في المدينة وسبب ذلك أنه لما نزل قول الله عز وجل (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) قالوا إن الله فقير، ربنا يطلب الصدقة، يطلب القرض قال ذلك أحد المنافقين فاستل عمر -رضي الله تبارك وتعالى عنه- سيفه ليقتله فنزلت هذه الآية. قال بعض أهل العلم: أنها مدنية بهذا السبب. فإن صح هذا السبب صححنا الاستثناء وإلا يا إخواني القاعدة أن الأصل أن السورة مكية كلها مكية وأن السورة المدنية كلها مدنية ولم يصح من الاستثناء إلا آيات قليلة.
(لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (لِيَجْزِيَ قَوْمًا) من المراد بالقوم هنا؟
- قيل القوم المؤمنين أي ليجزيهم الله عن صبرهم عن أذية الكافرين لهم يوم القيامة
- وقيل القوم الكفار ليجزيهم بما عملوا من سيئات
والأول أولى أي تفسير القوم بالمؤمنين أولى من تفسيرها بالكافرين والمعنى على تفسيرها بالمؤمنين أي يجزيهم عن صبرهم عن أذية الكفار لهم يوم القيامة والجزاء من جنس العمل.
ثم قال سبحانه (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)
مناسبة الآية لما قبلها: أنه لما قررت الآية السابقة أن الله يجزي قوماً بكسبهم ويعاقبهم على ذنوبهم أكد ذلك بقوله (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ) فهذه الآية تأكيد لما قرر في الآية التي قبلها. (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي تعودون إليه يوم القيامة فتُعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) الكتاب التوراة، والحكم هو: السنة والفقه إذ يقال لم يتسع فقه الأحكام على لسان نبي ما اتسع على لسان موسى عليه السلام. والنبوة هي: ما تكرر فيهم من الأنبياء من يوسف عليه السلام إلى عيسى عليه السلام فقد آتى الله عز وجل بني إسرائيل هذه الأمور الثلاث الكتاب والحكم والنبوة. (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) في المآكل والمشارب (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي في زمانهم، وقد تقدم ذكر أمثلة لذلك في سورة الدخان.
(وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي حججاً وبراهين وأدلة قاطعات فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا من بعد ذلك من بعد قيام الحجة (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) قال ابن القيم -رحمه الله-: "أخبر سبحانه أن المختلفين لم يختلفوا لخفاء العلم الذي جاءت به الرسل عليهم السلام وإنما اختلفوا بعد مجيء العلم وهذا كثير في القرآن" أي دائماً اختلافهم هل هو قبل مجيء العلم وإلا بعده؟ بعده، بعد قيام الحجة.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي سيفصل بينهم بحكمه العدل. وهذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم أو أن تقصد منهجهم هو عَرَّضَ بذكر الأمة السابقة تحذيراً للأمة الحاضرة.
ثم قال سبحانه (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ) الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم (عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا) أي اتبع ما أوحي إليك من ربك. وشريعة الأمر: يحتمل أن يكون واحد الأمور أي دين الله ونبوته (شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي جعلناك على دين واحد، ويحتمل أن يكون مصدراً من أمر يأمر أي على شريعة من الأوامر والنواهي فسمى ذلك كله أمراً، والشريعة في اللغة: المذهب والملة. وفي الاصطلاح: ما شرعه الله سبحانه و تعالى لعباده من الدين. والجمع شرائع ولا خلاف أن الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح متفقة شرائع الانبياء متفقة في هذه الأمور لكنها مختلفة في الفروع.
(شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) قال ابن العربي -رحمه الله-: "والأمر يرد في اللغة بمعنيين: أحدهما بمعنى الشأن والثاني أحد أقسام الكلام الذي يقابله النهي". يقول ابن العربي: "وكلاهما صحيح أن يكون مراداً هنا".
(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) قال ابن القيم -رحمه الله-: "قسّم الأمر بين الشريعة التي جعلها سبحانه وتعالى عليه وأوحى إليه العمل بها وأمر الأمة بها وبين اتباع أهواء الذين لا يعلمون فأمر بالأول ونهى عن الثاني أي اتبع الشريعة ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي ماذا تغنى ولاية الظالم للظالم إلا خزياً وبواراً فلا تغني عنهم شيئا (وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) كما قال الله سبحانه وتعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) [البقرة:257] .
ثم قال سبحانه وتعالى (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ) البصائر: جمع بصيرة وهي المعتقد الوثيق في الشيء كأنه مصدر إبصار القلب (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ) أي هذا القرآن (بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وهذا يؤكد ما ذكره الله عز وجل في الآية السابقة (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) فهذا القرآن بصائر وهو الذي يهدي لهذه الأمور ففيه الأوامر والنواهي وفيه الهدى والرحمة لكن لمن؟ (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بهذا الكلام، يعتقدون صدقه، يعملون به، يعرفون ما أخبره به القرآن، وما أمر به القرآن فيمتثلون، وينظرون إلى ما نهى عنه فيجتنبوا عنه. إلى هنا ننتهي من المجلس الأول من مجالس تفسير سورة الجاثية.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المجلس الثاني
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)).
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
يقول الله سبحانه وتعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا) الاجتراح هو: الاكتساب ومنه الجوارح (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) أي عملوا السيئات واكتسبوها (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً) أي ليسوا سواء ولا يمكن أن نجعل من عمل الصالحات وامتثل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كمن اجترح السيئات فهم ليسوا سواء لا في حياتهم ولا بعد مماتهم فلا نساوي بينهم لا في الدنيا ولا في الآخرة. وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى وعدله، قال ابن عطية عند قوله تعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) "هذه الآية متناولة بلفظها حال العصاة من حال التقوى أي لا نجعل الكافرين كالمؤمنين ولا نجعل المطيعين كالعاصين ولا نجعل المتقين كالفجار" ولذلك هذه الآية يسميها السلف [مبكاة العابدين] وكانوا إذا قرأوها في ليلة، أُثِر عن جمْع من السلف أنهم إذا قرأوها في ليلة يرددونها حتى يصبحون، وهذه جديرة يا إخواني بالتأمل فإنها داعية للنفس باختيار الطريق الصحيح أي فلا يغرك هؤلاء أهل الشقاوة وأهل المعصية ما فيهم من النعيم فإن العبرة بالنعيم المقيم الباقي ولذلك يقول الله عز وجل (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) أي ساء ما ظنوا بنا وظنوا بعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار.
ثم قال سبحانه وتعالى (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي بالعدل (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أي الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض بعدله وبعدله قامت السماوات والأرض فلا يمكن أن يساوي بين المُتقي والفاجر، لا يمكن أن يساوي في عدل الله سبحانه وتعالى وفي حكمه وبعدله قامت السماوات والأرض أن يساوى بين أهل الإسلام وأهل الكفر، بين أهل الصلاح وأهل الفساد (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [ القلم:36].
ثم قال الله سبحانه وتعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) أي إنما يأتمر بهواه، فمهما رآه حسناً فعله، ومهما رآه قبيحاً تركه، وعن الإمام مالك -رحمه الله- أنه قال: "لا يهوى شيئاً إلا عبده". وقال وهب بن منبه: "إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأتهِ". وقال الشاعر:
إذا أنت لم تَعْصِ الهوى قادَكَ ** الهوى إلى كل ما فيه عليك مقالُ
إذاً (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) قال ابن عطية: "وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر فهي متناولة لجميع النفس الأمارة فليست خاصة في هوى الكفر". وقيل هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك". (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) تحتمل معنيين:
أحدهما: وأضله الله لعلمه أنه يستحق الإضلال.
والآخر: وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه. وهذا يستلزم الأول ويعود إليه.
ثم قال سبحانه وتعالى (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) في سورة البقرة (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم الواو هنا عاطفة (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) الواو هنا استئنافية قال العلماء: إنها استئنافية بدليل آية الجاثية هنا لأن الله عز وجل قال (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) ثم قال (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) وهذا من أوجه تفسير القرآن بالقرآن، أي فلا يسمع ما ينفعه ولا يعي شيئاً يهتدي به ولا يرى حجة يستضيء بها ولهذا قال (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) أي إذا أضله الله فمن يهديه؟ نسأل الله الهداية والثبات عليها.
(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) كقوله تعالى (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [ الأعراف:186] هذه الآية يقول العلماء: إن فيها تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم حينما أعرض عنه كفار قريش فإن الله سبحانه وتعالى أخبره أنه (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ) أن من أراد الله إضلاله فلن تستطيع هدايته يا محمد (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص:56] وقد جاء في الحديث الحسن «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله».
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) هؤلاء هم الدهرية الذين يرون أن الدهر يعني أنه لا بعث خلاصة هذا أنه لا بعث. وبدأت الآن السورة تناقش هذه القضية كما قلت لكم في بداية السورة عندما قال (فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) رداً على هؤلاء المنكرين للبعث أي ما هذه الدار أو ما ثَمّ إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون هذا تفسير معنى (نَمُوتُ وَنَحْيَا) قالوا نموت ونحيا أي يموت بعضنا ويعيش بعضنا الآخر ثم هؤلاء الذين عاشوا يموتون ويحيا قوم آخرون هذا أحد الأقوال في تفسير قوله تعالى (نَمُوتُ وَنَحْيَا).
والقول الثاني: نحن موتى قبل أن نوجد ثم نحيا وقت وجودنا أي كنا سابقاً لا شيء ثم حيينا الآن.
القول الثالث في معنى قولهم (نَمُوتُ وَنَحْيَا): أي نموت حين نحن نطفة ثم نحيا بالأرواح فينا.
القول الرابع: نحيا ونموت فوقع في اللفظ تقديم وتأخير أي ما هذه الحياة الدنيا إلا حياة وموت قالوا أن فيها تقديم وتأخير قدم الموت على الحياة.
وخلاصة هذه الأقوال الأربعة سواء الذين قالوا هذه أو تلك خلاصتها أنهم ينكرون البعث والمعاد إلى الله سبحانه وتعالى. ولذلك الفلاسفة الدهرية يقولون أن كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه. وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا نهاية لها، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول ولذلك قالوا (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) هنا يا إخواني ختم الآية بقوله تعالى (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) وفي سورة الزخرف مرت عليكم (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) لماذا ختمت تلك بـ (يَخْرُصُونَ) في سورة الزخرف وهنا ختمت بـ (يَظُنُّونَ)؟ لكن لماذا ختمت قال (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) في الجاثية وقال هناك (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) فالظن غير الخرص وإلا لا؟ العلماء قالوا: في سورة الجاثية هناك خلط بين الصدق والكذب ولذلك ختمها بقوله (يَظُنُّونَ) أما في سورة الزخرف فهو متصل بقوله تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) وهذا كذب حسب لم يختلط به شيء ولذلك قال (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).
(وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) جاء في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب ليله ونهاره» وفي رواية «لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر» وكانت العرب في جاهليتهم إذا أصابتهم شدة أو بلاء قالوا: يا خيبة الدهر. فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعل ذلك هو الله سبحانه وتعالى فكأنهم إنما سبوا الله سبحانه وتعالى، فلذلك نهي عن سب الدهر بهذا الاعتبار لأن الله هو الدهر الذي يعنونه وليس من أسماء الله عز وجل الدهر كما غلط بذلك ابن حزم -عليه رحمة الله- فإنه جعل من أسماء الله الدهر أخذاً من هذا الحديث (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) قال أنه: وما يهلكنا إلا الله.
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ)، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ) الضمير يعود إلى كفار قريش والآيات هي آيات القرآن أي إذا استدل عليهم وبيّن لهم الحق، وأن الله قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) بالله عليكم هذه حجة وقد قررنا أن المعاد إنما يكون يوم القيامة لا يوم الدنيا مثل لو قلت لطلابك اجتهدوا حتى تنجحوا ولا ترسبوا ترى الذي يهمل تراه بيرسب قال أنا راسب الآن؟ ما بعد أتى وقت الامتحان الذي وُقِّت بوقت لم يأتي بعد! ولذلك قولهم (ائْتُوا بِآبَائِنَا) الله سبحانه وتعالى قادر على أن يُحيي آباءهم وقد جعل نبيه عيسى عليه السلام من آياته أنه يحيي الموتى لكن الإحياء العام الذي يحيا به الناس كلهم وقته متى؟ وقته يوم القيامة، وإلا أفراد الإحياء حصلت في هذه الدنيا في سورة البقرة خمس مواضع من الإحياء بعد الإماتة لكن هذه أفراد أما الإحياء العام وهو البعث والمعاد إلى الله عز وجل فمحله ووقته يوم القيامة (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) أي (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ) أي كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود فأنتم لا شيء قبل أن تكونوا شيئا (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) [الإنسان:1] كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي هذا الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى فإن الذي خلقكم من عدم وجعل لكم السمع والأبصار قادر على بعثكم بعد موتكم كما قال سبحانه (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [ الروم:27].
(ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك فيه أن يجمعكم ليوم القيامة فالإعادة محلها يوم القيامة لا يوم الدنيا كما قال سبحانه وتعالى في سورة التغابن (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وقال في سورة أخرى (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)) [المرسلات] ، (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) [هود:104] وقال هنا (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك فيه فهذا هو محل الجمع لا هذه الدنيا حتى تطالبون ببعث آبائكم لتؤمنوا (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) فلهذا ينكرون المعاد ويستبعدون قيام الأجساد. قال الله سبحانه وتعالى (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)) [المعارج] لأن كل ما هو آتٍ قريب.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) يخبر سبحانه وتعالى أنه مالك السماوات والأرض والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة ولهذا قال (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي يوم القيامة (يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) أي الكافرون الجاحدون بما أنزله الله سبحانه وتعالى على رسله بهذه الحقائق العظيمة المتقررة الواضحة، قال ابن أبي حاتم: "قَدِم سفيان الثوري المدينة فسمع الغاضري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس، فقال له: يا شيخ أما علمت أن لله يوماً يخسر فيه المبطلون، قال: فما زالت تُعرف في الغاضري حتى لحق بالله عز وجل" أثّرت فيه هذه الآية. (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ) الأمة هي: الجماعة العظيمة من الناس التي قد جمعها معنى أو وصف شامل لها (جَاثِيَةً) أي على ركبها من الشدة والعظمة، ويقال: إن هذا إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا على ركبتيه حتى إبراهيم الخليل يقول: نفسي، نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي، وكذا يقول عيسى وبقية الأنبياء.
قال الحسن البصري: (كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) أي على الركب.
وقال عكرمة: (جَاثِيَةً) متميزة على ناحيتها، وليس على الركب. والأول أولى.
وظاهر الآية أن هذه الصفة يا إخواني تكون لكل أمة من الأمم من غير فرق بين أهل الأديان فكل أمة تكون جاثية على ركبتها سواء تلك الأمم المتبعين للرسل أو غيرهم من أهل الشرك. وخالف في ذلك يحيى بن سلام فقال: إن الجثو خاص بالكفار فقط والصحيح: شمول ذلك للمؤمنين والكافرين لأن هذا يوم القيامة هذا من مشاهد يوم القيامة.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) أي إلى كتاب أعمالها، كل أمة تدعى إلى كتاب أعمالها أي الذي كُتب عليها من أعمال. وقيل: كتابها المنزل عليها فتحاكم إليه هل وافقته أم لا؟ إذاً الكتاب المراد به إما كتاب الأعمال وإما، ما رأيكم يا إخواني أيهما أصح؟ كتاب الأعمال. لماذا؟ لأنه ليس لكل أمة كتاب، ليس لكل أمة أنزل عليهم كتاب وبالتالي فالصحيح أن المراد بكتابها أي كتاب؟ بكتاب أعمالها، يشمل هذا وهذا الأمة تؤتى بكتاب أعمالها، كل أمة بني إسرائيل، قوم عاد، يأتون بكتاب وبكتب أعمالهم كقوله تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ) [ الزمر:69].
(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حتى خاتمة الآية تشير إلى أن الكتاب كتاب الأعمال قال (تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تجازون بأعمالكم خيرها وشرها كما قال الله سبحانه وتعالى (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [ القيامة:13].
ثم قال الله سبحانه وتعالى (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) كتابنا قيل أنه هو اللوح المحفوظ، أي هذا كتابنا أي اللوح المحفوظ يطابق ما كتب عليكم من أعمال، الذي كتبته الحفظة -الملائكة-. وقيل: المراد (هَذَا كِتَابُنَا) أي ما كتبته الحفظة.
وأضاف الله سبحانه وتعالى الكتاب إلى الأمة في الأولى قال (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) وهنا أضافه سبحانه وتعالى إلى نفسه فقال (هَذَا كِتَابُنَا) لأن الإضافة تحصل بأدنى ملابسة فإضافته إلى الأمة لكون أعمالهم مثبتة فيه، وإضافته إلى الله لكونه مالكه وأمر ملائكته بكتابته، واضح يا إخواني المسألة. إذا قلنا إن (هَذَا كِتَابُنَا) هو اللوح المحفوظ هل هناك إشكال في الإضافة؟ فهذا كتابنا أي اللوح المحفوظ يُصدق ما جاء بكتابتكم وما كتبته الحفظة، لكن إذا قلنا أن قول الله عز وجل (هَذَا كِتَابُنَا) المراد به كتاب الأعمال فهنا يظهر عندنا إشكال وإلا لا؟ وهو إضافته إلى الله. وقبل قليل أضافه إلى من؟ إلى الأمم وعرفنا الجواب وإلا لا؟ ما هو الجواب؟ لأن الإضافة تكون بأدنى ملابسة فأضافه إلى الأمم لأنهم هم الذين عملوه وأضيف إلى الله سبحانه وتعالى لأنه هو الذي أمر الملائكة بكتابته. واضح يا إخواني الفرق بين الإضافتين هنا؟ وهذا على قول من قال إذا كان على اللوح المحفوظ لا إشكال في الإضافة وإلا لا؟ لكن إذا كان المراد في قوله تعالى (هَذَا كِتَابُنَا) أي كتاب الأعمال فالجواب ما سمعتم.
(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النسخ هنا بمعنى الكتابة أي نكتب ما كنتم تعملون والنسخ هو الكتابة من أصل مكتوب فيكتب مرة أخرى، قال الواحدي: "أكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم فيجدون ذلك مطابقاً وموافقاً لما كانوا يعملون، لأن الله سبحانه وتعالى قدر المقادير من قبل أن يخلق السماوات والأرض.
(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي الملائكة ينسخون ما كانوا يعملونه من اللوح المحفوظ فيكون مطابقاً لأعمالهم. قال ابن عباس: في قوله تعالى (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) "تكتب الملائكة أعمال العباد، ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيديهم مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر مما كتبه الله في القِدَم على العباد قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً ثم قرأ (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)".
ثم قال الله سبحانه وتعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)) ذكر الله حال الطائفتين من المؤمنين والكافرين وفرق بينهما في الذكر ليتبين الأمر في نفس السامع فإن الأشياء تتبين بذكر أضدادها معها والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء وقلنا أن القرآن مثاني فإذا ذكر أهل الإيمان ذكر أهل الكفر وإذا ذكر جزاء الإيمان ذكر جزاء الكافرين.
قال الله سبحانه وتعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) أي آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة فبمجرد الإيمان وهو التصديق وهذا يشهد لقول أهل السنة والجماعة فإن الإيمان عندهم قولٌ وعمل وعملت جوارحهم الأعمال الخالصة الصالحة الموافقة لشرع الله عز وجل، (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) ورحمته الجنة، كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة: «أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء».
(ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي البيّن الواضح. والفوز هو نيل البغية. أي ذلك الفوز الواضح الجليّ الذي ليس بعده فوز كما يخبر في آيات سابقة بالفوز العظيم كلها صفات بفوز المؤمنين يوم القيامة بالجنة فهو مبين واضح، يراه كل أحد، كما أنه عظيم لأنه لا بؤس بعده، نعيم دائم.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ويقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخا (أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ) يعني يقال لهم هذا متى؟ يوم القيامة عندما يروا نعيم الله عز وجل لأهل السعادة كأنهم يقولون ونحن لماذا لا نكون مثلهم؟ وفي هذا (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) كأنهم قالوا ولم لا ندخل مثلهم؟ قال الله عز وجل (أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ) أما قُرأت عليكم آيات الرحمن فاستكبرتم عن اتباعها وأعرضتم عند سماعها وكنتم بذلك (قَوْمًا مُجْرِمِينَ) أي في أفعالكم مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب؟ فهو في غاية الإجرام أن تتلى عليكم آيات الرحمن فتستكبرون وتصدون وقلنا أن لهم حالتين عندما يسمعون آيات الله تتلى عليهم اربطوا بين هذا وبين ما ذكره الله عز وجل في أول السورة:
الحالة الأولى: كأنه لم يسمعها، يصر مستكبراً كأنه لم يسمعها، يتجاهلها تماماً.
الحالة الثانية: أن يسخر بها ويستهزئ وهنا أتى الجزاء (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ) فاستكبرتم عن اتباعها واستكبرتم عن سماعها واستكبرتم وذلك باستهزائكم بها (وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ).
(وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) كنا نقول لكم سيأتي اليوم الذي سيجازى به المؤمن وسيجازى به الكافر (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا) أي لا شك فيها (قُلْتُمْ) استكباراً واستهزاءً واستبعاداً (مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) ما نعرف الساعة، إيش الساعة هذه؟ (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع. (قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي لا نعرفها (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) سبحان الله شوفوا استكبارهم ما اكتفوا قالوا (مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) قالوا (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) أي نتوقع وقوعها يعني نتوهم أن وقوعها شيء مرجوح مظنون نسبة وقوعها قليلة عندنا ليست بينة ليست واضحة وهذا هو الفرق بين أهل الصلاح وأهل الفساد فإنهم لا يؤمنون بالساعة. لا يمكن لأحد يا إخوان أن يؤمن بالبعث وأن هناك جنة ونار ويعمل غير ذلك يا إخواني ولذلك من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، لأن الذي لا يؤمن باليوم الآخر يا إخواني كيف يعمل؟ ولذلك هؤلاء قالوا (مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) ما نحن بمتحققين من وقوع الساعة، يتكلمون هم الآن متى؟ بعد وقوع الساعة يا إخواني.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) أي وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة (وَحَاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أي من العذاب والنكال، وكانوا يستهزئون بآيات الله ومنها هذه الآيات، هذه الآيات متى نزلت يا إخواني؟ هذا التصوير القرآني يصور حالهم يوم القيامة متى نزل؟ ألم يسمعه كفار قريش؟ هم سمعوا هذا لكن مشكلتهم إما أنهم استكبروا فكأنهم لم يسمعوها أو استهزأوا بها قالوا هذا الذي يعدنا محمد بالساعة هذا كذب، هذا هراء والقرآن يتكلم ويؤكد على هذه القضية فهم علموا واستمعوا لحالهم قبل موتهم وأن هذا مصيرهم وسيكون هذا الحوار وسيقولون هذا الكلام يوم القيامة ومع ذلك، شوف هذه السورة كلها (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) هل قريش ضلت على علم وإلا على غير علم؟ ضلت على علم فإنهم ما ضلوا إلا بعدما نزل القرآن وكان القرآن ينذرهم بكرة وعشيا كما أن بني إسرائيل ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ولذلك قال الله عز وجل (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ) أي نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم، لماذا؟ (كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) والجزاء من جنس العمل، أي فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به، وقال ابن عطية: "معناه يترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا فلم يقع منكم استعداد له ولا تأهبتم" فسميت العقوبة في هذه الآية باسم الذنب.
(وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: «ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل؟ فيقول: بلى يا رب. فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول الله تعالى: فاليوم أنساك كما نسيتني» وهذا من تفسير القرآن بالسنة.
ثم قال الله سبحانه وتعالى (ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) أي إنما جزيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا، تسخرون وتستهزئون بها (وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أي خدعتكم فأصبحتم من الخاسرين (فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا) أي من النار (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم العتبى ولا الاعتذار ولا مجال أصلاً للاستعتاب، ولا أنهم قالوا (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا) ولا أي شيء، فاليوم (نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) السبب (ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) كما قال في آية (يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا) والحال (وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا) فبين هذه الآية ترابط وثيق في أولها وآخرها وهي تحكي قضية واحدة وواقعة واحدة لكفار قريش. المأوى لما قال الله عز وجل (وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ) الموضع الذي يسكنه الإنسان ويكون فيه عامة أوقاته كلها أجمع.
ثم لما ذكر سبحانه وتعالى حكمه في المؤمنين والكافرين ذكر أهل الإيمان وعملهم وجزاءهم وذكر كذلك أهل الكفر قال (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) أي المالك لهما وما فيهما (رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعني السلطان وهو العظيم الممجد الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه وفي الصحيح «أن الله عز وجل يقول: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري».
ثم ختم السورة بقوله (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يُغالب ولا يُمانع (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره، تعالى وتقدس، وكما افتتحت السورة بقوله (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ختمها بقوله سبحانه وتعالى (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فأول هذه السورة وآخرها متفق. قال ابن عطية: "قوله (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) إلى آخر السورة تحميد له تعالى وتحقيق لألوهيته، وفي ذلك كسر لأمر الأصنام والأنصاب".
وبهذا نكون قد انتهينا من تفسير سورة الجاثية وفي المجلس القادم بمشيئة الله تبارك وتعالى بعد صلاة المغرب نبدأ في سورة الأحقاف، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق