الثلاثاء، 3 يونيو 2014

الحلقـ السابعة عشر ــة / الآية (٤١) من سورة الأنفال


الحمد لله على فضله والصلاة على أشرف رسله وخير خلقه وبعد:
 فالآية التب سنتدارسها في هذا اللقاء المبارك من دروسنا في تفسير القرآن العظيم هي قول الله -جل وعلا- (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) .
الآية ظاهرة أنها من الأنفال وهي تتحدث عن غزوة بدر، وغزوة بدر ذائعة شهيرة لا تحتاج إلى تفصيل خطاب لكن -كما قلت- منهجنا في التفسير حلّ الإشكالات والاستطراد التاريخي والمعرفي.
أول ما يستنبطه المؤمن من وقعة بدر: حقيقة أن المُلك لله، وأن الله -جل وعلا- قد يُغيب الشيء عن بعض خلقه وهو بين عينيه. فإنه قبل أن تقع المعركة رأت عاتكة -وهي أخت العباس عمة النبي - رأت في منامها أن رجلا يأتي وفي دابته ما فيها خلاف المعهود وأنه يُنادي في أهل مكة: يا آل غُدر قوموا إلى مصارعكم بعد ثلاث. وقال هاهنا وهاهنا في الرؤيا في أماكن تعرفها من مكة، ثم رأت صخرة من جبل أبي قُبيس تنزل ثم تتفرق على كل بيت من بيوت مكة ولا يبقى بيت إلا ودخلها منه شيء. فأفجعتها الرؤيا فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فأخبرته الرؤيا فقال لها: والله إنها رؤيا، يعني ليست أضغاث لكن اكتميها. فكتمتها. 
قدرُ الله كان الوليد بن عتبة صديقا مُقربا للعباس فقصّ العباس عليه رؤيا أخته، فقصّها الوليد على غيره. وثِق تماما أن لكل حبيب مُحب، فأنت قد يكون هذا قريب منك، صديق لك لكن هو له أحباب فأنت لو أعطيته خبرك، سِرك، على أنه صديقك وقريبك هو له أصدقاء سيقول لهم بمقتضى ما أنت قلت له. وقد قيل: 
كل سِرٍ جاوز الإثنين شاع ** وكل علم ليس في القرطاس ضاع
أما الثانية لا نقبلها، الله يقول (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ليس في القراطيس. 
نعود فنقول: فقصّها العباس على الوليد، فقصّها الوليد على غيره، شاع الأمر في مكة. لما شاع الأمر في مكة خرج العباس يطوف بالبيت -وكانوا يطوفون حتى قبل الإسلام- فقال أبو جهل يا أبا الفضل -هذه كنية أبي العباس- إذا فرغت من طوافك ائتنا، قال: فلما أتيته أخبرني بالرؤيا. فأنكرها العباس ولم يجد بُدا من أن يُنكرها. فقال أبو جهل: يا بني عبد المطلب أما يكفيكم أن يتنبأ رجالكم -الآن يلمِز- حتى تتنبأ نساؤكم؟! إنها تقول بعد ثلاث، والله لنصبرن عليكم ثلاثة أيام إن لم يقع ما رأت أختك لنتكتبن عليكم كتابا أنكم يا بني عبد المطلب أكذب العرب. فرجع العباس دون أن يرد على أبي جهل. لما رجع ما بقيت امرأة من بني عبد المطلب إلا وجاءته تلومه على ضعفه وعلى عجزه وأنه لم يرُد على أبي جهل، فغضب ووعدهم أنه سيرُد عليه. مضت ثلاثة أيام، دخل العباس المسجد، طاف بالبيت وتوجه إلى أبي جهل وكان أبو جهل خفيف -يعني لا يحمل لحما- حاد النظر، حاد الوجه، وأبو جهل دخل دار الندوة من اعتداد قريش به وشاربه لم يطل، فيقول أقبلت عليه أريد أن أفتح معه الأمر حتى ينتقم لنساء بني عبد المطلب. قال: فبينما أنا مُقبل عليه وهو مُقبل عليّ إذا بضمضم الغفاري يدخل مكة وقد جدع أنف جمله وحوّل رحله وشقّ قميصه وهو ينادي يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة عِيرُكم مع أبي سفيان أدركها محمد وصحبه لا أرى أن تُدركوها الغوث الغوث. -هي نفس الرؤيا- وأبو جهل يسمع والعباس يسمع وقريش تسمع، وقريش كلها علِمت بالرؤيا لكن أحد منهم لم يدُر في خلده أنها الرؤيا وإلا في الرؤيا قوموا إلى مصارعكم. حتى تعلم أن الله إذا أراد شيئا أمضاه بل إنه -جل وعلا- يسُلّ عقل العاقل كالشعرة ثم يمضي أمر الله ثم يرد له عقله فيقول بعد وقوع الأمر أين كان عقلي، ولا يُنجي حذر من قدر لكن ذلك لا يمنع الأخذ بالأسباب.
يقول لما نادى انتهى الحديث ما بيني وبينه فبدأت قريش تخرج إلى بدر، هذا توطئة، نحن في الآية. الله يقول لنبيه (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) قلنا قبل دروس مضت أن القرآن من الخطأ أن تفهمه من آية.
الله يقول في سورة آل عمران (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ) قال بعدها ماذا؟ (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) وهذا يُخالف قول الله هنا (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) والجمع بينهما: لما التقى الفريقان أصبح القرشيون يرون المسلمين قليلا جدا حتى قال أبو جهل "إنما هم أكلة جزور خذوهم أخذا واربطوهم بالحبال" والصحابة يرون القرسيين قليلين حتى كان ابن مسعود يقول لمن بجواره أتراهم سبعين؟ قال أظنهم مئة. وهذا قدرُ الله حتى ينشط المؤمنون للقتال ويرون عدوهم يسيرا، وهؤلاء ينشطون لقتال المؤمنين يُقابلوهم ويضعُفون، يعني عندما يرونهم قليلين لا يكون هناك قوة ولا عزيمة ولا أخذ الأمر بجدية أكبر كما يقول أبو جهل اربطوهم بالحبال، فلما بدأت المعركة جعل الله -جل وعلا- المؤمنين في عيون أهل الكفر أضعافا مضاعفة، يرونهم ألفين لأن القرشيين كانوا ألفا والله يقول (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) فيرونهم ألفين فهذا ثبّط العزائم لأنهم دخلوا المعركة، أتوا إلى الأرض على أنهم عدد قليل لكن لما نزلوا في الساحة وجدوا أضعافا مُضاعفة، وهذا يجعل القلب يُثبط، في حين أن الكفار في أعين المؤمنين كما هم إنما أهل الكفر يرون المؤمنين مثليهم رأي العين أما المؤمنون فيرون الكفار على أنهم قِلة، وهذا من نُصرة الله لنبيه -صلوات الله وسلامه عليه-.
في الآية التي قبلها قال الله -جل وعلا- ( وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) وهنا قال (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) قال بعض المفسرين: هذا تأكيد. وليست من التأكيد في أي باب إنما المعنى: قول الله -جل وعلا- في الأول ( وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) الأمر المفعول هنا هو قضية حصول اللقاء، الأمر المفعول المراد حصوله، قضاؤه، هو حصول اللقاء.
 أما في الآية الثانية  (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) ليس المقصود حصول اللقاء، هذا وقع في الأول إنما المقصود نُصرة المسلمين وإعزاز الدين، أي قللناكم في أعينهم وجعلناهم قليلين في أعينكم حتى يلتحم الجيشان ويكون مراد الله -جل وعلا- من نُصرة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وكان هذا في بدر في السابع عشر من شهر رمضان. 
قال الله -جل وعلا- ( وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) ذهب بعض أهل العلم إلى أن ليلة القدر هي ليلة السابع عشر من رمضان واحتجوا بهذه الآية. وهذا يُروى عن اثنين من الصحابة لأن الله -جل وعلا- قال ( وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) يتحدث عن القرآن. وإن كان الرأي مرجوحا لكن لا يمنع أن المؤمن يأخذ به بمعنى أنه ينشط تلك الليلة لأن ليلة القدر مخفية. لكن جمهور العلماء على أنها في العشر الأواخر وعلى أنها في الأوتار دون الشفع. وقد تكون في الشفع، لا أحد يستطيع أن يقطع لأن أمرها أمر غيبي لكن هذا من باب الاستطراد في الحديث والكلام عن معركة بدر. هذه المعركة امتنّ الله بها على المؤمنين قال الله -جل وعلا- (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي في العدد، وأظهر الله -جل وعلا- فيها دينه ونصر فيها نبيه -صلوات الله وسلامه عليه-. وكما قلت في الأول إن الذي يُستنبط في أول الأمر أن الأمر كله بيد الله -تبارك وتعالى- .
مما وقع فيها: كان هناك الأسود بن يزيد، وهذا كان رجلا شديدا، فلما وقع ما وقع من الصحابة طووا الآبار إلا بئرا أقسم لقريش أن يصل إلى البئر، فحبى ودخل المعركة وضُرب في ساقه، في فخذه، حتى وصل إلى طي البئر يريد أن ينفذ وعيده.
بعض أهل العلم، أهل السير، أهل الأخبار: هذا الأسود له أخ هو أول من هاجر إلى المدينة وسكن قُباء، فبعض أهل العلم -أنا لا أعلم فيها أثرا صحيحا لكن أدركت مشايخنا يقولون به- يقولون: إن أول من يأخذ كتابه بيمينه هو الصحابي الذي هاجر، وأول من يأخذ كتابه بشماله هو أخوه هذا الذي أقسم أن يصِل إلى البئر. هذا مما يُذكر في ثنايا الحديث عن بدر.
مما يُذكر فيها: ما وقع من سواد بن غزية -رضي الله عنه- وهذا مشهور لكنه من الكلام الذي إذا كُرر زاد جمالا وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أراد تسوية الصفوف بقدح في يده، فلما أتى إلى سواد تقدم عمدا فرده  قال استوي يا سواد، أي أدخل في الصف، قال: أوجعتني يا رسول الله وقد بعثك الله بالحق فاقتد لي -يعني أريد القصاص- فكشف ﷺ عن بطنه وقال له اقتص فقبّله فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله قد حضر ما ترى -يعني هذا مظنة موت، مظنة فراق- قد حضر ما ترى ورغبت أن يكون آخر العهد بالدنيا أن يمس جلدي جلدك.
 وهذا بعضٌ مما أورثه الله قلوب أصحابه محبة رسوله ﷺ وقد أحسن من قال:
 يا ليتني كنت فردا من صحابته ** أو خادماعنده من أصغر الخدم
 صلوات الله وسلامه عليه.
 مما وقع في يوم بدر: أن العباس بن عبد المطلب، الآن العباس هو الذي قصّ على الناس الرؤيا خرج، فلما خرج أُسِر، فلما أُسِر مع المعركة تقطعت ثيابه فأراد النبي ﷺ أن يلبس عمه ثوبا، وكان العباس طوالا عظيما في هيئته فلم يجدوا أحدا يكافؤه في خلقه البدني إلا عبد الله بن أُبيّ فأعطاه عبد الله بن أُبيّ ثوبه، فكُسي العباس بثوب عبد الله بن أُبيّ -رأس المنافقين- فلما مات عبد الله بن أُبيّ بعدها بسنين وجاء ابنه يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يصلي عليه كفّنه ﷺ في قميصه وفاءًا ومكافأة له لِمَ؟ ﻷن الحُرّ لا يقبل أن يسدي إليه أحد معروفاً ولا يرده فكيف بسيدهم وسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه. إن المرء - يا أُخي- لو طعِم معك طُعمة واحدة، يوم واحد أكلت معه هذا يفرض عليك من الذِمم معه ما لا يفرضه معك غيره. المتنبي يقول يُعاتب سيف الدولة لما تخلى عنه وغلبه حسّادُه وضُرِب المتنبي يُقال بدواة حِبر وسيف الدولة لم يتغير قال:
 إن كان سَرّكُم ما قال حاسدُنا ** فما لجرح إذا أرضاكُم ألم
إلى أن قال:
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة ** إن المعارف في أهل النُهى ذِمم
يعني المعرفة، الجوار والله ولو في مقعد الطائرة هذا ذمة يفرض إذا قابلته بعد حين. فاﻷحرار لا يمكن يتركوها لابد أن يُكافؤ، قال الشافعي -رحمه الله- وقد أُوتي الحكمة كثيرا قال: "الحر من راعى وداد لحظة". لكن ليس مقبول دينا ولا دنيا أن تكون زميلا، صاحبا، صديقا لرجل ما في العمل ثم تُفرِّق بينكم اﻷيام وكلما ذكرته ذكرته بسؤ، أو إذا التقيت به في مكان ما لقيته وكأنك لا تعرفه
 إن الكرام وإن تغير وُدّهُم ** ستروا القبيح وأظهروا اﻹحسانا
 ويزداد حق أحد صاحَبَك في وقت لا يعرفك الناس فيه، أو صَاحَبك وأنت قليل المال ثم منّ الله عليك بعلو في عِلم أو بجاه أو بمال فإن أحق الناس بأن تحسن إليه من كان يصحبك في الزمان اﻷول. قالت العرب:
 إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ** من كان يألفهم في المنزل الخشن
 كل ما قاله العرب مستسقى من مشكاة النبوة، من صنيع رسول الله ﷺ .
 يدل على هذا بطريق أوضح أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن أَسَر أَسارى بدر قام خطيبا وقال: "لو أن المُطعِم بن عدي حيٌ وكلمني في هؤلاء اللتنى -يعني الأسرى- لتركتهم له" ﻷن  المُطعِم أجار النبي عليه الصلاة والسلام في مكة بعد عودته من الطائف. وقد كان  المُطعِم يومها ميّتا لم يشهد بدرا.
هذا ما تيسر إيراده، متعني الله وإياكم متاع الصالحين وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.                    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق