الثلاثاء، 4 فبراير 2014

الحلقــ السادسة عشرــ / (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)



الحمد لله حمداً كثيرا طيبا مباركا فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين. عنوان لقاء اليوم: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ).
هذا جزء من آية شهيرة قال ربنا (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذي نتدارسه من هاتين اﻵيتين قوله -عز وجل- (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) ﻷنني أذكر أن اﻵية بمجملها ربما لم أنسى قد شرحناها في سنين قد سبقت. اﻹنسان بشر مهما بلغ من الكمال يبقى ضعيفا وسنأتي بخبر عن الصحابة ثم نأتي بتفسير اﻵية.
 نحن نعلم جميعاً أن أرفع الصحابة قدرا الشيخان أبو بكر وعمر وزيرا رسول الله ﷺ ورفيقاه حتى في قبره -عليه الصلاة والسلام-. روى البخاري في الصحيح من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه وأرضاه-أن أبا بكر وعمر تحاورا -جرت بينهما محاورة-فأغضب أبو بكر عمر فقام عمر مغضبا -خرج- فتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له حتى وصلا إلى الباب فأغلق عمر الباب في وجه أبي بكر فذهب أبو بكر إلى النبي ﷺ فلما رآه كأنه ظن شيئاً فقال: أما صاحبكم فقد غامر، ثم جاء عمر فأخبر النبي ﷺ بالقصة -بالخبر بالذي جرى بينهما- وعمر يخبر وأبو بكر يقول: والله يا رسول الله ﻷنا له أظلم -بمعنى أنا أخطأت عليه- والله ﻷنا له أظلم وعمر يخبر ورسول الله ﷺ يشتد غضبه حمية ﻷبي بكر وقال: هل أنتم تاركوا لي صاحبي، هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ يغضب ﻷبي بكر رغم أن أبا بكر يقول يا رسول الله والله ﻷنا كنت له أظلم. ثم قال -عليه الصلاة والسلام- إنني قلت ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعا) فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت.هذا جرى بين رجلين كريمين عظيمين قُرتا عين كل مؤمن الصديق والفاروق، وهذا يدل على أن البشر مهما بلغوا يبقون ضعافا، يبقون بشرا.هذا مدخل لقول الله -جل وعلا- (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ).
مر معنا أن من أعظم مقاصد الشرع أن يكون هناك تآلف بين المؤمنين، ومن طرائق التآلف بين المؤمنين أن كل أحد يمسك على نفسه لسانه (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ليس المسلم سبابا ولا لعانا ولا فاحشا ولا متفحشا، وكثرت المزاح تورث العداوات وهذا لا يرتاب فيه عاقل. جاء القرآن يدعو إلى الجنة، والجنة زاكية، طاهرة، درجة عالية تحتاج إلى أنفس طاهرة فقال ربنا (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ) ثم نعت هذه الجنة بقوله (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) ثم أخبر -جل ذكره- بأنها (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ).
 ثم عدد بعضا من أوصاف المتقين فقال (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) وقلنا هذا ظاهر -بيّن- ثم قال (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) الغيظ: أشد الغضب. لكنهم يقولون إن الغيظ لا يظهر على الجوارح أما الغضب فيظهر على الجوارح كما ظهر على النبي ﷺ لكن الغيظ لا يظهر فقال ربنا (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) قال بعدها (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) ولابد من التلازم. قد يتلقى اﻹنسان في أي موطن ما يثير غيظه فيكظمه، فكظمه لغيظه واحد من اثنين أو قل واحد من ثلاثة:
- إما لضعفه وهذه ﻻ علاقة لنا بها.
- وإما لقدرته لكنه استحيا من وجود أحد كمن يثار غيظه -يُغضب- أمام أبيه، أمام أمه، أمام رئيسه، أمام أميره، فهو كظم الغيظ لا رأفة ولا رحمة بمن آذاه لكن ترقبا لخروج ذلك الذي بسببه استحيا وكظم غيظه. واضح. ظاهر هذا وهذا لا علاقة لنا به.
- تبقى الحالة الثالثة وهي: أنه كظم غيظه لا يريد بذلك إلا وجه الله فلما كان لا يريد بكظم غيظه إلا وجه الله قال ربنا بعدها -هنا التلازم- قال (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) ﻷن من كظم غيظه حياء من رجل ظاهر وجيه في المجلس لن يعفو فإذا خرج هذا الوجيه، هذا الذي كظمنا بسببه الغيظ عدنا وانتقمنا فلم يدخل في اﻵية، والذي هو ضعيف أصلا هذا لا يسمى عفا عن الناس ﻷن العفو لابد أن يكون مرتبطا بالقدرة وهو لا يقدر أصلا لكن من تركه من أجل الله، أراد بذلك وجه الله وكظم غيظه ثم اتبع ذلك الكظم عفواً عمن آذاه هذا الذي يندرج في قول الله تعالى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)  وهذا العمل يسمى إحسانا لكن فضلاء الحكماء يقولون "اصنع اﻹحسان وقت اﻹمكان" فليس بإمكانك أن تحسن في كل وقت فقد لا يتأتى اﻹحسان في وقت آخر. ظاهر هذا.
  قال ربنا (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ولا ريب أن من استطاع بفضل الله عليه أن يكظم غيظه رجاء ما عند الله -جل وعلا- لا يصنع هذا إلا من كان على يقين بلقاء رب العالمين. يقول عروة بن الزبير -رضي الله عنه وأرضاه- يتكلم في الشرف وعلاقته بكظم الغيظ قال:
 لن يبلغ المجد أقوام وإن شَرُفوا ** حتى يذلُوا وإن عزوا ﻷقوام
ويُشتموا فترى اﻷلوان مشرقة ** لا عفو ذل ولكن عفو إكرام .
بيان هذا لا تعتقد أن شيئا كهذا، شيئا عاليا تناله من غير منغصات، محال، لكن صبرك على المنغصات هو الذي يبؤك الدرجات العليا ولما قال الله (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) اتفق المفسرون على أن الناس كلمة عامة لكن قالوا أول من يندرج فيها المملوكين واﻷُجراء والخدم ومن يعمل عندك من موظفيك ومرؤسيك ﻷن كثرت من يعمل تجعله عرضت لكثرت الخطأ وما دام هو يعمل عندك -مثلا- غير سعودي يعمل في كفالتك فإن قدرتك على عقابه أسهل لما يعطيك إياه النظام من قوة فقدرتك على عقابه أسهل. هنا يتحرر المؤمن الحق، فمن تسلط عليهم ونسي قدرة الله عليه هلك، ومن رحمهم رجاء ما عند الله نجا قال ربنا (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ). هنا يقول عروة إن المجد لا يمكن أن يُبلغ إلا بمثل هذه الحالة وهذا يتأتى في أهل بيتك، بعض إخوانك الصغار لا يعرف قدرك، بعض من يسكن معك ربما في بناء أو في حي من الجهلة فلا ريب أن كظم الغيظ عن هؤلاء ليس فقط دليلا شرعيا حتى دليلا عقليا ﻷن ليس من المعقول أن تقبل أن يكون هؤلاء خصومك لكن الناس ينبغي أن تكون واثقا من قولك مطمئنا إلى دينك فأحيانا تُبتلى في المجالس بمن قلّت ثقافتهم وقلّ عقله فمثلا -وهذا يحصل كثيرا- قد يكون بينك وبين أهلك -زوجتك وأبنائك وبناتك- مطالب ثم لعملك التجاري أو عملك الدعوي أو عملك الوظيفي قصرت معهم فأنت أدرى بنفسك أنك قصرت معهم، وعدتهم ثم أجلت، بيّت لهم مطلبا ثم أخرت، منيتهم بشيء ثم لم تفِ، أنت أدرى بنفسك فأنت لكمال عقلك تستطحب هذا في كلامك معهم -لا يعقل حشفا وسؤ كيلة- فربما اتصل بك أهلك وأنت بين خُلطائك، قرنائك في مجلسك فعندما ترد عليهم بهاتفك أنت تلين القول تأدبا وأنت أعلم ببعض خطئك وتريد أن تعالجه برقة قولك وهذا طريق عاقل لكن قد يأتي من هو حاضر في المجلس لا يفقه ولا يدري عن هذا فإذا رأى لين خطابك وتأدبك مع أهلك أو ربما سمع منك اعتذارا إليهم، إذا فرغت قال بطريقته، بلهجته -الله يرحم الرجال- طارق بن زياد فتح اﻷندلس، خالد بن الوليد كُسرت تسعة أسياف في مؤتة وأنت هذا كلامك مع زوجتك- هذا يقول هذا ﻷنه خلط بين أمرين ما بين الهيبة وقوة الشخصية -هذا باب- وما بين معاملة اﻷهل ومعاملة من هو جاهل من أهل بيتك -هذا باب ثان- والناس أحيانا لقلة مواردهم العلمية الصحيحة يخلطون ما بين هذين اﻷمرين.
عبدالله بن مسعود قرأ القرآن على نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال: فالتفت، ماذا رأى؟ قال: فإذا عيناه تذرفان -صلى الله عليه وسلم- وهذا لتوه يقرأ عليه القرآن ويلتفت فيجده قد بكى -صلوات الله وسلامه عليه- هذا الذي بكى -عليه الصلاة والسلام- يقول الصحابة: كنا إذا حمي الوطيس -في المعركة- نلوذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا مجرى وطريق، وهذا مسلك وطريق آخر لا تخلط بينهما لكن ينبغي للعاقل أن تكون موارده صحيحة، فإذا كانت موارده صحيحة لا يمكن أن يضره من يأتي من هنا أو هناك يعذره لا يعبأ به، لا يكثر من عتابه لكن لا ينبغي أن يكون هذا حائلاً بينك وبين من يريد أن يؤثر في طريقة سيرك في الحياة فإن العفو عند المقدرة من أجلّ مقامات الحزم وكلما ارتفع اﻹنسان عن الحقد والانتقام كان أهلا ﻷن يكون في الناس إماما، كلما ارتفع اﻹنسان عن مواطن الحقد والانتقام كان أهلا ﻷن يكون في الناس إماما، العربي يقول: "وليس رئيس القوم من يحمل الحقد" فاﻹنسان اﻷبيّ الشهم يعلم يقينا أنه حتى ينال السؤدد لابد له أن يترك مسألة المبادرة إلى الانتقام، ولاريب أن هذا له تبعات والعرب تقول: "ما انتصف كريم قط" أي ما أخذ حقه لا يمكن أن يوجد كريم -ليس بمعنى يعطي- كريم أي حسن المعدن الله يقول (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) في النبات. ما انتصف كريم قط لكن -والله- لو أنت تريد أن تعارض زيدا وعمرا وخالدا ومن يبيع كذا ومن يشتري كذا، وفي بيتك وفي أهلك وتظن أن هذا هو السؤدد ابتعدت بعدا تاماً عن طرائق السؤدد، لابد أن تتحمل ولن تجلس حيثما تحب حتى تمر على مجالس تكرهها ولو قرأتم في سير اﻷئمة والكبار -وأنتم كذلك تقرؤن- لرأيتم عجبا كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه. وعموما كل شيء إنما يُبلغ ويُوصل إليه بعون من الله وتوفيق والعلم عند الله وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق