الأحد، 9 فبراير 2014

تفسير سورة العنكبوت من (28- 52) / من دورة الأترجة

د.محمد بن عبد الله الربيعة

 المجلس الأول:
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴿٢٨﴾ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٢٩﴾ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ﴿٣٠﴾ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴿٣١﴾ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿٣٢﴾ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴿٣٣﴾}
 بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد.
 هذا هو المجلس الثالث من مجالس سورة العنكبوت وتوقفنا فيها عند قول الله -عز وجل-(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ). وتحدثنا -بارك الله فيكم- عن السورة ومقصدها وأنها تركّز على الحديث في وصية الله للمؤمنين المستضعفين الذين فُتنوا في دينهم بالصبر, تتحدث السورة عن وصية الله -عزّ وجل- وعنايته -سبحانه وتعالى- بالمؤمنين المستضعفين الذين فُتنوا في دينهم, وتوجيه الله -عزّ وجل- لهم بالصبر والثبات. وقد ذكر الله تعالى في ثنايا السورة ما يُثبّتهم على ذلك ويُأنِّسهم من ذكر قصص الأنبياء قبلهم الذين واجهوا قومهم وأُوذوا في سبيل دعوتهم إلى الله تعالى.
 بعد ذكر قصة نوح ثم قصة إبراهيم جاءت قصة لوط -عليه السلام-, قال الله تعالى (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ) نلاحظ أن قصة لوط في القرآن الكريم جاء فيها إنكار لوط على قومه في فِعْل الفاحشة, إنكاره عليهم بفعل الفاحشة دون أمرهم بعبادة الله عز وجل كغيره من الأنبياء, فما السِرّ في هذا؟!
ما السِرّ في أن لوط عليه السلام كانت قصته في القرآن في الإنكار على قومه في فِعْل الفاحشة واللواط دون أمرِهِم بعبادة الله عز وجل؟! أنه تبعٌ لدعوة إبراهيم, وقد سبق قول إبراهيم (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ) فهم قوم إبراهيم لكنهم قريةٌ من القرى التي كان يدعوها إبراهيم وهي سدوم, كان فيها لوط -عليه السلام- وكانت هذه القرية مما فشا فيها تلك الفاحشة المشينة التي لم يُسبَق إليها في عهد مَنْ قبلهم. فكان تركيز لوط عليه السلام- في نهيهم عن تلك الفاحشة المشينة, وكان ذلك هو الظاهر في القرآن.
 وفيها عبرةٌ للمستضعفين أن الله -عزّ وجل- سينجيهم كما أنجى لوط -عليه السلام- يوم أن الله -عزّ وجل- أهلك قومه, فهذا هو موضع العِبرة في هذه القصة, كما أن الله أنجى نوحاً ثم أنجى إبراهيم كذلك أشار هنا في السورة إلى نجاة لوط, ففيها عبرة للمستضعفين الذين فُتنوا في دينهم وأوذوا بأن الله سينجيهم كما أنجى لوطاً عليه السلام.
 والفاحشة في قوله (لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) المقصود بها: الفاحشة في الأصل هي التي بلغت الغاية في الفُحْش والقُبح والمراد بها هنا اللواط.
 قال (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّـهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ذكر ما اشتملت عليه الفاحشة منهم في ثلاثة أمور:
 الأول: قطع السبيل, وما المقصود بقطع السبيل في فعل قوم لوط؟
 إما أن يكون المقصود بقطع السبيل هو قطع الطريق على المارّة وأخذ أموالهم وسرقتهم, وإما أن يكون -وهو الأظهر- هو التصدي للمارّين في الطرقات أو في الأسفار بأخذ أموالهم وفعل الفاحشة بهم. وكانوا يقعدون بالطرق ليأخذوا من المارّة من يريدونه للفاحشة قسرًا.
 - وأما إتيان المنكر في ناديهم فالمُراد به: أنهم جعلوا ناديهم للحديث في ذكر الفاحشة والتخطيط لها وما يثيرها من التغزُّل ورمي الحصى على من يريدون فعل الفاحشة به والتظاهر بتزيين الفاحشة دون التستر منها, كل ذلك مما كانوا يأتون به المنكر في ناديهم. إذًا المقصود بإتيان المنكر هنا في ناديهم حديثهم عن الفاحشة وما يتعلّق بها وقد يدخل فيها فِعلها. والنادي هو: المكان الذي يجتمع فيه وينتدي فيه الناس ليتحدثوا فيه ويتشاوروا أو يتناقشوا في أمر من الأمور وهو مشتقّ من الندو وهو الاجتماع نهارًا, أما الاجتماع ليلًا فيسمى السامر أو السَمَر، فالمقصود به هنا اجتماعهم بالنهار لحديثهم فيما هم فيه. قالوا (ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّـهِ) يدل على أن دعوته تضمّنت في نهيهم تهديدهم بالعذاب, قولهم (ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّـهِ) يدلّ على أنه هددهم بعذاب الله تعالى فقالوا (ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّـهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
 قال لوط عليه السلام (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) وفي هذه الدعوة ذِكر ما بينّاه قبل قليل أو في المجلس الماضي, بأن الدعاء ينبغي أن يتضمّن ما فِعل الظالمين في الدعاء عليهم، فقال (رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) فهؤلاء مفسدون بفعلهم الفاحشة القبيحة. وأراد بذلك النصر عليهم ماذا؟ ما المراد بدعوته أن ينصره الله عليهم؟ أن يعاقبهم, أراد بذلك أن يعاقبهم وينزل عقابه عليهم, هذا المقصود به. ووصفهم بالإفساد هنا ظاهر من حيث أنه موافق لأفعالهم الفاسدة ومن أعظمها فسادًا فعل اللواط.
 قال الله تعالى (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَـٰذِهِ الْقَرْيَةِ ۖ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ) جاءت رسل الله وملائكته إلى إبراهيم قبل لوط ليدلّ على أنه نبيّهم, وإلا لو لم يكن إبراهيم نبيهم لما أتت الرسل إليه, هذا يدل على أن دعوة لوط تابعة لدعوة إبراهيم. لكنّ الرسل أتوا إلى إبراهيم الرحيم الرؤوف بقومه أتوه بالبشرى, قدّموا الخبر بالبشرى حتى يطمئن قلبه, لأنه لو أخبروه بإهلاك قوم لوط لربما حزن وتألّم من ذلك وجادلهم فيه. قال (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ) وما هي البشرى التي أتوه بها؟ هو بشرى بأن الله -عز وجل- سيؤتيه ولدًا وهو إسحاق عليه السلام.
(قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَـٰذِهِ الْقَرْيَةِ) والقرية هي قرية سدوم, قرية لوط.
 قال (إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ) فبيّن الله تعالى وصفًا آخر من صفاتهم، وصفهم الوصف الأول بالمفسدين ثم وصفهم الله بالظالمين (إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ) يعني قد طغوا, هم مفسدون وزادوا في الإفساد الطغيان، الظلم والتجاوز.
 ثم قال الله تعالى عن إبراهيم (قال إِنَّ فِيهَا لُوطًا) يعني أنه ظنّ إبراهيم أو خشيَ أن تكون العقوبة تشمل أهل القرية كلهم فيكون منهم المؤمنون ومنهم لوط عليه السلام.
 (قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا) لماذا أجابوا بقوله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا) ولم يجيبوا بقولهم نحن أعلم بأن لوط فيها وأنه ممن سينجيه الله؟ هذا يدل على أنهم قد أرسلهم الله بعلمٍ تامّ في القرية وأحوالها وأهلها ومن يستحق النجاة ومن يستحق العقاب ودرجات عقوبة أهلها فهم ليسوا على درجة واحدة فالطغاة منهم أشدُّ عقوبة ممن هم دونهم, فقولهم (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا) يدلّ على دقّة علمهم بما أُرسلوا به ولا يدلّ ذلك على فضيلتهم على إبراهيم, قد يدلّ على علمهم أنهم أعلم من إبراهيم بأحوال القرية والمفسدون فيها والصالحون فيها ومن يستحقّ العقاب، نعم، لكنه لا يدلّ على فضيلتهم على إبراهيم بالعلم إذ إن إبراهيم قد أُوتي النبوة والكتاب كما قال الله تعالى عنه قبل ذلك، لكنهم في هذه الحالة. وفي هذا يمكن أن يقال بأن الإنسان يمكن أن يكون فاضلًا وعالماً في هذا الأمر أكثر من غيره ممن هو أفضل منه, يعني قد يكون الإنسان عالمًا بالفقه مبرَّزًا فيه وظاهرًا علمُه سابقًا غيرُه لكن لا يدلّ ذلك على فضله على غيره. قد يكون الإنسان بعلمه العام أفضل وقد يكون الإنسان أو إنسان آخر بعلمه الخاص بشيء من الأمور هو أعلم.
 قال الله تعالى (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) يدلّ على أن لوط معه من المؤمنين أهله إلا امرأته التي خانته كما قال الله -عزّ وجلّ- عنها (ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) [التحريم:10] فهي كافرةٌ خائنةٌ لدينها.
 قال (كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) فهذا يدلّ على الشاهد الذي يريد الله -عز وجل- أن يبيّنه لعباده المؤمنين وهو نجاتهم ممن كانوا سببًا في فتنتهم فقال الله (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) فانظروا أن كلمة النجاة تكررت في القصص الثلاث ليؤكِّد أنها هي الغرض في ورود القصص الثلاث وهي أن الله يعد المؤمنين ويطمئنهم بنصره ونجاته.
/ قال الله تعالى (وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ) كيف يكون لوط عليه السلام يسيء بملائكة الله ويضيق بهم ذرعًا؟! هذا قبل علمه بأنهم ملائكة إذ أنهم جاءوا على هيئة رجال فلم يعلم لوط عليه السلام بأنهم من أنبياء الله أو من ملائكته, فكان من عادته أنه مضياف كإبراهيم عليه السلام فلما جاءوه سيء بهم, ولماذا سيء بهم؟ خشيَ عليهم من قومه, ولهذا قال (بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) أن يصيبهم قومه بسوء. قالوا -أي الملائكة- (لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ) ما الفرق بين الخوف والحزن هنا؟ لا تخف على ماذا ولا تحزن من ماذا؟ لا تخف علينا ولا تحزن على ما سيكون من إهلاك قومك ونجاتك, فالخوف هنا متعلّقٌ بهم والحزن متعلِّق به وبقومه.
 قال الله تعالى (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) هنا تأكيد بعد إخبار إبراهيم بنجاتهم أخبر الله -عزّ وجل- لوطاً بنجاته وأهله.
/ قال الله تعالى عن ملائكته (إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَـٰذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) والرِّجز هو: العذاب المؤلم, وما كان عذابهم؟ ما العذاب الذي أتاهم؟ أن جبريل عليه السلام قد رفعهم من الأرض ثم كفأهم فانقلبوا على وجههم صاغرين ثم أمطر الله تعالى عليهم بحجارة من سجيّل جزاءً على أعمالهم إذ أنهم قلبوا فطرة الله فأتوا الرجال دون النساء فقلبهم الله تعالى بالعذاب وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
قال الله سبحانه وتعالى (وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وصف الله تعالى هنا الآية بأنها بيّنة ولم يصف السفينة بأنها بيّنة فما السِرّ في هذا؟ هناك قال (وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) هنا يدل على أنها بينة واضحة مشاهدة إذ أنها قرى أو قرية بقي فيها ما بقي بعد هلاك قومها وتدميرها بقيت منها بقيّة، أما السفينة فقد لا تكون باقية قد تكون غارقة في البحر أو غير ذلك, فالمقصود هنا أنها بينّة لكل من يمرُّ عليها والدليل على ذلك قول الله تعالى (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ) [الصافات:138].
/ قال الله سبحانه وتعالى بعد ذلك (وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) هنا ذكر الله سبحانه وتعالى قصة أخرى من القصص التي فيها عبرة وعِظَة للمؤمنين وفيها تخويفٌ للكافرين المكذّبين, (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) ما معنى أارجوا اليوم الآخر؟ استعدوا له، والاستعداد يكون بالعمل الصالح بالإيمان أولًا والعمل الصلاح فهذا معنى رجاء اليوم الآخر برجاء ما فيه من الوعد ومن النعيم في الجنّة بالاستعداد له.
قال الله (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿٣٦﴾ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) هنا وصف الله عذاب قوم شعيب بالرجفة ووصفهم في هود بالصيحة, وصف العذاب هناك بالصيحة (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [سورة هود] ما الفرق بين الرجفة والصيحة؟ وكيف اجتمعتا في حال قوم شعيب؟
 الرجفة متعلّقة بالتدمير بتدميرهم -بالأرض-، والصيحة متعلّقة بصوتها. إذًا الرجفة متعلقة بتدمير ديارهم وزلزلتهم والصيحة حيث كونها ذات صوت قوي كالصيحة, فلا منافاة أو تناقض بينها.
إذًا هذه القصص الأربع التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فيها الغرض المسوق من أجله هذه القصص وهي:
أولًا: أمرُ النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالمصابرة على إبلاغ الدعوة والرسالة. ثانيا: الصبر على أذى الكافرين وفتنتهم.
ثالثًا: نصرُ الله عزّ وجل لعباده وأوليائه.
رابعًا: تكذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.
 كل هذه الأمور هي مقصودة في هذه القصص الأربعة مراعاة فيها المؤمنين.
ثم تأتي بعد ذلك القصص الأخرى سردًا إجمالًا هي في جانب الكافرين يعني تهديدًا للكافرين وتوعدًا لهم وتذكيرًا بحال أولئك الأمم السابقة التي سبقتهم من المكذبين، قال الله (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ) والخطاب في قوله (لَكُم) لمن؟ في الأصل أنها لكفار قريش، كفار هذه الأمة.
 (وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ) كيف تبين لهم من مساكنهم؟ يعني شاهدوا عذاب الله في مساكنهم ورأوا تدميرهم ورأوا آثار هلاكهم.
 (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) كيف زيّن لهم الشيطان أعمالهم؟ بأن جعلهم يعتقدون أن هذه الآلهة وأنهم على هذا الدين الذي هم عليه وهذه العبادة هم على الحق (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف:22] فهم يظنون أنهم على هدى بتزيين الشيطان لهم هذه العبادة عبادة الأصنام وتوارثها عن آبائهم.
 (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) والسبيل هو: دين الله الحق الذي لا سبيل غيره.
 (وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) ما معنى كانوا مستبصرين؟ أي كانوا عالمين الحق ومستبصرين بالآيات كانوا مستبصرين يبصرون آيات الله -عزّ وجلّ- التي أرسلها الله تأييدًا لأنبيائه وهذا يؤكد أن كُفْر عاد وثمود كان كفر جحود وإنكار واستكبار وأنهم علموا الحق والدليل على ذلك أن الله تعالى أرسل عليهم آيات بينات يبصرونها لكنها لم تنفعهم ولم يؤمنوا بها.
/ قال الله تعالى(وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ) ذكر الله تعالى هؤلاء الثلاثة ولم يذكر قوم موسى يعني ذكر الله تعالى أسماء كبارهم وصناديدهم وكُفّارهم ولم يذكرهم باسم القوم كما قال الله (وعادًا وثمود) فما السرّ في هذا؟ ما السرّ في ذكر هؤلاء الصناديد الكبار المستكبرين؟ أمرين:
 الأمر الأول: أنهم تزعّموا قومهم واستخفّوا بهم وطغوا بأنفسهم على قومهم, هذا الأمر الأول.
 الثاني: أن فيه تعريض وتهديد لصناديد قريش, أُنظروا إلى هؤلاء الصناديد الذين كانوا في قومهم زعماء رؤساء كبار كيف كان حالهم؟! فهو تهديد مباشر لزعماء قريش كأبي جهل وأبي لهب وغيرهم من أنّ الله -عزّ وجل- سيأخذهم كما أخذ هؤلاء, فتخصيصهم مقصود لذلك, تهديدًا لزعما قريش وكِبارهم.
 قال الله (وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أن تكذيبهم كان بسبب الاستكبار, وقوله (اسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) ما المقصود بـ (اسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ)؟
الأرض ما هي؟ يعني قد يكون المقصود بها أرض مصر أو قد يكون أن استكبارهم وزعامتهم طغت في الأرض وكان لهم سطوة وقوة في الأرض عمومًا قد يكون ذلك بسمعتهم وقوتهم وهيمنتهم أو نحو ذلك, ولم يكونوا ملكوا الأرض كلها لكن المقصود قوتهم وسلطانهم.
 (وَمَا كَانُوا سَابِقِين) ما معنى (وما كانوا سابقين)؟
يعني ما كانوا سابقين مفلتين من عذاب الله وعقابه وأمره وحُكمه فيهم, ففي ذلك تهديد لكل كافر مستكبر أنه لن يسبق أمر الله حُكمه ولن يفلت منه وهو تهديدٌ لمثل هؤلاء الطغاة اليوم الذين قد تبوأوا في قومهم زعامة واستكبروا في الأرض التي هم فيها فعاثوا فيها فسادًا وظلمًا وطغيانًا فإنهم والله ليسوا على الله بسابقين ولن يفلتوا من أمره سبحانه وتعالى وحكمه.
  قال الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك بعد أن ساق هذه القصص قال الله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) ما مناسبة هذه الآية التي سميت السورة بها (العنكبوت)؟ يعني بعد ذكر الله لهذه الأمم كلها ذكر الله مثالها وصوّرها بمثالٍ يشابهها وهي بيت العنكبوت, ما الغرض هنا؟ ما الغرض الذي سيقت من أجله هذه الآية وتسميتها بها؟
يعني هنا المقصود به:
- إما أن يكون المقصود بيان حقيقة دعوتهم غير الله -عز وجل- وأنها ليست بشيء وأن هذه الأصنام التي يعبدونها لا تملك شيئا من النفع والضر فهي عبادة هاوية خاوية ضعيفة لا مستمسك لها, كما أن بيت العنكبوت ضعيف لا مستمسك له, قد يكون هذا المقصود. 
- وقد يكون أيضًا مقصود آخر أن اعتقاد -وهي نفس المعنى لكنه في معنى آخر مؤكِّد أن تعلّق هؤلاء الكافرين بآلهتهم كتعلّق العنكبوت بشباكها في بيتها ليست بشيء ولا تحملها ولن تحميها من هبوب الرياح وآثارِها أو غير ذلك فهي تبيّن وتُمثّل حقيقة تعلّق هذه الآلهة أو هؤلاء المشركين بآلهتهم وأنها لا تغني عنهم شيئًا, وعلى كل حال هي في حقيقة الأمر هو في بيان حقيقة بيت الشرك وأنه واهي وأنه لن ينفع أهله وأنه بيت يشبه بيت العنكبوت من عدة وجوه, ما هي؟ هذه الآية ذكر بعض العلماء أن فيها إعجازاً في تشبيه بيت العنكبوت ببيت الشِرك من عدة وجوه:
 الوجه الأول: من ضعف التعلّق -كما ذكرنا قبل قليل- وأن هذا التعلّق لن ينفعهم شيئًا سينهدم بأدنى تغيّر.
 وأمر ثاني: في شبه بيت العنكبوت ببيت الشرك يعني هو بيت العنكبوت يُقال أنه يأكل بعضه بعضًا ويدمِّر بعضه بعضًا, فهم في حقيقتهم بسبب هذا الشرك وهذه العبادات على أخلاق سيئة يأكل بعضهم بعضًا في العدوان والتجاوز والظلم وغير ذلك, فهو بيتٌ مشتمل على أخلاق سيئة واهية, وأيضًا في تشتّت أهلها وتفرّقهم فهذا بيت العنكبوت لم يُبنى على أساس صحيح وإنما هو مجرّد من لُعاب العنكبوت نفسها تبنيه بنفسها وهو ليس بشيء وإنما تتمسك به بلا معتمد, فهؤلاء في تفرّقهم وتشتّتهم لا بقاء لهم وغير ذلك من الحقيقة صور التشابه التي ذُكرت مما لا يحضرني الآن لكن ليبين أن وجه الشبه هنا هو عدة وجوه وليس هو وجه واحد.
  تجاوزنا آية وهي قول الله -عز وجل- (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا) ذكر الله -عز وجل- عاقبتهم وهو أن الله تعالى أخذ كل قومٍ بذنوبهم والغرض من ذلك ما هو؟ الغرض من ذلك تهديد المشركين وأنّ عذاب الله ليس واحداً وإنما هو متنوع وأخذُه سبحانه وتعالى حيث يشاء, (فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا) والحاصِب ما هو؟ هو الريح الشديدة التي تحصد أو تحصب الحصباء والحصى فتقتلعها فهي ريح شديدة جدًا إذا كانت تقتلع الحجارة والحصباء فكيف بالإنسان؟! هؤلاء من هم الذين أخذهم الله -عزّ وجلّ- بالحاصب؟ هم عاد.
 قال الله (وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهؤلاء ثمود
 (وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ) وهم قارون
 (وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا) وهو فرعون وقومه
 (وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بيان أن الله -عز وجل- إنما عاقبهم بذنوبهم وأنهم ظلموا أنفسهم بإشراكهم بالله -عز وجل- وعدم إيمانهم به وبرسله.
ثم تحدثنا عن الآيات التي بعدها (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ) ثم قال بعدها سبحانه وتعالى (إِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هذا بيان لحقيقة الأصنام وأنها ليس على شيء, ففيه تحقير لأصنامهم (إِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ) يعلم حقيقة هذه الأصنام وأنها ليست على شيء وليس لها أمر ولا تصرّف ولا نفعٌ ولا ضُرّ. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الغالب سبحانه وتعالى ومن عزته وغلبته أن يُهلك قوم من يعبدوا هذه الأصنام ولا تنفعهم شيئًا, والحكيم سبحانه وتعالى بحكمه وأمره.
/ قال الله تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) في هذه الآية بيان بسَفَه عقول المشركين وأنهم لن يعرفوا حقيقة هذه الأمثال ولن يتعرفوا ويتدبروا فيها ولن يعرفوا مقصدها فتدلّهم على الحقّ والحقيقة فيؤمنون لكنهم لا يعلمون قال الله (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) فوصف الذي يعقل هذه الأمثال من العلماء الذي يعلم.
 فهذا حقيقة يعطينا -أيها الإخوة- فائدة عظيمة مهمة وهي: أن من فقِه كتاب الله -عز وجل- ودلّه ذلك على الحق والحقيقة فآمن وامتثل أنه بذلك يستحقّ وصف العالِم بآيات الله, كما قال الله تعالى (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي علِموا ما فيها من الهدى فأخذوه واتّبعوه فالعلم ليس هو مجرّد كلمات تُقال ومسائل تُذكَر وإنما العلم الحقيقي هو العلم الذي يُورِث عملًا وهدايةً واقتداءً. فالله تعالى هنا يبيّن أن هذه الأمثال التي يذكرها الله في القرآن لها حقائق وأنها تحتاج إلى تأمُّل وتدبر وتعقّل, الأمثال في القرآن عظيمة وفيها من الحقائق والدلائل والمعاني ما يستبصر بها المسلم، المؤمن ويهتدي, ومنها القصص أيضًا, الأمثال يدخل فيها القصص, يدخل في المثل القصص, لأن الأمثال قد تكون مثلًا حقيقيًا قد سبق وإما أن تكون مثلا ليس واقعيًا وإنما هو ضربٌ لمثال يُشبّه بشيء, فهذا يؤكد لنا أهمية تدبر قصص القرآن وتدبر الأمثال وحقيقتها وأن وراءها مقاصد ويؤكد لنا أن قصص القرآن ليست أخبارًا لم تُذكر كأخبار وإنما ذكرت كمعاني ودروس يُعتَبر بها ويُتعظ منها ويُهتدى بما فيها من الهدى, فحريٌّ بأن يكون هذا هو هدينا في كتاب الله -عز وجل- بما نقرأه ونتأمله لنتّصف بهذا الوصف الذي ذكره الله ونكون ممن يعقِل كتاب الله, وإلا فإن تلاوة كتاب الله مجرّدة ليست هي المقصودة في تنزيل الكتاب (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص:29].
 قال الله سبحانه وتعالى (خَلَقَ اللَّـهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ) في هذه الآية مخاطبة للمؤمنين بتوجيههم إلى النظر والتفكر بعد أن أشار لهم بالأمثال أمرهم وعرّض لهم بالتفكر والنظر في خلق الله -عز وجل- ودلائل قدرته ووحدانيته في خلق السموات والأرض، قال الله تعالى (خَلَقَ اللَّـهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ) فمما يُرسِّخ الإيمان والتوحيد واليقين هو التفكّر في خلق الله -عزّ وجل- فيزيدك بالله معرفة وتعظيماً ويقيناً بوحدانيته وخلقه وقدرته سبحانه وتعالى، ويزيدك أيضًا معرفة ببطلان الشِرك ومعتقداته وأنها ليست بشيء إذ أن الله تعالى هو الخالق وحده سبحانه وتعالى. نقف هنا ثم نجدد اللقاء.
 المجلس الثاني:
 (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) هذه الآية وما بعدها مناسبتها هي: أنه بعد بيان الحُجّة للمؤمنين وبيان الحقّ وبيان بطلان شأن الكافرين ومعبوداتهم وجّه الله تعالى الخطاب لنبيّه وللمؤمنين بأن ينشغلوا بطاعة الله -عزّ وجل- ونشر دينه فالحقُّ أبلَج وقد قضى الله على الكافرين ببطلان دينهم ومعبوداتهم وليس لهم حجة ولا برهان فأمر الله -عز وجل- بأن يقيم النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه على نشر دينه وإقامته قال تعالى (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) أولاً أمر الله -عز وجل- بتلاوة القرآن ولماذا تلاوة القرآن؟ لأن القرآن هو الهادي لكل رشاد، المبيِّن لكل برهان وحجة، المتضمّن على كل حقّ وفضيلة فلا شك أن تلاوة القرآن سببٌ لهداية الإنسان وقد ذكر الله تعالى عن نبيه أنه أُمر أن يتلو القرآن (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) [النمل:92] فتلاوة القرآن مما ينبغي للإنسان أن يجعلها أساساً في حياته أساساً في برنامجه اليومي مما يزيده هدىً وتبصراً وتفكراً ففي القرآن قصص وفي القرآن آيات يتفكّر فيها الإنسان مخلوقات الله، فيها تشريعات وأوامر الله -عز وجل- فيها آيات تعرّفك بالله تعالى كما قال بعض السلف "لقد تجلّى الله تعالى في كتابه لكنهم لا يبصرون" لو تبصّرنا في هذا القرآن لتجلّى لنا وصف ربنا -عزّ وجل-كأننا نراه فقد ذكر الله في كتابه ما فيه وصفه أوصافه وشرائعه وأوامره فحريٌّ بنا أن نأخذ هذا التوجيه الإلهي لنا.
وأيضاً وهي مسألة مهمة: تلاوة القرآن خيرُ زادٍ للدعاة وأن أعظم ما تقوم به الدعوة هو القرآن ومن هنا أشير إلى منهج عظيم مهم لنا في الدعوة إلى الله وهو أننا ننطلق من القرآن مباشرة، فما أعظم من أن يكون الإنسان منهجه في دعوته منطلقٌ من كتاب الله مباشرة من آية أو من سورة أو آيات يتلوها ويبينها وهذا أقرب وسيلة إلى قلوب الناس وأعظم ما يشدّ نفوسهم ويؤثّر فيهم هو أن تربطهم بكتاب الله عزّ وجل مباشرة.
 ومن هنا فإنني أوصيكم ونفسي بسُنّة حسنة يمكن أن نقول أنها نُسيت وهُجِرت في هذا الزمن إلا -من رحم الله- نحن نجد -ولله الحمد- حلقات تحفيظ القرآن كثيرة في كل مكان في المساجد وفي دور القرآن وفي البيوت لكننا ما نجد حلقات مدارسة القرآن وحلقات التدبر، تلاوة القرآن ومدارسته التي وصفها النبي -صلى الله عليه وسلم- (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم) يوجد تلاوة القرآن لكن أين التدارس؟ أين المُدارسة؟ هذه التي تحيي النفوس، وهذه التي تصفّي الأرواح وتقوّيها كتاب الله -عز وجل- والقرآن روح (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) [الشورى:52] روحك لن تتغذى بمثل ما تتغذى به بالقرآن فهو غذاء الروح كما يقال ولهذا فإنني أوصيكم ونفسي أن نحيي هذه المجالس التي هي روحنا وغذاؤنا في بيوتنا، في مساجدنا في حلقاتنا إلى غير ذلك. ويؤكد ذلك أن الله -عز وجل- أول ما أمر نبيّه بالقرآن (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ).
 ثم قال الله عز وجل بعد ذلك (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) وإنما أُمِر بإقامة الصلاة دون أدائها ليؤكّد أن المقصود هو: إقامتها على الوجه المشروع فهذا هو مقصود الصلاة أن تقيمها على الوجه المشروع مكمَّلة بأركانها وواجباتها وشروطها ومتضمنة لروحها وهو الخشوع، هذا معنى إقامة الصلاة التي لها نفعها وأثرها ولهذا قال تعالى بعد ذلك (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) لماذا الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ ما سر هذا الأمر في الصلاة خاصة؟ لماذا كانت الصلاة على وجه الخصوص تنهى عن الفحشاء والمنكر؟
 في الصلاة الإنسان مأمور بالتوجّه إلى الله -عز وجل- فيستحضر عظمة الله -عز وجل- في توجهه ويرجو رحمته ثم يتذكّر ذنوبه فيستحي من ربه فيدعوه هذا التذكّر لعظمة الله واستحضار عظمة الله -عز وجل- ومقامه يدعوه ذلك إلى ترك الفواحش والمنكرات، كيف يجمع بينها؟ يقوم بين يدي الله معظماً له ثم يقترف هذه الفواحش والمنكرات التي تدل على عدم تقدير الله ولذلك قال الله (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) [النازعات:40] هذا معنى قوله هنا (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) خوفك من مقام الله واستحضارك لمقام الله في الصلاة هو الذي يبعثك على ترك ما نهى الله تعالى عنه لأنك إن عظّمت الله حق التعظيم فستقيم أمره وستجتنب نهيه قال الله (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32] فإذا وُجد التعظيم في النفوس كان ذلك باعثاً على التقوى واجتناب النواهي.
 وشاهد ذلك وهو واقع ما نشاهده في الحج مثلاً، الحج -سبحان الله- تجد الناس يأتون يسألون عن دقائق الأمور لأنهم يعظمون الله يأتيك فيقول أنا أخذت شعرة، أو حككت جلدي، ما الذي جعله يأتيك يسألك عن شعرة أخذها إلا تعظيمه لشعائر الله -عزّ وجل-، يخشى نقصان أجره أو أن يكون قد ارتكب محظوراً يستحق أن يكون عليه كفارة فهذا التعظيم لو وجد في كل شعائر الله -عز وجل-، في كل فرائض الدين لكان ذلك سبباً في كمال الإنسان في أدائه ولا شك.
 أيضاً مما يبين أن الصلاة تنهى عن الفشاء والمنكر وجه آخر: الصلاة هي سبب لصفاء الروح وصقلها فإن هذا الصفاء سيزيل الكدر في النفس ويقطع حبل الشيطان ومحبة الفاحشة والمنكر فإن الإنسان لا يحب الفاحشة والمنكر إلا إذا كان مريض القلب كما قال الله تعالى (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب:32] فلا يطمع بالشهوات والفواحش والمنكرات إلا من كان مريض القلب، فهذه الصلاة تصحح قلبك تقويّه تزوده بالإيمان واليقين والثبات بإذن الله تعالى ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة لأنها تقوي الإنسان وتمكنه من دينه وتصرف عنه وساوس الشيطان، فهذا من باب آخر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
 كذلك أيضاً الصلاة مشتملة على مذكِّرات بالله من أقوال وأفعال ومواعظ وآيات كلها هذه الآيات تذكِّر الإنسان وتنهاه عن الفحشاء والمنكر وتجدد عهده مع ربه.
 والفرق بين الفحشاء والمنكر: أن الفحشاء هو كل ما فحُش وقبح فيدخل فيها الكبائر ، والمنكر عامٌ فيما دون ذلك، أعمّ من الفحشاء وأقلّ منه فهو ذكر ما هو أعلى وأقل فيما لا يُرضي الله عزّ وجل. الفحشاء هو ما فحش ولعلّه يدخل فيه أيضاً ما ظهر.
 قال سبحانه وتعالى بعد ذلك (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) ما المقصود بذكر الله؟
إما أن يكون ذكر الله استحضار عظمة الله وذكره في الصلاة
وإما أن يكون هو الصلاة
وإما أن يكون هو القرآن
وإما أن يكون هو عامّة الذكر.
 وقوله (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) يؤكّد دخول معنى ذكر الله في الصلاة استحضاراً لعظمته. ولو قال ذكر الله كثيراً لكان ذلك أدلّ في عموم الذكر لكن قال (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) أي ذكر الله استحضار ذكر الله في النفس ومقام الله وعظمته سبحانه وتعالى أكبر ولذلك يكرر الإنسان في الصلاة قوله الله أكبر في كل ركوع وتحوّل في الصلاة استحضاراً لهذه العظمة لله عز وجل.
 قال الله تعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) لماذا قال (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) ولم يقل تفعلون أو تعملون؟ ما الفرق بين (يصنعون) و(يفعلون) و(يعملون)؟
(يصنعون) فيها دلالة أكثر من الفعل وهو أن الإنسان يزيّن هذا العمل ويُكمِّله فالله تعالى يقول (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) يؤكد ذلك إقامة دين لله على الوجه الأكمل فهو كأن الله تعالى يبين لنا أنه يعلم حرصنا وسعينا لإقامة دينه على الوجه الأكمل في تلاوة كتابه وإقامة الصلاة وذكره سبحانه وتعالى فناسب ختم الآية (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) أي ما تفعلونه وتحسنون عملكم فيه -والله تعالى أعلم-.
 ثم قال (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) عطفت هذه الآية على (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) ليفيد الأمر بمتاركتهم والانشغال بالدعوة والعبادة كأنه قال انشغل بالعبادة ولا تجادلهم. وهذه الآية هي توطئة ومقدّمة لحالٍ سيرِد على المسلمين في دار الهجرة بعد هجرتهم وهو مخالطتهم لأهل الكتاب فبيّن الله -عز وجل- كيف سيكون تعاملهم معهم، كيف سيكون تعامل المسلمين مع أهل الكتاب، فأهل الكتاب يختلف التعامل معهم عن المشركين، لماذا؟ لأنهم أهل كتاب وأهل حُجّة قد اعتادوا على المجادلة وإظهار الأدلة ونحو ذلك فذكر الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء التعامل معهم يختلف عن التعامل مع الكافرين، التعامل مع الكافرين يحتاج إلى قوة وإلى غلظة (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التحريم:9] وأما أهل الكتاب فهم في الأصل على دين سماوي مؤمنون بالله في الأصل لكنهم بعد أن بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- كفروا ببعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- فكونهم يؤمنون بالله في الأصل تكون المجادلة معهم تجاوزت هذا الأصل بمعنى التوافق معهم على هذا الأصل والاجتماع معهم عليه والانطلاق منه في الدعوة ولهذا قال الله سبحانه وتعالى (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فكيف تكون مجادلتهم بالتي هي أحسن؟ بأن يخاطبونهم في بادئ الخطاب خطاب اللين والدعوة بالتي هي أحسن (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل:125] دون الغلظة هذا المقصود به في أول الأمر، فإن لم يستجيبوا فيجادّلون بما هو أعلى من ذلك لكونهم خرجوا في الأصل في الدعوة الأولى ودخلوا في قوله (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) هذا أسلوب عظيم يمكن أن نتخذه منهجاً في الدعوة إلى دين الله أن الأصل الدخول معهم في حوار هادئ ونقاش يقرّبهم إلى الحق لا يبعدهم عنه دون إثارة البغضاء ودون إثارة مواطن الجدل. ولهذا ذكر الله تعالى الأصول الثلاثة التي يُنطلق فيها في نقاشهم وجدالهم وهي مهمة جداً لكل نقاش وجدال يبيّن لنا أسلوب النقاش والحوار مع المخالف قال الله (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ) هنا الالتقاء على أمر واحد وهو الإيمان أن نؤمن وإياكم بما أُنزل إلينا وما أُنزل إليكم، نحن نؤمن بما أُنزل إلينا ونؤمن بما أُنزل إليكم فكان من الحق عليهم أن يؤمنوا بما أُنزل على المؤمنين وعلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كما يؤمنوا بما أُنزل عليهم، هذه حجة عظيمة دامغة لهم، كيف نؤمن بما أنزل إليكم ولا تؤمنون بما أنزل إلينا؟ ولهذا لم يقل هنا –وهذا سر التعبير- لم يقل قولوا آمنا بالقرآن ذكر موضع نزوله وأنه من الله ليس من محمد فكما أنكم تؤمنون أنتم بما أُنزل على أنبيائكم فيجب أن تؤمنوا بما أُنزله الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- والله إنها لحجة دامغة لا سبيل لهم إلى إنكارها إن كانوا يريدون الحقّ، هذا الأمر الأول، الأصل الأول، نقطة الالتقاء الأولى.
 الثانية: (وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ) نحن نؤمن أن الله هو الإله الواحد وأنتم تؤمنون بذلك فاعترافهم بهذا سيهدم عقيدةً من عقائدهم لو وافقونا على هذا ولا بد أن يوافقونا عليه في الأصل (وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ) فإذا قالوا ونحن كذلك فقد كفروا باعتقادهم بالتثليث في النصارى وكفر اليهود بأن عُزيراً ابن الله، خاصة النصارى يؤمنون بالتثليث، فهذا أصل يرغمهم على الإيمان إن كانوا يريدون الحق.
 الأصل الثالث: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي نحن وإياكم كلنا مستسلمون لله مستجيبون لأمره أليس كذلك؟ نعم، فهذا يُلزمهم بالانقياد لأمر الله وما هو أمر الله الذي يلزمهم؟ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه الأمور الثلاثة فقط كافية في إقناعهم وإلجامهم على الاعتراف والإيمان. وهذا يبين لنا أسلوباً عظيماً من أساليب المجادلة وهو الانطلاق من نقاط الالتقاء لجاء إلى الحق، نقاط الإلزام أسلوب الإلزام، طريق أسلوب الإلزام هذا هو أقرب طريق وأيسر طريق لاقناع الخصم تبدأ به بنقطة تجتمع أنت وإياه فيها ثم تواصل معه الجدال بناءً عليها فتُلزمه بكل ما يبنى عليها.
/ قال الله سبحانه وتعالى (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) هذه دعودة لمجادلة المشركين في شأن القرآن بعد شأن التوحيد لما ذُكِر جدال أهل الكتاب قضية الإيمان بما أُنزل إلينا أردفها أو عقبها بمجادلة المشركين في شأن الكتاب الذي أنزله الله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يراد بذلك الذين آتيناهم الكتاب من هم؟ الذين آمنوا من أهل الكتاب يؤمنون به.
 (وَمِنْ هَؤُلَاء) مشركي العرب وهذا السياق في القرآن ظاهر أن (من هؤلاء) أي المعاصرين فإن كانت السورة مكية فهي في المشركين وإن كانت مدنية فهي في المؤمنين، هذا هو الأظهر في السياق القرآني.
 (وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ) من هؤلاء العرب من يؤمن به أيضاً.
 (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ) فهنا بيّن أن الله -عزّ وجل- هو الذي أنزل عليك الكتاب ويؤكد ذلك إيمان أهل الكتاب به منهم وإيمان من العرب من آمن به أيضا (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ) ولم يقل وما يجحد بآياتنا مَنْ سوى ذلك، صرّح بكفرهم فهم بجحدهم كفّاراً فمن جحد آيات الله فقد كفر بنصّ هذه الآية.
 قال الله تعالى (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) ما المقصود بهذه الآية؟ المقصود بهذه الآية هو إثبات أن القرآن من عند الله -عز وجل-وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- ليس منه شيء منه، دليل على تجرّد النبي -صلى الله عليه وسلم- من التقول على الله في كتابه وأن هذا القرآن من عند الله تعالى مُنزل إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم- فقال الله (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ) مصادر العلم ما هي؟ مصادر العلم اثنان الكتابة والقراءة، كيف يمكن أن تصل إلى معلومة؟ بالكتابة والقراءة، قال الله -عز وجل- (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ) ما كنت تقرأ (وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) ولا تكتب (إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) لو كنت تكتب أو تقرأ لارتاب أهل الباطل في أنك قد كتبت هذا القرآن من عندك أو أنك قرأته من نفسك. فهذا نفيٌ لحالتي التعلّم القرآءة والكتابة استقصاءً في وصف الأميّة لمحمد -صلى الله عليه وسلم-.
 وقيّد الخطّ باليمين لأنه هو الأصل ويؤكد أن الأفضل في الكتابة بلا شك باليمين لأنها الأصل في الكتابة تشريفاً لليمين التي يُكتب فيها اسم الله ويُكتب فيها آيات الله ويُكتب فيها ذكر الله وما والاه.
 قال الله (إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) وصفهم بالمبطلين لكون تكذيبهم هنا من غير شبهة.
 / ثم قال الله (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي هو كتاب محفوظ في صدور الذين أوتوا العلم والمقصود بالذين أوتوا العلم ابتداءً النبي -صلى الله عليه وسلم-أي أنك تتلقى القرآن ينزله الله تعالى على قلبك كما قال الله تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء] فقال الله (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ويقصد بذلك ابتداءً النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه لم يأتِ به من عند نفسه بل أنزله الله تعالى وأقره في صدره وقلبه. وفي هذا ما يؤكّد على أن حمل القرآن في الصدر، هذه الآية تبيّن لنا فضيلة حمل القرآن في الصدور بل هي أدلّ الأدلة في كتاب الله عزّ وجل على فضيلة حفظ القرآن، أدلّ الأدلة في القرآن الكريم -وإن كانت غير صريحة- على فضيلة حفظ القرآن وإيداعه في الصدور لكنها تدلّ على حقيقة الحفظ المقصود وأنها ليست ألفاظاً يحفظها الإنسان في صدره بل هي آيات يتعلّم فيها العلم قال (أُوتُوا الْعِلْمَ) فيعرف ما فيها من العلم والعمل فيمتثلها وهذا الذي يمكن أن يسمى حافظا لكتاب الله عزّ وجل فهو حافظٌ لألفاظه وحافظٌ لمعانيه وحافظٌ للعمل به، هذا هو الحافظ في الحقيقة ولذلك لم يقل في صدور المؤمنين لو قال في صدور المؤمنين لدلّ على الحفظ فقط لكنه قال (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ليؤكد أنها لم تكن مجرد ألفاظ بل هي ألفاظ أعقبها علمٌ بها ومدارسة أدّى ذلك إلى العمل بها والامتثال. فهذا ملحظ مهم في معنى هذه الآية الاستدلال بها على حفظ القرآن نعم، ظاهر لكنها لا تدلّ دلالة صريحة على الحفظ المجرّد وإنما تدل على الحفظ الذي يقترن به العلم والعمل.
قال الله (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) فهم ظالمون بتجاوزهم وتعدّيهم بالكفر بآيات الله والتكذيب بها.
/ ثم قال الله (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) هذا في بيان مقولتهم الناشئة عن جُحدهم وأنهم أرادوا بذلك أن يبرهن على صِدق رسالته بآيات أخرى لم يكتفوا بالقرآن الكريم وإنما طلبوا آيات تُرى فقالوا (وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ) نشاهدها ويؤكد ذلك صِدقه فلم يكتفوا بالقرآن، هذا منهم محاولة للخروج من التبعة بالإيمان بالقرآن، لما أُلزِموا الإيمان بالقرآن أرادوا أن يتخلصوا منه بالمطالبة بآيات مشاهدة يرونها، وأيهما أعظم الآيات المشاهدة أو التي يتلونها؟ إذا قلنا أن الآيات التي يتلونها أقوى في الحجة عليهم ولهم من الآيات المشاهدة فما الدليل؟ كيف ذلك؟ بيّن الله تعالى ذلك في الآيات بعدها قال (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) ويؤكد في هذه الآية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- والداعية لا يُطالَب أن يبين الآيات مشاهدة، لا يستلزم في الرسالة أن تكون الرسالة مؤيّدة بآيات مشاهدة إنما يكفي البلاغ والإنذار.
 وقال الله (وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) ولم يقل بشير لأن الخطاب مع المشركين فحقُّهم الإنذار فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن أنه إنما أُمِر بالإنذار وأن الإنذار كافٍ في قيام الحجة عليهم وأنه ليس لهم سبيل أن يطالبوا بآيات مشاهَدة.
 ثم ذكر الله -عزّ وجل- ردّاً عليهم مما يؤكد على أن آيات القرآن أعظم حجة لهم وعليهم من الآيات المشاهَدة قال (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) ألا يكفي (أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) ألا يكفي أنهم تأتيهم آيات الله غضّة طريّة من الله تعالى إليهم تتلى عليهم يسمعونها؟! هذا أقوى حجة لهم بأنهم يسمعون آيات الله التي فيها بيان وفيها توضيح وأمثلة وقصص وأحكام تتلى عليهم، فيها البيان التامّ هذه الآية التي يشاهدونها لو كانت آية مرئية إنما يشاهدون آية مجرّدة لكن هذه الآيات التي هي القرآن آيات بيّنة فيها حكم وأحكام وإرشاد فهي أقوى في الحجة والبيان.
 قال الله (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في القرآن (لَرَحْمَةً) في القرآن رحمة وهذه الآية المشاهَدة ليس فيها إلا حجة عليهم أما هذا القرآن ففيه رحمة لهم من حيث أن الله تعالى بيّن لهم فيها مواضع الرحمة ومواطنها وحثّهم عليها من الإيمان والعمل الصالح وأسباب دخول الجنة وأسباب ابتغاء مرضاته إلى غير ذلك فهذه أقوى في الحجة لهم.
 قال (إِنَّ فِي ذَلِكَ) في القرآن (لَرَحْمَةً وَذِكْرَى) أي تذكير والتذكير يشمل المواعظ ويشمل الآداب ويشمل القصص والأخبار كل هذا تذكير لهم، أليس هذا أقوى من أن تكون مجرّد آية مشاهدة يشاهدونها؟ بلى وربي.
 قال (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يصدقون لكنها ليست رحمة ولا ذكرى إن كانوا مكذبين فهذه الآيات وهذا القرآن لا ينتفع به إلا المؤمنون الذين يريدون الانتفاع فكان في ذلك أعظم ردّ عليهم وأعظم حجة في دمغ حجتهم وطلبهم للآيات.
/ قال الله تعالى (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) هنا بعد إلقانهم الحُجّة جعل الله تعالى عليهم شهيداً عليهم قال (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا) (كَفَى بِاللَّهِ) أي هو كافٍ في إظهار الحُجّة عليكم وهو كافٍ في الشهادة عليكم بأنكم علمتم الحق وكذّبتم به وبما في نفوسكم من التكذيب وبما تستحقونه من العذاب والعقوبة. فكأنه أراد أن يُشهد عليهم ربّه في إقامة الحجّة عليهم وإشهاد الله -عز وجل- عليهم بالبيان لذلك قال الله تعالى (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا) ثم قال (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فعِلمه بما في السموات والأرض كافٍ كعلمه بما في نفوسهم وفي صدورهم.
قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ) أي بعد ذلك (أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) فإنهم قامت عليهم الحجة وظهر لهم البرهان فهم بعد ذلك خاسرون بكفرهم وتكذيبهم.
  نقف هنا ونواصل بإذن الله تعالى في المجلس القادم والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
لحفظ الملف الصوتي

http://media.tafsir.net/ar/lessons///Otrojjah_104.mp3






------------------------------
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق