د. محمد الربيعة
المجلس الأول:
المجلس الأول:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿٥٣﴾ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴿٥٤﴾ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٥٥﴾ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴿٥٦﴾ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴿٥٧﴾}
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصَحْبِهِ أجمعين. نُواصِلُ أيُّها الإِخوة مجالِسْ الــمُدارسَةِ والتَّدَبُّرِ لِسُورةِ العنكبوت، وهذا هو المجلس الأَخيرِ منها.
يقول الله عزَّ وجل (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) ذَكَرْنا أيُّها الإخوة أنَّ الآية اشْتَمَلَتْ على الرَّدْ على الــمُشْركين في إبْطالِ إعْتِقَادِهم ومَعْبُوداتهم، ثُمَّ خاطَبَهُم الله -عزَّ وجل- في آياتٍ سَبَقَتْ هذه الآية في إثْبات أنَّ القُرآنَ حَقّ، وأنَّ رسُول الله -صلى الله عليه وسلَّم- حَقّ وما جاء به.
في هذه الآية هي اسْتقصَاءٌ في الرَّد عليهم، إبطالاً لتعَلُّلاتهم في إعْراضِهِم. هذه الآية هي في مُعاجَزَة النَّبي -صلى الله عليه وسلَّم- باسْتعجالهم العذاب، فهُم استعْجَلُوا العذاب ليكُونَ آية من آياتِ صِدْق النَّبي -صلى الله عليه وسلَّم- إنْ كانَ -في زعْمِهم- صَادِقْ، وهو -صلَّى الله عليه وسلَّم- صادِقٌ بأمْرِ الله عزَّ وجَلْ، وهذا وارِدٌ في القُرآن في عِدَّة آيات في قوله تعالى ﴿وقالُوا ربَّنا عَجِّل لنا قِطَّنا قَبْلَ يومِ الحِسَاب) [ص:16] وغيرها من الآيات.
/ قال الله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى) أيّ مكتُوبٌ عند الله -عزَّ وجل- بأنَّ هذا العَذاب لا يَقَع إلاَّ بأمْره في موعِدٍ محدودٍ مُسمَّى عند الله -عزَّ وجل- لَجَاءَهُمْ. قال (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
ثُمَّ قال (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) ما الفَرقُ بين الاستعجالين؟ هُم استعجَلُوا مرَّتين، فما الفَرْقُ بينهُما؟
الأول: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) إستعجالُ العذاب الدُّنيوي.
والآخر: (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) اسْتعجال العذاب الأُخْرَويّ. استعجلوا مرتين فأُنْذِرُوا بعذابين أحَدُهُما أعْجَلُ من الآخر، فكأنَّ الآية الأُولى في اِسْتعجالهم بالعذاب الدُّنيُويّ وهُو الهلاك الذِّي أُنْذِرُوا به بِذكْر الأُمَم السَّابقة وما أَخْبَر الله عنهُم أنَّ الله أهْلَكَهُم، ومنهُم عادٌ، وثمُود، وقارون، وفِرْعون، وهامان، والأُمم السَّابقة أيضاً قومِ نُوحٍ، وإبراهيم، ولُوط، فكأنَّهُم قالوا: إنْ كُنْتَ صادِقاً أنَّ الله سيُهْلِكُنا كَمَا أهْلَكَهُم فأْتِ بالعَذاب. قال الله (وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى) أيَّ أنَّ الله -عزَّ وجل- جَعَل لهُم مُهْلَة، وأَمْهَلَهُم، ولَم يُعاجِلهُم بالعذاب. (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) هذا إشارة إلى ما آتاهُم الله به بغْتَةً في إهْلاكهم وخاصَّةً صَناديدهم في غزوة بدر. إذاً هذه الآية هي الآية الثالثة التِّي تُشيرُ إلى غزوة بدر وغيرها من الغَزَوات. -نحن طلبنا منكم أن تأتونا بست آيات في سورة العنكبوت والروم التي تشير إلى غزوة بدر، ذكرنا ثلاثاً منها وباقي ثلاث- قال الله (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أيّ لا يتوقَّعُون ذلك،ولا شَكّ أنَّ ما أَصابهم في بدر كانَ بَغْتة لهُم، إذْ لَــمْ يَكُونُوا يتوقَّعُون أبداً أن يكُونَ ذلك واقِعٌ عليهم، إذْ قد آتَوْا بِكُلِّ ما لَدَيهم وعندهم من العُدَّة والعَتاد، وكانُوا ثلاثةَ أضْعاف المسلمين ومع ذلك هَزَمَهُم الله، وخَذَلَهُم، وأهْلَكَهُم، وقَتَل طواغيتَهُمْ.
/ ثُمَّ قال الله (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) أيّ الأُخْرَويّ وَلِذلك قال بعدها (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) ومعنى قوله (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ) للدَّلالة على عدم انْفلاتهُم منها، فهي مُحيطةٌ بهم مِنْ كُلِّ جَانِب يُصيبُهُم لَهبُهُا، وعذابُها من كُلِّ جَانِبْ، ويَدُلّ أيضاً على أنَّها مُحيطةٌ بهم لا يستطيعون الانْفلات منها، وذلك دليلٌ على شِدَّةِ عقابهم، وعذابهم فيها عياذاً بالله.
قال الله في وصْفِ عذابهم مُبالغةً في ذلك وتَرْهيباً وتخويفاً من العذاب الأُخروي قال الله (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ) فالغِشَاء هو: الغطاء أيّ أنَّ العذاب اللهب لهب جهنَّم ونارُها - عياذاً بالله- يُغطِّيهم من فوقهم.
(وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) فَليسَ لهُم قَرار. ما أعْظَم هذا العذاب أيُّها الإخوة! أنَّ الإنسان ليس له قرار في جهنَّم - عياذاً بالله- ليس للكَافرِ الــمُعذَّبِ قرار يَقِرُّهُ، ولا يجْلس، بل العذاب يلتَهِبُه من تَحْتِهِ ومن فَوْقِه. وهذا يُبيِّن أنَّ عذاب جهنَّم عظيم ليسَ كعذابِ الدُّنيا، عذابُ الدُّنيا قد يأتيه من جَانِبْ لكن عذاب الآخرة يأتيهِ من كُلِّ جانِبْ - عياذاً بالله- (وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أيَّ جَزاءَ ما كُنْتُم تعْملون من الشِّرْك والتَّكذيب بالله، وآياتِه وكُتُبِه ورسوله.
هُنا انتهى السِّياق في مخاطبتهم أو أنَّه انتقل من خطابهم إلى خطاب المؤمنين فقال الله (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) هذه الآية - أيُّها الإِخْوة- تُشيرُ إلى أمْر مَقْصُود في السُّورة وغرَضِها، ما هو؟ تشير إلى الأَمْر بالهجرة، كأنَّ الله -عزَّ وجل- لــمَّا أَيَّسَ المؤمنين من الكافرين واسْتعْجَلُوا العذاب وحُقَّ لهم بذلك العذاب، كأنَّ الله تعالى قال: اُخْرُجُوا عنهم، فإنَّهُم قد اسَّتَحقَّوا العذاب وقد انتهى أمْرُهُم وحانَ عذابُهُم فقال الله (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أَيّ أيْضاً إنْ كُنْتُم قد وجَدْتـُم من البَلاء، والمحنة، والفِتنة في مكَّة ما مَنَعَكُم من إقامة دين الله واُفْتُـتِنْتُم بسبب وجُودِكُم بين أظْهُرهِم فإنَّ أرضي واسعة فاعبدُوني في أرضي الواسعة التِّي تَتمكَّنُون فيها. وهذه الآية- أيُّها الإخوة- دليلٌ على أنَّهُ يُشْرَع للإنْسان أنْ يُهاجِرَ بدينه عن الأرض التِّي لا يستطيعُ أنْ يَعبُدَ الله تعالى فيها، وأنْ يَبْحث عن أرْضٍ يتمَكَّن فيها من عبادةِ الله سبحانه وتعالى. فقوله (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) يُبيِّن أنَّ الأَرْضَ لله كُلُّها موضِعُ العبادة، فما وَجَدْتَ فيها من موضِعٍ تستطيعُ أن تتمكَّن فيه من عبادة الله فهُو موضِعٌ يَقِرُّ لَكَ فيه القَرار لإِقامةِ دين الله عزَّ وجل. وفي هذا ما يُشيرُ أيُّها الإخوة إلى مَشْروعية نَشْر دين الله -عزَّ وجل- في الأرض التِّي هي أرضُ الله تعالى، وإقامةَ دينه وعبادته، وأنَّه ينبغي على الإنْسان أنْ ينْتَقِلْ من بَلَدٍ إلى بَلَد في الدَّعوةَ إلى الله ونشرها ليُقيمَ فيها الدَّعوة وأمْرَ الله سبحانه وتعالى.
/ قال الله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) تُشيرُ هذه الآية في سياقِ الآية التِّي قَبْلَها إلى مَعنَيين:
المعنى الأوَّل: أنَّ مَنْ خَافَ من هِجْرتِهِ أنَّهُ يَهْلَكْ، ليسَ لهُ مَأْوى، وليسَ له رِزْق، وليس له بَلَدْ يَأْويه ويخْشى الهَلاك، فـ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) في أيِّ مَكانٍ كان، قد يَــمْنَعُ الإنسان من هِجْرته أنَّه لا يَجِدْ سبيلاً إلى العَيْش، قد يَهْلَكْ بسبب هِجْرَتِهِ، فالله تعالى يُبيِّن أنَّ الموت صائر كائِنٌ لا محالة (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) .
وفي معنى آخر: أنَّه في سبيلِ فِتنتِهِم في دِين الله إنْ مُنِعُوا من الهِجْرة، ولــَمْ يَستطيعوا وعُذِّبُــوا حتَّى هُدِّدُوا بالموت فلْيَصْبرُوا وإنْ هُدِّدوا بالموت، فليَصبِروا على دينهم وإنْ كانَ ذلك على حسابِ أنْفسهم، وأَرْواحهم فـ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) فالله تعالى يُبيِّن لعباده هُنا أنَّهُم إنْ كانَ لكُم سبيل فَهَاجِرُوا، وإنْ لــمْ يكُنْ لكُم سبيل فابْقَوا على دين الله تعالى وإنْ كانَ ذلك على سبيلِ أَرْواحكم فـ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ).
(ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) أيّ تَجِدُونَ جَزاءَ أعْمالكُم.
/ (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) هذه الآية تُبيِّنُ مَقَام المؤمنين وجَزاءهم في مُقابِل جَزاء الكافرين. فإنَّه ذَكَرَ في الآيات قَبْلها (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) عذابَ الكافرين فذَكَر هنا نعيم المؤمنين وأنَّهُم يُبَوِّئِهُم اللهُ من الجَنَّة غُرَفاً. أُولئك يغْشاهَم العذابُ من فوقهم ومن تَحْتِ أرْجُلِهم وهؤلاء يُبَوَّؤُون من الجَنَّة غُرُفاً (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) فهذا فيه تطمينٌ لهُم لأنَّكُم بالإيمان والصَّبْر واليقين على ما أنْتُم عليه في أيِّ مكانٍ كُنْتُم، فاصْبِرُوا وإنْ كانَ ذلِك فيه ضِيقٌ عليكُم فإنَّ الله سيُوسِّعُ لكُم مقَامَكُم في الآخرة وسيُبَوئِّكُم من الجَنَّةِ غُرَفاً تجري من تحتها الأنْهار. هذا -لا شَكَّ- أنَّه يُطمئِنْ النُّفُوس المؤمنة، مهما كانَتْ عليه من الضِّيق، والضَّنْك، وضَغَثْ العَيْش، فإنَّ الله عَزَّ وجل سيُكْرِمُهُم بها في الجَنَّة نعيماً وافِراً ولهذا قال (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) أيّ الذِّين عَمِلُوا الصَّالِحات، وابْتَغَوْا فضلَ الله -عزَّ وجل- فَنِعْمَ أجْرُهُم.
/ ثُمَّ قال (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) صبَروا على ما أُوذُوا عليه في فِتْنَتِهم من دينهم، وتوكَّلُوا على اللهِ تعالى في ذلك، واعْتَمَدُوا عليه، وإنْ كانَ ذلك على حِسَابِ أمْوالهم، وديارهم، وفَقَدُوا ما فَقدُوا بذلك من أجْل دينهم فإنَّ الله هُو الرزَّاق- سبحانه وتعالى- ولذلك قال بعدها (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أَي وإنْ انْقَطَع رزقُكُم بسبب تَمسُّكِكُم بالدِّين، فإنَّ الله قَدْ ضَمَنَ لكُم الرِّزْق، وكَتَبَهُ لكُم فهذه سُنَّتُهُ في الخَلْق (وما مِنْ دابَّةٍ في الأَرضِ إلاَّ على الله رِزْقها) [هود:6]
(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا تحمل رزقها أي لا تتحمَّل وتتكَلَّف في رزْقها، فاللهُ يَرزُقُها من غيرِ تَكَلُّف، ولا تَحمُّلْ، لا تَحْمِلُ همَّهْ، فاللهُ يرزُقُها وإيَّاكُم، (لو أنَّكُم تتوكَّلُون على الله حَقَّ توكله لَرَزَقَكُم كما يَرْزُقُ الطَّيْر) فالله سبحانه وتعالى هُنا يُطمْئِنُهُم بأنَّ رزقهُم مضمُونٌ لهُم، فليُقِيمُوا أمْر الله ولْيَصْبِروا عليه. قال الله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أيّ سميعٌ لأقْوالِكم ودُعائكُم والْتجائكُم لله، وعليمٌ بأحْوالكم.
قال في خِطابٍ مع الــمُشركين مرَّةً أُخرى، السُّورة -أيُّها الإخوة- فيها جِدالْ مع الــمُشركين لإبْطالِ أمْرهِم، وشَأْنِهم، ومعبُوداتهم، حتَّى لا يَبْقى لهُم مجالٌ في الــمُجَادَلة، ولا يبْقى في نُفُوسِ المؤمنين شَكٌّ في دينهم. فهُنا جِدالٌ للمُشْركين وإقْرارٌ وإلْزامٌ لهُم ببُطْلانِ شِرْكِهِم من وجْهٍ آخَرْ وهُو أنَّه يُلزِمِهُم بالاعْتراف بناءً على اعْتِرافهم، بأنَّ الله واحِدٌ وهُو الــمُستَحقّ للعبادة قال (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي هؤلاء الــمُشْركين (مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي أنَّــى يَفْتَرُونَ على اللهِ الكَذِبْ ويَزْعُمُون أنَّ الأَصْنام لها من التَّصَرُّف والنَّفْع والضُّرّ؟! فيَفْتَرُونَ على الله تعالى إفْكاً، وإثْـماً، وزُوراً. فهذا إلزَامٌ لهُم بأنَّ الله تعالى خَالِقُ كُلِّ شيء فهُو الــمُستَحِقُّ للعبادة وحْدَهُ سبحانه وتعالى (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ويَعبُدُون غيره؟!
/ قال الله (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هذه الآية هِي مُوجَّهَة للكافرين من جِهة، في إثِباتْ أنَّ الله هُو الرزَّاق، وهُم يُقِرُّون بذلك، فكيف تعْبُدُونَ غيره؟! فهُو إلْزامْ بِـما الْتَزَمُوا به من الإِقْرار أنَّه إذا كُنْتُم تعتقِدُون أنَّ اللهَ هو الرزَّاق، فلماذا تعْبُدُونَ غيره؟! وهُي أيْضاً خِطابٌ للمُؤمنين من جِهة أنَّه قال (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) فتوكَّلُوا عليه واعْتَصِمُوا به وتَـمسَّكُوا بدينه فإنَّ الله يَرزُقُكُم.
قال (لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) في هذه الآية زيادةٌ عن غيْرها بقوله (مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) كأنَّ فيها تأكيدٌ للمُؤمنين بأنَّ الله يَرزُقُهُم فهُوَ الــمُتصَّرِّفُ سبحانه بالأحْوال وحْدَه، فهُو ضمانٌ لهم وتأكيد.
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عليمٌ بأحْوال الــكافرين في شِرْكِهْم وضَلالهم وعليٌم بحَال المؤمنين وصَبْرهم ويقينهم.
قال الله في دليلٍ آخر أيْضاً في إبْطال اعْتقادِهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) إقرارٌ وإلْزام أنَّ اللهَ هُوَ الذِّي يُنزِّلُ الغيْث، وأتى بنعمة الغَيْث مع أنَّها داخِلَةٌ في الرِّزق لماذا؟
فِيهَا إشَارَة للبَعْث الذِّي يُنْكِرُونَه، ففيها إثْبات دليلين عليهم:
الدَّليلُ الأوَّل: إثْبَات أنَّ الله هُو الرَّزَاق، فَيَلْزَمُكُم أن تعتَرفوا بِعُبُودِيته وحْدَه.
الأمر الثَّاني: إقرارهُم بأنَّ الله يُحيي الأَرْضَ بعد موْتِها، فهو إقْرارٌ بقدرته، فيَلْزَمُهُم الإقْرَار بالبَعْث بعد الــمَوْت. ولذلك قال سبحانه وتعالى في كثيرٍ من آياتِ القُرآن إثْبات ربْطُ الإخْراج (وكَذلِك تُخْرَجُون) بإحْيَاءِ الأرضِ بعد موتِها فهُو إلزامٌ بدليلين عليْهِم. كأنَّ هذه الآية تجْمَع الأَمْريْن الإيمانُ بالله وباليوم الآخر الذِّي هو أصْلُ إنْكارهِمْ. فأَصْلُ إنْكارِهم هو كُفرهُم بوحدانية الله، وبالبَعْث بعد الــمَوْت.
قال الله (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ماذا يفيد هذا؟ يُفيد أنَّه قد تبيَّن الحَقّ وانْقَطَع سَبيلُهُم في إِقامةِ الحُجَّة فقد أبَانَ لهُم كُلَّ دليل فهُنا اعْترافْ، وإقْرار بالحمدُ لله الذِّي أتَمَّ نعمتَهُ بالبَيَان.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) مع هذه الأدلة والآيات البيِّنات، والدَّلائِل الواضحات إلاَّ أنَّهُم لا يَعْقِلُونَ ذلك فيتفَّكَرون فيها فيَعُونَ الحَقَّ ويَعْرِفُونَ أنَّهُم على الباطِلْ.
/ ثُمَّ قال الله (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي هذه الحياة التِّي يتعلَّقُونَ بها ويَظُنُّون أنَّها هي حياتُهُم الباقية، وأنَّها هِيَ عيْشُهُم وبقَاؤهُم وسببُ كُفْرِهم وضَلالهم تَعَلُّقهم بها بِزَعَمَاتِها، ورِياستها، ووَجاهتها، وأمْوالهم فيها من أسبابِ كُفْرهم ذلك، بيَّنَ الله أنَّ هذه الحياة ليْسَتْ بشيء إلاَّ لهْوٌ ولَعِبْ. ما الفَرْق بين اللَّهْو واللَّعب؟
اللَّهْو هُو: كُلّ ما يُشغِلْ عن طاعةِ الله من الأموال والأولاد وغير ذلك كل ما يشغل عن طاعة الله فهُو لهو يَلْتهي به عن ذِكْر الله وطاعته.
واللَّعِبْ هُو: ما غَرَضُهُ الــمُتْعَة والتَّرَفْ وغير ذلك، غير اللهو اللهو يدخل فيه الأموال والأولاد الذين يُشغلون لكن اللعب هو ما قصده التَّرَفُهْ والتمتع بالألعاب ونحوها فهي لَعِب يلعبون بها من حيث أنهم يظُنُّون أنَّها هي مُتْعَتُهُم.
قال الله (وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) الدَّار الآخرة التِّي هي موضِعُ الجَزاء وموضِعُ الخُلُود عند الله والبَقاءَ الدَّائِمْ (لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) والتَّعبير بالحيوان دون الحياة ما سرّه؟ ما الغرض منه؟ أي الحياة الحقيقيَّة الكاملة التِّي يَضْمَنُ فيها الإنْسان عَيْشاً هَنيئاً وبقاءً خَالِداً، فَفِي التَّعبير هُنا تأكيدٌ لكَمَالِ هذه الحياة. الحياة الدُّنيا حياة لكنَّها ليْست حياةً كاملة، فلمَّا أراد هُنا أن يُبيِّن أنَّ الحياة الآخرة هي الحياةُ الكاملة عبَّر عنها بـ( الْحَيَوَانُ) أي التِّي فيها الحياةُ الكاملة التِّي يتوَفَّر فيها النَّعيم الدَّائِمْ والخُلُودْ الباقي.
قال (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) لكنَّهُم لا يعْلَمُون، لماذا؟ لأنَّ عُقُولُهم قد قَصُرَت على حُظُوظِهِمْ الدُّنيوية وغَفِلُوا عن ما عند الله -عزَّ وجل- فَكَفَرُوا وكَذَّبُوا. وإلاَّ لا يُمـْكِن - أيُّها الإخْوة - للإنْسان أنْ يعتَرِفْ، ويُقِرّ، ويُؤمِنْ باليوم الآخر وما عِنْد الله من الجَزاء ويَكْفُرْ. فإذا كانَ يَكْفُر وهو يَعْلم أنَّ عند الله الجَزاء فإنَّــما اعْتَرَف على نفْسه أو أَقَرّ على نفْسه بِدُخُولِ النَّار واسْتِحقاقها وعَلِمَ أنَّهُ خاسِرٌ من تِلْقَاءِ نفْسِه.
قال الله -عزَّ وَجل- في آيةٍ أُخْرى من آياتِ إقْرارهم بِعُبُودية الله وحْدَه ورُبُوبيته وحْدَه وأنَّهُ الــمُسْتَحِقّ سبحانه للعبادة وحْدَه، قال (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) ما هُو حالُهُم؟ التَّوحيد (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أليْسَ هذا داَعٍ إلى أنْ يَجْعَلُوا دَعْوَتَهُم لله تعالى وتَوجُّهُهُم إلى الله في كُلِّ شَأْنٍ من شُؤونهم ما دامُوا يعتَقِدون أنَّ الله هو الذِّي يُنجِيهم دونَ سِواه؟ فهذا إقْرارٌ، وإلْزامٌ لهُم كأنَّه قال: كيف تُوَحِّدُون الله حين تَرْكَبُون الفُلْك وتَخْشَوْن الغَرَقْ والهَلاك ولا تدْعُونَ سِواه؟! إلاَّ أنَّ هذا إقرارٌ مِنْكُم بأنَّهُ سبحانه هُو الــمُتَصَرِّفُ بالكَوْنِ كُلِّهِ -سبحانه وتعالى-.
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي يَعُودُونَ إلى الشِّرْكْ، ولذلك عبَّر بالمضارع (يُشْرِكُونَ) يُجَدِّدون الشِّرْك، نَسُوا الله، أمِنُوا فعادُوا إلى ما هُم عليه لِطَمْسِ عقُولِهم عن الحَقّ والحقيقة إلاَّ في حَالِ الضَّرورة. وهذا لا شَكّ دليلٌ على جَهْلِهِم وما هُمْ عليه مِنْ غبَاءٍ وضَعْفِ إدْرَاك للحقيقة.
/ قال الله (لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ) ما الذِّي آتاهُم الله؟ من النِّعَم ومكَّنَهُمْ من أُمُورِ الحياةِ كُلِّها. فهذا كُفْرٌ بنعمةِ الله. إذا كُنْت تَعْلَم أنَّ هذا ممَّا آتاك الله ثُمَّ تَكْفُر به، وتَصْرِفُهُ في غير طاعةِ الله فهُو كُفْر (لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ). قال الله (وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ما معنى (ولِيَتَمَتَّعوا)؟ إمَّا أن يكونَ قصْدُهُم في ذلك أن يتمتَّعُوا، فهذا خَبَرٌ عنهم أو أنَّ هذا تهديد من الله لهُم في قوله (وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبةَ ذلك بالعذابِ الأليم. إما أن يكون أمر مضمّ، للتهديد والوعيد وإما خبر عنهم (وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فسوف يعلمون جزاءهم عند الله والثَّاني أوْلى أنه (وَلِيَتَمَتَّعُوا) أن المقصود أمر مضمّ، للتهديد والوعيد لهم.
/ قال الله عزَّ وجل في إقْرارٍ عليهم أيْضاً بِـما مَنَحَهُم الله من النِّعمة وصَرَفُوها في غيرِ ما صُرِفَتْ لَهُ، قال الله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا) يعني أنَّ الله سبحانه وتعالى مكَّنَهُم في بلادهم، في بيتِهِ الحرام، وجَعَلهُم أهْلَهُ وسَدَنَتَهُ، وجَعلَ لهُم مقاماً في النَّاس، وأَمَّنَهُم فيه بعظَمَة هذا البيْت، وأَمْنِ الله عزَّ وجل فيه أهْلَهُ.
(وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) ما المقْصُود بالنَّاس من حَوْلهم؟
إمَّا أن يكون المقصُود: ما سِوَى قُريْش وهِي القبائل التِّي تتناطَحْ بالحُرُوبْ.
أو المقْصُود: مَا وراء ذلك، فليس المقصود فقط بقوله (النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الأَقْربين وإنَّــما القُرى الأُخْرى، ويدْخُل فيه فارس والرُّوم الذِّين يتقاتَلُون أو نحْو ذلك فهذا امْتنانٌ من الله، وآيةٌ من آياتِ الله لهُم تُلْزِمُهُم بالاعْتراف وشُكُر نعمة الله -عزَّ وجل- بالإيمان بِهِ، وتِسْخيرِ بَلَدِه الحرام لِعِبَادته. وكَأَنَّ في هذا توبيخٌ لهُم، وتهديدٌ كيْفَ أنَّ اللهَ جَعَلَكُم سَدَنَة البيْت، وأَمَّنَكُم فيه، ثُمَّ تكونُونَ سَبَباً في الصَّدِ عن سبيل الله عزَّوجل، وأَذِيَة النَّاس، وفِتْنَتِهم عن دينهم.
(أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) الباطل هُنا الأَصْنام، وعبادةِ غير الله سُبحانه تعالى وما لا يُرضِي الله تعالى فهُو كُلُّهُ باطِلْ. (وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) وما هي نعْمَةُ الله؟ أعْظَمُ نعمةِ الله هي الإيمان وما هَداهُم إليه من الحَقّ وبيَّنَ لهُم من الدَّلائِلْ البَيِّنات وأنْزَل عليهم هذا القُرآن العَظِيم الذِّي هُو أعْظَمُ نعمة، وأرسَلَ لهُم رسُولاً هُو خَيْرُ رُسُلِه والله إنَّها لَنِعمة ومع ذلك يَكْفُرونَ بها! فحُقَّ لهُم أنْ يَكونوا أَظْلَمَ النَّاس وأَكْثَرُهُم شِرْكاً وكُفْراً بالله عَزَّوجَل وضَلالاً بهذا الكُفُر. فقد كَفَرُوا بآيات الله، وكَفَرُوا برُسله، وكَفَروا بكتابه، ثُمَّ كَفَروا بِنِعَمِه التِّي أنْعَمَها عليهم ومِنْ أعْظَمِها أنْ مكَّنَهُم في بيته الحرام الآمِن قال الله بعد ذلك في إثْبات أنَّهُم أظْلمُ النَّاس، وأشَّدُهُم كُفْراً (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحَدَ أظْلَم (مِمَّنِ اِفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) وهؤُلاء قَدْ اِفْتَرُوا على الله كَذِباً بِاتْخاذ هذه الأَصْنام آلهة من دُونِ الله -عزَّ وجل- وزَعَمُوا أنَّها تُقَرِّبُهُم إلى الله تعالى زُلْفَى، وكَذَبُوا بما زَعَمُوا.
(أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ) والمقصود بالحَقّ هُنا هو القُرآن وما جاءَهُم به رسُولُ صلى الله عليه وسلم لــمَّا جَاء. ثُـمَّ حُكْمٌ عليهم باسْتحقاقهم للعذاب على هذا التَّكذيب (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) والمَثْوَى هُو: الــمُستَقَرّ والــمُقَامْ فَهُم حُقَّ لهُم أن يسْتَقِرُّوا ويكُون لهُم مَقامٌ في جهنَّم- عياذاً بالله تعالى- أي أنَّهُم أَحَقُّ من يسْكُنُها ويأْوي إليها ويَثُوبُ إليها ذلك أنَّهُم كَفَروا وكَذَّبُوا وافْتَرُوا على الله كَذِباً وكَذَّبُوا بالحَقّ لـــمَّا جَاءَهُم.
/ ثُمَّ خَتَم الله عزَّ وجل السُّورة بِـخَيْرِ خِتَام، عوْداً على الــمُؤمنين. كَمَا ذَكَرْنا أنَّ السُّورة هي بين المؤمنين في مُخاطَبَتهم تأْنِيساً لهُم، وتأييداً وحَثَّاً وتقويةً لهُم بالـمُجاهدة والصَّبْر على ما يُصيبهم، وبين مُجاهدة الكافرين في توْهينٍ أمْرِهِم وقَطْعِ حُجَّتهم وإقامة الحُجَّة عليهم. قال الله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)
أوَّلاً: نتكَلَّم عن الآية بـمُناسبِتها لسياقِ السُّورة. فما مُناسَبَتُها لِسيَاقِ السُّورة؟
هي خِطابٌ للمُجَاهدين الأَوائِل المهاجرين، الذِّين جاهدوا في الله من الصَّحابة رضوانُ الله عليهم، اُفْتُتِنُوا في دينهم فصَبَرُوا، وصَابَروا، وجَاهَدُوا في ذَاتِ الله -عزَّ وَجَل- ثُمَّ وعَدَهُم الله بأنْ يَهْدِيَهُم السُّبُل، ما المقصود بهذه السُبُل؟ أمْران:
الأمر الأوَّل: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله في مكة وصبروا وصابروا قيل أنَّ المقصود (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) لَنهْدِيَنَّهُم سُبَلَ الهِجْرة إلى بلادِ الله عَزَّ وجل التِّي يُقيمُونَ فيها دينَه. فكَأنَّ هَذا إشارةٌ إلى الإِذْن مرَّةً أُخْرى أو وعْد بأنَّ يَيُسَّر الله لهُم الــمَقَرّ، والــمَكانْ والسُّبُل بعد أَمْرهم. في الأوَّل قال (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) كأنَّ الله أمَرَهُم بالهجرة، هنا وعْدٌ بأنَّ الله ييُسِّر لهُمُ السُّبُل، ويُهيّئ لهُمُ الطَّريق، فهُو تطْمينٌ لهُم في هجرتِهم، هذا المعنى الأول.
المعنى الثَّاني: وهو مَعنىً عام للصَّحابة وغيرهم أنَّ من جاهَد في اللهِ حَقَّ جِهَادِه، وصَبَر، وأَخَذَ بِالعَزْم، واليَقِين، والثَّبات فإنَّهُ سَينالُ من اللهِ فَتْحاً وتوفيقاً وهدايةً عظيمة. وهذه يا إخواني قاعدة في الحياة اِجْعلْها نَصْبَ عيْنِكْ في حياتِك كُلِّها إذا جَاهَدْت في أيّ أَمْر في سبيل العلم، أو في سبيل التِّجارة الصَّالحة، أو في سبيل تربية أبنائك، أوْ في سبيل مُجاهدة نفسِكَ في تَرْكِ معاصي الله والــمُحرَّمات، أوْ في سبيل الدَّعوة إلى الله عزَّ وجَل، والــمُصَابرة في طريقها، والأَذَى الذِّي يحصُل لَكْ وغير ذلك، الـــمُهمّ أنْ تكون (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا). لاحِظُوا يا إخواني الكِرام شَرْطان إذا تَحقَّقَا في هذا العَمَل فاعْلَمْ يقيناً بلا شَكٍّ ولا ريْب أنَّ طريقَهُ فتْحٌ وتوفيق. ما هُما الشَّرطان؟ شَرْطٌ مِنْك. وأمْرٌ بينَك وبين الله. أما الأمر الأوَّل: فهو الــمُجَاهدة (جَاهِدْ) والــمُجاهدة تعني الــمُصَابرة، وبَذْل الجُهْد كُلِّه من أجْل الثَّبات على ذلك، والصَّبر عليه.
الأمر الثَّاني: أنْ يكونَ هذا الجِهاد في الله عزّ َوجل ولله، لإقامَة دينه، أو الصَّبْر على دينه.
فإذا تَحقَّق هذان فإنَّ الله أكَّدَ لكْ يقيناً قال (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) اللام هُنا مُؤكِدَّةٌ للوعْد (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا). ولماذا قال (سُبُلَنَا) ولَمْ يَقُلْ (سَبيلنا)؟ لأنَّ المقصود هنا أيّ طرق الخير في أيّ طريق في التَّربية، أو في الدَّعوة، أو في العَمَل، أوْ في التِّجارة فسُبُل الخير هنا مُتعَدِّدة، ليس المقصود بها سبيل الدِّين فقط لكونه واحد كما قال الله تعالى ﴿ وأنَّ هذا صراطي مُستقيماً فاتَّبِعُوه ولا تتَّبِعُوا السُّبُل) [الأنعام:153] بل المقصُود بها طُرُق الخير في سبيل الله، في دين الله تعالى.
والله يا إخْواني هذه الآية من أَخَذَها أَخَذَ بِحَظٍّ وافِرْ وَوَجَدَ فتْحاً،وتَوْفيقاً من الله لا يُـمْكن أن يُصَدِّقه، ولا يُمْكِنْ أن يتوقَّعه، الــمُهِمّ أن يُجاهِد، ويَصْبِرْ ولو سِنين كما صَبَر نُوحٌ عليه السَّلام ألْفَ سَنة إلا خمسينَ عاماً، المهم أنْ لا تَمـَلّ، (فإنَّ الله لا يَمَلّ حتَّى تمَلُّوا) الــمُهِمّ أنْ لا تَنْثَني، لا تتراجَع، اِصْبِر، واثْبُتْ، ودَاوِم على ما أنْتَ عليه من الخَيْر ولا تقولْ: بَذَلْتُ كُلَّ شَيْء وما بَقِيَ شيءْ عندي فإنَّ ذلك يَأْس ﴿ولا تيئَسُوا من رَوْحِ الله إنَّه لا ييئِسُ من رَوْحِ الله إلاَّ القَوْمُ الكافرون) [يوسف:87] .
في آخِر السُّورة قال (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) لَــمَ يَقُل (مَــعَ) وإنَّما قال (لَمَعَ المحسنين) وهذا يُؤكِّد أنَّ الــمُجاهدة فيها أيضاً زيادة على ذلك إحْسان وإتْقان وبَذْل كُلّ ما في وِسْعك من الطَّاقة لِبُلوغ مرضاة ربِّك عزَّ وجل على أكْمَل حَالْ، فإنَّك إنْ جَمعْتَ بين هذه الأُمُور فقد وَفِّقْتَ لِخَيْرٍ عظيمٍ وفضْل من الله وتوفيق وفتْحٍ قريب. وهذه الآية يكفي أنَّها واردة في شَأنِ الهجرة وأنَّ الله سيفْتَحُ فيها للصَّحابة والنَّبي -صلى الله عليه وسلَّم- فتْحاً عظيماً وقد فتَح لهُم حتَّى مكَّنَ لهُم دولةً أَقامُوها. فإنْ كُنْتَ تُريدُ أن يكُونَ لكَ أَمْر، وتمكين، وفتْحٌ فَجَاهِد في الله حَقَّ جهادِه، وصابِر في أَمْر الدِّين، وأمر العِلْم والدَّعوة.فإنَّكَ سَتَنالُ خَيْراً عظيماً. نقف هنا في نهاية السورة ونجدد بإذن الله مع سورة الروم.
لتحميل الملف الصوتي :
--------------------------------------
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
يقول الله عزَّ وجل (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) ذَكَرْنا أيُّها الإخوة أنَّ الآية اشْتَمَلَتْ على الرَّدْ على الــمُشْركين في إبْطالِ إعْتِقَادِهم ومَعْبُوداتهم، ثُمَّ خاطَبَهُم الله -عزَّ وجل- في آياتٍ سَبَقَتْ هذه الآية في إثْبات أنَّ القُرآنَ حَقّ، وأنَّ رسُول الله -صلى الله عليه وسلَّم- حَقّ وما جاء به.
في هذه الآية هي اسْتقصَاءٌ في الرَّد عليهم، إبطالاً لتعَلُّلاتهم في إعْراضِهِم. هذه الآية هي في مُعاجَزَة النَّبي -صلى الله عليه وسلَّم- باسْتعجالهم العذاب، فهُم استعْجَلُوا العذاب ليكُونَ آية من آياتِ صِدْق النَّبي -صلى الله عليه وسلَّم- إنْ كانَ -في زعْمِهم- صَادِقْ، وهو -صلَّى الله عليه وسلَّم- صادِقٌ بأمْرِ الله عزَّ وجَلْ، وهذا وارِدٌ في القُرآن في عِدَّة آيات في قوله تعالى ﴿وقالُوا ربَّنا عَجِّل لنا قِطَّنا قَبْلَ يومِ الحِسَاب) [ص:16] وغيرها من الآيات.
/ قال الله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى) أيّ مكتُوبٌ عند الله -عزَّ وجل- بأنَّ هذا العَذاب لا يَقَع إلاَّ بأمْره في موعِدٍ محدودٍ مُسمَّى عند الله -عزَّ وجل- لَجَاءَهُمْ. قال (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
ثُمَّ قال (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) ما الفَرقُ بين الاستعجالين؟ هُم استعجَلُوا مرَّتين، فما الفَرْقُ بينهُما؟
الأول: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) إستعجالُ العذاب الدُّنيوي.
والآخر: (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) اسْتعجال العذاب الأُخْرَويّ. استعجلوا مرتين فأُنْذِرُوا بعذابين أحَدُهُما أعْجَلُ من الآخر، فكأنَّ الآية الأُولى في اِسْتعجالهم بالعذاب الدُّنيُويّ وهُو الهلاك الذِّي أُنْذِرُوا به بِذكْر الأُمَم السَّابقة وما أَخْبَر الله عنهُم أنَّ الله أهْلَكَهُم، ومنهُم عادٌ، وثمُود، وقارون، وفِرْعون، وهامان، والأُمم السَّابقة أيضاً قومِ نُوحٍ، وإبراهيم، ولُوط، فكأنَّهُم قالوا: إنْ كُنْتَ صادِقاً أنَّ الله سيُهْلِكُنا كَمَا أهْلَكَهُم فأْتِ بالعَذاب. قال الله (وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى) أيَّ أنَّ الله -عزَّ وجل- جَعَل لهُم مُهْلَة، وأَمْهَلَهُم، ولَم يُعاجِلهُم بالعذاب. (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) هذا إشارة إلى ما آتاهُم الله به بغْتَةً في إهْلاكهم وخاصَّةً صَناديدهم في غزوة بدر. إذاً هذه الآية هي الآية الثالثة التِّي تُشيرُ إلى غزوة بدر وغيرها من الغَزَوات. -نحن طلبنا منكم أن تأتونا بست آيات في سورة العنكبوت والروم التي تشير إلى غزوة بدر، ذكرنا ثلاثاً منها وباقي ثلاث- قال الله (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أيّ لا يتوقَّعُون ذلك،ولا شَكّ أنَّ ما أَصابهم في بدر كانَ بَغْتة لهُم، إذْ لَــمْ يَكُونُوا يتوقَّعُون أبداً أن يكُونَ ذلك واقِعٌ عليهم، إذْ قد آتَوْا بِكُلِّ ما لَدَيهم وعندهم من العُدَّة والعَتاد، وكانُوا ثلاثةَ أضْعاف المسلمين ومع ذلك هَزَمَهُم الله، وخَذَلَهُم، وأهْلَكَهُم، وقَتَل طواغيتَهُمْ.
/ ثُمَّ قال الله (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) أيّ الأُخْرَويّ وَلِذلك قال بعدها (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) ومعنى قوله (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ) للدَّلالة على عدم انْفلاتهُم منها، فهي مُحيطةٌ بهم مِنْ كُلِّ جَانِب يُصيبُهُم لَهبُهُا، وعذابُها من كُلِّ جَانِبْ، ويَدُلّ أيضاً على أنَّها مُحيطةٌ بهم لا يستطيعون الانْفلات منها، وذلك دليلٌ على شِدَّةِ عقابهم، وعذابهم فيها عياذاً بالله.
قال الله في وصْفِ عذابهم مُبالغةً في ذلك وتَرْهيباً وتخويفاً من العذاب الأُخروي قال الله (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ) فالغِشَاء هو: الغطاء أيّ أنَّ العذاب اللهب لهب جهنَّم ونارُها - عياذاً بالله- يُغطِّيهم من فوقهم.
(وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) فَليسَ لهُم قَرار. ما أعْظَم هذا العذاب أيُّها الإخوة! أنَّ الإنسان ليس له قرار في جهنَّم - عياذاً بالله- ليس للكَافرِ الــمُعذَّبِ قرار يَقِرُّهُ، ولا يجْلس، بل العذاب يلتَهِبُه من تَحْتِهِ ومن فَوْقِه. وهذا يُبيِّن أنَّ عذاب جهنَّم عظيم ليسَ كعذابِ الدُّنيا، عذابُ الدُّنيا قد يأتيه من جَانِبْ لكن عذاب الآخرة يأتيهِ من كُلِّ جانِبْ - عياذاً بالله- (وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أيَّ جَزاءَ ما كُنْتُم تعْملون من الشِّرْك والتَّكذيب بالله، وآياتِه وكُتُبِه ورسوله.
هُنا انتهى السِّياق في مخاطبتهم أو أنَّه انتقل من خطابهم إلى خطاب المؤمنين فقال الله (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) هذه الآية - أيُّها الإِخْوة- تُشيرُ إلى أمْر مَقْصُود في السُّورة وغرَضِها، ما هو؟ تشير إلى الأَمْر بالهجرة، كأنَّ الله -عزَّ وجل- لــمَّا أَيَّسَ المؤمنين من الكافرين واسْتعْجَلُوا العذاب وحُقَّ لهم بذلك العذاب، كأنَّ الله تعالى قال: اُخْرُجُوا عنهم، فإنَّهُم قد اسَّتَحقَّوا العذاب وقد انتهى أمْرُهُم وحانَ عذابُهُم فقال الله (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أَيّ أيْضاً إنْ كُنْتُم قد وجَدْتـُم من البَلاء، والمحنة، والفِتنة في مكَّة ما مَنَعَكُم من إقامة دين الله واُفْتُـتِنْتُم بسبب وجُودِكُم بين أظْهُرهِم فإنَّ أرضي واسعة فاعبدُوني في أرضي الواسعة التِّي تَتمكَّنُون فيها. وهذه الآية- أيُّها الإخوة- دليلٌ على أنَّهُ يُشْرَع للإنْسان أنْ يُهاجِرَ بدينه عن الأرض التِّي لا يستطيعُ أنْ يَعبُدَ الله تعالى فيها، وأنْ يَبْحث عن أرْضٍ يتمَكَّن فيها من عبادةِ الله سبحانه وتعالى. فقوله (إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) يُبيِّن أنَّ الأَرْضَ لله كُلُّها موضِعُ العبادة، فما وَجَدْتَ فيها من موضِعٍ تستطيعُ أن تتمكَّن فيه من عبادة الله فهُو موضِعٌ يَقِرُّ لَكَ فيه القَرار لإِقامةِ دين الله عزَّ وجل. وفي هذا ما يُشيرُ أيُّها الإخوة إلى مَشْروعية نَشْر دين الله -عزَّ وجل- في الأرض التِّي هي أرضُ الله تعالى، وإقامةَ دينه وعبادته، وأنَّه ينبغي على الإنْسان أنْ ينْتَقِلْ من بَلَدٍ إلى بَلَد في الدَّعوةَ إلى الله ونشرها ليُقيمَ فيها الدَّعوة وأمْرَ الله سبحانه وتعالى.
/ قال الله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) تُشيرُ هذه الآية في سياقِ الآية التِّي قَبْلَها إلى مَعنَيين:
المعنى الأوَّل: أنَّ مَنْ خَافَ من هِجْرتِهِ أنَّهُ يَهْلَكْ، ليسَ لهُ مَأْوى، وليسَ له رِزْق، وليس له بَلَدْ يَأْويه ويخْشى الهَلاك، فـ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) في أيِّ مَكانٍ كان، قد يَــمْنَعُ الإنسان من هِجْرته أنَّه لا يَجِدْ سبيلاً إلى العَيْش، قد يَهْلَكْ بسبب هِجْرَتِهِ، فالله تعالى يُبيِّن أنَّ الموت صائر كائِنٌ لا محالة (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) .
وفي معنى آخر: أنَّه في سبيلِ فِتنتِهِم في دِين الله إنْ مُنِعُوا من الهِجْرة، ولــَمْ يَستطيعوا وعُذِّبُــوا حتَّى هُدِّدُوا بالموت فلْيَصْبرُوا وإنْ هُدِّدوا بالموت، فليَصبِروا على دينهم وإنْ كانَ ذلك على حسابِ أنْفسهم، وأَرْواحهم فـ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) فالله تعالى يُبيِّن لعباده هُنا أنَّهُم إنْ كانَ لكُم سبيل فَهَاجِرُوا، وإنْ لــمْ يكُنْ لكُم سبيل فابْقَوا على دين الله تعالى وإنْ كانَ ذلك على سبيلِ أَرْواحكم فـ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ).
(ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) أيّ تَجِدُونَ جَزاءَ أعْمالكُم.
/ (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) هذه الآية تُبيِّنُ مَقَام المؤمنين وجَزاءهم في مُقابِل جَزاء الكافرين. فإنَّه ذَكَرَ في الآيات قَبْلها (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) عذابَ الكافرين فذَكَر هنا نعيم المؤمنين وأنَّهُم يُبَوِّئِهُم اللهُ من الجَنَّة غُرَفاً. أُولئك يغْشاهَم العذابُ من فوقهم ومن تَحْتِ أرْجُلِهم وهؤلاء يُبَوَّؤُون من الجَنَّة غُرُفاً (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) فهذا فيه تطمينٌ لهُم لأنَّكُم بالإيمان والصَّبْر واليقين على ما أنْتُم عليه في أيِّ مكانٍ كُنْتُم، فاصْبِرُوا وإنْ كانَ ذلِك فيه ضِيقٌ عليكُم فإنَّ الله سيُوسِّعُ لكُم مقَامَكُم في الآخرة وسيُبَوئِّكُم من الجَنَّةِ غُرَفاً تجري من تحتها الأنْهار. هذا -لا شَكَّ- أنَّه يُطمئِنْ النُّفُوس المؤمنة، مهما كانَتْ عليه من الضِّيق، والضَّنْك، وضَغَثْ العَيْش، فإنَّ الله عَزَّ وجل سيُكْرِمُهُم بها في الجَنَّة نعيماً وافِراً ولهذا قال (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) أيّ الذِّين عَمِلُوا الصَّالِحات، وابْتَغَوْا فضلَ الله -عزَّ وجل- فَنِعْمَ أجْرُهُم.
/ ثُمَّ قال (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) صبَروا على ما أُوذُوا عليه في فِتْنَتِهم من دينهم، وتوكَّلُوا على اللهِ تعالى في ذلك، واعْتَمَدُوا عليه، وإنْ كانَ ذلك على حِسَابِ أمْوالهم، وديارهم، وفَقَدُوا ما فَقدُوا بذلك من أجْل دينهم فإنَّ الله هُو الرزَّاق- سبحانه وتعالى- ولذلك قال بعدها (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أَي وإنْ انْقَطَع رزقُكُم بسبب تَمسُّكِكُم بالدِّين، فإنَّ الله قَدْ ضَمَنَ لكُم الرِّزْق، وكَتَبَهُ لكُم فهذه سُنَّتُهُ في الخَلْق (وما مِنْ دابَّةٍ في الأَرضِ إلاَّ على الله رِزْقها) [هود:6]
(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا تحمل رزقها أي لا تتحمَّل وتتكَلَّف في رزْقها، فاللهُ يَرزُقُها من غيرِ تَكَلُّف، ولا تَحمُّلْ، لا تَحْمِلُ همَّهْ، فاللهُ يرزُقُها وإيَّاكُم، (لو أنَّكُم تتوكَّلُون على الله حَقَّ توكله لَرَزَقَكُم كما يَرْزُقُ الطَّيْر) فالله سبحانه وتعالى هُنا يُطمْئِنُهُم بأنَّ رزقهُم مضمُونٌ لهُم، فليُقِيمُوا أمْر الله ولْيَصْبِروا عليه. قال الله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أيّ سميعٌ لأقْوالِكم ودُعائكُم والْتجائكُم لله، وعليمٌ بأحْوالكم.
قال في خِطابٍ مع الــمُشركين مرَّةً أُخرى، السُّورة -أيُّها الإخوة- فيها جِدالْ مع الــمُشركين لإبْطالِ أمْرهِم، وشَأْنِهم، ومعبُوداتهم، حتَّى لا يَبْقى لهُم مجالٌ في الــمُجَادَلة، ولا يبْقى في نُفُوسِ المؤمنين شَكٌّ في دينهم. فهُنا جِدالٌ للمُشْركين وإقْرارٌ وإلْزامٌ لهُم ببُطْلانِ شِرْكِهِم من وجْهٍ آخَرْ وهُو أنَّه يُلزِمِهُم بالاعْتراف بناءً على اعْتِرافهم، بأنَّ الله واحِدٌ وهُو الــمُستَحقّ للعبادة قال (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي هؤلاء الــمُشْركين (مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي أنَّــى يَفْتَرُونَ على اللهِ الكَذِبْ ويَزْعُمُون أنَّ الأَصْنام لها من التَّصَرُّف والنَّفْع والضُّرّ؟! فيَفْتَرُونَ على الله تعالى إفْكاً، وإثْـماً، وزُوراً. فهذا إلزَامٌ لهُم بأنَّ الله تعالى خَالِقُ كُلِّ شيء فهُو الــمُستَحِقُّ للعبادة وحْدَهُ سبحانه وتعالى (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ويَعبُدُون غيره؟!
/ قال الله (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هذه الآية هِي مُوجَّهَة للكافرين من جِهة، في إثِباتْ أنَّ الله هُو الرزَّاق، وهُم يُقِرُّون بذلك، فكيف تعْبُدُونَ غيره؟! فهُو إلْزامْ بِـما الْتَزَمُوا به من الإِقْرار أنَّه إذا كُنْتُم تعتقِدُون أنَّ اللهَ هو الرزَّاق، فلماذا تعْبُدُونَ غيره؟! وهُي أيْضاً خِطابٌ للمُؤمنين من جِهة أنَّه قال (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) فتوكَّلُوا عليه واعْتَصِمُوا به وتَـمسَّكُوا بدينه فإنَّ الله يَرزُقُكُم.
قال (لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) في هذه الآية زيادةٌ عن غيْرها بقوله (مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) كأنَّ فيها تأكيدٌ للمُؤمنين بأنَّ الله يَرزُقُهُم فهُوَ الــمُتصَّرِّفُ سبحانه بالأحْوال وحْدَه، فهُو ضمانٌ لهم وتأكيد.
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عليمٌ بأحْوال الــكافرين في شِرْكِهْم وضَلالهم وعليٌم بحَال المؤمنين وصَبْرهم ويقينهم.
قال الله في دليلٍ آخر أيْضاً في إبْطال اعْتقادِهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) إقرارٌ وإلْزام أنَّ اللهَ هُوَ الذِّي يُنزِّلُ الغيْث، وأتى بنعمة الغَيْث مع أنَّها داخِلَةٌ في الرِّزق لماذا؟
فِيهَا إشَارَة للبَعْث الذِّي يُنْكِرُونَه، ففيها إثْبات دليلين عليهم:
الدَّليلُ الأوَّل: إثْبَات أنَّ الله هُو الرَّزَاق، فَيَلْزَمُكُم أن تعتَرفوا بِعُبُودِيته وحْدَه.
الأمر الثَّاني: إقرارهُم بأنَّ الله يُحيي الأَرْضَ بعد موْتِها، فهو إقْرارٌ بقدرته، فيَلْزَمُهُم الإقْرَار بالبَعْث بعد الــمَوْت. ولذلك قال سبحانه وتعالى في كثيرٍ من آياتِ القُرآن إثْبات ربْطُ الإخْراج (وكَذلِك تُخْرَجُون) بإحْيَاءِ الأرضِ بعد موتِها فهُو إلزامٌ بدليلين عليْهِم. كأنَّ هذه الآية تجْمَع الأَمْريْن الإيمانُ بالله وباليوم الآخر الذِّي هو أصْلُ إنْكارهِمْ. فأَصْلُ إنْكارِهم هو كُفرهُم بوحدانية الله، وبالبَعْث بعد الــمَوْت.
قال الله (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ماذا يفيد هذا؟ يُفيد أنَّه قد تبيَّن الحَقّ وانْقَطَع سَبيلُهُم في إِقامةِ الحُجَّة فقد أبَانَ لهُم كُلَّ دليل فهُنا اعْترافْ، وإقْرار بالحمدُ لله الذِّي أتَمَّ نعمتَهُ بالبَيَان.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) مع هذه الأدلة والآيات البيِّنات، والدَّلائِل الواضحات إلاَّ أنَّهُم لا يَعْقِلُونَ ذلك فيتفَّكَرون فيها فيَعُونَ الحَقَّ ويَعْرِفُونَ أنَّهُم على الباطِلْ.
/ ثُمَّ قال الله (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) أي هذه الحياة التِّي يتعلَّقُونَ بها ويَظُنُّون أنَّها هي حياتُهُم الباقية، وأنَّها هِيَ عيْشُهُم وبقَاؤهُم وسببُ كُفْرِهم وضَلالهم تَعَلُّقهم بها بِزَعَمَاتِها، ورِياستها، ووَجاهتها، وأمْوالهم فيها من أسبابِ كُفْرهم ذلك، بيَّنَ الله أنَّ هذه الحياة ليْسَتْ بشيء إلاَّ لهْوٌ ولَعِبْ. ما الفَرْق بين اللَّهْو واللَّعب؟
اللَّهْو هُو: كُلّ ما يُشغِلْ عن طاعةِ الله من الأموال والأولاد وغير ذلك كل ما يشغل عن طاعة الله فهُو لهو يَلْتهي به عن ذِكْر الله وطاعته.
واللَّعِبْ هُو: ما غَرَضُهُ الــمُتْعَة والتَّرَفْ وغير ذلك، غير اللهو اللهو يدخل فيه الأموال والأولاد الذين يُشغلون لكن اللعب هو ما قصده التَّرَفُهْ والتمتع بالألعاب ونحوها فهي لَعِب يلعبون بها من حيث أنهم يظُنُّون أنَّها هي مُتْعَتُهُم.
قال الله (وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) الدَّار الآخرة التِّي هي موضِعُ الجَزاء وموضِعُ الخُلُود عند الله والبَقاءَ الدَّائِمْ (لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) والتَّعبير بالحيوان دون الحياة ما سرّه؟ ما الغرض منه؟ أي الحياة الحقيقيَّة الكاملة التِّي يَضْمَنُ فيها الإنْسان عَيْشاً هَنيئاً وبقاءً خَالِداً، فَفِي التَّعبير هُنا تأكيدٌ لكَمَالِ هذه الحياة. الحياة الدُّنيا حياة لكنَّها ليْست حياةً كاملة، فلمَّا أراد هُنا أن يُبيِّن أنَّ الحياة الآخرة هي الحياةُ الكاملة عبَّر عنها بـ( الْحَيَوَانُ) أي التِّي فيها الحياةُ الكاملة التِّي يتوَفَّر فيها النَّعيم الدَّائِمْ والخُلُودْ الباقي.
قال (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) لكنَّهُم لا يعْلَمُون، لماذا؟ لأنَّ عُقُولُهم قد قَصُرَت على حُظُوظِهِمْ الدُّنيوية وغَفِلُوا عن ما عند الله -عزَّ وجل- فَكَفَرُوا وكَذَّبُوا. وإلاَّ لا يُمـْكِن - أيُّها الإخْوة - للإنْسان أنْ يعتَرِفْ، ويُقِرّ، ويُؤمِنْ باليوم الآخر وما عِنْد الله من الجَزاء ويَكْفُرْ. فإذا كانَ يَكْفُر وهو يَعْلم أنَّ عند الله الجَزاء فإنَّــما اعْتَرَف على نفْسه أو أَقَرّ على نفْسه بِدُخُولِ النَّار واسْتِحقاقها وعَلِمَ أنَّهُ خاسِرٌ من تِلْقَاءِ نفْسِه.
قال الله -عزَّ وَجل- في آيةٍ أُخْرى من آياتِ إقْرارهم بِعُبُودية الله وحْدَه ورُبُوبيته وحْدَه وأنَّهُ الــمُسْتَحِقّ سبحانه للعبادة وحْدَه، قال (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) ما هُو حالُهُم؟ التَّوحيد (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أليْسَ هذا داَعٍ إلى أنْ يَجْعَلُوا دَعْوَتَهُم لله تعالى وتَوجُّهُهُم إلى الله في كُلِّ شَأْنٍ من شُؤونهم ما دامُوا يعتَقِدون أنَّ الله هو الذِّي يُنجِيهم دونَ سِواه؟ فهذا إقْرارٌ، وإلْزامٌ لهُم كأنَّه قال: كيف تُوَحِّدُون الله حين تَرْكَبُون الفُلْك وتَخْشَوْن الغَرَقْ والهَلاك ولا تدْعُونَ سِواه؟! إلاَّ أنَّ هذا إقرارٌ مِنْكُم بأنَّهُ سبحانه هُو الــمُتَصَرِّفُ بالكَوْنِ كُلِّهِ -سبحانه وتعالى-.
(فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) أي يَعُودُونَ إلى الشِّرْكْ، ولذلك عبَّر بالمضارع (يُشْرِكُونَ) يُجَدِّدون الشِّرْك، نَسُوا الله، أمِنُوا فعادُوا إلى ما هُم عليه لِطَمْسِ عقُولِهم عن الحَقّ والحقيقة إلاَّ في حَالِ الضَّرورة. وهذا لا شَكّ دليلٌ على جَهْلِهِم وما هُمْ عليه مِنْ غبَاءٍ وضَعْفِ إدْرَاك للحقيقة.
/ قال الله (لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ) ما الذِّي آتاهُم الله؟ من النِّعَم ومكَّنَهُمْ من أُمُورِ الحياةِ كُلِّها. فهذا كُفْرٌ بنعمةِ الله. إذا كُنْت تَعْلَم أنَّ هذا ممَّا آتاك الله ثُمَّ تَكْفُر به، وتَصْرِفُهُ في غير طاعةِ الله فهُو كُفْر (لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ). قال الله (وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ما معنى (ولِيَتَمَتَّعوا)؟ إمَّا أن يكونَ قصْدُهُم في ذلك أن يتمتَّعُوا، فهذا خَبَرٌ عنهم أو أنَّ هذا تهديد من الله لهُم في قوله (وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبةَ ذلك بالعذابِ الأليم. إما أن يكون أمر مضمّ، للتهديد والوعيد وإما خبر عنهم (وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) فسوف يعلمون جزاءهم عند الله والثَّاني أوْلى أنه (وَلِيَتَمَتَّعُوا) أن المقصود أمر مضمّ، للتهديد والوعيد لهم.
/ قال الله عزَّ وجل في إقْرارٍ عليهم أيْضاً بِـما مَنَحَهُم الله من النِّعمة وصَرَفُوها في غيرِ ما صُرِفَتْ لَهُ، قال الله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا) يعني أنَّ الله سبحانه وتعالى مكَّنَهُم في بلادهم، في بيتِهِ الحرام، وجَعَلهُم أهْلَهُ وسَدَنَتَهُ، وجَعلَ لهُم مقاماً في النَّاس، وأَمَّنَهُم فيه بعظَمَة هذا البيْت، وأَمْنِ الله عزَّ وجل فيه أهْلَهُ.
(وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) ما المقْصُود بالنَّاس من حَوْلهم؟
إمَّا أن يكون المقصُود: ما سِوَى قُريْش وهِي القبائل التِّي تتناطَحْ بالحُرُوبْ.
أو المقْصُود: مَا وراء ذلك، فليس المقصود فقط بقوله (النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الأَقْربين وإنَّــما القُرى الأُخْرى، ويدْخُل فيه فارس والرُّوم الذِّين يتقاتَلُون أو نحْو ذلك فهذا امْتنانٌ من الله، وآيةٌ من آياتِ الله لهُم تُلْزِمُهُم بالاعْتراف وشُكُر نعمة الله -عزَّ وجل- بالإيمان بِهِ، وتِسْخيرِ بَلَدِه الحرام لِعِبَادته. وكَأَنَّ في هذا توبيخٌ لهُم، وتهديدٌ كيْفَ أنَّ اللهَ جَعَلَكُم سَدَنَة البيْت، وأَمَّنَكُم فيه، ثُمَّ تكونُونَ سَبَباً في الصَّدِ عن سبيل الله عزَّوجل، وأَذِيَة النَّاس، وفِتْنَتِهم عن دينهم.
(أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ) الباطل هُنا الأَصْنام، وعبادةِ غير الله سُبحانه تعالى وما لا يُرضِي الله تعالى فهُو كُلُّهُ باطِلْ. (وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) وما هي نعْمَةُ الله؟ أعْظَمُ نعمةِ الله هي الإيمان وما هَداهُم إليه من الحَقّ وبيَّنَ لهُم من الدَّلائِلْ البَيِّنات وأنْزَل عليهم هذا القُرآن العَظِيم الذِّي هُو أعْظَمُ نعمة، وأرسَلَ لهُم رسُولاً هُو خَيْرُ رُسُلِه والله إنَّها لَنِعمة ومع ذلك يَكْفُرونَ بها! فحُقَّ لهُم أنْ يَكونوا أَظْلَمَ النَّاس وأَكْثَرُهُم شِرْكاً وكُفْراً بالله عَزَّوجَل وضَلالاً بهذا الكُفُر. فقد كَفَرُوا بآيات الله، وكَفَرُوا برُسله، وكَفَروا بكتابه، ثُمَّ كَفَروا بِنِعَمِه التِّي أنْعَمَها عليهم ومِنْ أعْظَمِها أنْ مكَّنَهُم في بيته الحرام الآمِن قال الله بعد ذلك في إثْبات أنَّهُم أظْلمُ النَّاس، وأشَّدُهُم كُفْراً (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي لا أحَدَ أظْلَم (مِمَّنِ اِفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) وهؤُلاء قَدْ اِفْتَرُوا على الله كَذِباً بِاتْخاذ هذه الأَصْنام آلهة من دُونِ الله -عزَّ وجل- وزَعَمُوا أنَّها تُقَرِّبُهُم إلى الله تعالى زُلْفَى، وكَذَبُوا بما زَعَمُوا.
(أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ) والمقصود بالحَقّ هُنا هو القُرآن وما جاءَهُم به رسُولُ صلى الله عليه وسلم لــمَّا جَاء. ثُـمَّ حُكْمٌ عليهم باسْتحقاقهم للعذاب على هذا التَّكذيب (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ) والمَثْوَى هُو: الــمُستَقَرّ والــمُقَامْ فَهُم حُقَّ لهُم أن يسْتَقِرُّوا ويكُون لهُم مَقامٌ في جهنَّم- عياذاً بالله تعالى- أي أنَّهُم أَحَقُّ من يسْكُنُها ويأْوي إليها ويَثُوبُ إليها ذلك أنَّهُم كَفَروا وكَذَّبُوا وافْتَرُوا على الله كَذِباً وكَذَّبُوا بالحَقّ لـــمَّا جَاءَهُم.
/ ثُمَّ خَتَم الله عزَّ وجل السُّورة بِـخَيْرِ خِتَام، عوْداً على الــمُؤمنين. كَمَا ذَكَرْنا أنَّ السُّورة هي بين المؤمنين في مُخاطَبَتهم تأْنِيساً لهُم، وتأييداً وحَثَّاً وتقويةً لهُم بالـمُجاهدة والصَّبْر على ما يُصيبهم، وبين مُجاهدة الكافرين في توْهينٍ أمْرِهِم وقَطْعِ حُجَّتهم وإقامة الحُجَّة عليهم. قال الله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)
أوَّلاً: نتكَلَّم عن الآية بـمُناسبِتها لسياقِ السُّورة. فما مُناسَبَتُها لِسيَاقِ السُّورة؟
هي خِطابٌ للمُجَاهدين الأَوائِل المهاجرين، الذِّين جاهدوا في الله من الصَّحابة رضوانُ الله عليهم، اُفْتُتِنُوا في دينهم فصَبَرُوا، وصَابَروا، وجَاهَدُوا في ذَاتِ الله -عزَّ وَجَل- ثُمَّ وعَدَهُم الله بأنْ يَهْدِيَهُم السُّبُل، ما المقصود بهذه السُبُل؟ أمْران:
الأمر الأوَّل: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله في مكة وصبروا وصابروا قيل أنَّ المقصود (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) لَنهْدِيَنَّهُم سُبَلَ الهِجْرة إلى بلادِ الله عَزَّ وجل التِّي يُقيمُونَ فيها دينَه. فكَأنَّ هَذا إشارةٌ إلى الإِذْن مرَّةً أُخْرى أو وعْد بأنَّ يَيُسَّر الله لهُم الــمَقَرّ، والــمَكانْ والسُّبُل بعد أَمْرهم. في الأوَّل قال (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) كأنَّ الله أمَرَهُم بالهجرة، هنا وعْدٌ بأنَّ الله ييُسِّر لهُمُ السُّبُل، ويُهيّئ لهُمُ الطَّريق، فهُو تطْمينٌ لهُم في هجرتِهم، هذا المعنى الأول.
المعنى الثَّاني: وهو مَعنىً عام للصَّحابة وغيرهم أنَّ من جاهَد في اللهِ حَقَّ جِهَادِه، وصَبَر، وأَخَذَ بِالعَزْم، واليَقِين، والثَّبات فإنَّهُ سَينالُ من اللهِ فَتْحاً وتوفيقاً وهدايةً عظيمة. وهذه يا إخواني قاعدة في الحياة اِجْعلْها نَصْبَ عيْنِكْ في حياتِك كُلِّها إذا جَاهَدْت في أيّ أَمْر في سبيل العلم، أو في سبيل التِّجارة الصَّالحة، أو في سبيل تربية أبنائك، أوْ في سبيل مُجاهدة نفسِكَ في تَرْكِ معاصي الله والــمُحرَّمات، أوْ في سبيل الدَّعوة إلى الله عزَّ وجَل، والــمُصَابرة في طريقها، والأَذَى الذِّي يحصُل لَكْ وغير ذلك، الـــمُهمّ أنْ تكون (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا). لاحِظُوا يا إخواني الكِرام شَرْطان إذا تَحقَّقَا في هذا العَمَل فاعْلَمْ يقيناً بلا شَكٍّ ولا ريْب أنَّ طريقَهُ فتْحٌ وتوفيق. ما هُما الشَّرطان؟ شَرْطٌ مِنْك. وأمْرٌ بينَك وبين الله. أما الأمر الأوَّل: فهو الــمُجَاهدة (جَاهِدْ) والــمُجاهدة تعني الــمُصَابرة، وبَذْل الجُهْد كُلِّه من أجْل الثَّبات على ذلك، والصَّبر عليه.
الأمر الثَّاني: أنْ يكونَ هذا الجِهاد في الله عزّ َوجل ولله، لإقامَة دينه، أو الصَّبْر على دينه.
فإذا تَحقَّق هذان فإنَّ الله أكَّدَ لكْ يقيناً قال (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) اللام هُنا مُؤكِدَّةٌ للوعْد (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا). ولماذا قال (سُبُلَنَا) ولَمْ يَقُلْ (سَبيلنا)؟ لأنَّ المقصود هنا أيّ طرق الخير في أيّ طريق في التَّربية، أو في الدَّعوة، أو في العَمَل، أوْ في التِّجارة فسُبُل الخير هنا مُتعَدِّدة، ليس المقصود بها سبيل الدِّين فقط لكونه واحد كما قال الله تعالى ﴿ وأنَّ هذا صراطي مُستقيماً فاتَّبِعُوه ولا تتَّبِعُوا السُّبُل) [الأنعام:153] بل المقصُود بها طُرُق الخير في سبيل الله، في دين الله تعالى.
والله يا إخْواني هذه الآية من أَخَذَها أَخَذَ بِحَظٍّ وافِرْ وَوَجَدَ فتْحاً،وتَوْفيقاً من الله لا يُـمْكن أن يُصَدِّقه، ولا يُمْكِنْ أن يتوقَّعه، الــمُهِمّ أن يُجاهِد، ويَصْبِرْ ولو سِنين كما صَبَر نُوحٌ عليه السَّلام ألْفَ سَنة إلا خمسينَ عاماً، المهم أنْ لا تَمـَلّ، (فإنَّ الله لا يَمَلّ حتَّى تمَلُّوا) الــمُهِمّ أنْ لا تَنْثَني، لا تتراجَع، اِصْبِر، واثْبُتْ، ودَاوِم على ما أنْتَ عليه من الخَيْر ولا تقولْ: بَذَلْتُ كُلَّ شَيْء وما بَقِيَ شيءْ عندي فإنَّ ذلك يَأْس ﴿ولا تيئَسُوا من رَوْحِ الله إنَّه لا ييئِسُ من رَوْحِ الله إلاَّ القَوْمُ الكافرون) [يوسف:87] .
في آخِر السُّورة قال (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) لَــمَ يَقُل (مَــعَ) وإنَّما قال (لَمَعَ المحسنين) وهذا يُؤكِّد أنَّ الــمُجاهدة فيها أيضاً زيادة على ذلك إحْسان وإتْقان وبَذْل كُلّ ما في وِسْعك من الطَّاقة لِبُلوغ مرضاة ربِّك عزَّ وجل على أكْمَل حَالْ، فإنَّك إنْ جَمعْتَ بين هذه الأُمُور فقد وَفِّقْتَ لِخَيْرٍ عظيمٍ وفضْل من الله وتوفيق وفتْحٍ قريب. وهذه الآية يكفي أنَّها واردة في شَأنِ الهجرة وأنَّ الله سيفْتَحُ فيها للصَّحابة والنَّبي -صلى الله عليه وسلَّم- فتْحاً عظيماً وقد فتَح لهُم حتَّى مكَّنَ لهُم دولةً أَقامُوها. فإنْ كُنْتَ تُريدُ أن يكُونَ لكَ أَمْر، وتمكين، وفتْحٌ فَجَاهِد في الله حَقَّ جهادِه، وصابِر في أَمْر الدِّين، وأمر العِلْم والدَّعوة.فإنَّكَ سَتَنالُ خَيْراً عظيماً. نقف هنا في نهاية السورة ونجدد بإذن الله مع سورة الروم.
لتحميل الملف الصوتي :
--------------------------------------
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق