اليوم معنا -أحبتي الكرام- تتمة هذا الكتاب في أصول التفسير وهو كتاب (المراحل الثمان لطالب فهم القرآن) للد.عصام بن صالح العويد، وقد كنا وصلنا -أحبتي الكرام- إلى نهاية المرحلة الرابعة والتي كان الحديث فيها حول معرفة دلالة الجملة الإسمية وما يتعلق بها ومعرفة دلالة الجملة الفعلية وما يتعلق بها وبيّنا أن معرفة دلالات الجملة في اللغة العربية من الأهمية بمكان وأن على الإنسان الذي يريد أن يفهم القرآن فهما عميقا وأن يستنبط منه الأحكام والحِكم والدروس والعِبر وينتفع به أعظم الانتفاع أن يعرف أنواع الجملة في اللغة العربية ودلالات هذه الجُملة أيضا في هذه اللغة المتينة العظيمة وذكرنا أمثلة لذلك أرجو أن تكون -إن شاء الله- وافية وأن تراجعوها في الكتاب الذي بين أيديكم ثم ننتقل إلى المرحلة الخامسة.
المرحلة الخامسة هي: فهم السياق في الآية. يعني إذا أردنا أن نفسر آية في القرآن فعلينا أن نفهم الآيات التي تسبق هذه الآية والآيات التي تلحقها وألّا نقتصر على الآية ذاتها لأن الكلام إذا قُطِّع ولم يُدرج ضمن الموضوع الذي جاء فيه قد لا يؤدي كامل المعنى أو قد يُحمل على معنى أقلّ مِما ينبغي أن يُحمل عليه أو قد يُفسر بغير ما أراده به صاحبه. يعني مثلا: لو قال الإنسان (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ) استدل بها هل يصح هذا؟ لا يصِح حتى يقرأ ما بعدها (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) وأيضا هذا ما يكفي حتى يقرأ من أول السورة (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) فيعرف أن هذه السورة نزلت في المُكذبين وليست في المؤمنين. إذا معرفة السياق من أهم الأشياء، والسياق يكتنفه سِباق ولِحاق. سِباق: يعني ما سبقه من الكلام ، ولِحاق: ما يلحقه من الكلام. وهذا ضروري جدا في فهم الآية كما بينا.
يقول مسلم بن يسار -من علماء التابعين- قال: "إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده" وكذا قال سليمان بن يسار وصالح بن كيسان وغيرهم من السلف وقد سار الأئمة المفسرون الكبار كابن جرير الطبري وابن عطية والقرطبي وشيخ الإسلام وغيرهم من الأئمة على هذا المنهج في أنهم لا يُفسرون الآية حتى يعلموا ما سبقها وما لحِق بها.
قال المؤلف في [ص:92] : ودلالة السياق إما أنها تُخصص العام أو تُقيّد المُطلق وفي مقابل ذلك تُطلِق المُقيد أو تُعمم الخاص ، وتُرجح أيضا عند اختلاف المفسرين.
إذا اختلف المفسرون في آية ما فإننا نرجع إلى السياق نتحاكم إليه حتى نعرف ماهو القول الأرجح من هذه الأقوال. سأذكر لكم مثالا -حضرني الآن- نعرف به أن فهم السياق يُعين على الترجيح في الخلاف بين المُفسرين. يقول الله -عز وجل- في سورة المطففين (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ*تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ) (خِتَامُهُ مِسْكٌ) اختلف فيها المفسرون على ثلاثة أقوال: القول الأول: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي خاتمته وآخره مسك.بخلاف أشربة الدنيا فإن أشربة الدنيا أسوأ ما فيها آخرها، أما أشرِبة الآخرة فأنت تشرب، تتلذذ، تتلذذ غاية اللذة فإذا وصلت إلى الأخير فاحت عليك رائحة عطرة جميلة جدا تنسى نفسك معها فتسكب الماء على فمك وتنسى أنك الآن شربت كأسا فتطلب الكأس الذي بعده (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي خاتمته مسك قال (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) هذا هو القول الأول.
القول الثاني: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) خِلطُه مسك يعني مخلوط بالمِسك، الخِتام يُطلق في لغة العرب على المُخالِط يعني ممزوج بمِسك.
القول الثالث: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي قد طُبع عليه وخُتم عليه بالمِسك.
عندنا الآن ثلاثة أقوال: خِتامه آخره، خِتامه خِلطُه ومزجه بالمِسك، القول الثالث ختامه أي قد غُطي بخاتم من مسك، الغطاء الذي عليه هو من مسك. دعونا نفتش هذه الأقوال ننظر:
القول الأول أو دعونا نأخذ القول الأخير (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي مختوم عليه بالمِسك. هذا القول يُخالف ماهو معلوم من أشربة الجنة أن أهل الجنة يأخذونها من العيون ومن الأنهار صِرفا فهي ليست بحاجة إلى تغليف -على طول يأخذها الإنسان طازه- مباشرة يشرب من العين فلا حاجة إلى أنها تُختم أو تُغلف وتعرفون الشيء المغلف ليس مثل الشيء الطازج حتى في قبول النفس وفي تهيؤها وإقبالها عليه. إذا هذا القول طرحناه.
الثاني: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي ممزوج بالمسك. هذا القول لو تأملنا السياق لوجدنا أنه غير صحيح لأن الله قال (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) يعني ممزوج بالتسنيم ليس ممزوج بالمسك، آخره مسك نعم لكن ممزوج ممزوج بالتسنيم، وماهو التسنيم؟ التسنيم هو: أعلى أشربة الجنة عين في الجنة يشرب منها المقربون صافية لا تُخلط لهم بشيء آخر أما الأبرار فيشربون من الرحيق ويُمزج لهم بالتسنيم.
إذا فالخِلط والمزج بالتسنيم.
بقي عندنا قول واحد وهو: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي آخره وخاتمته مسك. فانظروا -يا إخواني- لما نظرنا إلى السياق وجدنا في السياق ما يدل على تحديد أحد الأقوال ولهذا نقول ينبغي لطالب علم التفسير الذي يريد أن يتبحّر فيه وأن يصِل فيه إلى الغاية ويستفيد من كلام الله فائدة عظمى ألّا يفسِّر الآية مجردة عما سبقها وعمّا يلحق بها. ولذلك يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "فمن أهمله -أي السياق- غالط في نظره وغالط في مُناظرته" يعني غالط عندما ينظر ويفهم وغالط عندما يُناظر غيره ويُجادله.
فانظر إلى قوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) لو نظرت إلى هذه الكلمة مجردة كانت مدحا (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) هذه ظاهرها المدح والتكريم والتشريف لكن من قرأ الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها عرف أنها ليست مدح وإنما هي تبكيت لهم لأنها تُقال لأهل النار يُقال لهم ذوقوا من هذا الغساق ومن هذا الحميم(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) على وجه الإهانة له فقد كنت في الدنيا تزعم أنك العزيز الكريم هيا يا أيها العزيز الكريم ذُق. مثلما لو قال أحدهم أنا فلان بن فلان من آل فلان وهو مُخطئ ثم أخذته فأدبته وبطحته على الأرض وضربته وقلت هيا تفضل يا فلان بن فلان فهل أنت تمدحه أم تهينه؟ تريد إهانته. فيجب النظر إلى السياق لنعرف المعنى المقصود.
ثم ذكر المؤلف بعض الأمثلة التي تُبين لنا أهمية النظر إلى السياق وعدم إغفاله عند تفسير كلام الله -عز وجل- فقال: ومن أمثلة ذلك :
المثال الأول: قوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ) وقوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) فقوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) وقوله (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) ماذا تعني؟ لو نظرنا إلى معنى الكلمة مجردة أفادة المعية التي تدل على المصاحبة والمخالطة وهذا غير صحيح بل المعية هنا معية العلم. فإن قلت: من أين جئت بمعية العِلم؟ قلنا: من سياق الآية لأن الله قال في سورة المجادلة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) واول الآية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) طيب ،(إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إذا فالآية في معية العِلم، ولذلك أجمع السلف على أن المعية هنا معية العِلم.
وكذلك في آية سورة الحديد (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ) أولها (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖوَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهذا كله في العِلم. إذا (معكم) معكم بعلمه مُطلِع عليكم لا تخفى عليه من أعمالكم خافية. من الذي حدد لنا إن معنى المعية هنا أنها المعية بعِلمه وليست معية بذاته؟ أو ليست معية -مثلا- بأشياء أخرى من لوازم هذه المعية؟ هو السياق.
مثال آخر: ذكر المؤلف قوله تعالى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ).
وذكر أيضا من الأمثلة -المثال الثالث- (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى).
والمثال الرابع: ونتوقف عنده لبلاغته في هذا الميدان وهو قول الله -عز وجل- (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) هذه الآية جاءت في سورة الصفّ، وسورة الصفّ يُسميها العلماء سورة الجهاد لأنها من أولها إلى آخرها في الجهاد. طيب ما دامت سورة الجهاد كيف جاء فيها قول الله -عز وجل- (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) ما قصة هذه الآية؟ ولماذا جيئ بها هنا؟ وما هو الأذى الذي حصل لموسى حتى اشتكى وقال (لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) هنا إذا أعملنا دلالة السياق عرفنا أن الأذى الذي حصل لموسى هو أذى يتعلق بأمر الجهاد وقد ذكره الله في سورة المائدة عندما قال لقومه (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ*قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ*قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ*قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) فماذا قال موسى وهو يرى أن قومه قد خذلوه وأنهم قد خانوه في أمر عظيم (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فأنزل الله عقوبته عليهم (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فبقي بنو إسرائيل في أرض سيناء أربعين سنة وهم يدورون، يمشون في النهار فإذا آواهم المبيت وإذا بهم قد ذهبوا إلى المكان الذي خرجوا منه أول اليوم، أربعين سنة -يا إخواني- الآن لو جاء أحدكم إلى هذا المسجد وضيع الطريق وتأخر نصف ساعة شعر أنه في غاية من الضيق، الدعوة ليست ساعة أو نصف ساعة أو أربع ساعات ولا أربعة أيام ولا أربعة أسابيع، ولا أربعة أشهر ولا أربع سنوات، أربعين سنة، تصوروا -يا إخواني- أمة ضائعة عقوبة من الله لهم على أنهم تأخروا وتلكؤا وتباطؤا عن المسير مع نبيهم لدخول الأرض المقدسة لأنه كانت فيها العماليق فكانوا لا يريدون أن يدخلوا لأنهم كانوا خائفين. وحكمة -يا إخواني- أن الله عاقبهم هذه العقوبة حكمة بليغة وهي: أن بني إسرائيل قد خرجوا من خدمة فرعون وملائه وكانوا في غاية الذل، وكانوا في غاية القهر، وكان فيهم من الجُبن القدر الكبير الذي لو وُزع على أُمم لكفاهم فهم كانوا مستعبدين سنين طويلة، هم وآباؤهم وأجدادهم من قِبل الأقباط في مصر، هؤلاء القوم يخافون من قعقعة السلاح، يخافون من أصوات البنادق تروعهم لا يقدرون على ذلك، ولذلك لما قال لهم موسى هلموا لنقاتل أعداء الله في الأرض المقدسة قالوا (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) نحن أتباعك يا موسى في السرّاء أما في الضرّاء وفي القتل والحرب والضرب فلا لسنا أتباعا لك فعاقبهم الله بالتيه في الصحراء حتى يموت ذلك الجيل الذي تربى على الذل والضعف والهوان وينشأ جيل جديد تربى في الصحراء، والعادة أن الجيل الذي يتربى في الصحراء يكون جيل شجاعة وبسالة ولا يُبالي بشيء وليس عنده من متاع الدنيا شيء، كراسيهم هي ظهور خيلهم ولذلك -سبحان الله- بُعث رسول الله في العرب لأن العرب كانوا أهل صحراء وأهل بادية وأهل حياة بسيطة جدا وليس عندهم من الترف شيء فلما اُمروا بالجهاد قاموا بالجهاد وقاتلوا -أمريكا وروسيا- في ذلك الزمان، قاتلوا فارس فكسروها، وقاتلوا الروم فهزموهم شر هزيمة وقال هرقل لما رأى خيول المسلمين وهي تغزو الشام وتدخل البلاد بلدا إثر بلد:
وداعا يا سوريا ** وداعا لا لقاء بعده
وبالفعل صدق هرقل فقد وعها الوداع النهائي وذهب إلى القسطنطينية -أو إلى روما- ولم يرجع بعد. فالله أراد لبني إسرائيل أن يتغير الجيل الأول، تتغير الجينات، الجينات التي تربت في أرياف مصر وعند نهر النيل وعند الأشجار والبساتين في الذل والضعف، هذه كلها تموت، تنبت أجيال جديدة ومعها جينات جديدة -جينات صحراوية- جينات لا تعرف إلا القوة والشجاعة والسالة ولا تهاب أحدا، تعيش في الظلام وتأكل من تراب الأرض هوؤلاء هم الذين يقومون بأمر الجهاد ولذلك مات موسى وهارون في أرض التيه ثم بُعث على بني إسرائيل يوشع بن نون فأُمر أن يدخل بيت المقدس فأمر بني إسرائيل أن يدخلوا فدخلوا فأقبل على بيت المقدس قبل غروب الشمس فقال:يا شمس إنك مأمورة وأنا مأمور فقفي-فأوقفها الله له ولم يُوقفها لأحد قبله ولم يوقفها لأحد بعده- حتى دخل الأرض المقدسة. دخلها في دقائق أو في سويعة وأهلهم الذين سبقوهم ماتوا جُبناً وبقوا في أرض التيه. وهذا تعليق على هذه القضية.
فالمقصود: أن سورة الصف في أمر الجهاد جاء فيها هذا المعنى ليقول الله للمؤمنين احذروا أن تعصوا أمر رسول الله في الجهاد فتتأخروا أو تتلكؤا أو تتباطؤا فيسلبكم الله -سبحانه وتعالى- العِزّ ويبتليكم بالذل كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذُلا لا ينزعه عنكم حتى تُراجعوا دينكم) واليوم أكبر شاهد، ما نحن فيه، فنحن نعيش ذُل لا يعلم به إلا الله، لا نتصرف في أموالنا ولا في أراضينا وإنما يتحكم بنا أعداؤنا لأننا رضينا بالزرع، تبايعنا بالعينة، اتبعنا أذناب البقر وأصبحنا نتنافس في العمائر الطويلة والشوارع الفارهة والسيارات الفاخرة والبيوت الفخمة المؤثثة ومثل هؤلاء لا يمكن أن يبذلوا الجهاد في سبيل الله. فالله -عز وجل- يقول (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) نحن لا ندري في أي شيء آذوه والآن تبيّن لنا أنهم آذوه في أنهم تلكؤا في الخروج معه للجهاد في سبيل الله ودخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم. هذه من أين جئنا بها؟ من السياق، فالسياق كله في الجهاد، اسمعوا ماذا قال الله قبل هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ*وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
أيضا -يا إخواني- من الأمثلة: قول الله -عز وجل-:
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ*الْجَوَارِ الْكُنَّسِ*وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ*وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) اختلف العلماء في (الْخُنَّسِ،الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) على قولين مشهورين:
القول الأول: أنها نجوم السماء فهذه النجوم تختفي وإذا طلع النهار تكنس يعني تأوي إلى كُناسها والكُناس هو البيت الذي تختفي فيه الدواب أو بقر الوحش فالله -عز وجل- يقسم (بِالْخُنَّسِ) ، (الْجَوَارِ) التي تجري فهي جارية في السماء، الكنس التي تأوي إلى كُناسها وذلك عندما تطلع الشمس تختفي هذه النجوم . هذا القول الأول.
القول الثاني: أن (الْخُنَّسِ،الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) هي بقر الوحش أو الظباء فهي خُنس: أي تختفي عن أعين الناس، جوار: تجري عندما تراهم، كُنس: تأوي إلى كُناسها في الليل فإذا جاء الليل أوت إلى كُناسها ـ حظائرها ـ أو أماكنها التي تأوي إليها عادة يُسمى كُناسا ففسرها بعض العلماء بأنها بقر الوحش. طيب أي القولين؟
عندما ننظر في السورة كلها نجد أن القول الأول أولى لماذا؟
أولا: لأن أول السورة كان افتتاحيتها بذكر الكواكب والنجوم إذا (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) هي الكواكب والنجوم وليست بقر الوحش.
ثانيا: قال بعدها (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ*وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) والليل والصبح هو المكان الذي تخرج فيه النجوم وتختفي فيه النجوم.
ثالثا: مما يؤيد ويُرجح أن المقصود بهذا هو النجوم وليس بقر الوحش أنه كثُر في القرآن الإقسام بالنجوم والعادة أن القرآن يُقسم بالشيء الظاهر المعلوم لكل الناس أكثر من إقسامه بالشيء الذي لا يعلمه إلا بعض الناس، فبقر الوحش لا يراها إلا الذي يعيش في أماكنها أو يعيش قريبا منها يعني أهل المدن لا يعرفونها، والعُميان لا يعرفونها، كثير من النساء والأطفال لا يرونها إنما يرها الصيادون والذين يعيشون في مناطقها أما النجوم فيراها كل أحد وفي كل زمان ومكان، وهي بيّنة وآية ظاهرة، ومن عادة القرآن الإقسام بالشيء الظاهر البيّن لأن القرآن مبني على البيان والظهور والوضوح قال تعالى (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ*وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ*وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ*وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فذكر أشياء معلومة، ظاهرة يراها الناس جميعا ليستدل بها على قدرته ولم يقل ألم يروا إلى الهواء كيف تكون من هيدروجين وأكسجين، هل يُرى؟ لا يُرى ولا يستطيع أحد أن يعرفه إلا إذا كان عنده مجاهر ومكروسكوبات وغيره. إذا عن طريق السياق استطعنا أن نُحدد أن المعنى المقصود. ذكر المؤلف أمثلة أخرى أوصلها إلى أحد عشر مثالا . ننتقل بعد ذلك إلى المرحلة السادسة.
المرحلة الخامسة هي: فهم السياق في الآية. يعني إذا أردنا أن نفسر آية في القرآن فعلينا أن نفهم الآيات التي تسبق هذه الآية والآيات التي تلحقها وألّا نقتصر على الآية ذاتها لأن الكلام إذا قُطِّع ولم يُدرج ضمن الموضوع الذي جاء فيه قد لا يؤدي كامل المعنى أو قد يُحمل على معنى أقلّ مِما ينبغي أن يُحمل عليه أو قد يُفسر بغير ما أراده به صاحبه. يعني مثلا: لو قال الإنسان (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ) استدل بها هل يصح هذا؟ لا يصِح حتى يقرأ ما بعدها (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) وأيضا هذا ما يكفي حتى يقرأ من أول السورة (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) فيعرف أن هذه السورة نزلت في المُكذبين وليست في المؤمنين. إذا معرفة السياق من أهم الأشياء، والسياق يكتنفه سِباق ولِحاق. سِباق: يعني ما سبقه من الكلام ، ولِحاق: ما يلحقه من الكلام. وهذا ضروري جدا في فهم الآية كما بينا.
يقول مسلم بن يسار -من علماء التابعين- قال: "إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده" وكذا قال سليمان بن يسار وصالح بن كيسان وغيرهم من السلف وقد سار الأئمة المفسرون الكبار كابن جرير الطبري وابن عطية والقرطبي وشيخ الإسلام وغيرهم من الأئمة على هذا المنهج في أنهم لا يُفسرون الآية حتى يعلموا ما سبقها وما لحِق بها.
قال المؤلف في [ص:92] : ودلالة السياق إما أنها تُخصص العام أو تُقيّد المُطلق وفي مقابل ذلك تُطلِق المُقيد أو تُعمم الخاص ، وتُرجح أيضا عند اختلاف المفسرين.
إذا اختلف المفسرون في آية ما فإننا نرجع إلى السياق نتحاكم إليه حتى نعرف ماهو القول الأرجح من هذه الأقوال. سأذكر لكم مثالا -حضرني الآن- نعرف به أن فهم السياق يُعين على الترجيح في الخلاف بين المُفسرين. يقول الله -عز وجل- في سورة المطففين (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ*تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ) (خِتَامُهُ مِسْكٌ) اختلف فيها المفسرون على ثلاثة أقوال: القول الأول: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي خاتمته وآخره مسك.بخلاف أشربة الدنيا فإن أشربة الدنيا أسوأ ما فيها آخرها، أما أشرِبة الآخرة فأنت تشرب، تتلذذ، تتلذذ غاية اللذة فإذا وصلت إلى الأخير فاحت عليك رائحة عطرة جميلة جدا تنسى نفسك معها فتسكب الماء على فمك وتنسى أنك الآن شربت كأسا فتطلب الكأس الذي بعده (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي خاتمته مسك قال (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) هذا هو القول الأول.
القول الثاني: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) خِلطُه مسك يعني مخلوط بالمِسك، الخِتام يُطلق في لغة العرب على المُخالِط يعني ممزوج بمِسك.
القول الثالث: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي قد طُبع عليه وخُتم عليه بالمِسك.
عندنا الآن ثلاثة أقوال: خِتامه آخره، خِتامه خِلطُه ومزجه بالمِسك، القول الثالث ختامه أي قد غُطي بخاتم من مسك، الغطاء الذي عليه هو من مسك. دعونا نفتش هذه الأقوال ننظر:
القول الأول أو دعونا نأخذ القول الأخير (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي مختوم عليه بالمِسك. هذا القول يُخالف ماهو معلوم من أشربة الجنة أن أهل الجنة يأخذونها من العيون ومن الأنهار صِرفا فهي ليست بحاجة إلى تغليف -على طول يأخذها الإنسان طازه- مباشرة يشرب من العين فلا حاجة إلى أنها تُختم أو تُغلف وتعرفون الشيء المغلف ليس مثل الشيء الطازج حتى في قبول النفس وفي تهيؤها وإقبالها عليه. إذا هذا القول طرحناه.
الثاني: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي ممزوج بالمسك. هذا القول لو تأملنا السياق لوجدنا أنه غير صحيح لأن الله قال (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) يعني ممزوج بالتسنيم ليس ممزوج بالمسك، آخره مسك نعم لكن ممزوج ممزوج بالتسنيم، وماهو التسنيم؟ التسنيم هو: أعلى أشربة الجنة عين في الجنة يشرب منها المقربون صافية لا تُخلط لهم بشيء آخر أما الأبرار فيشربون من الرحيق ويُمزج لهم بالتسنيم.
إذا فالخِلط والمزج بالتسنيم.
بقي عندنا قول واحد وهو: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي آخره وخاتمته مسك. فانظروا -يا إخواني- لما نظرنا إلى السياق وجدنا في السياق ما يدل على تحديد أحد الأقوال ولهذا نقول ينبغي لطالب علم التفسير الذي يريد أن يتبحّر فيه وأن يصِل فيه إلى الغاية ويستفيد من كلام الله فائدة عظمى ألّا يفسِّر الآية مجردة عما سبقها وعمّا يلحق بها. ولذلك يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "فمن أهمله -أي السياق- غالط في نظره وغالط في مُناظرته" يعني غالط عندما ينظر ويفهم وغالط عندما يُناظر غيره ويُجادله.
فانظر إلى قوله تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) لو نظرت إلى هذه الكلمة مجردة كانت مدحا (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) هذه ظاهرها المدح والتكريم والتشريف لكن من قرأ الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها عرف أنها ليست مدح وإنما هي تبكيت لهم لأنها تُقال لأهل النار يُقال لهم ذوقوا من هذا الغساق ومن هذا الحميم(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) على وجه الإهانة له فقد كنت في الدنيا تزعم أنك العزيز الكريم هيا يا أيها العزيز الكريم ذُق. مثلما لو قال أحدهم أنا فلان بن فلان من آل فلان وهو مُخطئ ثم أخذته فأدبته وبطحته على الأرض وضربته وقلت هيا تفضل يا فلان بن فلان فهل أنت تمدحه أم تهينه؟ تريد إهانته. فيجب النظر إلى السياق لنعرف المعنى المقصود.
ثم ذكر المؤلف بعض الأمثلة التي تُبين لنا أهمية النظر إلى السياق وعدم إغفاله عند تفسير كلام الله -عز وجل- فقال: ومن أمثلة ذلك :
المثال الأول: قوله تعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ) وقوله (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) فقوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) وقوله (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) ماذا تعني؟ لو نظرنا إلى معنى الكلمة مجردة أفادة المعية التي تدل على المصاحبة والمخالطة وهذا غير صحيح بل المعية هنا معية العلم. فإن قلت: من أين جئت بمعية العِلم؟ قلنا: من سياق الآية لأن الله قال في سورة المجادلة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) واول الآية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ) طيب ،(إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إذا فالآية في معية العِلم، ولذلك أجمع السلف على أن المعية هنا معية العِلم.
وكذلك في آية سورة الحديد (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ) أولها (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖوَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهذا كله في العِلم. إذا (معكم) معكم بعلمه مُطلِع عليكم لا تخفى عليه من أعمالكم خافية. من الذي حدد لنا إن معنى المعية هنا أنها المعية بعِلمه وليست معية بذاته؟ أو ليست معية -مثلا- بأشياء أخرى من لوازم هذه المعية؟ هو السياق.
مثال آخر: ذكر المؤلف قوله تعالى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ).
وذكر أيضا من الأمثلة -المثال الثالث- (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى).
والمثال الرابع: ونتوقف عنده لبلاغته في هذا الميدان وهو قول الله -عز وجل- (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) هذه الآية جاءت في سورة الصفّ، وسورة الصفّ يُسميها العلماء سورة الجهاد لأنها من أولها إلى آخرها في الجهاد. طيب ما دامت سورة الجهاد كيف جاء فيها قول الله -عز وجل- (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) ما قصة هذه الآية؟ ولماذا جيئ بها هنا؟ وما هو الأذى الذي حصل لموسى حتى اشتكى وقال (لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) هنا إذا أعملنا دلالة السياق عرفنا أن الأذى الذي حصل لموسى هو أذى يتعلق بأمر الجهاد وقد ذكره الله في سورة المائدة عندما قال لقومه (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ*قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ*قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ*قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) فماذا قال موسى وهو يرى أن قومه قد خذلوه وأنهم قد خانوه في أمر عظيم (قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فأنزل الله عقوبته عليهم (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فبقي بنو إسرائيل في أرض سيناء أربعين سنة وهم يدورون، يمشون في النهار فإذا آواهم المبيت وإذا بهم قد ذهبوا إلى المكان الذي خرجوا منه أول اليوم، أربعين سنة -يا إخواني- الآن لو جاء أحدكم إلى هذا المسجد وضيع الطريق وتأخر نصف ساعة شعر أنه في غاية من الضيق، الدعوة ليست ساعة أو نصف ساعة أو أربع ساعات ولا أربعة أيام ولا أربعة أسابيع، ولا أربعة أشهر ولا أربع سنوات، أربعين سنة، تصوروا -يا إخواني- أمة ضائعة عقوبة من الله لهم على أنهم تأخروا وتلكؤا وتباطؤا عن المسير مع نبيهم لدخول الأرض المقدسة لأنه كانت فيها العماليق فكانوا لا يريدون أن يدخلوا لأنهم كانوا خائفين. وحكمة -يا إخواني- أن الله عاقبهم هذه العقوبة حكمة بليغة وهي: أن بني إسرائيل قد خرجوا من خدمة فرعون وملائه وكانوا في غاية الذل، وكانوا في غاية القهر، وكان فيهم من الجُبن القدر الكبير الذي لو وُزع على أُمم لكفاهم فهم كانوا مستعبدين سنين طويلة، هم وآباؤهم وأجدادهم من قِبل الأقباط في مصر، هؤلاء القوم يخافون من قعقعة السلاح، يخافون من أصوات البنادق تروعهم لا يقدرون على ذلك، ولذلك لما قال لهم موسى هلموا لنقاتل أعداء الله في الأرض المقدسة قالوا (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) نحن أتباعك يا موسى في السرّاء أما في الضرّاء وفي القتل والحرب والضرب فلا لسنا أتباعا لك فعاقبهم الله بالتيه في الصحراء حتى يموت ذلك الجيل الذي تربى على الذل والضعف والهوان وينشأ جيل جديد تربى في الصحراء، والعادة أن الجيل الذي يتربى في الصحراء يكون جيل شجاعة وبسالة ولا يُبالي بشيء وليس عنده من متاع الدنيا شيء، كراسيهم هي ظهور خيلهم ولذلك -سبحان الله- بُعث رسول الله في العرب لأن العرب كانوا أهل صحراء وأهل بادية وأهل حياة بسيطة جدا وليس عندهم من الترف شيء فلما اُمروا بالجهاد قاموا بالجهاد وقاتلوا -أمريكا وروسيا- في ذلك الزمان، قاتلوا فارس فكسروها، وقاتلوا الروم فهزموهم شر هزيمة وقال هرقل لما رأى خيول المسلمين وهي تغزو الشام وتدخل البلاد بلدا إثر بلد:
وداعا يا سوريا ** وداعا لا لقاء بعده
وبالفعل صدق هرقل فقد وعها الوداع النهائي وذهب إلى القسطنطينية -أو إلى روما- ولم يرجع بعد. فالله أراد لبني إسرائيل أن يتغير الجيل الأول، تتغير الجينات، الجينات التي تربت في أرياف مصر وعند نهر النيل وعند الأشجار والبساتين في الذل والضعف، هذه كلها تموت، تنبت أجيال جديدة ومعها جينات جديدة -جينات صحراوية- جينات لا تعرف إلا القوة والشجاعة والسالة ولا تهاب أحدا، تعيش في الظلام وتأكل من تراب الأرض هوؤلاء هم الذين يقومون بأمر الجهاد ولذلك مات موسى وهارون في أرض التيه ثم بُعث على بني إسرائيل يوشع بن نون فأُمر أن يدخل بيت المقدس فأمر بني إسرائيل أن يدخلوا فدخلوا فأقبل على بيت المقدس قبل غروب الشمس فقال:يا شمس إنك مأمورة وأنا مأمور فقفي-فأوقفها الله له ولم يُوقفها لأحد قبله ولم يوقفها لأحد بعده- حتى دخل الأرض المقدسة. دخلها في دقائق أو في سويعة وأهلهم الذين سبقوهم ماتوا جُبناً وبقوا في أرض التيه. وهذا تعليق على هذه القضية.
فالمقصود: أن سورة الصف في أمر الجهاد جاء فيها هذا المعنى ليقول الله للمؤمنين احذروا أن تعصوا أمر رسول الله في الجهاد فتتأخروا أو تتلكؤا أو تتباطؤا فيسلبكم الله -سبحانه وتعالى- العِزّ ويبتليكم بالذل كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذُلا لا ينزعه عنكم حتى تُراجعوا دينكم) واليوم أكبر شاهد، ما نحن فيه، فنحن نعيش ذُل لا يعلم به إلا الله، لا نتصرف في أموالنا ولا في أراضينا وإنما يتحكم بنا أعداؤنا لأننا رضينا بالزرع، تبايعنا بالعينة، اتبعنا أذناب البقر وأصبحنا نتنافس في العمائر الطويلة والشوارع الفارهة والسيارات الفاخرة والبيوت الفخمة المؤثثة ومثل هؤلاء لا يمكن أن يبذلوا الجهاد في سبيل الله. فالله -عز وجل- يقول (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) نحن لا ندري في أي شيء آذوه والآن تبيّن لنا أنهم آذوه في أنهم تلكؤا في الخروج معه للجهاد في سبيل الله ودخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم. هذه من أين جئنا بها؟ من السياق، فالسياق كله في الجهاد، اسمعوا ماذا قال الله قبل هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ*وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
أيضا -يا إخواني- من الأمثلة: قول الله -عز وجل-:
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ*الْجَوَارِ الْكُنَّسِ*وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ*وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) اختلف العلماء في (الْخُنَّسِ،الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) على قولين مشهورين:
القول الأول: أنها نجوم السماء فهذه النجوم تختفي وإذا طلع النهار تكنس يعني تأوي إلى كُناسها والكُناس هو البيت الذي تختفي فيه الدواب أو بقر الوحش فالله -عز وجل- يقسم (بِالْخُنَّسِ) ، (الْجَوَارِ) التي تجري فهي جارية في السماء، الكنس التي تأوي إلى كُناسها وذلك عندما تطلع الشمس تختفي هذه النجوم . هذا القول الأول.
القول الثاني: أن (الْخُنَّسِ،الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) هي بقر الوحش أو الظباء فهي خُنس: أي تختفي عن أعين الناس، جوار: تجري عندما تراهم، كُنس: تأوي إلى كُناسها في الليل فإذا جاء الليل أوت إلى كُناسها ـ حظائرها ـ أو أماكنها التي تأوي إليها عادة يُسمى كُناسا ففسرها بعض العلماء بأنها بقر الوحش. طيب أي القولين؟
عندما ننظر في السورة كلها نجد أن القول الأول أولى لماذا؟
أولا: لأن أول السورة كان افتتاحيتها بذكر الكواكب والنجوم إذا (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) هي الكواكب والنجوم وليست بقر الوحش.
ثانيا: قال بعدها (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ*وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) والليل والصبح هو المكان الذي تخرج فيه النجوم وتختفي فيه النجوم.
ثالثا: مما يؤيد ويُرجح أن المقصود بهذا هو النجوم وليس بقر الوحش أنه كثُر في القرآن الإقسام بالنجوم والعادة أن القرآن يُقسم بالشيء الظاهر المعلوم لكل الناس أكثر من إقسامه بالشيء الذي لا يعلمه إلا بعض الناس، فبقر الوحش لا يراها إلا الذي يعيش في أماكنها أو يعيش قريبا منها يعني أهل المدن لا يعرفونها، والعُميان لا يعرفونها، كثير من النساء والأطفال لا يرونها إنما يرها الصيادون والذين يعيشون في مناطقها أما النجوم فيراها كل أحد وفي كل زمان ومكان، وهي بيّنة وآية ظاهرة، ومن عادة القرآن الإقسام بالشيء الظاهر البيّن لأن القرآن مبني على البيان والظهور والوضوح قال تعالى (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ*وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ*وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ*وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فذكر أشياء معلومة، ظاهرة يراها الناس جميعا ليستدل بها على قدرته ولم يقل ألم يروا إلى الهواء كيف تكون من هيدروجين وأكسجين، هل يُرى؟ لا يُرى ولا يستطيع أحد أن يعرفه إلا إذا كان عنده مجاهر ومكروسكوبات وغيره. إذا عن طريق السياق استطعنا أن نُحدد أن المعنى المقصود. ذكر المؤلف أمثلة أخرى أوصلها إلى أحد عشر مثالا . ننتقل بعد ذلك إلى المرحلة السادسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق