الأحد، 12 يناير 2014

الوقفــ الثانية ـة من جـ 26 / مع قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..) من سورة محمد


هذه الوقفة الثانية من الجزء السادس والعشرين:
 وسبق أن وقفنا الوقفة الأولى مع سورة الأحقاف ، والآن نقف مع سورة محمد ، والآيات التي نختارها قول الله جل وعلا : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ...) إلخ الآية .
 فقال في الأولى : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) رزقه الله -جل وعلا- نور الفطرة، ونور العلم، ونور الهدى ثم ثبّته لأن الإنسان حتى في عالم العِلم يحتاج إلى ما يُثبّته كما يحتاج إلى ما يُثبّته في الإيمانيات يحتاج إلى ما يُثبته في العلِم فقد يوجد أقوام -عبر التاريخ- من ثبّته الله أو ترى منه الثبات في أمور العبادات ، فهو يحضر الجُمَع والجماعات ويتلو القرآن ويقوم الليل لكن الإشكال في علمه، الإشكال في فكره فهو يبقى ضالاً في فكره ولوكان قائماً بالطاعة بالعبادة ، وحاجة المؤمن الحقة مُلحة إلى أن يثبت إيماناً ويثبُت علماً ، وقد كان الخوارج يصلُّون خلف علي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فإذا قرأ القرآن يدخلون عليه بآيات يعارضونه فيها ويردون عليه يزعمون أنهم أكثر منه هدىً فكان إذا أكثروا عليه تلا قول الله -جل وعلا- في آخر الروم: (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) لأنه يأتي بآيات القرآن فيضرب بعضها ببعض ويتجنب أن يحتج بالسُنّة ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- : (يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم) لأن القرآن مُبيِّن للسنة فيأتي لآيات أنزلها الله في كفرة فجرة وجوههم عليها غبرة فيُنزلها -بهواه- على أحاد المؤمنين حتى يتم له الأمر في ضلاله. فالمؤمن -أي أحد كائنا من كان في أي زمان ومكان- في حاجة إلى بيّنة من الأمر جمعاً في إيمانه وطاعته وعبادته  وسلوكه وفي علمه الذي يحتكِم إليه والمسير والطريق الذي يصل إليه .. هذا فريق هو فريق الهداية أهل أهل اليقين والعلم.
 الفريق الآخر: هم من اجتالتهم الشياطين ولهذا قارن الله -جل وعلا- بين الفريقين، هذه المقارنة للأولى .
 المقارنة الثانية: ما بين أهل الجنة وماهم فيه من لذة النعيم، وبين أهل النار وماهم فيه من العذاب والحميم فأصبح هناك اقترانان أو مقارنتان ذكرهما الله جل وعلا .
 نأتي للتفصيل : أما الأولى بيناها.
في الثانية قال -جل ذكره- : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) "مَثَل" في القرآن تأتي على ضربين :
- تأتي على معنى صفة يعني بمعنى كلمة صفة وتعنى المثل المعروف بمعنى شيء يشبه شيئاً .. واضح ، يعني قول الله -جل وعلا- مثلا :ُ ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) فهذا تشبيه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة ، يوجد مُشبه ومُشبه به وأداة تشبيه ووجه شبه، لكن في قوله تعالى هذا الذي بين أيدينا :(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) وما بعدها من النعيم كما سيأتي هذا كله ليس فيه وجه شبه ومشبه به وإنما هذا مَثَل بمعنى صفة فيصبح معنى الآية : صفة الجنة التي وُعِدَ المتقون .. ظاهرٌ هذا .
 (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وعدهم ربهم من أجل تقواهم لأن التقوى لا يقبل الله غيرها ولايرحم إلا أهلها ، قال -جل ذكره- : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِن وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) فذكر -جل وعلا- أصول المشروبات الأربعة وبدأ بالماء لأنه لا يُغني عنه من المشروبات شيء وهو أصلها ، وهذا الماء تقول عنه العرب أنه أعز مفقود وأذل موجود ، وإنما يُبتلى الكريم الحق فيمن ليس لديه إلا قلة من الماء، ويضربون العرب في هذا أمثالاً: أن رجلاً كان معه ماءً قليلاً وهو في أرض مفازة ندُر فيها الماء فاستسقاه أحد الناس فأعطاه فمات الذي أعطى قبل أن يصل إلى مورد الماء ، فقال من يمدحه على حالة :
 لو أن في القوم حاتماً ** على جوده ظنت به نفس حاتمِ
 وحاتم، حاتم الطائي المعروف تضرب به العرب المثل بالجود ، فهو يقول أن حال هذا الممدوح أعظم من حال حاتم .. هذا على ذكر الماء.
 قال ربنا: (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) ثنّى باللبن لأنه يُغني عن المطعوم والمشروب وهو بعد الماء، وقد مرّ معنا أنه يدل على الفطرة. ( وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُه وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ) ثلّث الله بالخمر لأنه جرت عادة العرب أنهم إذا شبعوا شربوا الخمر ، فلما ذكر الله الماء واللبن ثلّثَ فخاطبهم بما جرت عادتهم به على أنه -جل وعلا- في آيات محكمات وعلى لسان نبيّه -صلى الله عليه وسلم- حرّم الخمر قليلها وكثيرها وسُميَت أم الخبائث ولعن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حقها عشرة كما في حديث ابن عمر، وليس شيء في الدين يُلعن فيه عشرة إلا الخمر ، لكن اللعن فيها لعشرة أشخاص لا يعني أنها أعظم الذنوب وإن كانت من عظائم الذنوب لكن هذا ليس مُرجحاً على أن تفقه منه أنه أعظم الذنوب. ويقولون إن رجلاً من الناس في المدينة رأى رجلاً يشرب الخمر فيهذي - يعني بعد أن شرب أصبح يتكلم بما لا يليق - فهذا الذي رآه أصابه الحنق فقال : امرأتي طالق إن دخل جوف ابن آدم شيءٌ أشد من الخمر - يعني لا يدخل الجوف شيء أعظم من الخمر- وعلّق هذا بطلاق امرأته ، فذهب إلى مالك- ومن مالك؟ مالك بن أنس إمام أهل المدينة في عصره والذي يقال عنه : "لا يُفتى ومالكٌ في المدينة" وكان -رحمه الله- ذا هيبة في مجلسه وقيل فيه :
يأتي الجواب فلا يُراجع هيبةً ** والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى ** فهو المهاب وليس ذا سلطان.
 -رحمه الله- وله المذهب المعروف المشهور وهو ثاني المذاهب ظهوراً، وله الموَطأ وهو أقدم كتاب ألّفه أحد من أهل العلم بين أيدينا ، لا يوجد كتاب بين أيدينا ألّفه الناس أقدم من موطأ مالك.. المقصود: ذهب هذا الرجل إلى مالك فقال له القصة : رأيت رجلاً يشرب الخمر فعلّقت الطلاق وقلت كذا وكذا ، فقال مالك : إءتني غداً ، فجاءه الرجل فقال مالك : إءتني غداً ، فجاءه في اليوم الثاني فقال : إءتني غداً ، فلما جاءه في اليوم الثالث قال : يا هذا لا أرى امرأتك إلا طالقاً منك ، إني تأملت القرآن فما وجدت شيئاً دخل جوف ابن آدم أعظم من الربا لأن الله -جل وعلا- سمّاه حرباً. موضوع الشاهد منه: التنبيه على أن الخمر من عظائم الذنوب لكنها ليست أرفع ولا أشد من أكل الربا -عياذاً بالله- .
نعود للآية: قال الله -جل وعلا- : (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وبيّنا أن سَنن العرب في شربها أنهم يشربون الخمر بعد أن يشبعوا.
 ثم قال الله -جل وعلا- : ( وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) ذِكرُ العسل في الخواتيم في الأخير لأن الأصل أن العسل دواء فيه شفاءٌ للناس فكانوا يشربون العسل بعد أن يطعموا كنوع من الدواء وسائر الشفاء، فخاطبهم الله -جل وعلا- بما هو واقع حياتهم وإلا ليس في الجنة داء ، ليس في الجنة مرض ولا سُقم لكن خاطبهم الله -جل وعلا -رتّب هذه المشروبات وفق ما تعيشه حياتهم.
ذكر الله جل وعلا هنا -كما تعلم- حال أهل الجنة وقال -جل وعلا- بعدها : ( ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) ثم قال : (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّار وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) واكتفى بقوله -جل وعلا- الماء الحميم. وقال في الكهف -جل ذكره- (يَشْوِي الْوُجُوهَ) مع أنه بادي الرأي ماعلاقة للمشروب بالوجه؟ وأول الآيات أن الرب -تبارك وتعالى- قال عنهم : (يَشْوِي الْوُجُوهَ) بمعنى أنهن إذا استسقوا وطلبوا ماءً يُعطَون -في النار- لكن هذا الماء -عياذاً بالله- لأنه حميم ما أن يُقربه من شفتيه ليشربه إلا حرارته -ناره- تُذهب فروة وجهه قبل أن يشربه ومع ذلك لا يجد في نفسه بُد من الشرب فيشربه فلا يزداد إلا عطشاً فيقطّع أمعاءه عياذاً بالله ، وحال كهذه حري بكل عاقل أن يفر منها ولن يفر منها بشيء أعظم من تقوى الله -تبارك وتعالى- بل لامفر منها إلا بتقوى الله تبارك وتعالى. هاتان الآيتان من سورة محمد ظاهرتا المعنى كما بيّنا. نتكلم إجمالاً عن الماء واللبن والخمر والعسل.
فنبدأ بالعسل والعسل من النحل وسنقرِن في طلب العلم الآن ما بين النحل وطالب العلم. النحل يأتي بالعسل لمّا يطوف على الأزهار، الله قال : (كُلي مِنَ الثَمَرَاتِ) فيطوف على الأزهار ثم يُخرج للناس عسلاً، فلو قيل للنحلة أن هذا االعسل ليس منك، من الزهر كيف تغلبك ؟ تقول اذهب للزهر وخذ منه عسلاً إن كنت صادقاً.
وإن قالت النحلُ إنما العسل مني قلنا لها حجبنا عنك الأزهار فأتِ بعسلٍ إن كنتِ صادقة فلا تأتي بعسل. ما علاقة هذا بالعلم ؟ من هو طالب العلم الحق؟ الذي يسمع من أكابر العلماء ويقرأ في ثقات الكتب وآتاه الله -جل وعلا- نوراً في قلبه وفهماً في عقله فيجمع هذا كله ويخلط ثم يقدمه للناس ، فإن نسبته إليه ظلمت مشايخه ومن أخذ عنهم، وإن نسبته إلى مشايخه ومن أخذ عنهم ظلمته هو ، قال لك هذه الكتب وهؤلاء المشايخ إئت بعلمٍ كهذا ، وإن قال هو : هذا علمي ولم آخذه عن أحد حجبنا عنه الكتب حجبنا عنه المشايخ لن يستطيع أن يقول شيئاً. فشخصيتك في أي شيء، في العلم وفي غيره تمزجها مع ما تتلقى، بعد ذلك بعد أن تُضفي عليها شخصيتك وطريقتك مع ما قرأت -مع إجلال من سبقك ومعرفة قدرهم- بعد ذلك يُقدّر -إذا أراد الله- أن تكون إماماً في الأمر الذي تريده ، بغير هذا التصور محال أن يصل الإنسان إلى مقصوده. أما الخمر: فلا يمكن أن نتكلم عنها ، حرمها الله -جل وعلا- وهي أم الخبائث عياذاً بالله.
 وأما اللبن: فقد مرَّ معنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قُدِّم له اللبن والخمر فاختار اللبن ، فقيل له : "هُديت إلى الفطرة ، هُديتَ وهُديَت أُمتك".
 والماء سمّاه الله -جل وعلا- ماءً مبارك ، وهو حديث عهد بربه وكان إذا نزل حسر -صلى الله عليه وسلم- عن رأسه وعن ذراعه حتى يناله منه شيئاً والعلم عند الله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق