السبت، 11 يناير 2014

الوقفــ الأولى ـة من جـ 26 / مع قوله تعالى (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ...) من سورة الأحقاف


 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
 هذا اللقاء الأول من الوقفات المباركة مع كلام الله -جل وعلا- ، والجزء الذي نشرُف بالحديث عن بعض آيه هو الجزء السادس والعشرين ، والآيات من سورة الأحقاف في الوقفة الأولى.
قال الله -جل وعلا- : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)
دائماً في القرآن إذا جاءت "إذ" أي : وَاذْكُر إِذ، و"إذ" ظرفية وعاء لأي شيء قد قُضيَ وانتهى ووقع.
(صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) أصل الأمر على ما ذكره أهل السير والأخبار والحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في مُنقلبه من الطائف في وادي نخلة وقف يصلي، قد تكون الصلاة صلاة الليل وقد تكون الصلاة صلاة الفجر ، لكن القائلين بصلاة الفجر أقول أن قولهم بعيد لأن هذا كان قبل فرض الصلوات الخمس ، غاية الأمر الذي أثبته القرآن أنه قرأ القرآن ، لمّا كانت بعثته -صلى الله عليه والسلام- حُجب الشياطين عن السماء وحيل بينهم وبين خبرها ، فجمع إبليس أعوانه ونشرهم في الأرض يبحثون عن السبب ، وكل شيء بقضاء وقدر ، نفرٌ منهم جعلوا البحث في وادي نخلة ، يعني كُلِفوا بالوادي -بالطريق- وهم ماضون يبعثون عن السبب الذي من أجله حيل بينهم وبين خبر السماء إذا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ - هناك قارئ وهناك مقروء - فالقارئ سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- والمقروء أفضل كتاب، أفضل كلام ، وهو كلام من؟ كلام رب العالمين ، فاجتمع الفي العذب الرطب والقلب المؤمن في صدق اللهجة والمقروء وهو كلام الله. سمعته الجن أناخوا مطاياهم وأخذوا يُنصتوا كما قال الله -جل وعلا- : فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا) فلما استمعوا قذف الله -جل وعلا- بنعمته وفضله في قلوبهم الإيمان فركب بعضهم بعضاً يستمعون ، قال الله -جل وعلا- في سورة الجن : (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا) أي الجن (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)  
شيءٌ ملبَّد أي: شيء بعضه فوق بعض يستمعون إليه -صلى الله عليه وسلم- وهذا كله يقع وهو -عليه الصلاة والسلام- لايدري لأنه لا يرى الجن ، فقال له ربه : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ) أما أنا لم أرَ شيئا (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) وقال هنا : (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ) عمداً أخرجناهم من ديارهم وعمدا بقدرنا أمررنا بهم عليك وبقدرنا ورحمتنا أسمعناهم إياك وبرحمتنا قذفنا الإيمان في قلوبهم.
(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ)  حضروا التلاوة، حضروا القراءة(قَالُوا أَنْصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ) قُضِت التلاوة (وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) وهذا دلالة على أنهم آمنوا وأن القرآن وقع منهم موقعاً عظيماً (فَلَمَّا حَضَرُوهُقَالُوا أَنْصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ماذا قالوا؟ (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا (سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ) وهذا غالب الظن أنهم كانوا يهود لأنهم لم يذكروا الإنجيل ، والإنجيل هو الكتاب الذي قبل القرآن ليست التوراة ، التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن هذا زمن نزولها ، لكنهم ذكروا التوراة وهذه قرينة يسيرة لا يجزم بها على أنهم كانوا من اليهود ، قال الله -جل وعلا- عنهم : (سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)  مصدقاً لما جاء في كلام موسى، مصدقاً لما جاء في التوراة والكتب السماوية يُصدق بعضها بعضاً (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ*يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا) أصبحوا دعاة (أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ)  هذه (أَجِيبُوا) فعل أمر له جواب يسمى في اللغة جواب الطلب ، (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).
 يتحرر من هذه الآيات معانٍ عدة نتأملها على التيسير:
 أولاً : أن القرآن كتابٌ لا كتاب أعظم منه فالجنّ مخلوقون من نار بنص القرآن ومع ذلك لما سمعوا القرآن ذابت قلوبهم وخَشْية الله أو وكتابه العظيم يلين له كل قلب ، إلا قلب بلغ من القسوة أنه أصبح أشدّ قسوة من الحجارة ، والله أخبر أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله وقال : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ونحن عندما نقيم مثل هذه الدروس وأنتم أيها المباركون عندما تحضرون مثل هذه الدروس لا يمكن أن ينتفع الإنسان بشيء أعظم من انتفاعه بالقرآن ، مُحال أن ينتفع أحد بشيء أعظم من انتفاعه بالقرآن ، فهؤلاء مخلوقون من نار كل ما فيهم من قسوة،كل ما فيهم من جبروت، كل ما فيهم من تمرّد ضاع وتلاشى لمّا اجتمع الفطرة التي في قلوبهم مع نور القرآن مع تلاوته -صلى الله عليه وسلم- فجعلهم ذلك يدعون إلى الله.. هذه واحدة .
الأمر الثاني : قال الله عنهم : (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) لم يذكر الله هنا أن الجنة ثواب لهم وهذا دفع بعض العلماء إلى أن يقول أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وأن ثوابهم أنهم لا يدخلون النار وهذا قول بعيد مرجوح لكن ذكرناه توسعاً في العلم ، واحتجوا بهذه الآية.
 وقال آخرون: أن مؤمني الجن يدخلون الجنة لكن لا يسكنون في وسطها إنما في أطرافها وهذا قول يحتاج إلى نقل يعضده ولا نقل يعضده.
وآخرون قالوا : أن مؤمني الجن يدخلون الجنة لكن يعاملون بالضد فكما أن الإنس لا يرونهم في الدنيا فإنهم في الجنة الإنس ترى الجن والجن لا يرون الإنس وهذا كذلك يحتاج إلى نقل صحيح -وإن قال به الأجلّاء- لكن لا نقل صحيح يعضده.
 إذاً ما الصواب ؟ الصواب ما عليه جماهير العلماء من أن مؤمني الجن يدخلون الجنة ويُثابون هم والإنس سواء قال أصدق القائلين : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) وقال -جل وعلا- في آية عامّة : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) وأكثر العلماء من بسط القول في هذه المسألة وقال بقول الجمهور : الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره.. هذه واحدة.
هذا الأمر وقع قبل أن يصِل صلى الله عليه وسلم إلى مكة وبعد أن ردّه أهل الطائف ، حتى تعلم كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم على ربه ، لما رده الإنس من أهل الطائف وهو قادم عليهم أقبل الله -جل وعلا- عليه بقلوب الجن تقدُم عليه -صلوات الله وسلامه عليه- وبعدها لما أراد أن يدخل مكة منعه أهل مكة من الدخول فلم يدخل إلا بجوار المُطعم بن عدي فلما دخل في جوار المُطعم عرج الله به إلى السماوات العلى فلما صدوا مكة عنه فتح الله له أبواب السماوات. كان معه في رحلته إلى الطائف مولاه زيد بن حارثة ، ولما كان زيد -على جلالة قدره ورفيع مكانته- مولى لم يستطع أن ينصر النبي -صلى الله عليه وسلم- لرقة حاله وضعفه -رضي الله عنه- ، ومع ذلك لما عُرج به -صلى الله عليه وسلم- عُرج به يصحبه جبريل -عليه السلام- ، فانظر كيف عوّض الله -جل وعلا- نبيّه ، والطائف مرتفع صعد إليها فرده أهلها عن مكة فعرج الله -جل وعلا- به إلى سدرة المنتهى فلا أحد أكرم على الله منه صلوات الله وسلامه عليه.
 أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكته ** والرسل في المسجد الأقصى على قدمِ
 لما رأوك ألتفوا بسيدهم ** كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطرٍ ** ومن يفُز بحبيب الله يأتمِن
 يعني من يجد النبي إمام يأتمن -يصلي- ومن يفز بحبيب الله يأتمنِ
 جُبت السماوات أو مافوقهن دجىً ** على منوّرة دُرية اللُّجُمِ
 ركوبةً لك من عزٍ ومن شرفٍ ** لا في الجياد ولا في الأينُق الرُّسُنِ
 حتى بلغت سماءً لا يُطار لها ** على جناحٍ ولا يُسعى لها قدمِ.
 كل هذا كيف وقع؟ مشيئة الخالق الباري وقدرته وقدرة الله فوق الشكِ والتُّهم. صلوات الله وسلامه عليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق