الأحد، 15 ديسمبر 2013

الحلقـــ التاسعة ـــة / أصحاب السبت



 الحمد لله على فضله والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف رسله وبعد:
 فنواصل معكم دروسنا في التفسير في هذا الجامع المبارك جامع الد. ناصر بن عقيل الطيار بمدينة الرياض شاكرين لكل من أسهم في إقامة هذا الدرس. 
وعنوان لقاء اليوم: أصحاب السبت. وقد بيّنا في لقاء مضى أننا نتعمد في هذا العام أن نأتي بالعنوان مجزوءا من آية كريمة ذات مركب إضافي ، وهذا المركب اﻹضافي اليوم جاء في قول الله -عز وجل- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) فنحن في اللقاء أمام مضاف ومضاف إليه (أصحاب) و (السبت) وكلمة أصحاب في اللغة جمع صاحب وتعني في اللغة الملازمة قلّت أو كثُرت ، ماديا أو معنويا ، كل ذلك يصح أن يقال عنه صاحب. وقول الله -عز وجل- (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) كما قال اﻹمام الشنقيطي -رحمه الله- في تفسيره "لم يُبيّن هنا كيف لعن أصحاب السبت" فقال في كتابه القيّم (إيضاح القرآن بالقرآن) أن ذلك بيّنه في سورة أخرى قال ربنا في سورة البقرة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) فما أجمله ربنا في سورة النساء بيّنه في سورة البقرة ، وقال -جل وعلا- في اﻷعراف (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) فقول الله -عز وجل- (كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ) يدل على أن الابتلاء خارج عن المألوف .
 نتحدث عن أصحاب السبت من عدة قضايا :
ربنا يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) إما أن يكون المُخاطب باﻵية اليهود فيصبح المراد بالكتاب التوراة،وإما أن يكون المُخاطب باﻵية النصارى فيصبح المراد بالكتاب اﻹنجيل ،وإما أن يكون المخاطب بالآية اليهود والنصارى فيصبح المراد بالكتاب التوراة والإنجيل. عندما يقول -الحق العظيم- لهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) هذا بعث للإيمان في نفوسهم ﻷنهم أولى أن يتبعوا وقد مضت إليهم كتب سابقة تحرر فيها صدق بعثة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وحقيقة دعوته فلا يُقبل وهم الذين أوتوا الكتاب من قبل أن يأنفوا من دعوته صلوات الله وسلامه عليه- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَآمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا)
المراد بـ (بِمَا نَزَّلْنَا)  القرآن،(مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) والقرآن قطعا مصدق للكتب السماوية السابقة لسبب ظاهر وهو أنها جميعا من عند الله وما كان من عند الله محال أن يُكذِّب بعضه بعضا فقال ربنا (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) قبل أن نأتي لهذا السياق في اﻵية نقف عند كلمة (السبت) والسبت في اللغة: معناها القطع والفصل واﻹيقاف كلها تنطبق على كلمة السبت وهو يوم معروف في اﻷسبوع ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- جاء في حديث (أنه نادى رجلا كان يمشي على القبور وينتعل نعلين سبتتين فقال له يا صاحب السبتتين ألقي سبتتيك) هاتين النعلين مأخوذة من جلد مقروض -مدبوغ- فقُطع ما فيه فلذلك سُميتا بهذا الاسم ، وراوي الحديث صحابي اسمه بشير بن الخصاصية -يُنسب إلى أمه- قدِم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد قلت مرارا أننا نحاول الاستطراد نفعا للناس ، قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يبايعه ، أي قدم عليه من غير المدينة -أضحى مهاجرا- فقال -صلى الله عليه وسلم- بايعني على أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وتقيم الصلاة ، وتصوم رمضان وتحجّ البيت ، وتؤتي الزكاة ، والجهاد في سبيل الله ، فقال هذا الصحابي : يا رسول الله أبايعك عليها جميعا إلا اثنتين ، أما الزكاة فليس لي إلا عشر ذَودٍ -أي ليس عندي إلا عشر رؤوس من اﻹبل- هن رسو أهلي وحمولتهن -والمعنى أنها قليلة- إن بايعتك على الزكاة لا يبقى منها شيء ، فهو رجل اﻵن على فطرته ظاهر واضح في كلامه . وأما الجهاد فإني أسمعهم يقولون ، يسمع من؟ الصحابة ، أسمعهم يقولون أن من ولى من الزحف يغضب الله عليه فأخاف إن لقيت العدو خشعت نفسي وفررت من الموت فبؤت بغضب من الله إذا ما الحل في رأيه؟ أﻻّ يُبايع على الجهاد ، فاعتذر عن المبايعة عن الزكاة وعن الجهاد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبايع كيف سيكون حال يده؟ ممدودة ، فلما قال الرجل إلاّ الجهاد والزكاة ماذا فعل -صلى الله عليه وسلم- بالعقل؟ قبضها ، قال: يا بشير لا صدقة ولا جهاد فبم تدخل الجنة؟! إنا لله وإنا إليه راجعون ، عندما يسمع اﻹنسان حديثا كهذا ويرى حال نفسه لا يملك إلا أن يقول إنا لله وإنا إليه راجعون. قبض -صلى الله عليه وسلم- يده وقال: يا بشير لا صدقة ولا جهاد فبم تدخل الجنة؟! فعاد -رضي الله عنه وأرضاه- وبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهن كلهن) أي على كل ما قد سبق ذكره. هذا استطراد في معنى كلمة السبت ﻷن هذا الصحابي مشى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المقابر فرأى رجلا ينتعل نعلين ونقل إلينا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاه أن ينتعل في المقابر . نعود للآية : قال رب العزة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) نأخذ اﻷول (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا) يوجد في اللغة حقيقة ومجاز ، جمّ من العلماء لا يرون وجود المجاز في القرآن ، وبعض أهل العلم -أفذاذ مثل اﻷولين- يرون وجود المجاز في القرآن لكن اﻷصل إعمال الحقيقة . فجمهور أهل العلم من المفسرين على أن اﻵية على حقيقتها فيصبح معنى اﻵية عندهم -وهذا قول الجمهور وقول الكافة وقول أكثر أهل العلم- (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا) بمعنى : من قبل أن نزيل معالم اﻵدمية منها ، وهذا هو الراجح من معنى اﻵية ، نزيل معنى اﻵدمية منها ويدل عليه حديث كعب بن اﻷحبار فيما رواه ابن أبي حاتم ، كعب اﻷحبار رجل من علماء اليهود من أهل اليمن ، فقدم المدينة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يحمل علما جما ، بقدر الله لما دخل المدينة وجد تالٍ يقرأ القرآن ، يقرأ هذه اﻵية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) وهو من الذين أوتوا الكتاب كان يهوديا ، فلما وصل الذي يقرأ القرآن إلى قول الله -عز وجل- (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا) يقول كعب: فبادرت إلى الماء فاغتسلت ثم أسلمت وإنني والله وأنا أغتسل أتحسس وجهي مخافة أن يكون الله -عز وجل- قد طمسه" ﻷنه رجل من أهل الكتاب يعلم حقيقة وعيد الله فاﻵية تجري مجرى التهديد،مجرى الوعيد (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا) فموقف كعب اﻷحبار -والأصل إعمال الحقيقة- يدل على أن الراجح في معنى اﻵية أن اﻵية على حقيقتها،على ظاهرها ولا حاجة للمجاز. لكن يمكن أن يقال ان اﻵية تحتمل معنى آخر لا يعارض اﻷول وهو أن تحمل اﻵية على المجاز دون أن تسلب اﻵية حقيقتها فيصبح المعنى (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا).
 اﻵن -أيها المبارك- بالعقل عندما تسمع عن رجل تعرفه من أهل الثراء ، من أهل المناصب ، من أهل المال ، من أهل القصور ، من أهل كلمة التفوذ ، وأنت تعرفه ، قابلته وقابلت شخصا آخر فأردت أن تعرف القادم على صاحبك هذا ، يمكن ان تختصر الكلام في كلمة واحدة ، تقول هذا رجل وجيه ، فقالوا معنى الآية (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا) الوجاهة التي كانت لليهود في الحجاز تنتفي ، وأنت رأيت أن كعب بن اﻷشرف كان سيدا في المدينة ، والسموأل يهودي كان سيدا في تيماء ، وأبو رافع كان يسمى تاجر أهل الحجاز ، هؤلاء كانت لهم الوجاهة في الحجاز كله فلما جاء اﻹسلام ولم يؤمنوا ذهبت وجاهتهم كلهم ، قُتل كعب وقُتل أبو رافع وقبل ذلك مات السموأل.هذا معنى اﻵية على المجاز وهو لا ينافي هنا معنى الحقيقة. قالوا (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا) هؤلاء اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة أصلاً قدِموا من الشام ، ما الذي وقع لليهود في زمن عمر؟ أخرجوا من خيبر إلى تيماء ومن تيماء إلى الشام والله يقول ( لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) فقالوا هذا يدل على أن اﻵية تحمل في طياتها معنى مجازيا.نقول : يقبل لكن اﻷصل إجراؤها على الحقيقة .
هذا السياق اﻷول . ثم قال رب العزة (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) وهو سياق اﻵية ،(نَلْعَنَهُمْ) "اللعن" -عياذا بالله- الطرد واﻹبعاد من رحمة الله ، وهو مراتب فإن الله طرد إبليس -لعنه-، ولعن الله آكل الربا ، لكن ليس لعنُ الله ﻹبليس كلعنه آكل الربا ، ولعن الله العاقّ لوالديه ولعن الله الراشي ولعن المرتشي ، ولعن الله شارب الخمر وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ، وعشرة في الخمر لكن ليس ذالكم اللعن -على فضاعته- قريبا من لعن الله -جل وعلا- ﻹبلبس ﻷن اللعن والطرد واﻹبعاد من رحمة الله على دركات أو درجات والمقصود على تفاوت كبير فيما بينها .
 قال رب العزة (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ) أصحاب السبت: هم الذين قال الله عنهم في اﻷعراف (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) قوم قبل إنهم في العقبة ، قيل إنهم في أيله، وقيل إنهم في غيرها، القرآن لم يُعينه ومن التكلف البحث عنه أحيانا ، فنقول كانوا على شاطئ البحر ويصيدون ، والحيتان جمع حوت والمراد به السمك،الله يبلوهم حرُّم الله عليهم أن يصيدوا يوم السبت ، فإذا جاء يوم السبت يبتليهم رب العزة تأتي الحيتان متتابعة مصطفة شُرعا -ظاهرة- تكاد تقبضها بيدك يتبع بعضها بعضا شُرعا صفوفا متتابعة متزاحمة على الشاطئ وقد حرّم الله عليهم يومئذٍ أن يصيدوا فاحتالوا فأخذوا يرمون الشباك يوم الجمعة ويأتون يوم اﻷحد يحملونها لتصيد ما وقع في شباكهم من الحيتان يوم السبت فلعنهم الله وقال ربنا في البقرة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) ويوجد في العلم -زادكم الله فقها- طريقتان : طريق أولية لظاهر اﻵية وهذه تحرر لك المعنى لو سألك طالبك ، تلميذك ، ابنك ، عنه تجيبه لكنها في الغالب لا تزيدك أكثر من فهم للمعنى.
وتوجد طريقة: أن تفهم شيئا خفيا في اﻵية أراده الله ، والخفي الذى أراده الله هو الذي به صلاح القلب ، والخفي هنا في قوله تعالى (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) السؤال: من الذي ألهم الحيتان أن يوم السبت لا صيد فيه حتى اطمأنت وتتابعت وظهرت؟ الله ، وهذا الشيء الذي يحير ، اﻵن هؤلاء عقلاء -يهود-ماكثون على البحر يرون سمك ظاهر يصيدونه ، لا يرون سمكا ظاهرا لا يصيدون ، هذا يحصل لي ولك ، ليهودي ، لنصراني ، لمسلم ، ﻷي ملة ، بالعقل لكن هذا الحوت الذي في البحر من الذي أدراه أن هذا اليوم يوم سبت بمعنى قطع وأن الصائدين لا يأتون ليصيدوا فتصبح الحوت مطمئنة تخرج عند تلك القرية فقط ليس عند غيرها من القرى ، عند تلك القرية فقط ، من الذي ألهمها؟ الله ، فيعلم كل أحد من هذا وغيره أن الكون كله يدبر في الملكوت اﻷعلى (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) كلما استقرت هذه الحقيقة اﻹيمانية في قلبك تكون خطاك في الدنيا خطى واثق يعرف كيف يسير فيها ، يكون اﻹنسان على بينة ، على علم ، على ثقة من ربه أن أحدا ممن تراه مهما عظم سلطانه وكثر ماله ، وجل ثراؤه ، وكثُر جنوده ، أيا كان حاله ، مؤمناً ، كافرا ، برا ، تقيا ، هو لنفسه لا يملك نفعا ولا ضرا فضلا على أن ينفعك وإنما المقادير كلها تدبر في الملكوت اﻷعلى بيد الله -عز وجل- وحده ، ومن عظمت هذه الحقيقة في قلبه سار في حياته مطمئنا ،قال ربنا (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) وقلنا إن اﻵية تجري مجرى الوعيد والتهديد .
 ثم جاء في اﻵية ما يُرغِّب أهل الكتاب في اﻹيمان ببيان أنهم لو بقوا على حالهم لن يكون مصيرهم في القيامة إلا النار بخلاف أهل المعاصي من الموحدين فإن الله يغفرها فجاء بعد هذه اﻵية قال ربنا (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴿٤٧﴾ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا) فاﻵية تحمل عظيم الوعيد والتهديد لليهود وأهل الكتاب جملة،وتحمل الرجاء للمؤمنين ﻷن رب العزة قال فيها (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ثم قال (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فاﻵية تعطي بعض الرجاء للمؤمنين وفي الوقت نفسه تعطي مزيدا من الوعيد والتهديد لمن كفر بالله -عز وجل- من أهل الكتابين .
 بقينا في فائدة أخرى وهو قول الله -عز وجل- (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) ظاهر اﻵية أنه يكون العذاب واحد من اثنين إما الطمس وإما اللعن لكن أحيانا تأتي "أو" ولا يراد بها التخيير قال -صلى الله عليه وسلم- عن مدينته قال (من صبر على جهدها ولأوائها -جهد ولأواء المدينة- كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة) اﻵن أول ما يخطر في الذهن أن الراوي شك هل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (شفيعا أو شهيدا) هذا أول ما يخطر ببالك ، لكن هذه الخاطرة منتفية ﻷن هذا الحديث رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمُّ من الصحابة ، سعد بن أبي وقاص ، أسماء بنت عميس ، عبد الله بن عمر ، أكثر من سبعة كلهم رووه بهذه الطريقة أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال (من صبر على جهدها ولأوائها كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة) فمحال أن يكون السبعة شكوا في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- قال شفيعا أو شهيداً . واضح. إذا لابد من تحرير معنى شفيعا أو شهيدا ، أي مؤمن يسكن المدينة أو يسكن غيرها إما أن يكون غالب عليه الطاعة أو غالب عليه المعصية مع بقاء التوحيد فيصبح معنى الحديث (كنت له شفيعا أو شهيدا) شفيعا للعاصين المذنبين ، شهيدا للطائعين ، كنت له شفيعا إذا كان مذنبا عاصيا فيشفع له ، وإن كان مطيعا فهو -صلى الله عليه وسلم- يشهد له. رزقنا الله وإياكم شفاعة وشهادة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- والعلم عند الله ، وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق