الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

الجنـّــة



الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد..
 نستأنف دروسنا في هذا المسجد المبارك ، وعنوان لقاء اليوم الجنّة -أسكننا الله وإياكم الجنة- آمين.
الجنة من حيث مفردة لغوية معناها: ماخَفي واستتر ، ولهذا يُسمى الجن جناً ، وأما الجنّة في كلام الله -جل وعلا- فهي أعظم وعد وعده الله -جل وعلا- عباده ، قال الله -تبارك اسمه وجل ثناؤه- : (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولا) (وَعْدًا) وعده الله العباد ( مَسْؤُولا) يسأله إياه العباد ، وما من أحد من الصالحين من آدم إلى أن يُطوى وشي الإسلام إلا وهو يسأل الله الجنة ، مرّ -صلى الله عليه وسلم- ومعه معاذ على رجل فقال الرجل : أما وإني ﻻ أُحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكنني أسأل الله الجنة ، فقال -عليه الصلاة والسلام- (حولها ندندن) ، يعني ما تطلبه نحن نطلبه .
ذكر الله الجنة في سور عدة  وسنُجمل قدر المستطاع حديث رب العالمين عن الجنة . أولاها : الجنة خلقها الله ، ورضيها أن تكون داراً وثواباً لأوليائه ، والله لا يرضى لأوليائه إلا الأعلى ، ولا يُظن به -تبارك اسمه وجلّ ثناؤه- إلا الظن الحسن ، ولا ريب أنه ما من نعيم أعلى من نعيم الجنة ، بدليل أن الله رضي لأوليائه الذين عبدوه في الدنيا أن يُورثهم الجنة قال الله عن خليله إبراهيم : (وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) ففهمنا أن الجنة لها ورثة ، وأن أي أحد منا اليوم لا يدري هل هو مِمن قال الله -جل وعلا- فيهم يرثون الفردوس أو مِمن لا يرثوها ، فما تعلق قلب امرئ من رحمة الله بشيء بأعظم من رجائه أن يدخله الله الجنة .
/ أخبر الله -جل وعلا- أن لأهل الجنة رزقاً يأتيهم بكرة وعشياً ، قال ربنا -جل وعلا- : (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا *لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) مع أن الاتفاق على أن الجنة ليس فيها لا ليل ولا نهار ، ولا شمس ولا قمر ، كيف يعرفون البكرة من العشي ؟ قال أهل العلم وأجابوا عن هذا أجوبة من أشهرها : أن نوراً يخرج من العرش ، ومنهم من قال : إنهم يعرفون البكرة والعشي من إرخاء الستور ونزول الحُجُب -والعلم عند الله- لكن قطعاً فيها بكرة وعشيّ لأن الله -عز وجل- أخبر بقوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) .
/ أخفى الله -جل وعلا- عن عباده الصالحين ما أعده لهم في جنته مبالغة في إكرامهم والثواب لهم ، فلما ذكر الله أشرف النوافل وهو القيام له في الليل أعقبه بقوله -جل وعلا-  (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) ثم قال -وهو أصدق القائلين وأحكم الحاكمين- ويقيناً نعلم أنه -جل ذكره- لا يُخلف وعده البتة قال : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ *فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) معنى قرة أعين : أن ما تراه لا يجعلك تنظر إلى ما بعده ، تسكن وتستقر عينك للنظر إليه ولا تريد أن ترى شيئاً وراءه ، وقد أعد الله لأولياءه -كما في الخبر الصحيح- (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) .
/ أخبر ربنا أن الجنة لها أبواب ، وأخبر رسولنا -عليه الصلاة والسلام- أن أبوابها ثمانية ، وأخبر نبينا -عليه الصلاة والسلام- أن لبابها حلقة تُحرّك وتُقرع ، وأنه -عليه الصلاة والسلام- أول من يُحرك حلقة باب الجنة ، فيقول له الخازن : من أنت ؟ فيقول : أنا محمد  فيقول : أنا أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك،فهو -عليه الصلاة والسلام- أول من يدخل الجنة.
/ وأخبرنا نبينا أن لهذا الأمة -أمته عليه الصلاة والسلام-  باب لا يدخل معه أحد غيرهم -جعلنا الله وإياكم مممن يُزاحم عليه- آمين .
/ أخبر ربنا -جل وعلا- أن في الجنة نعيماً عظيماً ذكر ربنا بعضه وأخفى بعضه ، من أعظم النعيم أن الملائكة تُسلم عليهم حال دخولهم (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) .
 والأمر الثاني : أنه أول ما يدخلون الجنة كما في الخبر الصحيح يؤتَون زيادة كبِد النُون أي زيادة كبد الحوت ، ثم يُنحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ، ثم يُسقَون عليه شراباً سلسبيلاً ، حتى إذا استقروا فيها يؤتَى بالموت على صورة كبش أملح ، فيُقال يا أهل الجنة فتشرئب أعناقهم خوفاً من أن يقال لهم اخرجوا منها وقد ذاقوا نعيمها ، هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : هذا الموت ، ثم يُنادى أهل النار بمثل هذا النداء فيُعرّفون به فيقولون : نعم هذا الموت ، فينادي منادٍ يا أهل الجنة : أن خلود بلا موت ، وأن يا أهل النار : خلود بلا موت ، ويُتلى قول الله : (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهذا يوم الحسرة الذي يصيب أهل الكفر -أعاذنا الله وإياكم منها ذلك- . يبقى أهل الجنة في الجنة ، حتى إذا استقروا فيها وانتفى عنهم خوف الخروج منها واطمأنوا إلى أنهم خالدون فيها -كما عند مسلم في الصحيح- من حديث صهيب : (إذ نادى منادٍ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن يُنجزكموه ، فيقولون وما هو ؟ ألم يُثقل موازيننا ؟ ألم يبيض وجوهنا ؟ ألم يجرنا من النار ؟ ألم يدخلنا الجنة ؟ فيُكشف الحجاب ، فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى) ولو أن الإنسان تحدث من وقته هذا إلى أن يموت عن فضل نعمة النظر إلى وجه الله والله ما أوفاها حقها ، إذ لا تعدل نعمة نعمة النظر إلى وجهه العلي الأعلى ، فوالله إن أُناسا -وهذا لنا ولكم- ممن نحبهم من أهلينا وقراباتنا وأصدقائنا لو غابواعنا أيام ثلاثة لتمنت أعيننا أن تراهم وهم مخلوقون مثلنا ، فكيف بلذة النظر إلى وجه أرحم الراحمين -جل جلاله- وأكرم الأكرمين -تبارك اسمه- وهذا يدفعك إلى أن تطيعه في الدنيا عل الله أن يرزقك ثوابا عظيماً هو لذة النظرإلى وجهه الكريم. ومثل هذا لايستطيع الإنسان أن يشرحه ، هي لذة نطلبها ولم نراها ، ولا ينبغي أن يؤرقك حال نومك أو حال يقظتك شيء أعظم من أن تسأل الله لذة النظر إلى وجهه ، كل ما يكون من عذاب أهل النار ليس بشيء أمام حرمانهم من رؤية وجه الله (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ) وقال عن أوليائه ، عن أصفيائه  ،عن عباده : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) فرؤية وجهه -تبارك وتعالى- أجلّ مطلوب وأعظم مرغوب ، وهو الذي له ومن أجله أفنى الصالحون أعمارهم وأذهبوا أيامهم وسَعَوا في عبادة ربهم ، وكلما قَصُرت بك نفسك أو ثَقُل بك بدنك عن طاعة فذكّره بلذة النظر إلى وجه -العلي الأعلى جل جلاله-.
هذا النعيم يعقبه رضوان من الله ، والرضوان من الله سمّاه الله -جل وعلا- أكبر النعيم قال ربنا -تبارك وتعالى- : (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) ، وفي الخبر الصحيح وهو طويل يقول -جل وعلا- : (ألا أعطيكم أعظم من هذا ؟ فيقولون : ربنا وأي شيء أعظم من هذا ؟ فأقول : أُحِل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) . فرضوان الله -جل وعلا- مع رؤية وجهه العظيم متمِمان بعضهما لبعض أعظم نعيمٍ يناله أهل الجنة .
/ يبقى من بعض النعيم الذي ذكرناه في الجنة يبقى مسألة : ما الأسباب التي توجب دخول الجنة ؟
أعظمها توحيده -جل وعلا- فقد حرّم الله على من يُشرك به أن يدخل الجنة (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) فتوحيده -جل وعلا- السبب الأعظم في دخول الجنة وما بعد ذلك تَبَعٌ له ، فأعظم الأسباب أن لا يكون في قلبك أحدٌ تحبه أو تخافه أو ترجوه غير الله ، هذه منزلة ينالها من عرف الله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ)أول الطرائق محبة الله ، وحتى تكون في القلب محبة الله لابد أن يكون في القلب استحضار لنِعمة الله -عز وجل- عليك ، وأعظمها والله السِتر ، فإن ستر الله على عباده من أجلّ وأعظم النِعم ، ولو أن الناس كُشف بعضهم لبعض لتبرأ كل واحد منهم من الآخر ، لكن من أعظم نِعم الله على العباد أن يستره الله -جل وعلا- .
 ومن نعمه -تبارك وتعالى- التوفيق للعمل الصالح ، فإن التوفيق للعمل الصالح من قرائن وأمارات حب الله -جل وعلا- لذلكم العبد ، وهذا يعرفه الإنسان وهذا لا يحتاج إلى بلاغة ولا إلى فصاحة ، يحتاج الإنسان يتفقد حاله ، إذا غاب عنك قيام ليلة فتذكر ذنبك في النهار ، وإن وفقك الله لأن تقوم ليلة فقد أحب الله أن يراك واقفاً بين يديه ، فوالله إن خطواتك لماء وضوئك فيغسل الله بها ذنوباً قد قدت، ثم خطواتك إلى مقام صلاتك ثم وقوفك بين يدي ربك وأنت تقول بعد تكبيرة الإحرام : "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين"   ثم ما يفتح الله عليك وتقرأ الفاتحة ، ثم تتوخى من آيات القرآن ما تتلوه فإن الله يحب أن يسمع كلامه من عبده ، وماعليك لو أخذت وأعدت وبدأت قول الله -جل وعلا- في الشعراء : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ*يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) تعيدها مرة ، مرتين ، ثلاث مرات ، هذه الآية تُفطّر قلوباً قاسية لأن الإنسان يخشي من الخِزي يوم القيامة ، وهذا الدعاء نسبه الله إلى من نسب له المِلة إلى خليله إبراهيم ، فيقرأ العبد الآية مرة بعد مرة (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ*يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) لما تقرأ (وَلا تُخْزِنِي) تستشعر أن الأمر كله بيده ، إن شاء رفعك وإن شاء أخزاك ، إن شاء قرّبك وإن شاء أبعدك ، إن شاء رحمك وإن شاء خذلك ، وإن أحداً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ، وأن الأمر كله بيد الله . واستحضار دعاء الأنبياء من فقه القرآن لأن الله قال في كتابه العظيم : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) فينظر الإنسان إلى هدي أنبياء الله كيف كانوا يدعون ربهم فيتوخى طريقهم ، وينظر إلى صنيعهم ويسير على هديهم لعل الله -جل وعلا- أن يرحمه . والحديث في هذا يطول ونحن نتكلم عن أسباب التوفيق .
وإذا عدنا إلى أسباب دخول الجنة : الإكثار من العمل الصالح من ذكر الله ، والصيام وقراءة القرآن ، وبر الوالدين وغير ذلك مما لا يجهله أحد ، لكن يحاول الإنسان أن يأتي عبادة ،عبادة ، وقربة ،قربة قدر الإمكان، فلا يدري أيها أقرب إلى ربه رضاً ، ويتوخى أن يأتي أعراض المسلمين أو أموالهم أو دمائهم ، وأحياناً يستزلنا الشيطان في لقاءاتنا الخاصة أو العامة أو في مجالسنا من حيث لا نشعر فيأتي عذب الحديث ومسامرة الأصحاب ، فربما قال المؤمن كلمة في أخيه المؤمن وهو يعلم أن أخاه بريء منها فإن كان منك ذلك فلا أقل من أن تستغفر ربك وتؤوب إليه وتسأل ربك وتعزم على أن لا تعود للأمر مرة أخرى .
 اللهم إنا نسألك بأحب أسمائك إليك وأقربها زلفى لديك وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الملك الصمد الذي لم يلد ولم يولد تصلي على محمد وآله وأن تدخلنا برحمتك الجنة ، اللهم أدخلنا برحمتك الجنة ، اللهم أدخلنا برحمتك الجنة ،اللهم أدخلنا الجنة بلا حساب ولا سابقة عذاب ، اللهم أدخلنا الجنة بلا حساب ولا سابقة عذاب ، اللهم أدخلنا الجنة بلا حساب ولا سابقة عذاب .. -آمين اللهم آمين-. وصلِ اللهم على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق