د. محمد بن عبد العزيز الخضيري
تتبين أهمية علم مقاصد السور من أمور :
- الأول : أن علم مقاصد السور راجع إلى تحقيق المقصد من إنزال القرآن ، فهذا القرآن أُنزل لهداية الناس ، وهداية الناس لا تتحقق على وجه الكمال إلا بالتأمل الدقيق في القرآن الكريم ومعرفة ما أُنزل القرآن من أجله ، وما أُنزل القرآن من أجله لا يتبيّن إلا بالنظر إلى مقصود سور القرآن سورة سورة فأنت تنظر إلى تفاصيل ما في هذه السور ثم تهتدي إلى المقصود من هذه السورة وإذا اهتديت إلى ذلك كانت هذه هداية عامة ، وهذه الهداية العامة هي التي أُنزل القرآن من أجلها (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) فأنت حين تنظر إلى سورة النساء ، سورة ذُكر فيها تعدد الزوجات وعدم إعطاء السفهاء الأموال وذُكر فيها كيفية تسليم الأموال للأيتام ، وذُكر فيها تحريم أموال الأيتام ، وذُكر فيها المواريث والانتصار لحق الضعفاء في المواريث وأن للنساء حقا في المال كما أن للرجال حقا فيه ، وذُكر فيها المحرمات من النساء، وذُكر فيها حقوق ذوي الحقوق العشرة (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) ، وذُكر فيها حُكم المرأة الناشز ، وذُكر فيها ... وذُكر فيها .... ، فهذه أحكام كثيرة عندما تنظر إلى كل واحد منها ستجد أنه يهدي إلى شيء مفصّل لكن ما هو الشيء العام الذي يجمع هذه المفصلات وهذه الأحكام والجزئيات ؟ لابد أن نهتدي إليه وأن نعرفه وأن نتبيّنه . انظروا مثلا عندما تجد أن الشريعة بُنيت على دفع الضرر عن العباد من أين تأتي بهذا ؟ تأتي به من جملة التفاصيل المذكورة والأحكام المعروفة في الشريعة ، فالشرع يُحرم عليك أن تصوم وأنت مريض ، ويُسقط عنك الحجّ إذا لم تكن تستطيع ركوب الراحلة ، ويأمرك بالتداوي ، وينهاك عن أن تأكل أو تشرب شيئا يُضر ببدنك ، هذه التفاصيل تدلك على مقصود عظيم وهو : أنه لا ضرر ولا ضِرار في الشريعة ، وأن الشريعة لا يمكن أن تكون تقصد إلى إيصال ضرر بالعباد في أنفسهم أو أموالهم أو أعرضهم أو عقولهم أو دمائهم أو أديانهم ، أبدا لا يمكن أن يكون منها ذلك الشيء ، فإذا فهمت هذا الأمر فهمت أمرا عظيما ورتبت عليه أن تقيس عليه ما لم يُنصّ عليه في الشريعة فتعرف أنه عندما حرم الله الخمر إذا المخدرات محرمة لأن حال المخدرات كحال الخمر في إذهاب العقول وفي ضرر الأبان ، وعندما يأتي إنسان يتحذلق ويقول من أين لكم أن الدخان محرم ؟ أنا قرأت الكتاب والسنة فما وجدت آية حرمت الدخان ، نقول نعم لأنك تريد حروف معينة تقول فيها إن الدخان مُحرم لكن ننظر إلى مقاصد عظيمة جاءت الشريعة لتحقيقها وتقريرها وبيانها ويجب علينا مراعاة هذه المقاصد . كذلك - أحبائي - في سور القرآن عندما ننظر إلى السورة نجد أنها سعت إلى تقرير مقصود عظيم هو هداية في تلك السورة .
إذا فالبحث عن مقاصد السور يُعين على فهم هدايات القرآن ويجعلنا نُلخص تلك الهدايات في قضايا كلية وإجمالية ، انظروا وستلاحظون ذلك جيدا إلى سور القرآن في كون كثير منها تحدث عن التوحيد لماذا ؟ لماذا لا يُفهم التوحيد بسورة ؟ ويكون التوحيد مُجملا في تلك السورة أو مركزا عليه في تلك السورة ويُبث هذا البث العظيم في سور القرآن . الحديث عن الرسول ورسالته وصدقه في نبوته يأتي في أكثر من سورة لماذا ؟ لأن هذا من قضايا الدين العظمى ، وهكذا في سائر الأمور .
يقول الغزالي - رحمه الله - : "وسِر الكتاب حاصل في دعوة العباد إلى ربهم المعبود ولذلك انحصرت صوره في ستة أنواع " انظر كان العلماء يجتهدون في معرفة ما يرمي إليه هذا الكتاب وما يقصد إليه جُملة وهذا إنما أخذوه من الجزئيات ثم من الكليات الموجودة في سور القرآن قال "ولذلك انحصرت صوره في ستة أنواع ثلاثة مهمة تناولت معرفة الله ومعرفة الصراط والمآل ، وثلاثة مُتمة - تتميم للأولى لا يتم أمر الأولى إلا بها - تناولت أحوال الأولياء والأعداء وسبيل الطاعات" .
هذا اجتهاد من هذا الإمام في معرفة ما يدور عليه القرآن فهو يقول إن سور القرآن انحصرت في ستة أنواع ، ثلاثة مهمة معرفة الله ومعرفة الصراط والمعاد ، وثلاثة مُتمة وهي معرفة حال الأولياء والأعداء وسُبل الطاعة .
ويقول الشاطبي - رحمه الله - في كلمة جميلة له في (الموافقات) يقول:"فإن كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقّه في العبارة وإنما التفقّه في المُعبّر عنه والمراد به كما يُعلم من أن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات فلا محيف للمتفهم عن التعلق بأول الكلام وآخره ليحصل له المقصود فإن فرّق النظر لم يتوصل إلى المراد ". ولذلك نحن سنستنبط يا إخواني من خلال علم المقاصد أسرار عجيبة ورائعة ومهمة ويغفل عنها كثير من الناس ، عندما تنظر إلى السورة بجملتها ، إلى جملة هذه الموضوعات ماذا يربط بينها ؟ لماذا سيق هذا مع هذا مع هذا وافتُتحت السورة بكذا وخُتمت بكذا سيهديك هذا إلى معنى عظيم لم تنتبه له لو أنك نظرت إلى هذه الأشياء اليسيرة . لعلي أضرب بذلك مثالا : مثلا لو جاء إنسان وأدخلك هذا المسجد وأنت مغمى العينين فأراك هذا الجدار فقال لك : ماذا ترى ؟ تقول : أرى جدارا . ثم أراك حامل المصاحف فقال : ماذا ترى ؟ تقول : أرى دالوبا فيه مصاحف ، ثم أراك الباب وقال : ماذا ترى ؟ تقول أرى بابا ، ثم أراك تلك اللوحة ، ماذا ترى ؟ أرى لوحة ، ثم أقول لك ماذا رأيت ؟ تقول رأيت جدارا ودالوبا وبابا ولوحة ، هل هذا هو المقصود من هذا المكان الذي أنت فيه ؟ لكن انظر لو أنك قبل أن تدخل إلى المسجد رأيت المسجد ورأيت المحراب ورأيت المناره استطعت بعد ذلك أن تعرف لمَ وُضع كل شيء في مكانه ولماذا هذه الصفوف بهذه الطريقة ، ولماذا المحراب وُضع في هذا الجانب ولم يُوضع في ذاك الجانب ، ولماذا اللوحات وُضعت عند الباب ولم تُوضع في المحراب لأنك فهمت ما هو هذا المكان ، هذا ليس محلا تجاريا ، المحل التجاري أول ما تدخل تجد اللوحات الدعائية تضرب بصرك في كل مكان ، لكن في المسجد لا ، المسجد مكان وُضع للتعبد فاللوحات والإعلانات والبيانات والتعريفات تُوضع في الخلف حتى لا ينشغل المصلون بها ، وتعرف لم وضعت هذه القبة ، لماذا وضعت هذه المكيفات ، لماذا كانت الصفوف بهذا الاتجاه ، هذا كله تعرفه ويسهل عليك فهمه عندما تكون عرفت هذا المكان قبل أن تدخل فيه ، أليس كذلك ؟ أي نعم .
فنحن نريد أن نفهم حقائق هذه السور من خلال فهم الجزئيات ليتضح لنا بذلك معاني كثيرة بإذن الله - عز وجل - وأسرار مهمة في سور القرآن .
- الثاني مما يبين أهمية علم المقاصد : أن مقصد السورة هو أصل معانيها التي ترجع إليه ، فهو أصل في فهم معاني كلام الله ولهذا فإن معاني السورة لا تتحقق إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر واستخراج مقصدها فنحن لا نستطيع الوصول إلى كل المعاني التي في السورة إلا بعد أن ننظر في موضوعات هذه السورة ثم نفهم الرابط والمقصود الأعظم الذي يجمع هذه الموضوعات وترتبط وتلتئم به آيات هذه السورة عندها إذا أعدنا النظر في هذه السورة من أولها إلى آخرها فهمنا فهما آخر وعرفنا لماذا ذُكر هذا هنا ، ولماذا ذُكر هذا هنا ولماذا افتُتح بهذا واختتم بذاك ، فهذه المهمات عظيمة جدا تعيننا على فهم كلام الله وتُبيّن لنا مقاصد الآيات أو أسرار وضع الآيات في سورها .
يقول الشاطبي - رحمه الله - :"اعتبار جهة النظم في السورة لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميعها بالنظر فالاقتصار على بعضها غير مفيد للمقصود منها كما أن الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها " أي لو أنك نظرت إلى جزء من الآية لتستخلص حكما فإن ذلك لا يُفيدك حتى تنظر إلى كل الآية فكذلك السورة لن تستفيد منها حتى تنظر إليها كلها من أولها إلى آخرها . ودعونا ننظر إلى سورة البقرة عندما قال الله - عز وجل - (الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ألا ترون يا إخواني أن هذه قواعد كلية اُفتتحت بها السورة جعلها الله شرحا لقوله (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) من هم المتقون يا رب ؟ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) ثم مدحهم وزكّاهم وبيّن مآلهم وعاقبتهم فقال (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . دعونا ننتقل إلى آخر السورة حتى نُبين لكم بالفعل أننا أمام سورة مُحكمة ، وأن الآيات في هذه السورة لم تُوضع في مواقعها عبثا بل وُضعت لحكمة بالغة وأن ذلك يكوّن ويُؤلف هذه السورة تأليفا بديعا ، ماذا قال الله في آخر السورة ؟ قال (لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ) التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل الأوامر واجتناب النواهي ( هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ، (يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال هناك (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يتحدث عن واجبات ، عن أمور عظيمة لابد منها ، طيب اسمع هنا ماذا قال بعد أن ذكر التقوى قال (آمَنَ الرَّسُولُ) هناك (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ولم يتحدث عن الرسول ولا عن الصحابة ولم يذكر من قام بهذا الأمر على وجه الكمال والتمام بعدما ذكر أحكاما عظيمة ، شرائع كثيرة وتفاصيل وجزئيات في نهاية السورة يقول لك يا عبد الله إن هذا الذي أنزلته عليكم في سورة البقرة مع كثرته وعظمته وكثرت تفاصيله قد قام به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقام به ثلة من المؤمنين فلا تظن أن الأمر صعب المنال أو أنه من المحال بل هو في مقدور كل إنسان (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) وحين ذكر الله - عز وجل - هذا سيقول الإنسان ياربي من يستطيع أن يُقيم الصلاة ، ومن يستطيع أن يتقيك في كل حال ، ومن يستطيع أن يحجّ الحجّ الذي ترضاه ، ومن يستطيع أن يُجاهد الجهاد الذي طلبته من عبادك ، ومن يستطيع ... ومن يستطيع ....، هذا قد لا يكون مستطاعا لي في كل الأحوال وقد أقصر وقد أكون عاجزا أو محطئا في بعض الأحوال أفرأيت يا ربي إن أخطأت أو نسيت هل سأخرج من هذه الدائرة ؟ وهل سأكون ما تحققت بما أمرتني به ولا جئت بما طلبته مني ؟ فقال الله - عز وجل - لك اطمئن يا عبدي (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) قال الله قد فعلت كما هو في الحديث الوارد في مسلم ، (رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) يا عبادي إذا قمتم بما أمرتكم به واجتهدتم في ذلك فإني سأغفر لكم نسيانكم وخطأكم ، عليكم أن تدعوني وأن تستغفروني وأنا أعفو عن ذلك كله ، أرأيتم هذا الانتظام كيف أنه لما بدأنا نفكر ونقرأ السورة بهذه الطريقة عرفنا أن أول السورة مرتبط ارتباط كامل بآخرها (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) هنا (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) هناك (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) هنا(لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء) معقول بعد تسعة وأربعين صفحة يأتي الكلام ليُتم الكلام الأول في الخمس الآيات الأولى ؟ نعم ، (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) لا إله إلا الله ، هذا كلام الله وهذا نظمه وبيانه .
- الثالث مما يبين أهمية علم المقاصد : أنه يُعين على فهم كتاب الله فهما صحيحا ويُوصل إلى معرفة الحق في تفسير كلام الله فنحن عندما يختلف المفسرون أو تتعدد الأقوال نلجأ إلى معرفة مقصود السورة حتى نُرجح بين الأقوال ، وفي الوقت ذاته نعرف به الخطأ من التفسير ولذلك يقول البقاعي - رحمه الله - صاحب كتاب نظم الدرر، وصاحب كتاب مصاعد النظر في مقاصد السور في ثلاث مجلدات :"وغايته -أي معرفة المقصود- ، وغايته معرفة الحق من تفسير كل آية من تلك السور ومنفعته التبحّر في علم التفسير فإنه يُثمر التيسير والتسهيل فينشغل به قبل الشروع في التفسير فإنه كالمقدمة له من حيث إنه كالتعريف لأنه معرفة تفسير كل سورة إجمالا" .
- الرابع مما يبين أهمية هذا العلم : أن به نعرف الخطأ في التفسير وهو زيادة بيان للمسألة الثالثة أو للأمر الثالث . يقول عبد الحميد الفراهي " إن فهم القرآن محوّل إليه" يعني إلى المقصود ونظام السورة "والوجوه الكثيرة في التأويل وعد الاعتماد على تأويل صحيح إنما ينشأ عن عدم المعرفة بالنظام " يعني من عدم المعرفة بمقصود السورة فإنه هو المعتمد في صحيح التأويل ورفع شكوك الحيرة .
- الخامس مما يبين أهمية معرفة مقاصد السور : أن تفسير القرآن باعتبارمقاصد السور هو المنهج الأسلم الذي يجعل كلام الله مؤتلفا منتظما على نحو كمال نظمه ومعناه وتكون السورة معه كالبناء المرصوص والعِقد المتناسق قال البقاعي في بيان أثره في السورة: "تكون السورة كالشجرة النضيرة العالية والدوحة الأنيقة البهيجة الخالية المزينة بأنواع الزينة المنظومة بعد أنيق الورق بأفنان الدُّر وأفنانها منعطفة إلى تلك المقاطع كالدوائر ، وكل دائرة منها لها شعبة متصلة بما قبلها وشعبة ملتحمة بما بعدها وآخر السورة قد واصل أولها كما لاحم انتهاؤها ما بعدها وعانق ابتداؤها ما قبلها فصارت كل سورة دائرة كبرى مشتملة على دوائر الآيات الغُر البديعة النظم ، العجيبة الضم بلين تعاطف أفنانها وحُسن تواصل ثمارها وأغصانها" .
يقول إن السورة الواحدة مثل الشجرة الواحدة لها أصل تجتمع عليه ثم لها فروع وأفنان ، وهذه الأفنان وفي هذه الأفنان أوراق ومن وراء هذه الأوراق ثمار فأنت عندما تنظر إلى الثمرة تظن أنها ثمرة مستقلة لكنها في الحقيقة متصلة بأصل تلك الشجرة ، كيف اتصلت؟ لابد أن تعرف الطريق الذي اتصلت به إلى أصل الشجرة ولا يمكن أن تقول إن لون هذه الشجرة أصفر من خلال نظرك إلى الثمرة ، إذا نظرت هذه النظرة فإنك ستُخطئ في فهم حقيقة هذه الشجرة .
- السادس مما يبين أهمية علم المقاصد : مقصد السورة يُعين على تدبرها واستخراج دقائق معانيها ولهذا علم ابن عباس أن سورة النصر من مقاصدها إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بدنو أجله فهذا استنبطه ابن عباس من مقصود السورة ، عمر بن الخطاب كان يُقدم ابن عباس فيدخل مع أشياخ الصحابة فكانوا يقولون إن لنا أبناء مثل ابن عباس فلماذا لا يُدخل أبناءنا معه ، فأراد عمر أن يُبيّن لهم أن ابن عباس له مزية ليست لغيره من أبنائهم فلما اجتمعوا ذات يوم وابن عباس فيهم قال عمر : ما تقولون في قول الله تعالى (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) ؟ فقالوا : أُمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذا فتح الله عليه ودخل الناس في دين الله أفواجا أن يسبح بحمد ربه ويستغفره إنه كان توابا.وهذا الفهم الذي فهمه الصحابة فهم صحيح وهو ظاهر الآيات ولا إشكال فيه ولا غبار عليه ، ولكن عمر هل يمكن أن يسأل الناس عن معنى ظاهر بهذه الطريقة . فحين أقول لك ما معنى قول الله - عز وجل - (وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة) ؟ تقول أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة . أنا لا أقصد هذا لأن هذا واضح لي ولك ولكل من يقرأ كلام الله - عز وجل - وليس محلا للسؤال ، محل السؤال : ما هو مغزى السورة ؟ ما هو الذي ترمي إليه هذه السورة وتهدف إليه ؟ ما هي الرسالة المبطنة ، الخفية التي جاءت ضمن هذه السورة ؟ لا يصل إليها إلا الغواضون الذين يُحسنون الغوص في المعاني والدقائق . ثم قال : ما تقول فيها يا ابن عم رسول الله؟ فقال ابن عباس - المُلهم الذي استجاب الله فيه دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل) - قال :هذا أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أمير المؤمنين. قال : والله لا أعلم منها إلا ما علمت ، يعني لا أعلم منها إلا أنها تقصد إلى إيصال هذه الرسالة لرسول الله ، تأملوا - يا إخواني - لماذا يقال لرسول الله إذا جاء نصر الله ودخل الناس في دين الله فسبح بحمد الله واستغفره ؟ لأنك يا محمد قد أديت ما عليك وانتهت المهمة التي وُكلت إليك فاستعد للقاء ربك واستغفر ربك وسبح بحمده . هذا هو المقصود . فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي) وهويستقبل بذلك أجله ويستقبل لقاء الله - سبحانه وتعالى- . لما أنزل الله في يوم عرفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) أكثر الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - فرحوا ، ابتسموا وتهللت وجوههم بشرا لأن الله قد أكمل الدين وأتمّ النعمة ومن بينهم أبو بكر فبدأ بالبكاء ، لِمَ تبكي يا أبا بكر ؟ ألا تفرح بهذه البشارة الربانية للإنسانية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) ألا تفرح بما رضيه الله لنا؟ فقال : قد نعى الله لنا رسوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا تمّ شيء بدا نقصه ** ترقب زوالا إذا قيل تمّ
رأيتم كيف أن أن أبا بكر نظر لشيء آخر من وراء ظاهر الألفاظ والعبارات وهو المقصود .
- السابع مما يبين أهمية المقصود : بمعرفة مقصد السورة تنتظم آيات السورة وتظهر المناسبات بين آياتها فتكون لُحمة واحدة يجمعها معنى واحد ، إذا عرفت المقصود عرفت لماذا ذكر الله هذا ولماذا ذكر هذا ونذكر مثالا لذلك سورة النور :
/ سورة النور مقصودها العناية بالعفة وسدّ سُبل الفساد الأخلاقي هذا هو مقصودها (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أول شيء ما هو ؟ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) بعدها (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء) في نفس الموضوع وهو قذف الناس بالزنا والحديث بالعبارات التي تشوش على الناس أخلاقهم وتتهم البرءاء من غير بيّنة والتشديد في أمر عفة اللسان ، ثم يأتي من بعدها (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ) في ذات الموضوع ، الزوج يرمي امرأته والعادة أن الزوج لا يمكن أن يرمي امرأته إلا وقد رأى شيئا فجعل الله - عز وجل - له مخرجا باللعان ، ثم (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ) وحادثة الإفك كما تعلمون مدارها على اتهام أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بما كانت بريئة منه وهو اتهامها بالزنا ، ثم يُبين ماهي الآداب التي يجب على المسلمين أن يسلكوها عندما يسمعوا مثل هذه التهمة لأي بريء ، ثم تُختم قصة عائشة بقول الله - عز وجل - (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ) أي عائشة وصفوان وأبوبكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) انتهت القصة . يأتي بعدها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) لماذا شرع الله الاستئذان ؟ من أجل ألاّ تقع الأعين على شيء لا يحلّ لها من عورات المسلمين فوقوعها على عورات المسلمين سيوقعها في العورات وسيجعل الناس يعبثون بأعراض إخوانهم ، فأنت لو أنه يحق لك أن تفتح اي باب أمامك وتدخل اليس في هذا انتهاكا لحرمات الناس ؟ فقد تجد امرأة على حالة لا يسرّ أهلها أن تروها على تلك الحال وقد يكون سببا في وقوع جريمة ولذلك بعدما ذكر آيات الاستئذان قال (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) فبدأ بغض البصر لأن الاستئذان جًعل من أجل البصر ، ثم انتقل بعد غض البصر إلى حفظ الفرج لأن غض البصر سبيل لحفظ الفرج ، ولما ذكر هذا في حق المؤمنين ذكره في حق المؤمنات فقال (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) بعد أن ذكر غض البصر ذكر في الطرف الآخر من يحِل للمرأة أن تُبدي زينتها لهم فبيّن من هؤلاء إن كانوا أجانب وإن كانوا أقارب فقال (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وقال (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ) وحين انتهى من هذه الأحكام التي تعين على التعفف جاء إلى أهم أمر يُعين على تعفف الناس وهو الزواج ، الأمر به (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ثم قال بعدها (وَلْيَسْتَعْفِفِ) رأيتم أن هذه السورة سورة ماذا؟ العفة (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا) إذا كنت لا تجد نكاحا ولا تستطيعه أو لا تقدر عليه لعدم وجود الزوجة أو لعدم وجود المهر أو لعدم توفر الأحوال فعليك بالاستعفاف ، أن تطلب العفة وتجتهد في طلبها وتبذل قصارى الأسباب في الوصول إليها (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِه) رأيتم كيف ، وفي آخر السورة يقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ) عورات ، يسميها عورات ( ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ) (وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء الَّلاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) رأيتم أن السورة في أولها وفي آخرها تريد تقرير هذا المبدأ وتُعين عليه ، الآن لما فهمنا أن السورة تتحدث عن العفة عرفنا أن هناك ارتباطا بين جزئياتها وأحكامها وأن هذه الأحكام لم تُذكر شتاتا وسُدا من غير أن يكون بينها رابط . يقول البقاعي: "ومن حقق المقصود من السورة عرف تناسب آيها وقصصها وجميع أجزائها" ويقول :"الأمر الكُلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، حتى تعرف مناسبات السورة اعرف الغرض الذي من أجله سيقت السورة وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات وتنظر عند إنجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له".
- الثامن مما يبين أهمية معرفة مقاصد السورة : أن هذا الاتجاه في التفسير هو لون من تفسير القرآن بالقرآن لأننا نجتهد في فهم القرآن بالنظر إلى آيات القرآن .
- التاسع هو : أن علم مقاصد القرآن يُبرز إعجاز القرآن وبلاغته وكماله ودقة نظامه فإن من إعجازه وبلاغته نظام السورة في وحدة بنائها وترابطها ولذلك تحدى العرب بسوره ، وهذا يُوضح لنا كيف أن القرآن تحدى بسورة ولم يتحدى بآية لأن السورة هي التي يظهر بها الإعجاز في أولها وفي آخرها وفي موضوعاتها ومقاصدها ، أما الآية فإنه قد لا ينتظم بها إعجاز تام إنما ينتظم الإعجاز بالسورة (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ)(فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) (فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) .
- آخر هذه الأسباب أو الأمور التي تبين لنا أهمية علم المقاصد هو : أن هذا العلم يبعث على رسوخ الإيمان فإذا عرف الإنسان أن القرآن مُحكم وأنه منظوم نظما عظيما فإنه لاشك سيكون في نفسه من قوة الإيمان ومن العناية بالقرآن والإقبال عليه والتحاكم إليه ما لا يكون لو لم يعرف هذه المقاصد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق