الخميس، 14 نوفمبر 2013

الأيام والليالي في كلام رب العالمين -1-


 الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، والصلاة والسلام على العبد المُجتبى والحبيب المُصطفى والرسول المُرتضى وعلى آله وأصحابه ومن على هديهم اقتفى وبعد ..
 نستأنف في هذا اللقاء المبارك كلامنا حول تفسير كلام رب العالمين -جل جلاله- وإن شاء الله تعالى في حلقتين متتاليتين ولقاءين متواليين نتحدث عن الأيام والليالي في كلام الله . ونبدأ بالتفصيل قال ربنا -كتأصيل علمي- :(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) فالسنة اثنا عشر شهراً والشهر يكون ثلاثين ويكون تسعاً وعشرين يوماً ، ثم تكون الأيام فعلى هذا يعلم كل أحد أن هناك أيام وهناك ليالي وهناك شهور وهناك سنون ، والسنون هي أطولهن .وقد ورد عن العرب أن رجلاً منهم أراد أن يسافر سفرآ بعيداً فقال لزوجته : عدّي السنين لرحلتي وتصبري ** وذري الشهور فإنهن قصار
 فقالت له :
 ارحم صبابتنا إليك وشوقنا ** واذكر بناتك إنهن صغار
 فنزل عن دابته وأعرض عن سفره ، وما استُجلبت قلوب الآباء بأعظم من أنين البنات قالت : اذكر صبابتنا إليك وشوقنا وارحم بناتك إنهن صغار .
 أما القرآن فالأمر فيه كالتالي : ذُكر في القرآن السنون والأعوام لكن غالب الاستعمال القرآني أن السنين تُذكر فيما يكون مصاحباً بجدب أو بلاء ، والأعوام تُذكر في حالة خلو العام من الجدب والبلاء، دلّ على هذا القرآن من طرائق ، لكنني أُقيد قلت : غالب القرآن. من الأدلة: الله -جل وعلا- قال : (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ) ولم يقل بالأعوام .
وقال الصّديق يوسف لما عبّر الرؤيا قال : (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ*ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ) لما ذكر الخير قال : (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) . ما الذي جعلنا نقول أن السنين غالباً لأن الله لما ذكر حياة الكليم موسى في أرض مدين عبّر عنها بالسنين وهي لم يكن فيها محلٌ وجهد وبلاء ، ربما يُفهم معنوياً قال الله -جل وعلا- : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) .
وقال الله -جل وعلا- عن نبيه نوح -عليه السلام- قال : (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا) فالخمسون عام لم يكن بينهم كان بين المؤمنين فعبّرالله بالأعوام لأنها كانت خيراً ل لنوح ، طبعاً هي لم تكن خمسون عاماً فقط  كانت أكثر لكنها كانت مُستنثناه من الألف، أما الباقي فقد كان يعاني فيه -عليه السلام- ما يعاني من قومه فجاء القرآن يقول عنها أنها سنون .
 الآن تقول الشيخ مرة يقول سنون ومرة يقول سنين ، هذا يُسمى عند النحويين مُلحق بجمع المذكر السالم ، فإذا صغته حال الرفع تقول سنون ، وإذا صغته حال النصب أو الجر تقول سنين ، حتى لا يُفهم أن هناك اختلاف في المعنى، لا يوجد اختلاف إنما يُسمى هذا استعمال نحوي ، هذا ليس اختلاف ..هذه واحدة.
 جاء في القرآن الأيام والليالي ، وظاهر القرآن أن الليالي للعبادات ، والأيام للمعاشات ، لكن كذلك نقول في الغالب ، أو التاريخ يكون في الليالي للعبادات (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) فهي مواقيت يُعرف بها دخول رمضان وخروجه، ودخول شهر ذي الحجة ، وغير ذلك يُعرف بالأهلة لأن العبرة متعلقة بالليل ، والإسلام يقوم على السنة القمرية -أي شرائعه -، أما الأيام ما يُعرف عند الناس اليوم بالبروج الشمسية هذا للمعاش، لكن قد يأتي في القرآن اليوم للعبادات كما سيأتي إن شاء الله تعالى .. هذا الأصل الثاني .
 الأصل الثالث : جعل الله الليالي والأيام مطايا ، مطايا لأي شيء ؟ جعلها مطايا للعمل الصالح . الآن نذكر بعض ما ورد في القرآن نسبته إلى اليوم أو نسبته إلى الشهر أونسبته إلى العام ، فنبدأ بالأقل بالأيام :
 قال الله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) فيوم الجمعة يوم معروف، أضلّ الله -جلا وعلا- عنه أهل الكتابين قبلنا ثم رزقنا إياه وهو يوم من أشرف أيامنا ، والعبادة فيه ظاهرة ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- صلى أول جمعة -على المشهور- يوم أن نزل المدينة بعد أن نزل في بني عمرو بن عوف ثم في بني سالم بن عوف. والجمعة عبادة عظيمة تقوم مقام صلاة الظهر إلا أنها تختلف عنها يُجهر فيها في الصلاة . تأخذ قاعدة : كل صلاة ينادى لها ويُجمع ، فهذه يُجهر بها ، إن صُليت نهاراً أو صُليت ليلاً ، في الكسوف مثلاً كسوف الشمس يقع نهاراً ولأنه يُنادى لها ويُجمع يُجهر بالقراءة ، والجمعة آكد من الظهر -قطعاً- فيُجمع لها بصورة أوكد فيُجهر فيها بالقراءة والمقصود يوم الجمعة. طبعاً نحن لا نتكلم في قضايا فقهية نتوسع فالقضية قضية تفسير ونتكلم أن يوم الجمعة أضافه الله -جل وعلا- اليوم إلى الجمعة هذا يوم ذُكر في القرآن .
 كما ذُكر يوم الجمعة وهو عبادة تُذكر أيام متعلقة بوقائع ، والعرب في سنن كلامها أنها تجعل الوقائع مرتبطة بالأيام قال الله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) يوم حنين معناه يوم موقعة حُنين ، وحُنين: اسم رجل كان يسكن تلك المنطقة ، والوادي الذي وقعت فيه المعركة اسمه وادي أوطاس، وهذا الوادي الآن من جاء منكم مكة تعرفون منطقة الشرائع حُنين عند الشرائع على بعد خمسة عشر كيلو تقريباً بعد حدود الحرم المنصوبة، كانت هناك أرض المعركة وكانت مع هوازن ،  قال الله ممتناً على أهل الإيمان : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) لأن العرب في كلامها تنسب المعركة إلى اليوم ، يعني يعبرون عن الوقائع باليوم فجاء القرآن بلغتهم ، وفي هذا اليوم كانت هوازن قائم عليها رجل يقال له مالك بن عوف  كان سيداً، وقالوا أنه شهدها رجل يقال له دُريد بن الصُّمة ، ودريد شهد حنيناً وهو في المائة والعشرين لكنه ما أحب أن يتخلف عن قومه وهو صاحب البيت الشهير:
 وما أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت وإن ترشد غزية أرشدُ.
فلما وصل وكان كفيفاً ومعه ناس يقودونه حتى أوصلوه إلى ساحة المعركة -ولا يتصور الإنسان رجل في المائة والعشرين جاء يحارب- فقال : في أي واد نحن ؟ قالوا : في أوطاس قال : نعم مجال الخيل هو لا حُزن ضَرِس ولاسهل دهِس ،هو يعرف المنطقة جيداً ، ثم سمع صوت الشاة صوت البعير صوت الصغير قال : ماهذا ؟ قالوا : هذا مالك -أي سيد هوازن- أتى بالنساء والأطفال والولدان والشاء والبعير ، قال : ادعوا لي مالكاً ، فدعوه ، لما دعوه قال : ما هذا الذي أسمع؟ قال : إنني أحببت أن يكون وراء كل فارس أهله وماله ونِعَمه حتى لا يفِر ويدفعونه للقتال ، فقال له دُريد : راعي ضأن والله -يعني لستَ رجل حرب- راعي ضأن والله يعني أنت شجاع لكنك لا تفقه في الحرب ، ثم قال له: يا مالك إن هذا اليوم إن كان لك فلن ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كان عليك فقد فُضحت في أهلك وعشيرتك ومالك . والحسد بين الأقران قلما أن يخلو منه أحد ، فما أراد مالك -وهو على قناعة بقول دريد- أن يكون لدريد رأي ، لأنه لو أخذ برأيه لقال الناس أخذ برأي دُريد فما أحب أن يشاركه دُريد في شيء من أرض المعركة فعمَد إلى سيفه ونصب قبضته إلى الأرض فأصبح السيف مُسلطا إلى ماذا ؟ إلى أعلى ، ووضع بطنه قال : إن لم تطعني هوازن قتلت نفسي ، وهوازن لا تُفرط بسيدها لأجل رجل في المائة والعشرين فقبِلت هوازن رأيه وأعرضت عن رأي دُريد ، فقال دريد قولته الشهيرة:
 ياليتني فيها جذع أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمَع كأنها شاة صَدَع
هذا يوم لم أشهده ولم يفتني
يعني وجودي كعدمي لأن الناس لم تأخذ رأيي ، وقُتل فيها كافرا -عياذاً بالله- وكانت العرب تضرب المثل بشجاعته وبسيفه وجبروته ، المراد هذا استطراد تاريخي عن يوم حنين الذي ذكره الله -جل وعلا- في القرآن . في هذا اليوم ، قال عليه -الصلاة والسلام- : (اليوم حمي الوطيس) وهي كلمة ما قالها أحد من العرب قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد حُفظَ عنه -عليه الصلاة والسلام- كلمات جرت مجرى المثل لم تقلها العرب قبله ، ومنها قوله عليه السلام يوم حنين : (اليوم حَمِيَ الوطيس) ما الوطيس؟ الوطيس التنّور الذي يُخبز فيه ، فلأن الوادي اسمه أوطاس قال : اليوم حِمِيَ الوطيس أي غلي التنّور يعني اشتدت المعركة ، اليوم حمي الوطيس ، الوطيس ماهو؟ التنّور، من أول من قالها ؟ الرسول -صلى الله عليه وسلم- . وقال -عليه الصلاة والسلام- عن أحد الناس : (مات حتف أنفه) . وهذه اللفظة لم تكن العرب تقولها ، قال : مات حتف أنفه ، كم هذه ؟ اثنتان . الثالثة : قال -عليه الصلاة والسلام- لأبي عزة الجمحي : (لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين) . وهذه لم تعرفها العرب قبله. والثلاث شاعت مجرى المثل ، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- عن نفسه : (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش) . وقال شوقي : يا أفصح الناطقين الضاد قاطبةً ** حديثك الشهد عند الذائق الفَهمِ
إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم ** فخيرة الله في لا منك أو نعم
الله قسم بين الخلق رزقهم ** وأنت خُيّرت في الأرزاق والقسَمِ
 وقال في البائية -نتكلم فقط عن البلاغة- قال :
 أبا الزهراء قد جاوزتُ قدري ** بمدحك بيد أني ليَ انتساباً
فما عرف البلاغة ذو بيان ** إذا لم يتخذك له كتاباً
مدحتُ المالكين فزدتُ قدراً ** فلما مدحتك اقتدتُ السحابَ 
صلوات الله وسلامه عليه ، هذا يوم ماذا ؟ يوم حنين .
 نأتي لليالي: قال الله -جل وعلا- : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وهي ليلة جمهور أهل العلم على أنها في العشر الأواخر من رمضان ، ومر معنا كثير.
 المتلقي هو الذي يجعلك كيف تجيب ، وأنا قلت في اللقاء الماضي أن الفطن يعرف من السائل ، فلو جاءك رجل لا يُعرف عنه قيام الليل قال : متى ليلة القدر ؟ ماذا تقول ؟ تقول من قام السنة كلها أصاب ليلة القدر ، حتى يتعود يقوم طول الليالي ، لا تقل له في رمضان . رجل سأل ابن مسعود متى ليلة القدر؟ قال : من قام السنة كلها أصاب ليلة القدر . والجواب صحيح من قام العام كله قطعاً أصاب ليلة القدر لن تخرج عن العام .هذا واحد .
قال عكرمة، من عكرمة ؟ عكرمة تلميذ ابن عباس ، قال -رحمه الله- : ليلة القدر ليلة النصف من شعبان (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) ذهب عكرمة إلى أنها ليلة النصف من شعبان لكن لم يوافقه أحد ، فيُحفظ مكانته وعلمه على الرأس والعين و يُرَدّ عليه قوله لأن قوله معارض للقرآن . الآن ما وصلنا إلى رمضان ، قال بعض الصحابهة إنها ليلة السابع عشر من رمضان ، دخلنا في رمضان بس مو في العشر الأواخر ، ليلة السابع عشر من رمضان لأن الله قال : (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) ومعركة بدر كانت ليلة السابع عشر من رمضان بالاتفاق ، هذه كم قول ؟ ثلاثة ، وجمهور أهل العلم وعليه الفتوى من السلف والخلف على أنها أين ؟ في العشر الأواخر وتدل عليه الأحاديث الصحيحة ، وعلى أنه في ليالي الوتر أرجى منها في ليالي الشفع ، وأنها -عند بعضهم- في ليلة سبعة وعشرين أرجى من غيرها من الليالي ، وهؤلاء الذين قالوا أنها في العشر انقسموا إلى كم فريق ؟ إلى قسمين :
- فريق يقول أنها ليلة معينة وهؤلاء اختلفوا في تحديدها
- وآخرون قالوا أنها تتنقل تكون كل عام في ليلة والعلم عند الله.
 لكن نعود إلى فتوى ابن مسعود -رضي الله عنه- "من قام السنة كلها أصاب ليلة القدر" فليلة القدر قال الله فيها : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ*سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) . قبل أن ينتهي الوقت خذ ثلاث وصايا في ليلة القدر:
الأول : منذ أن يدخل الشهر وأنت تسأل ربك أن يوفقك لقيام ليلة القدر .
الأمر الثاني : لا تفوتك صلاة العشاء والفجر جماعة في ليالي رمضان كلها وفي العشر الأواخر أولى ، صلاة العشاء والفجر لأن من ضيع الأصل لن ينتفع بشيء ، العشاء والفجر . ثم قُم ولو يسيراً من الليل في الشهر كله وفي العشر الأواخر أكثر وقل ..
 يعني قلنا استعد من بعد صلاة العصر أحدِث في نفسك رغبة أنك تنتظر رحمة الله بك أن يوفقك لقيام ليلة القدر ، كن حالك كحال من يطرق باباً يرجو أن يُفتح ، قالت أم المؤمنين يا رسول الله : أعلمت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها ؟ قال : (قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) . أرجو الله أن يوفقنا وإياكم لقيام ليلة القدر وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .
-------------------------------------------------
الشكر موصول لمن قامت بالتفريغ جعله في موازين حسناتها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق