الثلاثاء، 1 أكتوبر 2013

مقصد سورة الفاتحة


د.محمد بن عبد العزيز الخضيري



إنَّ الحَمْدَ لله نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ له، ومن يضلِل فلا هادِيَ له، وأشهَدُ أن لا إله إلاّ الله وحدَهُ لا شريكَ له وأشهَدُ أنَّ محمَّداً عبْدُهُ وَرَسولُه صلّى الله عليه وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً. أمّا بعد:
فهذا هو المجلس الرّابع من دروسِ مقاصدِ السُّوَر، وقد تقدَّمَ في المجالِسِ الثّلاثة الماضية: أن تحدَّثْنا عن مقدِّمات مهمّة حولَ علمِ مقاصِد السُّور . واليوم نشرَعُ في بيانِ مقصودِ السّورةِ الأولى ونكتفي بذلك -إن شاء الله- لأنّ هذه السّورة تستحقُّ منّا أن نتحدَّثَ عنها في درسٍ كامل.
 السّورةُ الأولى هي: سورةُ الفاتحة، وهي أعظَمُ سُوَرِ القرآن؛ بنصِّ الحديث الثّابِتِ عن النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم. · وهذه السّورة تُسمّى:
( سورة الفاتحة ).
وتسمّى: ( سورة الصّلاة ) لقولِ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّمَ في الحديثِ الّذي يَرْويهِ عن ربِّه: " قَسَمْتُ الصّلاةَ بيني وبينَ عَبْدي نِصْفَيْن وَلِعَبْدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: حَمِدَني عبدي. وإذا قال: الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ قال الله: أثْنى عليَّ عبدي. وإذا قال: مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: مجَّدَني عبدي. وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال الله: هذه بيني وبين عبدي وَلِعَبْدي ما سأل. وإذا قال: اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ قال الله: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل. " 
 وتسمّى هذه السّورة: (سورة الشّفاء)
 وتسمّى: (الرُّقية).
 وتسمّى: ( أمَّ القرآن ) لقول النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: ((لا صلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ القرآن))، وفي رواية: (( كُلُّ صلاةٍ لا يُقْرَأُ فيها بِأُمِّ القرآن فهي خِداج)) يعني ناقصة· وتسمّى أيْضاً: ( أمُّ الكتاب ) ولها أسماء عندَ العلماء كثيرة، ونحن اليوم بصَدَدِ معرِفةِ مقصود هذه السّورة، على أيِّ شيْءٍ تدور هذه السّورة.
 والمقصود – كما بيَّنّا – يُستخرَج من عددٍ من الأشياء، فمِّمّا يُستَخْرَجُ منه مقصودُ السّورة: ( اسم السّورة )، وممّا يُستَخْرَجُ منه مقصودُ السّورة: ( موضوعات السّورة وقضاياها الّتي تتحدّثُ عنها )، وممّا يُستخرَجُ منه مقصودُ السّورة: ( فضْل السّورة ) ما ورد في فضلِ هذه السّورة من آياتٍ وأحاديث.
ودعونا الآن نحاول استخراج واستنباط مقصود هذه السّورة من عددٍ من هذه الأشياء: فأوَّل ما نبدأ به، هو: موضوعات هذه السّورة:
هذه السّورة مَن يتأمّلها يجد أنّها قد شمِلَت الدّينَ كُلَّه فلم تدَعْ منه شيْءً من أوَّلِها إلى آخِرِها، شمِلَت الدينَ كُلَّه مِن أوَّلِه إلى آخِرِه، شَمِلَت الدّين في عقائدِه، وَشَمِلَت الدّين في عباداته، وَشَمِلَت الدّين في معاملاتِه، وشَمِلَت الدّين في منهجِ تلقّيه والعملِ به، وشمِلَت الدّين في طريقَتِهِ وما يوصِلُ إليه، وشَمِلَت الدُّنيا والآخرة، فهي بذلك قد جمعت كلَّ الدّين؛ اعتقاداً وعملاً.
 ودَعونا نتأمَّل ذلك آيةً آية: فافتُتِحَت هذه السّورة بقولِ اللهِ – عزّ وجلّ -: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذه إذا قالَها العبد قال الله: " حَمِدَني عَبْدي " ففيها إثباتُ اسم الله، وبه افتُتِحَت هذه السّورة. يعني: افتُتِحَت أسماءُ اللهِ في القرآن بهذا الاسم الكريم الّذي هو أعظَمُ أسماءِ الله، وهو أعْرَفُ المعارف، وهو الاسم الّذي يُوصَفُ ببقيّةِ أسماءِ الله ولا يصِفُ هو شيْءً من أسماءِ الله، فتقول: الله: الرّحمن، الرّحيم. ولا تقول: الرّحمن، الله. ولذلك ورد في سورةِ الحشر: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
 لاحظ: أنّ كلّ ما أراد أن يصف الرّبّ –سبحانه وتعالى– يُقَدِّم بهذا العَلَم، بهذا اللّفظ، بهذا الاسم الجليل الكامل: اسم (الله)، واسم (الله) هو: أجمع أسماء الله للمعاني؛ لأنّه يتضمّن جميع صفات الجمال والجلال والكمال والعزّ والكبرياء، وجميع ما يستحقُّهُ الله من أسماء هو داخِلٌ ضمن هذا الاسم؛ ولذلك افتتح اللهُ به، فكلّ ما يأتي من الأسماء في هذه السّورة لله، وعددُها خمسة، هو في ضمنِ هذا الاسم: (الْحَمْدُ للّهِ) هذا واحد، و(رَبِّ) هذا اثنين، و(الرَّحْمـنِ) ثلاثة، و(الرَّحِيمِ) أربعة، و(مَـالِكِ) خمسة، هذه خمسةُ أسماء لله –عزّ وجلّ– جاءت كأنّها وصفٌ لهذا الاسم العظيم وهو: (الله) .
 و(الله) أصله الإله، قال العلماء: الإله فِعال بمعنى مفعول؛ مثل فِراش بمعنى مفروش، وغِراس بمعنى مغروس". فالمقصود: أنّ معنى إله مألوه، أي: تألهُهُ القلوب، وتخضَعُ له ذُلاًّ وحُبّاً وتعظيماً. فالإله هو الّذي تألهه القلوب، وتميلُ إليه، وتقصِدُ له، وتذِلُّ بين يديه، وتُحِبُّه، وتُعَظِّمه؛ لِما له من الأسماء الحُسْنى والصّفات العُلا .
 هذا هو الله، فهذا الاسم يجمع جميع أسماء الله؛ لأنّ القلوب لا تأله، ولا تتألّه إلاّ لِمَن كان رحيماً، رحمن، مالِكاً، خالِقاً، عليماً، قديراً، سميعاً، بصيراً، قدّوساً ... إلخ ما هنالك من الأسماء الحسنى، فهذا الاسم هو أجلُّ أسماءِ الله، وكأنّنا بهذا الاسم نُثبِت توحيد الأُلوهيّة لله –عزّ وجلّ-. يعني: الحمدُ للهِ الّذي يُؤلَه، ويُعْبَد، ويستحِقُّ العبادةُ دونَ أحَدٍ سِواه، فكلّ مَنِ ادُّعِيَت له العبادة دونَ الله فهو لا يستحقها، وهو ليس أهلاً لها، و لا يمكن أن يستحقّ العبادة إلاّ الله الّذي له الحمد كلّه، ولهُ المُلْك كلُّه، وهو ربُّ كلِّ شيْء، ولهُ يخضَعُ كُلُّ شيْء، هذا إثبات للتوحيد ونوعٍ عظيم من أنواع التّوحيد وهو توحيد الألوهية.
ثمّ قال: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) كأنَّهُ تعليل لقوله: (الْحَمْدُ للّهِ) وكأنّهُ قيل: لِمَ كان الحمْدُ لله؟ قيل: لأنّهُ ربُّ العالمين، والرّبّ – كما يقولُ العلماء -: "هو السّيِّد المالك المتصَرِّف الّذي جمع هذه الأشياء الثلاثة يُقال له ربّ  فاللهُ ربُّ العالمين . والْعَالَمِينَ أو "العالَمون" كلّ مَن سِوى الله فهم عالم فَاللهُ رَبُّ كُلِّ شَيْء، الملائكة، والإنس، والجنّ، والسّماوات، والأرَضين، والبحار، والجبال، والأنهار، والأفلاك، والمجرّات، والجنّة، والنّار، ومن وراء ذلك، ومن دونَ ذلك وكلُّ شيْء اللهُ ربُّه ، ومالكه، والمتصرِّفُ فيه، واسم (الرّبّ) فيه إثبات الرّبوبيّة، وهي: أنّ الله –سبحانه وتعالى– بيده مُلْكُ كُلِّ شيْء، وبيده التّصرُّف في كلِّ شيْء، وهو المربّي لكلِّ شيْء، والّذي يُديرُ الأمور، ويتصرَّفُ فيها –سبحانه وتعالى– كما يشاء فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ .
وفي قوله: (الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) إثبات اسمين لله –عزّ وجلّ– يدلاّن على صفة، صفة الرّحمة، لكن أحدُهما أوْسَعُ من الآخر، فـ (الرّحمن) أوسع من (الرّحيم). والرّحمن يدلّ على الصّفة اتِّصاف الله –عزّ وجلّ– بصفة الرّحمة، وفُعلان، أو فَعلان؛ كما يقول العلماء: صيغة تدلُّ على الامتلاء؛ مثل ما يُقال: عطشان ، وجوْعان، وغضبان من امتلأ غضباً، أو جوعاً، أو عطشاً ... ونحو ذلك . فـ "الرّحمن": الّذي رحمته وَسِعَت كُلَّ شيْء، فهو رحمنُ الدُّنيا، ورحمنُ الآخرة الّذي يرحَمُ كُلَّ أحد مؤمناً كان أو كافِراً، بَرّاً كان أو فاجِراً، ورحمتُهُ شاملة واسعة تشملُ كلَّ شيء.
 أمّا "الرّحيم": فهي رحمةٌ خاصّة؛ ولذلك جاءت للدّلالة على أنَّ اللهَ يَرْحَمُ عِبادَه، وأنّها الرّحمةُ الخاصّة بالمؤمنين (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) [الأحزاب:43].
 واسم الرّحمن والرحيم يدُلاّن على: أسماء كثيرة جداً لله -عزّ وجلّ-، فهما عنوان لأسماء كثيرة من أسماء لله –عزّ وجلّ– لاحظوا كيف أنّ الله –سبحانه وتعالى– لمّا ذكر صفةَ الرَّحمةِ له جعلها عبر اسمين؛ للتأكيد على مضمون الرّحمة، وأنّ الله ما خلق الخلق إلاّ رحمة، ولا أرسل الرُّسُل إلاّ رحمة، ولا خلق الجنّة إلاّ رحمة، ولا خلق إبليس إلاّ رحمة، ولا خلق الدُّنيا إلاّ رحمة، ولا خلق السّماوات والأرَضين، ولا خلق آدم، ولا أيَّ شيْء في هذا الكوْن إلاّ رحمة ولحكمة -فاللهُ ذو الرّحمة الواسعة والحكمة الّتي شمِلَت كلَّ شيْء-كون هذا الاسم يأتي مُكَرَّراً بصيغتين يدلّ على قيمة الرّحمة في الدّين، وأنّها قيمة عظيمة جدّاً، قال العلماء: تكرَّرت الرّحمة في سورة الفاتحة أربع مرّات ، في قوله: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ) فذكر الرّحمن وذكر الرّحيم، وفي وقوله: (الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) . فأربع مرات تُتْلى في سورة الفاتحة الرّحمة !؛ للدّلالة على عِظَمِ هذه القيمة، وهذا الخُلُق الّذي ينبغي أن ينتبه له كلُّ أحد، ثمّ لمّا ذكر صفة الرّحمة ذكر ما يُقابِلُها فقال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فالمُلْك يَدُلّ على القهر، وعلى الجَبَروت، وعلى الكبرياء؛ ولذلك إذا قال العبد: (مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال الله: "مَجَّدَني عَبْدي" قال العلماء: إنّ التّمْجيد يكون بصفات الكبرياء والعظمة، والجبروت، والمَلَكوت، هذا معنى التّمجيد، ويُقال: مَجْدُ آلِ فلان يعني: فخرهم وعزُّهم الّذي حقَّقوا به السِّيادةَ على مَن سِواهم، فهو مصدر للعلوّ؛ ولذلك: الرّحمة تختلف عن المجد. في الرّحمة قال: "أثنى عليَّ عبدي" يعني: كرَّرَ المحامِدَ عليه مرَّةً بعدَ أُخْرى، فقال: (الْحَمْدُ للّهِ) وقال: (الرَّحْمـنِ) ، وقال: (الرَّحِيمِ) فالله –عزّ وجلّ– يقول: "أثنى عليَّ عبدي" أي: كرَّرَ المحامِدَ عليه مرَّةً بعد أُخرى، وإذا قال: (مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال الله: "مَجَّدَني عبدي" يعني: أنّه ذكرني بصفة العظمةِ والجبروت والملكوت والكبرياء. هذا هو الفرق بين: " أثنى عليَّ عبدي " و " مجَّدَني عبدي " .
نلاحظ في هذه الآيات – يا إخواني -: إثباتُ التّوحيد بأنواعِهِ الثّلاثة: توحيد الأُلوهيّة، وتوحيد الرُّبوبيّة، وتوحيد الأسماء والصّفات. وهذه هي الأنواع الثّلاثة الّتي يدور عليها التّوحيد مَن أثبتها فقد وحَّد الله -عزّ وجلّ-، ومَن أنكر شيْءً منها أو قصّر فيه فقد اختلّ توحيدُهُ، وهما يَعودان إلى قسمين: توحيد عملي، وتوحيد علمي معرفي .
 التّوحيد العملي في قوله: (الْحَمْدُ للّهِ)
والتوحيد المعرفي في قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). ونلاحظ أيْضاً: أنّ هذه الآيات أثبتت اليوم الآخر؛ في قولِهِ: (مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) . إذاً الجنة، والنّار، والموت، والقبر، والحساب، والجزاء، وتطاير الصُّحُف، والصِّراط، والسُّؤال، والبعث، وطول يوم النّشور، كُلُّ ذلك مُضَمّنٌ في قولِ الله -عزّ وجلّ -: (مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، ولكوْن الإيمان بيوم الدين قرين الإيمان بالله –عزّ وجلّ– في مواطن كثيرة جدّاً في كتابِ الله –عزّ وجلّ– جاء في هذه السّورة العظيمة سورة (الفاتحة)، والإيمان بيوم الدّين –كما ذكرنا– يتضمّن كلّ التّفاصيل الّتي تكونُ في ذلك اليوم العظيم ممّا ورد في الكتاب، أو ورد في السُّنّة النبويّة الصّحيحة.
ثمّ لمّا ذكر التّوحيد بأنواعه ذكر الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هذه فيها: إثبات الإيمان بالرُّسل، والإيمان بالكتب؛ لأنّه لا يمكن للإنسان أن يعبُدَ اللهَ –عزّ وجلّ– إلاّ عن طريق كتاب ورسول، ودلّت هذه الآية على الإيمان بالله، وعلى الإيمان بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم، والإيمان بالقرآن، كيف تعبد الله وليس عندك بيِّنة منه؟ البيِّنة ما هي؟ رسولٌ ورسالة. الرّسول هو: محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، والرّسالة هي: القرآن . وأيْضاً دلّت على: العبادات كُلِّها: الصّلاة عبادة، والزّكاة عبادة، والصَّوْم عبادة، والحجّ عبادة، وبِرِّ الوالِدَيْن عبادة، والزّواج عبادة، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عبادة، فهو كلُّه مُضَمَّن بقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).
وفي قوله: (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يتضمن كلّ ما هدانا الله –عزّ وجلّ– إليه ممّا يُنَظِّم حياتَنا وشؤونَنا وأمورَنا في الدُّنيا، وأيْضاً ما يُعينُنا على دينِنا، وما يُعينُنا على الوصول للآخرة، فما بقي في الدّين شيْء إلاّ وقد دخل في هذه الآية المكوَّنة من أربعة أحرف: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .
 وتأمَّلوا – يا إخواني – كيف أنّ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) دلّت أيضاً على التّوحيد، وكذلك (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهذا تأكيد للتوحيد بعد تأكيد؛ اهتماماً بأمر التوحيد على شاكلة ذكر التّوحيد في الشريعة كلّها، إذا ذُكِر يُؤتى به على وجه التأكيد. وانظر إلى المؤذّن يقول "الله أكبر" هذا توحيد، ويقول: "أشهَدُ أن لا إله إلاّ الله" هذا توحيد، ثمّ يقول: "حيَّ على الصّلاة ، حيَّ على الفلاح" ، ثم يقول: "الله أكبر" يعود إلى التّوحيد، ثمّ يُؤكِّدُه يقول: "لا إله إلاّ الله" هذا توحيد، كذلك إذا قرأنا أذكار الصّباح والمساء نذكر التّوحيدَ على وجهِ التأكيد. وإذا قرأنا سورة الإخلاص، وسورة الكافِرون، نذكُرُها أيْضاً على وجه التأكيد، وسورة الإخلاص نقرأها ثلاث مرّات، وسورة الكافِرون نقرأها عندما نوتر، أو قبل الوتر نقرأُها عند النوم، وسورة الإخلاص نقرأها في الصّباح، وفي المساء، وأدبار الصّلوات مِرارًا وتَكْراراً . إذًا هذا تأكيد بأمرِ التوحيد؛ اعتناءً به تعظيماً لقدره. وهنا في هذه السّورة يأتي هذا المعنى: في أوّل السّورة: (الْحَمْدُ للّهِ)، وهنا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)؛ اعتناءً بالتوحيد.
ومعنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لو أردْتَ أن تُفَسِّرَها، معناها: لا إلهَ إلاّ الله؛ لأنَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ أصلُها "نعبُدُك" لكن قُدِّمَت الكاف وَجُعِلَت معها إيّا؛ لكي تدلَّ على الحصر، فلو قلت: "نعبُدُكَ" لكان المفهوم منها أنّهُ نعبُدُك ويمكن نعبُدَ غيرك، لكن إذا قدّمْت الكاف وقلت: (إيّاكَ نعبد) لا يمكن أن يراد إلا اللهِ وحده؛ لأن هذا الأسلوب أسلوب حصر عندَ العلماء. والعلماء يقولون قاعدة عظيمة جدّاً وهي: تقديم ما حقُّهُ التأخير يدُلُّ على الحصر فمعنى: (إيّاك نعبُد) أي: لا نعبُدُ إلاّ أنت. قال بعضُ السّلف: "(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لا إلهَ إلاّ الله".
 إذا أنت بعدما وحَّدْتَ الله توحيدَ الأُلوهيّة والرُّبوبيّة، والأسماء والصِّفات، وأثبَتّ أنّك مؤمن باليوم الآخر عدت مرّة ثانية إلى التوحيد وتقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لا إله إلاّ الله (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أيْضاً لا ربَّ للعالَمين سواه . فأنت توحِّد في الأُلوهيّة، وتوحّد في الربوبية . ولاحظوا لمّا كان مقام توحيد الأُلوهيّة هو المقام الأسمى والأعلى، وهو المقصود وعليه تدور دعوة الرُّسُل، جعلَهُ اللهُ مقَدَّماً فقال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
ولمّا ذُكِرَت هذه الأشياء قد يسأل سائل فيقول: أنت ذكَرْت الإيمان بالله، وذكرت الإيمان باليوم الآخر، وذكرت الإيمان بالرُّسُل، والإيمان بالكتب، فأين الإيمان بالملائكة؟ وأين الإيمان بالقضاء والقدَر؟ أمّا الإيمان بالملائكة فهو في ضمن الإيمان بالرسل والرسالات؛ لأنّه لا يمكن أن يُرسِلَ اللهُ –عزّ وجلّ– إلى أحدٍ إلاّ عبرَ الملائكة فقد تضمَّنَ الإيمان بالملائكة. وأمّا الإيمان بالقَدَر فالقَدَر هو فعلُ الله، ولذلك لمّا ذُكِرَت أركان الإيمان في القرآن، ذُكِرَت في موطِنين مجتمعة، وَذُكِرَت خمسة ولم يُذْكَر السّادس وهو: الإيمان بالقَدَر؛ لأنّ الإيمان بالقَدَر هو الإيمان بفعلِ الله، وهو في ضمن الإيمان بالله، قال الله -عزّ وجلّ-: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) لاحظوا (وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) فذكر خمْسةً من أركانِ الإيمان ولم يذكُر السّادس. وكذلك في سورة النِّساء لم يُذْكَر الإيمان بالقَدَر، لماذا ؟ لأنَّ الإيمان بالقَدَر هو جزْءٌ من الإيمان بالله ، هو إيمانٌ بفعلِ الله. القَدَر هو فعلُ الله، ما قَدَّرَهُ وكتبَهُ على عِبادِه، وما خَلَقَهُ –سبحانه وتعالى– وشاءه، وهذا كُلُّهُ فعلُ الله، فهو في ضمنِ الإيمانِ بالله، لكنَّهُ أُفْرِد؛ لأنَّهُ يحتاجُ إلى اعتناء، فهو إذن داخلٌ في قولك: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وهو أيْضاً داخِلٌ في قولك: (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) نطلُبُ عَوْنَ الله .
 لمّا فرغت الآيات من ذكر هذه الأركان العظيمة، ودخل فيها أركان الإيمان، ودخل فيها جميع العبادات، ودخل فيها جميع ما يُنَظِّم أمور الحياة في قوله: (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ذكر بعد ذلك مواقِفَ النّاس ومناهِجَهُم في تلقّي الدّين في قوله: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) هذا الدُّعاء المتفرِّع عن قوْلِك: (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ كأنَّ العبد لمّا قال: (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال الله: يا عبدي بم تستعينُ بي؟ ماذا تريد مني أن أُعينك عليه؟ فيقول العبد -واللهُ يُعَلِّمُه- :"يا ربّ أعظَمُ شيء تُعينُني عليه هو أن تهدِيَني صِراطَكَ المستقيم، وتدُلَّني على الطّريقِ الموصِلِ إليك، الّذي لا عِوَجَ فيهِ ولا انحِراف ولا زَيْغ " فيقولُ الله مُعَلِّماً عبدَه: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) دُلَّنا وأرْشِدْنا وثَبِّتْنا على هذا الصِّراط المستقيم الموصِل إلى الله.
 ثمّ ذكر الله طرائقَ النّاس في التّعامل مع هذا الصراط (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) هذا فيه ذكر لطُرُق الأنبياء عليهم الصّلاةُ والسّلام ومَن سار على منهاجهم، وكيف تلقَّواْ الدّين من الرُّسُل – عليهم الصّلاةُ والسّلام – وأنّهم كانوا على المنهج، يعبدون الله، ويستعينون بالله ولا يبتدعون شيْءً من عندِ أنفسهم، ويصبرون على هذا الطّريق حتى يلْقَوْ الله –سبحانه وتعالى– هذه طريقة الرُّسُل وأتباعهم (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) وعن صِراطهم انحرفت طائفتان: طائفة المغضوب عليهم ، وطائفة الضّالّين .
 أمّا المغضوب عليهم: فهم الّذين عَلِموا الحقّ ولم يعْمَلوا به.
وأمّا الضّالّون: فهم الّذين عَمِلوا وجَدّوا واجتَهَدوا، لكن على غيرِ هُدى، ما نظروا إلى ما جاء به الأنبياء من العلم والنُّبُوّة والوحي والهُدى، بل اختَرَعوا لأنفُسِهم أشياء؛ كما قال الله في حقّ النّصارى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) هذان الصِّراطان ، العلماء أجمعوا على أنّ المغضوب عليهم هم: اليهود، وعلى أنّ الضّالّين هم: النّصارى ، وفُسِّرَت بهذا إلى حديثٍ مرفوعٍ إلى النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان في رفعِهِ مقال، لكنَّ الصّحابة والتّابعين مجمعون على أنّ المغضوب عليهم المراد بهم: اليهود ، وعلى أنّ الضّالّين المراد بهم: النّصارى ، وهل يُقصَد بهم خصوص هؤلاء القوم ؟ أو يُقصَد به منهجهم ؟ الصّحيح أنه يقصد به منهجهم وطريقتهم. فالمغضوب عليهم: هم اليهود ومَن سار على طريقتهم وسلك منهجهم، فكلّ مَن عَلِمَ الحقّ ولم يعمَل به فهو مثلُهم، وكلّ مَن عمل على غيرِ هُدى، فهو مثلُ النّصارى. وبهذا عرفنا: أنّ هناك منهج لاتباع الله –عزّ وجلّ– وهو: أن تسير على المنهج الّذي جاء به رسولُ الله، وسار عليه سلفُ هذه الأُمّة من الصِّدّيقين والشُّهداء والصّالحين وَحَسُنَ أُولئكَ رَفيقاً، هذا المنهج هو منهج الطّاعة والإتباع ، والتّسليم التّامّ لله ولرسولِهِ صلّى الله عليه وسلّم، قال الله -عزّ وجلّ- في وصفِ هذا المنهج (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69] . يأتي سؤال يقول بعضكم: هذه السّورة أين الوعْد والوعيد فيها؟ أين الثّواب والجزاء فيها ؟ أين قَصَصُ الأمم الماضية فيها ؟
 فنقول: سبحان الله ! هذه سورة جامعة مانعة ما تركت شيْءً من الخير إلاّ دلَّت عليه، ولا تركت شيْءً من الشَّرّ إلاّ حذَّرَت منه. فإن قيل: كيف؟ قلنا: أمّا ذكرُ الوعْد والوعيد في قولِ الله -عزّ وجلّ -: (مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، فقوْلُهُ: (مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي: يوم الجزاء والحساب. الجزاء والحساب ماذا ينتج عنهما ؟ ينتج عنهما جنّةٍ ونار: الجنّة للمُحْسِن، والنّار للمُسيء.
وأيْضا قال الله –عزّ وجلّ– (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) أكرمتهم بأعظمِ نعمة، وهي: نعمة الطّاعة، وهذه الكرامة يستتبعها جزاء حسن، وأيْضاً يُخالفهم أُولئك الّذين انحرفوا عن صراطهم وهم المغضوب عليهم، والضّالّون، فهؤلاء انحرفوا عن الصِّراط فلهم النّار، سواء كانوا على صراط اليهود، أو كانوا على صراط النّصارى، وبهذا عرفنا: الوعد والوعيد، والتّرغيب والترهيب الّذي امتلأ به الكتابُ العزيز جاء في هذه السّورة. فإن قُلت: أين القَصص ؟ قلنا: ألم يَذكُرِ الله (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ)؟ مَن هم الّذين أنعم اللهُ عليهم؟ هم آدم،ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ويونس، ولوط... وغيرهم من أنبياء الله، ومؤمن آل فرعَوْن، وحدِّث بالكثيرين ممّن ذكر الله –عزّ وجلّ– أخبارَهم في القرآن، هذه أخبارُ المتقدِّمين من الصّالحين أجمَلَها الله في قوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) فكلّ مَن ذُكِرَت سيرته الحسنة في القرآن فهو ممَّن أنعَمَ اللهُ عليه (مَلِكَةُ سبأ، ومؤمن آل فرعون، وذو القرنين والخَضِر) كُلُّ هؤلاء ممَّن أنعم اللهُ عليهم، وكلّ مَن ذُكِرَت صفاته القبيحة والسَّيِّئة، هو: إمّا من المغضوبِ عليهم، أو من الضّالّين، وهو تفسيرٌ لهذه الآية. ففرعون، والنّمرود، والّذين كذّبوا أنبياء الله –عزّ وجلّ– على طول التّاريخ وعرضه كلُّهم: إمّا أن يكونوا من المغضوبِ عليهم، أو يكونوا من الضّالّين. وبهذا صارت هذه السّورة شاملة وجامعة.
فإن قلت: ماذا نستخلص بعدَ هذا العرض لموضوعات هذه السّورة ؟
قلنا: هذه السّورة مقصودُها: أن تجمَعَ مضمونَ الكتابِ كُلِّه، هي السّورة الجامعة لعلومِ الكتابِ العزيز، فما من شيْءٍ ورد في القرآن مُفَصَّلاً إلاّ وقد أُجْمِلَ في هذه السّورة؛ ولذلك سُمِّيَت هذه السّورة: (أُمَّ القرآن)، و (أُمَّ الكتاب) وأمُّ الشَّيْء أصلُه الجامع لمعانيه الّذي تعود جميع معانيه إليه، فهي المرتكز، وهي: الأساس، ولذلك نقول: هذه السّورة مقصودُها: جَمْعُ علومِ الكتاب، أن تكونَ أُمّاً للكتاب في كُلِّ شيْء، فالقرآن كلُّه تفسيرٌ لسورةِ الفاتحة. سورة الإخلاص، والزّلزلة، واللّيل، وعمّ، والمعارج، ويونس، ويوسف، وهود، والكهف، وطه، ومريم ، والأنبياء كلّ هذه سور إيضاحٌ لحقيقةِ الفاتحة.
 رُوِيَ عن الحسن أنّه قال : "أنزل الله مئتا كتابٍ وأربعةِ كُتُب، ثمَّ ضمّنها أربعةَ كُتُب: التّوْراة، والإنجيل، والزَّبور، والقرآن، وجعل خلاصةَ هذه الكتب في القرآن، وجعل خلاصة القرآن في المفصَّل، وجعل خلاصة المُفَصَّلِ في الفاتحة، وجعل خلاصة الفاتحة في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فعليها مدارُ الخَلْق والأمر، والدُّنيا والآخرة".
 إذاً مقصود هذه السّورة هو: أن تكون سورة جامعة شاملة عامّة، لو قرأَها إنسان وعمل بما فيها نجا، لو فَهِمَها إنسانٌ حقَّ الفهم ما احتاجَ إلى أن يفهَمَ معها شيْءً آخر، فهذه السورة هي الجامعة لعلومِ الكتابِ كُلِّه من أوَّلِه إلى آخره. هذا بالنّسبة لِلنظر إلى موضوعات هذه السّورة .
 بالنّسبة إلى أسماء السّورة الّتي يُستقى منها المقصود، فنلاحظ أنّ من أسمائها: · (الفاتحة) وفاتحة أي كتاب في العادة تكون قد ضُمِّنَت مقصود الكتاب، فأنت إذا أردت أن تعرف أي كتاب يُؤلِّفُهُ إنسان تذهب إلى فاتحة الكتاب لتقرأ لماذا ألّف المؤلّف هذا الكتاب ، وماذا يُريد ويهدِف من وراءِ ذلك الكتاب، وتجدهُ يُجمِل في هذا الكتاب ما يُفَصِّلُهُ في سائر الكتاب. إذاً: تسميتُها بالفاتحة، وكوْنُها في أوّل القرآن يدُلُّ على ذلك.
 وتسميتُها أيْضاً: بـ (أُمِّ الكتاب، وأمّ القرآن) يدُلُّ على ذلك. فهي: (أمُّ الكتاب) من حيث أنّ معاني الكتاب كلَّها تعودُ إليها، فجميع العلوم الّتي في القرآن تعود إلى الفاتحة، وجميع العقائد والأحكام والأعمال تعود إلى الفاتحة.
وإذا جئنا إلى فضائلِ هذه السّورة وجدنا: أنّه ثبت في الحديث الصّحيح: أنّها أعظَمُ سورةٍ في القرآن ، وأنّها هي: (السَّبْعُ المثاني والقُرآن العظيم الّذي أُوتيتُه)؛ كما قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي سعيد ابن المعلى ، وهذا يَدُلُّنا على أنّها هي الجامعة للكتاب كُلِّه، فكيف تكون القرآن العظيم الّذي أوتِيَهُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، وتكون أعظَمَ سورةٍ في القرآن إلاّ وهي دالة على جميع علوم القرآن، فجميع علوم القرآن موجودة في الفاتحة. وبهذا نعرف: أنّ مَن قال من العلماء، أن مقصود هذه السّورة هو: التّوحيد أنّه أشار إلى شيء من مقصودِها، أو إلى أعظم مقاصد هذا المقصود، فإنّ التّوحيد هو أعظمُ المقاصد ولا شكّ.
ومَن قال: إنّ مقصود هذه السّورة هو تحقيق العبوديّة، فهو أيْضاً أشار إلى شيء من مقصودِها.
 ومَن قال من أهلِ العلم إنّ هذه السّورة مقصودُها: الهداية إلى الصّراط المستقيم وبيان حقيقة الصّراط أنّه أشار إلى شيْءٍ من مقصودِها.
 فهؤلاء الّذين قالوا: تحقيق العبوديّة، تحقيق التّوحيد، الهداية إلى الصِّراط هذه مقاصد لا تُعارض ما ذكرناه، وإن كان ما ذكرناه يُعتبر أجمع وأشمل، وأوْسع ممّا ذكروه ممّا يُعتبر جزْء من المقصود، وليس هو المقصود بكاملة.
 وبهذا نعلم – يا إخواني – فضلَ هذه السّورة، فهذه السّورة جامعةٌ لعلومِ الكتاب، وكثيرٌ من النّاس يستهينُ بها، بل كثيرٌ من النّاس يظنّ أنَّهُ يفهَمُها، وهو لا يعلم أنّ فيها من العلوم والأسرار الشّيْء الكثير.
 الشّيخ عبد الرّحمن الدّوسري -رحمه الله- كتب فيها مجلَّداً كاملاً من تفسيره: صفوةَ الآثار والمفاهيم، يعني: في أكثر من 400 صفحة في تفسير هذه السّورة، وما وفّاها حقَّها، لكنَّه كتب ما يستطيع أن يكتبَهُ –رحمه الله– ويتكلَّمَ فيه.
 ابنُ القيِّم -رحمه الله- في مقدّمةِ مدارجِ السّالكين، هذا الكتاب الّذي يُعتبر من أعظمِ الكتب في تصفية القلوب وتعلُّقِها بعلاّم الغيوب، كتب أكثر من 50 صفحة في بيان بعض أسرار هذه السّورة، وخصوصاً: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لو أُخذت في كتاب لجاءت كتابا منقطع متوسط في أكثر من 150 أو 200 صفحة .
 الرّازي –رحمه الله– كتب فيها مجلَّدا كاملاً من جزأيْن تبلغ صفحاته قرابة 600 صفحة في سورة الفاتحة.
وكلّ مَن تكلّم في الفاتحة من العلماء المتقدّمين والمفسّرين، سواءً أطال النّفَس فيها أو قصَّر فإنّه يعترف وقد يُعْلِن في كتابه أنّه لا يستطيع أن يتحدّث عن جميع معاني هذه السّورة وأسرارِها وما تتضمّنه من العلوم والحِكم ، والأحكام والمعاني الّتي يحتاجُ إليها المسلم؛ لأنّ المَقامَ في ذلك كبير. وأنا أخذت أجمع بعض كلمات العلماء في قولِ الله -عزّ وجلّ-: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وكنت أظنّ أنّ المفسّرين يُكَرِّرون ما يقولونَهُ، أو ما يذكُرُهُ الأوَّلون، فكلّما فتحت تفسير وجدت أنّه يذكر ما ذكره كثيرٌ من المتقدّمين ويزيدُ عليه، وكلّ ما فتحت تفسير وجدت عندَهُ زيادات لا أجِدُها عند مَن سبقه. فأقول: سبحان الله! هذا القرآن مثلَ البحر مهما تغرف منه لا ينقص منه شيء، ولذلك سيبقى للنّاسِ مَيْدانٌ للحديث حوْلَ هذه السّورة ما بقي في الخلقِ أحد، وسيبقى بعد ذلك متّسع، ولن يُحيط بمعاني هذه السّورة من البشر إلاّ نبي، وهذا لا نقوله مبالغة، هذا نقوله ونحنُ واثقون من أنّ الله قد أودع هذه السّورة معاني عظيمة، ولذلك علينا أن نتفطّن لها، وأن نتعلَّمها بين الفَيْنة والأُخرى، وأن نُكَرِّر قراءتها قراءة المتمعِّن المتدَبِّر؛ حتى نصل إلى هدفِها الأعظم، ومقصودِها الأكبر ، وحتى أُبَيِّن لكم كيف أنّ القرآن هو شرح لهذه السّورة أذكر هذه النّماذج اليسيرة :انظروا – يا إخواني –
/ قال في أوّل سورة البقرة: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) ثمّ قال: (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) الآن نحن في أَنعَمتَ عَلَيهِمْ (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) مَن هم الّذينَ أنعَمْتَ عَلَيْهِم يا الله؟ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) هؤلاء الّذين أنعمتَ عليهم، وهؤلاء هم أهلُ الصّراطِ المستقيم. طيّب (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) قال الله –عزّ وجلّ– (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) هؤلاء قد يكون بعضهم أشبه بالمغضوب عليهم، وقد يكون بعضهم أشبه بالضّالّين، أمّا الّذين هم يشبهون المغضوب عليهم تماماً، فهم الّذين قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) تتحدّث عن المنافقين، هؤلاء هم المغضوب عليهم؛ لأنّهم مثل اليهود عَرَفوا الحقّ، وعرفوا أنّ محمّد رسولٌ من عندِ الله، وكفروا به، آمنوا به بألسنتهم، وكفروا بقلوبهم، فتحدّث الله عنهم. كما قُدِّم المغضوب عليهم على الضّالّين في الفاتحة، قُدِّمَ المغضوب عليهم على الضّالّين في سورة البقرة والضّالّون ذُكِروا في سورة آل عمران، فسورة البقرة ذُكِرَ فيها المنافِقون، ثّم ذُكرَ فيها تحقيقاً صفات اليهود عندما قال الله –عزّ وجلّ– (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) هذا هو سرّ الغضب، سرّ الغضب ما هو – يا إخواني –؟ أنّهم عرفوا رسول الله وعرفوا الكتاب الّذي جاء به من عندِ الله وكفروا به (وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ) مثل ما فعل المنافقون: (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ) ثمّ بدأ يتحدّث عن اليهود، وعن ما أنعم الله به عليهم وعن إفضالاته عليهم، وعن مواقفهم مع أنبيائهم وكفرهم بهم، وقتلهم لهم، وإيذؤهم للأنبياء، وتلكُؤهم عن الطّاعة إلى عصرِ النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم؛ حتى قال: (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) أليست هذه وردت في المنافقين؟ (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (14) اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) تماماً، سواءً بسواء إذاً هذا حديثٌ عن المغضوبِ عليهم .
 ثمّ يأتي في سورة آلِ عمران الحديثَ المُفَصَّل عن الضّالّين، وهم: النّصارى ، وكأنَّهُ شرح لجزء الآية المُتَبَقّي قال: (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) مَن هم المغضوب عليهم؟ اقرأ صفاتِهم في سورةِ البقرة. مَن هم الضالون؟ اقرأ صفاتِهم في سورةِ آلِ عِمْران. رأيتم، كيف أنّ القرآن كلُّه شرح للفاتحة وبيان لها، وهذه السّورة جامعةٌ لمعانيها كُلِّها . إلى هذا نوقِف الحديث عن هذه السّورة ومقصودِها ، والدّرس القادم –بإذن الله عزّ وجلّ– نتحدّث عن سورة البقرة ومقصودِها، وأرجو منكم أن تبحثوا عن مقصود سورة البقرة؛ لنتحدَّثَ عنه –إن شاء الله– وعندَكم شيْءٌ من العلمِ فيه؛ حتى يكونَ هناك مجالٌ في الحوارِ والنِّقاش.

 سؤال: يقول: هل يُقصَد بالسّبع المَثاني أنَّ عدد آياتِها سبعَ آيات، وإن كان غيرَ ذلك فماذا يُقصَدُ بها ؟
الجواب: نعم، أجمع العلماء على أنَّ سورةَ الفاتحة سبع آيات، وهذا محلُّ إجماع ؛ لقولِ اللهِ -عزّ وجلّ -: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر:87] ، وفسَّرَهُ النَّبِيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، فقال: (هِيَ السَّبْعُ المَثاني وَالقُرآن العظيم الّذي أوتيته) واختلف العلماء: هل هي سبعٌ ببسم اللهِ الرّحمنِ الرّحيم، أو سبعٌ من دونِها؟ فمِن العلماء مَن يقول: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ) أوَّلُ آيةٍ فيها، وعليه قسموا هذه السّورة كالتّالي:
(بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ) آية ، (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) آية ، (الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) آية  ، (مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) آية ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) آية ، (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) هي السّادسة ، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) هي الآية السّابعة. وعلى هذا سارت المصاحف الّتي بين أيْدينا .
القول الثاني: - وهو الأرجح – أنَّ (بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيم) ليست آيةً من سورةِ الفاتحة، وإنَّما كما قال ابنُ عبّاس: " آيةٌ أُنْزِلَت للفَصْلِ بَيْنَ السُّوَر " هي آيةٌ تأتي مع كُلِّ سورة عدا سورة براءة، وهي آيةٌ مستقلّة، وسورةُ الفاتحة تبدأ بقولِه: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وعليه يكون تقسيم هذه السّورة: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هي الآية الأُولى ، (الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) الثانية ، (مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) هي الثّالثة ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هي الرّابعة ، (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) هي الخامسة ، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) هي السادسة (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) السابعة فإن قيل: لِمَ رَجَّحت ذلك؟ قلْنا لعدة أسباب: السّبب الأوَّل: أنَّ السّورة يُطْلَق عليْها سورة: ( الحَمْد )، والعادة أنَّ السّورة تُسمّى بأوَّل آية من آياتِها.
 الثاني: أنَّ النبي صلّى الله عليهِ وسلَّم في الحديث القُدسي قال: " قَسَمْتُ الصّلاةَ بيني وَبَيْنَ عَبْدي نِصْفَيْن " وهذه القسمة ما تكون نصفَيْن متساوِيَيْن إلاّ إذا قُلْنا أنَّ البداية بقولِنا: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وتأمَّلوا معي جيِّداً: إذا قلت (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هذه لله (الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ) هذه لله ، (مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) هذه لله ،(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) هذه لله، صار: ثلاثة ونصف تماماً لله ، (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هذه للعبد ،(اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) هذه للعبد ، (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) هذه للعبد ، (غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) هذه للعبد ، فصار ثلاث آيات ونصف لله، وثلاث آيات ونصف للعبد. وبهذا : " قسَمْتُ الصّلاةَ بيني وبين عبدي نصفَيْن " لكن إذا قلت: (بسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرّحيم) اختلطت ودخل نصف المخلوق مع نصف الخالق؛ لأن بسم الله الرحمن الرّحيم : استعانة ، أستعينُ ذاكِراً بسمِ اللهِ الرّحمَنِ الرّحيم، أو أقرأُ مستعيناً (بسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرّحيم)  فهذه استعانة فهي للمخلوق، صارت واحدة للمخلوق و(الْحَمْدُ للّهِ) للخالق، و(الرَّحْمـنِ) للخالق ، (مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) للخالق ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) للخالق، ثمّ نعود مرّة ثانية (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) للمخلوق ، (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) ، فيصبح حظّ المخلوق أكثر من حظّ الخالق . ثمّ إنّنا إذا قلنا: النّصف الأوّل لله والنّصف الثّاني للمخلوق كان ذلك أليق بمقامِ اللهِ وحقِّه.
 ثمّ ألا تَرَوْن أنَّ العلماء لم يختَلِفوا في أنّ: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) من الفاتحة، واختلفوا في (بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم) هل آيةٌ أم ليست بآية، وهي من الفاتحة أو ليست من الفاتحة ؟ فدلَّ ذلك على أنَّ بداية الفاتحة بـ (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الّتي هي محلُّ إجماعٍ من العلماء كلّهم .
ثمّ ألا تروْن أنّ العلماء لم يختلفوا في أنّ الإمام يجهَر بقولِه: (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) اختَلَفوا في الجَهْر بِـ (بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم) فدلَّ ذلك على الفرق بين (بسمِ اللهِ) و (الْحَمْدُ للّهِ) ، ممّا يُؤكِّد أنَّ (بسمِ اللهِ) ليست من الفاتحة، وأنّها آيةٌ مستقلّة ذُكِرَت للفَصْلِ بين السُّوَر. ومِمّا يُؤكِّدُ ذلك: الحديث الوارد عند التّرمِذي وغيره " سورةٌ ثلاثونَ آية شفعت لصاحِبِها (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)" وقد أجمع العلماء على أنّ سورة تبارك ثلاثون آية من دون (بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم) فدلّ ذلك على أنّ (بسمِ اللهِ) ليست آيةً لسورة الفاتحة وأنَّها آيةٌ مستقلّة أُنْزِلَت للفَصْلِ بينَ السُّوَر، وأنّ بدايةَ كُلِّ سورة بما بعد  (بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرّحيم) والعلمُ عندَ الله.
 فإن قال – أخونا السّائل - ما معنى المثاني ؟
 قلنا: المثاني يعني: الّتي تُثنى وتكرر، وهذه السّورة -كما تعلَمون- من ميزاتها أنّها تُثنى وتُكَرَّر، فهي تُقرأ في الصّلاة الواحدة إمّا مرّتين، وإمّا ثلاث، وإمّا أربع، وأحياناً مرّة واحدة في الوتر، فهي بُنِيَت على التَّكْرار، فتُقْرَأ في اليوم واللّيلة في الأحوال المعتادة أكثر من سبعة عشرةَ مرّة. فسماها الله مثاني؛ لأنّها تُثنى وتُكَرَّر. واللهُ أعلم .
 سؤال: يقول: ذكرت في التفسير الّذي ألّفه المفسِّر في 24 مجلّد مع العناية في مناسبات السّور والآيات أتذْكُرُهُ لنا ؟
 نعم، هذا اسمُهُ: "نَظْمُ الدُّرَر في تَناسُبِ الآيِ والسُّوَر" للإمام: البقاعي -رحمه الله- من علماء القرن التّاسع.
 سؤال: يقول: أعِد لنا الفائدة حولَ ربطِ سورةِ محمَّد والفتح والحُجُرات .
الجواب: طبعاً، سورة الحجرات: سورة الأدب مع رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، ففي سورة محمّد ذُكِرَ حقُّ النّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم وتعظيمُه ونُصْرَتُه ونُصرةُ دينه، والقيام معهُ بالجهاد في سبيلِ الله، وفي سورةِ الفتح ذُكِرَ النَّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ، وما امتن اللهُ عليه من مغفرة الذّنوب وإيجاب توقيره، واحترامه، وطاعته – عليه الصّلاةُ والسّلام – وذكر أصحابه بِما لهم من الفضل والمزيه، فلمّا ذُكِرَت هذه الفضائل، وذُكِرَت هذه المقدِّمات في هاتين السّورَتين، ذكر الله - عزّ وجلّ – في سورة الحجرات الأدبَ معهُ في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فهذا يُبَيِّن لنا ما ورد في سورة محمّد، وما ورد في سورة الفتح من تعظيم رسولِ الله وبيان مكانته ووجوب السّمع له والطّاعة بوجوب احترامه وتوقيره وتعجيله، وذكرِ أصحابه وتشريفهم، وبيان منزلتهم (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) وقوله: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) هذه كُلُّها تُبَيِّن لنا وتدُلُّنا على وجوب الأدبِ معه، فما هو سبيلُ الأدب؟ اسمع – يا عبدَ الله – اقرأ سورة الحجرات لتتعلّم كيف تتأدّب مع رسولِك ونبيِّك محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
 سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفِرُكَ وأتوبُ إليك.
لحفظ الملف الصوتي :





---------------------------------------------------------------
 مصدر التفريغ: http://www.tafsir.net/vb/tafsir20436/#ixzz2ND4vwiKV (بتصرف يسير) 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق