الاثنين، 16 نوفمبر 2015

تفسير سورة البلد / د. محمد بن علي الشنقيطي

بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ۜ * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِين} الحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، اللهم لك الحمد على ما هديتنا وعلمتنا ووفقتنا وسددتنا، ولك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، وأصلي وأسلم وأبارك على سيد الأنبياء و إمامهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، ثم أما بعد ..
أيها الأحبة في الله: إن السلف الصالح رحمهم الله قسَّموا القرآن إلى أقسام :
 القسم الأول : الطوال وهي السور الطوال من البقرة إلى التوبة
 القسم الثاني : المئين وهي السور التي تبدأ من التوبة إلى سورة ق
القسم الثالث : المفصَّل وهو الذي يبدأ من سورة ق إلى الناس أو من سورة الذاريات إلى الناس والصحيح أنه يبدأ من ق إلى الناس.
وهذا المفصّل ينقسم إلى قسمين : قصار المُفصَّل و تبدأ من البلد إلى الناس ، وطوال المُفصَّل وتبدأ من ق إلى البلد .
سورة البلد سورة مكية على أصح الأقوال أو على القول الصحيح وهو قول الجمهور، ومن أهل العلم من قال إنها مدنية، ومنهم من قال أنها مكية مدنية ، فالذين قالوا أنها مكية استدلوا بالنزول لأنها نزلت بعد سورة ق و ق مكية وقبل سورة الطارق والطارق مكية ، والذين قالوا إنها مدنية استدلوا بأنه ذُكِر فيها حِلِّيةُ البلد الحرام والبلد الحرام لم يحِل إلا في فتح مكة وفتح مكة وقع في السنة الثامنة بعد الهجرة والفرق بين المكي والمدني أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها وهذا القول مردود عليه لأن قول الله جل وعلا: { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } مُختلَفٌ في تفسيره هل المراد به إباحة مكة للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون حِل له أن يَقتُل فيها وأن يسفك الدماء كما حصل في مكة أو أن { حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } أي مقيم بهذا البلد ، أو { حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } أي انت حلال لهم أن يفعلوا بك الأفاعيل وقد حُرِّم عليهم أن يفعلوا حتى بالصيد وحتى بغيره حتى بالشجر فحرّموا على أنفسهم أن يقطعوا الشجر في مكة ولم يُحرِّموا على أنفسهم أن يؤذوك ، فاختلاف الأقول في المراد بالآية أضعف الإستلال بها على مدنية السورة .
ومنهم من قال أن السورة مكية مدنية أن الآيات الأول منها مكية والبقية مدنية.
 لكن هذه الأقوال كلها مرجوحة والقول الصحيح أن السورة مكية .
هذه السورة مكونة من عشرين آية افتتحها الله جل وعلا بقوله تعالى :{ لَا أُقْسِمُ } وهذه اللام اختلف فيها أهل العلم أيضاً خلافاً كبيراً فمنهم من قال : نافية أنها نافية للقسم فكأن الله جل وعلا لا يريد أن يُقسِم بمكة وهذا القول مردود لأن الله جل وعلا قد أقسم بمكة خصوصاً البلد الحرام في سورة التين كما قال الله جل وعلا : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } فكيف يُقسم به في سورة التين ثم يقول : { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } إذا ًهي ليست نافية للقسم .
 ومنهم من قال : هي ليست نافية للقسم لكنها نافية لمقول سبق قوله محذوف كأنهم قالوا : محمدٌ هذا كذّاب ، أو هذا القرآن مُفترى أو البعث لا يكون فقيل لهم : لا ، يعني ليس هذا بصحيح وبدات { أُقْسِمُ } باستئناف { لَا } مستقلة و{ أُقْسِمُ } كلام مستأنف { أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } ويكون استئناف كلام جديد. وهذا أيضاً عليه ما عليه.
 والصحيح في { لَا أُقْسِمُ } أنها لام الابتداء للتوكيد وهذه العبارة وهذا الأسلوب متكرر في القرآن في قول الله جل وعلا : { ِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } وقوله تعالى : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ } وهذه تؤكد أن { لَا أُقْسِمُ } قَسَم لأن الله قال : { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } ثم عطف عليها وقال : { وَإِنَّهُ } ماذا { لَقَسَمٌ } فدل على أن "لا" ليست نافية للقسم بل هي مؤكدة للقسم والعرب عندهم قاعدة فهم يقولون فيها : <زيادة المبنى تدل على زيادة في المعنى> ، فكلما زيد في بناء الكلمة من الحروف كلما زاد ذلك في تأكيد المعنى وزاد في معنىً جديد فقوله تعالى : { لَا أُقْسِمُ } تدل على معنى جديد مؤكِد أكثر من قوله (أقسم) ، فلو قال : أُقسِم لكان قسماً لكن عندما يقول : { لَا أُقْسِمُ } كان القسم أقوى. ولم أجد في القرآن كله لفظة (أُقسِمُ) من غير "لا" فقد تتبعت ذلك فلم أجد في القرآن أُقسِمُ مجردةً عن "لا" فكلها قبلها "لا" إذا جاءت في صيغة المضارع (أُقسِمُ) .
 { لَا أُقْسِمُ } القسَم في اللغة للتأكيد وكلام الله جل وعلا لا يحتاج إلى تأكيد لأنه حق { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } فلماذا يُقسم رب العالمين وهو غني عن القسم؟
 { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } فالله جل وعلا لا يقول إلا الحق فكيف يقسم وإنما القسم للتأكيد ولا يُطلب التأكيد إلا على الكلام المشكوك فيه؟
هذا أسلوب من أساليب العرب أن الكلام يكون حقاً وهو حقٌ أصلاً فإذا جاءت أساليب التوكيد زادته توكيد.
 والله جل وعلا يُقسِم بما شاء من خلقه، وكل مخلوق أقسم الله جل وعلا به دل على فضلٍ ذلك المخلوق الذي أقسم به الخالق فالخلق كلهم لله لكن الله يصطفي من خلقه ما يشاء فإذا أقسم الله بمخلوق كائناً من كان فإن ذلك المخلوق له فضل وله شأن عند الله جل وعلا عظيم ولذلك أقسم الله بعُمِر النبي صلى الله عليه وسلم قال : {لَعَمْرُكَ َ} وأقسم الله جل وعلا بآدم وذريته { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } -كما سيأتي- أو بإبراهيم وذريته أو بنوح وذريته أو بالإنسان عموماً وذريته إلى غير ذلك.
إذاً قوله تعالى : { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } نتوقف عند كلمة "بـ" لأنها حرف من حروف القسم، وحروف القسم ثلاثة : أولها الواو (والله) ، والتاء (تالله) ، والباء (بالله) ، فقول الله عز وجل : { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } أي أقسم بهذا البلد واللام لام التوكيد ، لام التوكيد -الابتداء- لا تأتي بعدها ألف (لأقسم) أو (لأقسمنّ) تكون معها النون -نون التوكيد- لكن هنا أغلب العلماء قالوا إن لام الابتداء جاء بعدها الألف مداً وهذه عادة عند العرب يقولونها من باب تحسين اللفظ ومن باب أيضاً تأكيد المعنى كما ذكرت أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى . والقسم هو: الحلِف، والقسم والحلِف واليمين -والأيمان والأقسام- هذه كلها لتأكيد الألفاظ.
 { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } الباء دلت على أن هذا البلد مُقسَم به بذاته، طيب البلد نفسه اختلف فيه:
 فمنهم من قال أن البلد المراد به مكة كلها لأن الله جل وعلا سمّاها بلداً في أكثر من آية كقول الله جل وعلا : {وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } وقول الله جل وعلا : { رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا } إلى غير ذلك ، وسمّاها البلدة { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ }
ولكن هنا ملاحظة أن الله جل وعلا عندما يسمي مكة بالبلد لابد أن تأتي الإشارة إليها بـ "هذا" فتجد في جميع ذِكر البلد في القرآن الإشارة إليها بـ"هذا" وهذا إسم إشارة للقريب فمعنى ذلك أن هذه البقعة مُقربة وأهلها مقربون القائمون بها المُتعبدون بها والقُربات فيها أقرب إلى الله من القُربات في غيرها، فمكة مُقربة ومن تقرب إلى الله في مكة فقد تقرب إلى الله في مكان قريب يشار إليه بـ"هذا" و"هذا" يشار بها للشيء القريب { رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا } { هَٰذَا } { ِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } وكذلك { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } هذه الإشارة لهذا البلد فيها فائدة أخرى وهي أن كلمة { الْبَلَدِ } دخل عليها الألف واللام التي تفيد الاستغراق ويمكن استعمالها لأي بلد ، لو لم تأتي كلمة { هَٰذَا } لجاء مُأول وقال : المراد بالبلد البلد الكذا أو بلدة كذا لأن الألف واللام دلت على الاستغراق الذي يفيد عموم المذكورين لكن جاءت { هَٰذَا } و لفظ { هَٰذَا } في وقت النزول ومكان النزول يدلّ على أن المراد مكان نزول القرآن ، والقرآن إنما أول ما نزل في مكة المكرمة ، إذاً تأكد وتعين أن المراد بالبلد مكة المكرمة .
قوله تعالى : { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } أفادت حرمة مكة وأنها مكرّمة عند الله وأنها محبوبة إلى الله وأنها معظّمة عند الله لذلك أقسم الله بها ولأن الله لا يقسم بخلقِه إلا بما عظّم، ولو نظرت إلى كل الأشياء التي أقسم الله بها تجد أنها مُعظّمة كلها سواء كانت زماناً أو كانت مكاناً أو كانت إنساناً أو كانت غيره، فقد أقسم الله بالملائكة {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا } كما أقسم بهم في قوله : { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا }، وأقسم الله جل وعلا أيضاً بأماكن كقسمِه تعالى بطور سيناء وقسمِه بمكة المكرمة في قوله : { ِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ } وهذا مكان { وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } .
إذاً {لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } طبعاً قوله تعالى : { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } يجعلنا نستوقف قليلاً لماذا خصّ مكة بالقسم مع أن مكة في وقت نزول هذه الآية فيها ما يزيد على ثلاثمائة وستون صنماً يُعبد من دون الله في مكة؟ ومع ذلك يقسم الله عز وجل بها، مكة أهلها هم الذين فعلوا الأفاعيل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومع ذلك يُقسم الله جل وعلا بها، فيدل هذا القسم بهذه البلدة على أنها مُقدّسة عند الله حتى ولو كان أهلها مشركون لأن الشرك طارئ على الأرض والطارئ على الأرض لا يؤثر فيها كطروا النجاسة على الأرض فتصب الماء وتنتهي ، لهذا لما كان المشركون قد نصبوا على جبل الصفا صنماً وعلى جبل المروة صنماً آخر تحرَّج الصحابة الكرام من السعي بين الصفا والمروة لمكان الصنمين منهما وقالوا : كيف نسعى بين مكانين قد عُرفا بصنمين إساف ونائلة ؟ فنزل القرآن { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ } مالها علاقة بما كان عليها من الأصنام { مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } كذلك مكة كلها من شعائر الله لا تُدنسها الأصنام لو كانت فيها لأن الأصنام زالت ولأنها زائلة ولأنه باطل سينتهي { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ } وماذا حصل للباطل ؟ { وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } .
 { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } ومن خصائص مكة وفضائلها التي تجعل القسم بها أيضاً عظيم :
/ كونها أول بقعة على وجه الأرض عُبَد الله فيها أول بقعة عبد الله جل وعلا فيها هي مكة لقول الله جل وعلا : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا }
/ أيضاً أن مكة في مكان وسط الأرض وأعلى الأرض وهي تقابل البيت المعمور الكعبة تقابل البيت المعمور من أعلى
/ وأيضاً أن مكة كلها حرم منذ خلقها الله جل وعلا وأن الأرض كلها دُحيت من تحتها فلما خلق الله الأرض دحاها من تحت البيت كما قال تعالى : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا } أي دحاها من تحت البيت فأول بقعة خُلقت من الأرض ودُحيت الأرض وبُسطت من تحتها هي بقة مكة المكرمة .
{ لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } هذا على القول أن السورة مكية أما الذين قالوا إن السورة مدنية قالوا : إن المراد بالبلد المدينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلّ بها ولم يكن من أهلها لأن الحالّ بالشيء هو الذي يقدِم عليه ولم يكن من أهله تقول : حل فلان بمكان كذا أي أحتله أي اصبح حالاً فيه فقالوا : المدينة حلّها النبي صلى الله عليه وسلم يعني حلّ بها أي جاء إليها واستقرّ بها حتى بعد موته فكان قبره فيها فهو حِلٌ بها حياً وميتاً وقالوا إذاً البلد هو المدينة، والقول الراجح أن المراد بالبلد مكة.
 { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } هذا الأسلوب (وأنت حلٌ) "الواو" اختلف فيه:
 فقيل هذا الواو عطف على القسم وكأن الله جل وعلا يُقسم أيضاً بكون النبي صلى الله عليه وسلم حِلٌ في مكة المكرمة لأنه يزيدها تكريماً ويزيدها تعظيماً ويزيدها تشريفاً وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
 وهنا مناسبة جميلة جداً بين كون مكة وهي البلد أميناً وبين كون محمد صلى الله عليه وسلم مولود فيها وناشيء بها ومبعوث فيها ما العلاقة في رأيكم ؟ ما العلاقة بين وجود النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وبين كونها بلداً آمناً ؟ هل هناك علاقة بين وجود النبي صلى الله عليه وسلم في مكان وبين كون ذلك المكان أمناً ؟ نعم ما العلاقة ؟
العلاقة واضحة { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } فوجود النبي صلى الله عليه وسلم في مكة سبب لرفع العذاب عن أهل مكة فأمن مكة وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان سببه أولاً وجود النبي صلى الله عليه وسلم ثم وجود البيت .
{ لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } فكون النبي صلى الله عليه وسلم حِلٌ به يعني حالّ مُقيم به -كما قال بعض المفسرين- أو حِلٌ به يعني أنت يا رسول الله حِل لك هذا البيت وتكون الآية حِل لك هذا المكان وتكون هذه الآية من باب الإخبار عما سيكون وهذا كثير في القرأن أن يُخبَر عن ما سيكون بالماضي مثل قول الله جل وعلا : { أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } أمر الله القيام فقال : { ِ أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ } ثم قال : { فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } كيف يقول تستعجلوه وقد أتى ؟ الشيء الذي أتى ما يُستعجل خلاص أتى أنتهى إنما يُستعجل الشيء الذي سيأتي ولهذا قال الله جل وعلا : { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } مع أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت نزول القرآن عليه وقت نزول هذه السورة لم تكن مكة حِل له يعني لا يجوز له وقتئذٍ أن يقتل أحد كما ورد في القرآن { كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } فلا يجوز له القتال ومع ذلك قال،: { وَأَنْتَ حِلٌّ } إذاً هذا أمر سيكون متى يكون ؟ في السنة الثامنة من الهجرة .
 { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } كم قول فيها ؟
 القول الأول : { أَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } أي مُقيم به وحالٌّ به.
 القول الثاني : { أَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } أي حلال لك أن تقتل فيه وأن تضرب فيه وأن تفعل فيه ما تشاء وقد أحل الله جل وعلا مكة للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يوم فتح مكة ولم تحل لأحد قبله ولا تحل لأحد بعده.
الثالث : { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } معناه أن الله جل وعلا يبين تناقض المشركين كيف أنهم يزعمون أنهم أهل البلد الحرام ومع ذلك يُحلُّون قتلك ويُحلُّون ضربك ويُحلُّون عرضك ويُحلُّون مالك ويُحلُّون أيضاً أعراض أصحابك، ألم يؤذوا صحابتك في البلد الحرام وهل أذية الصحابة في البلد الحرام من باب تحريم هذا البلد ؟! وهل قتل أم عمار بن ياسر سمية وكذلك زوجها ياسر وغيرهم من الصحابة هل قتل هؤلاء وسفك دمائهم في البلد الحرام من أهل البلد الحرام يعد ماذا ؟! إذاً أنت حِلٌ هذا التناقض كيف يكونون هم أهل البلد ومع ذلك البلد حرام ثميُحلُّون دماء أصحابك وأعراضهم هذا القول الثالث .
 { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } هنا القسم الثاني طبعاً هذه { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } جملة إعتراضية والجملة الاعتراضية هي التي إذا نزعتها أو تركتها المعنى لا يتأثر كأن الله قال : { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَد } { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } أي أقسم بالوالد وما ولد كما أقسم بالبلد. وأما من قال أن "لا" نافية قال : إن الله لم يُقسم بالبلد وإنما أقسم بالوالد وما ولد فقال : { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَد } يعني مكة لا أقسم بها لكن أقسم بالوالد وولده.
 طيب من الوالد ومن ولده ؟ أختلف المفسرون في الوالد وما ولد
فالقول الأول : أن الوالد وما ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأن إبراهيم له علاقة هو وولده بالبيت فمن الذي رفع قواعد البيت ؟ {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } { وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } إذاً إبراهيم وإسماعيل هما من بنى هذا البيت فإبراهيم بناه إسماعيل ساعد في البناء ونشأ فيه وترعرع فيه ومحمد صلى الله عليه وسلم وُلِد فيه وعاش فيه حتى بُعث وخرج منه مهاجراً ثم رجع إليه فاتحاً عليه الصلاة والسلام.
 إذاً { وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } اختلف فيها العلماء على خمسة أقوال:
 القول الأول : أن الوالد وما ولد آدم عليه السلام ويكون القسم بجميع ذرية آدم وهذا من باب التكريم فكما كرّم الله مكة فلقد كرم الله آدم وذريته كما قال تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } وهذا يدل عليه عموم مكة للناس كما قال تعالى : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا } فمكة لجميع الناس والناس جميعاً مدعوون لزيارة مكة وزيارة هذا البيت لكن لما كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حرّم الله مكة على المشركين { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا } فيكون التشريع ما قبل ذلك أن مكة كانت للجميع يأتيها المشرك وغير المشرك واليهودي والنصراني والجميع لكن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وتحريم مكة على المشركين عندئذٍ جاء الحكم أن لا يقربها مشرك وأن لا يقربها كافر طيب وهذا من باب أيضاً تحريمها .
{ لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَد * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ }
القول الأول : آدم .
القول الثاني : إبراهيم وإسماعيل .
القول الثالث : محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
القول الرابع : العموم كل والد وكل مولود .
القول الخامس : { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } أي والد من يولد له وما ولد يعني ما تكون هنا نافية والد وما لم يلد أيضاً، كل من هو والد وكل من لا يلد فتجمع الوالد وغير الوالد.
 وفقيل والد وهو قول سادس والد الذكر وما ولد الأنثى فيكون القسم بالذكر والأنثى وعلى هذا القول يكون المراد به آدم وحواء تكون آدم { وَالِدٍ } وحواء { مَا وَلَدَ } وغيرهم وكل ذكر وأنثى { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } .
طيب هنا في قوله : { وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } نأتي لمسألة بيان أهمية الولادة ماهو القسم؟ هل القسم بذات عملية الولادة أو بذات المولود أو ذات الوالد أيها هذه الثلاث أحب إلى الله ؟ يعني هل الله جل وعلا عندما أقسم بوالد وما ولد أقسم بعملية الولادة فيكون في لذلك ترغيب في الولادة وتكون الولادة لها شأنها ولذلك يكون كل من عمل على حد النسل والتحديد من النسل وكره ذلك كره أمراً يحبه الله ويقسم الله به والله جل وعلا يحب من الناس أن يتكاثروا ويتناسلوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ( تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) فإذا كان الله أقسم بوالد وما ولد ففي هذا ترغيب في الزواج لأن الزواج هو طريق الولد وكأن الله يقسم بوالد وما ولد وهذا القسم يجعل العزاب يُقبِلون على الزواج لأن الله أقسم بوالد وما ولد ولا يمكن للعازب أن يكون والداً حتى يتزوج فيكون في حال يرضي الله جل وعلا ويقسم الله جل وعلا به { وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } وهذا عموم.
 أو أن المسألة مسألة عملية الولادة نفسها وعملية الولادة يشترك فيها الذكر والأنثى لكن حظ الأنثى منها أكبر ولهذا كان حظها في البِر أكبر وخصص الله ذكر الأم قال : {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ } { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } إذاً { ووالد وما ولد }.
 هذه الأقسام التي ذكرها الله جل وعلا على ماذا؟ أقسم بهذا البلد وأقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم كونه حالاً بالبلد الحرام أو كونه قد أُحل له البلد الحرام ووالد وما ولد على ماذا ؟ قال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } المُقسم عليه مؤكد بالقسم هذا رقم واحد الذي تقدم معنا .
 ثانياً : اللام -لام التوكيد- التي قبل "قد"
ثم "قد" التي تفيد التحقيق هذه ثلاث مؤكدات طيب على ماذا ؟
 { خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَد } (خلقنا) خلق : فعل ماض والنون ضمير متصل في محل رفع الفاعل وهي نون العَظَمة ، والفاعل : هو الله جل و علا ، والخلق أحد خصائص الربوبية وخصائص الربوبية أربعة لا دخل لغير الله جل وعلا بها فهي خاصة بالله وهي خصائص الربوبية وأركانها:
 أولها : الخلق كما قال تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } وهذه الدليل الأول أو الخاصية الأولى.
 وثانيها : المُلك كما قال تعالى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }
ثالثها: التدبير كما قال الله جل وعلا : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } الرابع : العلم 
فهذه الأربعة الخلق والملك والتدبير والعِلم خصائص ربوبية الله جل وعلا للخلق.
 قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ } خلقنا الإنسان أو خلق الله جل وعلا الإنسان { فِي كَبَد } الإنسان : معروف الألف واللام تفيد الاستغراق أي جميع الناس.
 وقيل المراد آدم فسواء كان حُمِل على الخصوص وهو آدم أو حُمِل على العموم وهم آدم وذريته.
 على القول الأول أن المراد به آدم ما هو المعنى إذا قال : { خَلَقْنَا الْإِنْسَان } يعني خلقنا آدم في كبد ما معنى خلقنا آدم في كبد؟
 إذا كان الإنسان آدم قال أهل العلم القائلين بهذا القول : إن الكبد المراد به كبد السماء ويقال : في كبد السماء أي في وسطها وآدم خُلق في السماء آدم لم يُخلق على وجه الأرض فقد ورد في الحديث أن الله جل وعلا لما أراد خلق آدم بعث إلى الأرض ملكاً فقبض من أديمها قبضة -يعني من ظاهر الأرض- قبضة ثم عُرج بها إلى الله فخلق من تلك القبضة آدم ولذلك سجد الملائكة كلهم أجمعون لآدم أين؟ في السماء قال : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } إذا خلق آدم كان في كبد وكَبَد الشيء وسطه يعني في وسط السماء ، والسماء إذا اُطلِقت يُراد بها العُلو قد تُطلق السماء على السحاب كما قال الله تعال:{ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً }، وقد تُطلَق السماء على السماء نفسها كما قال تعالى: { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } وإذا أُفردت السماء فإنها تشمل السماوات كلها إذا أفردت السماء من غير قيد بالسماء الدنيا فإنها تشمل السماوات السبع كلها.
 في أي سماء كان خلق آدم ؟ وفي أي سماء كان وجود آدم ؟
منهم من قال في السماء الدنيا ومنهم من قال فوق السماء السابعة لكن ورد في حديث الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال التقى بآدم  في السماء الدنيا فهذا مستقر الأرواح جميع أرواح بني آدم خُلِقت في السماء الدنيا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء قال : (فاستفتحتُ -أي استفتح- جبريل في السماء الدنيا- فقيل : من ؟ قال : جبريل ، قيل : من معك ؟ قال : محمد ، قيل : أو بُعِث إليه ؟ قال : نعم، فَفُتحت السماء ثم دخل جبريل ودخل محمد صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم :فإذا برجل جالس عن يمينه أسوِدة وعن يساره أسوِدة إذا نظر يمنة تبسم وإذا نظر يسرة اشمأز فقلت لجبريل : من هذا قال : هذا آدم،
قلت: فما هذه الأسودة عن يمينه وعن يساره؟ قال : هذه نِسَم بنيه) يعني أرواح أبنائه . فإذا كان المراد بالكَبَد السماء فتكون المراد بالإنسان الناس جميعا ويكون المراد أرواح الناس خُلِقت في السماء الدنيا وإذا أراد الله خلق إنسان وكوَّنه أرسل ملكاً فقبض روحه من السماء الدنيا ثم نزل بها إلى جسمه في رحِم أمه فتُنَفخ فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسعود رضي الله عنه : (يُجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يُرسل اليه الملك فينفخ فيه الروح ) وهذه الرُّوح على قدر كمالها يكون قدر المَلَك المُرسل إليها فإذا كانت الروح مُعظّمة عند الله أرسل لها ملكاً مُقرباً كروح عيسى ابن مريم أرسل لها من ؟ جبريل عليه الصلاة والسلام يحملها إلى مريم قال : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِياً } يعني جبريل عليه الصلاة والسلام، وإن كان دون ذلك كان الملك الذي يحملها دون ذلك فالملائكة درجات كما قال الله عز وجل : { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَىٰ } هذه درجة ، { وَثُلَاثَ } درجة ثانية، { وَرُبَاعَ } درجة ثالثة { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } حتى تصِِل إلى جبريل عليه السلام كم عنده ؟ ستمائة جناح وقد يكون هناك ماهو أكثر من ذلك .
 { ِ لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ }
 القول الثاني : أن الكبد المراد به التعب والنصب والمشقة وهذا القول هو الراجح لأن الإنسان فعلاً خُلق في مشقة فمن نظر إلى خلق الإنسان من بدايته الى نهايته يجد أن المشاقّ والمتاعب مع هذا الإنسان منذ كان نطفة إلى أن يكون جثة جامدة في قبره.. كيف ؟
أول ما تخرج النطفة وتجري في الرحم لا قرار لها ثم تكون مضغة معلقة ثم تكون عظاماً ثم تُكسى العظام لحما ثم تنفخ فيه الروح ثم تبدأ بعد ذلك المشاق والمتاعب أول ما يخرج يخرج بمشقة قال تعالى : { ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } لو لم ييسر الله لك سبيل الخروج من بطن أمك ما خرجت لكن سبحان من يسّر لك الخروج ولذلك قال تعالى في شأن خروج الإنسان قال : { وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ } وهذه الآية من أعجب الآيات فانظر إلى الإنسان في بطن أمه إذا عُمِّر أجله يُنكّس، يكون مُنتصب فإذا انتهى أجلُه نُكِس، أصبح رأسه أسفل، ولو لم يُنكّس الإنسان في بطن أمّه لما خرج لأن الأرجل ما يمكن تخرج والرأس عند الخروج يكون لين فيلين الرأس حتى يخرج ويفتح الطريق لبقية الجسم ولو كان الرأس ليس عظماً لما خرج أيضاً لضَعُف ولكان الإنسان في مشقة لكن يسر الله له هذا السبيل { ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه } فإذا خرج من بطن أمه تبدأ المتاعب يبدأ يتنفس الرئة كانت مطوية لأول مرة تشتغل يدخل الأكسجين ، الأمعاء لأول مرة تشتغل ، يدخل الحليب الدورة الدموية، كان الدم واقف لأول مرة يجري جريانه في جميع الأوردة والشرايين، كان القلب ينبض لكن العروق لم تكن كلها تشتغل فإذا الإنسان يبدأ في الكبد يبدأ في النصَب من بداية ولادته ثم يُكلّف بالمصّ -مص الحليب - كما قال تعالى في شأن الرضاعة قال : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } وسنأتي لها بعد قليل إن شاء الله لأن النجدين طريقه للبن وقد هدى الله سبحانه وتعالى إليها، وقيل النجدين طريق الحق والباطل إلى غير ذلك. فتبدأ المشاق وعند نبات الأسنان وخروجها مشاق أخرى وعندما يكبر مشاق ومتاعب فكل الحياة مشاق، الأرض التي يمشي عليها جرداء والسماء التي تظله والحرّ والبرد وكل ذلك كل هذه المشاق والمتاعب خُلق الإنسان فيها لماذا { خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَد } ؟
الله جل وعلا قادر على أن يخلق الإنسان في جنة ويبقى في جنة لكن خلقه في كبَد لأجل أن يتعرف إليه فإذا جاع توجّه إليه فأطعمه، وإذا عطش توجّه إليه فسقاه، إذا مرِض توجّه إليه فشفاه، فأدخله حياة الكبد ليضطر إليه فيدعوه فيتعرف على ربه فيُفلح ولذلك كل الناس مؤمنهم وكافرهم عربهم وعجمهم عند الإضطرار يتوجهون إلى الله جل وعلا وحده لا شريك له { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَد}.
 وقيل في قوله تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَد } أي خلقنا الإنسان في كبد يعني اختبار، والكبَد من الكبِد، والكبِد هي مكان الألم، أشدّ ألم يعانيه الإنسان هو ألم الكبِد، وأيضاً أغلى شيء يملكه الإنسان بعد قلبه كبِدُه ولذلك قالوا عن الأبناء هم الأكباد قالوا أبناؤنا أكبادنا تمشي على الأرض.
 { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } طبعاً هذا الإنسان الذي خُلق في كبد يحسب أن لن يقدر عليه أحد انظروا إلى التناقض في هذا الإنسان ، الإنسان عندما تسمع كلام القرآن عن الإنسان ترى العجب العُجاب، هو ظلوم جهول ومع ذلك يحسب أن لن يقدر عليه أحد ومع ذلك إذا استغنى طغى وبغى فجميع حديث القرآن عن الإنسان يبين حقيقة هذا الإنسان لكن رحمة الله وسِتره هي التي يجعل هذا الإنسان مكرم ومبجل وشي كبير أما هو الإنسان في الحقيقة الله يستر عليه قال جل وعلا :{ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ } ماذا ؟ { ظَلُومًا } هذه صفة، الظلم ضده العدل إذاً الإ نسان ما عنده عدل،{جَهُولًا } الجهل ضده العلم الإنسان ما عنده علم ، فماذا أعطاه الله حتى يكون عنده الأمرين ؟ أعطاه الله الشريعة الإسلامية ليكون عنده العدل وأعطاه السمع والبصر والفؤاد ليكون عنده العلم فقال جل وعلا :{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } ماذا ؟ جُهَّال { لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَة } فهذا السمع والصبر والفؤاد حتى تستفيد تحتاج إلى كبد تحتاج إلى مشقة إلى بذل مجهود العلم لا يُحصَّل بالراحة إذا أعطيت العلم بعضك لن يعطك شيء وإذا أعطيت العلم كلك أعطاك بعضه وكل شي يحتاج إلى نكد حتى المال إذا جلست فالسماء لا تُمطر ذهباً فكل رزقك في كبد كل حياتك في كبد تحتاج إلى أن تبذل جهود حتى تحصل على رزقك وتحصل على ما قُدر لك من الخير أو من عكسه ولذلك أيضاً مثال هذه الآية من القرآن قول الله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } لماذا ؟ { نَبْتَلِيهِ } من أجل البلاء {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } والبلاء يكون بالخير والشر { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } ومنه قول الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ } تعرف الكدح ؟{ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا} الإنسان مسكين يكدح يكدح ، والكدح : هو بذل المجهود الشديد، فهو في كبد وفي كدح وفي ابتلاء وفي ضيق وفي مشقة حتى ييسر الله عز وجل عليه، { إِنَّكَ كَادِح إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا } ولذلك مهما كان تنعُّم الإنسان في هذه الدنيا إذا دخل الجنة يعلم أنه كان في سجن وفي ضيق ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (يؤتى يوم القيمامة بأبأس أهل الدنيا فيغمس غمسة في الجنة فيقول يقال : هل مر بك بأس قط ؟ قال : فيقول لا ) كذلك أنعم أهل الدنيا إذا دخل الجنة كأنه ما مر به نعيم قط لأن الجنة تُنسي ما قبلها .
{ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } هنا (يَقْدِرَ) لها ثلاث تفاسير:
 التفسير الأول : من القُدرة وهي القوة يعني عندما يطغى الإنسان يحسب أنه لا أحد يقدر عليه لا أحد قوي عليه كما حصل لعاد {قَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة } فطغوا وبغوا فأهلكهم الله جل وعلا، كذلك الإنسان عندما تشتد قوته يقول : لن يقدر عليَّ أحد وهنا جاءت العبارة : { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } { أَحَدٌ } من أسماء الله جل وعلا { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ومن ظن أو حسب أن الله جل وعلا ليس بقادر عليه لا يخلوا من حالين : إما أن يكون هذا اعتقاد عنده فهذا كفر ، و إما أن يكون هذا الشيء حصل له من باب الخوف كما حصل للرجل الذي قال لأولاده : إذا أنا مت فحرقوني ثم ذروا رمادي نصفه في البر ونصفه في البحر فإن ربي لو قدر عليّ لعذبني عذاباً أليماً فلما مات أخذه أبناءه فحرقوه وجعلوه رمادا ثم ذروا نصفه في البحر ونصفه في البر ثم جمعه الله قال : عبدي ما حملك على ما فعلت ؟ قال : الخوف منك يارب قال اذهب فقد غفرت لك ) فهذا الخوف من الله يعني الذي حصل لهذا الشخص حتى فعل ما فعل هذا يُغفر له لأنه ليس ظن أنه لا يقدر عليه ولكن الدافع له هو الخوف، أما من ظنّ أن الله لا يقدر عليه فقد كفر كفراً عظيماً وسيرى العذاب الأليم لا محاله.
 القول الثاني : { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } يقدر بمعنى نقدر والقدر هو الضيق والتضييق ومثل قصة يونس عليه السلام
{ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } أن لن نضيق عليه والكبَد هو التضييق والإنسان قد يحسب أن حياته كلها ستكون سِعة ورغد من العيش كما هو حال صاحب الجنتين { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } ماذا قال ؟ {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا } يعني هذه الجنة دائماً موجودة { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ } ماذا ؟ { خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } انظر هذا الحسّ الذي عنده ماذا نفعه ؟ النهاية { ِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } .
{ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا } انظر المشكلة عندما يتكلم الإنسان بشيء وهو لم يفعله { أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا } طبعاً هذه الآية نزلت في رجل اسمه الأشدّ هذا الأشد هو رجل كان إذا وقف على الجلد يأتي الرجال فيجذبون الجلد من تحت رجليه فتتقطع الجلد إلا موقع قدميه من شدة قوته ويقول : لن يقدر علي أحد لا أحد اقوى مني وأهلكه الله .
 أيضاً فيها دليل على البعث لأن المشركين يقولون : أبد إذا متنا وكنا تراباً وعظاماً انتهى الموضوع لا أحد يستطيع يرجعنا بشر وهذا الزعم تساءلوا فيه وكثُر فيه الكلام حتى نزلت { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } نبأ البعث وهذا الخبر جعلهم يعتقدون أنهم إذا ماتوا لا أحد يقدر أنه يجمعهم وتتشابه هذه السورة وسورة القيامة في الافتتاح وفي الردّ على هذا الموضوع سورة القيامة { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ } ماذا ؟ { أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ } وهذه { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } يقدر عليه أحد في جمعه بعد موته وفي إحياءه بعد موته { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ولا شك أن الإنسان في حياته يلاحظ الحياة والموت بين عينيه ألست تنام كل ليلة وتستيقظ ، أليس في بشرتك ما تقطعه وترميه من شعر وأظافر وغير ذلك، فما قُطع منك ميّت وما بقي فيك حي فأنت تجمع بين الميت والحي في جسمك، وأيضاً تستيقظ وتنام فيقضتك حياة ونومك وفاة { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى } ما تأكله دليل على الحياة والموت الطعام من أين خرج من الأرض الأرض ميتة كيف خرج منها الطعام الله الذي أحياها { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ } { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } البيضة الميتة من الدجاجة الحية والدجاجة الحية من البيضة الميتة {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وتأكل أنت من الشيء الذي خرج من الأرض الميتة فتحيا به وهو ميت {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُون } من قبوركم.
 { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} والمال اللُّبَد : هو المال الكثير ، والعرب كثيراً ما يفتخرون بالمال الكثير وعندما يكثُر مال الإنسان يطغى { إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ } ماذا ؟ { أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} لكن هذا الذي يقول : { أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا } أهلكه في ماذا ؟ هل أهلكه في الخير ؟ أو أهلكه في الشر ؟ فإن كان أهلكه في الخير فأفضل شيء يُهلك فيه المال ما سيأتي ذكره هو اقتحام العقبة، وإن كان أهلكه في الشر فقد هلك وأهلك، أهلك المال وهلك هو نفسه { أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا } .
/ ثم قال الله : { أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ } هناك { يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } وهنا { أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ } سبحان الله الإنسان حساباته مقلوبة الله جل وعلا يراه ويعلم به في جميع أحواله يوم كان تراباً يوم كان نطفةً يوم كان جنيناً يوم خرج من بطن أمه يوم هو فوق الأرض الله يعلمه {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } ومع ذلك يقول : لا أحد يراني ، فيُهلك المال في أمر لا يحبه الله أو أنه يتكلّم ويقول : { أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا } و يكون هو بخيل لم يُهلك شيئاً { أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ }.
 / { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } طبعاً هذه الآيات المتسلسة تدل على كمال صفات الله جل و علا ، إذا قال الله جل وعلا للإنسان : {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ } طيب الإنسان نفسه كيف يرى؟ أليس بعينين ؟ طيب من أعطاه العينين التي يرى بها ؟ أليس الله ؟ من أعطاه اللسان الذي يتكلم به ؟ أليس الله؟ من أعطاه الشفتين اللتين يستران فمه ويساعدانه في الكلام والأكل وغير ذلك ؟ الله ، إذاً الله الذي أعطاك هذه الصفات التي كمُلت بها إنسانيتك هو في باب الكمال أكمل جل وعلا فالله له المثل الأعلى فإذا كنت أنت لديك عينين ترى فالله جل وعلا يرى ما لا ترى ، الله يرى كل شيء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولذلك قال في السورة الأخرى : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ } الكافر مشكلته أنه لا يعلم أن الله يرى لا يعلم أن الله يسمع لا يعلم أن الله جل وعلا بكل شيء عليم { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّه } .
{ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } طبعاً العينين جعلا وهو في بطن أمه واللسان والشفتين والأذنين والجوارح كلها لكن لماذا خصّ الله جل وعلا بالذكر هذه [العينين واللسان والشفتين] دون سائر الأعضاء لماذا ؟
أعظم النعم في الجسم ثلاثة : السمع والبصر والفؤاد ولذلك قال تعالى وانظر للتأكيد :
{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً } طبعاً اللسان والشفتين بلا سمعٍ و لا بصرٍ ولا فؤاد يعملون أم لا ؟ عندما تكون لا تسمع ولا تُبصر ولا تعقِل فلسانك وشفتيك لا فائدة فيهم -لحم-  لذلك البصر نعمة عظيمة وإذا أخذ الله حبيبتي عبده وصبر كان جزاؤه الجنة ، ورد في الحديث أن رجل عُمِّر في الطاعة ومات ولم يعصِ الله قط فبُعِث يوم القيامة فقال الله له : ادخل الجنة برحمتي ، قال : لا بل بعملي قال : ردُّوه فحاسبوه على نعمة البصر فكانت نعمة البصر لا يعدلها عبادة العمر كله ولذلك { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } .
 { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَينَ } طيب من جعل الله له عينين ينظر ماذا ؟ آيات الله ، { وَلِسَانًا } يذكر به الله - المفروض - { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ } اللسان والشفتين للبيان والعينين للرؤية والله جل وعلا يرى وقد بيّن، كل شيء بينه الله { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ }. { وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } لسان معروف والشفتين الشفة الأولى والشفة الثانية وهما معروفتان والنعمة فيهما ظاهرة لكن قوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } اختلف فيها المفسرون:
 فقالت طائفة النجد الطريق، طبعاً النجد لغة : الطريق المُرتفع، النجد ما ارتفع من الطريق ومنه سُميت نجدٌ هذه نجداً لأنها مرتفعة عن غيرها فهي مرتفعة ، والنجد تنقسم إلى قسمين نجدٌ العليا ونجدٌ الدنيا، نجد العُليا منطقة الرياض وما حولها، ونجد الدُنيا منطقة القصيم هذه نجد تسمى نجد الدنيا أو نجد الصغرى وهذه الرياض وما حولها المناطق هذه تُسمى نجد العليا وكلاهما سُميت نجد من باب الطريق لأن طُرق الحج كانت تمرّ من العراق إلى القصيم إلى مكة هذا طريق نجد ويسمى نجد الأسفل أو نجد الدنيا، والطريق الثاني يمر من جهة البصرة إلى الأحساء إلى الرياض إلى مكة ويسمى نجد العليا يعني الطريق الأعلى، وهنا الله عز وجل قال : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } أي الطريقين فالنجد الطريق بشرط أن يكون مرتفعاً الطريق، المرتفع الحسي والطريق المرتفع المعنوي كلاهما هدى الله له سواء كان طريق السفر أو كان طريق اللبن لأنهما نجدان فالثديان على صدر الأم نجدان مرتفعان على صدر الأم يعني طريقان للبن مرتفعان يراهما الطفل ويلثمهما ويرضع منهما فكل واحد منهنا نجد، وكذلك طريق الحق والباطل أيضاً كلاهما طريق واضح بيِّن لأن المرتفع يكون واضحاً فكأن الله بيَّن الطريقين واضحين لمن أراد أن يسلك هذا أو أراد أن يسلك هذا وهذا ما بينه الله جل وعلا في سورة الإنسان قال تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } الطريق { إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } .
 { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } الهداية في اللغة: الميل هدى أي مال ومنه (هُدْنَا إليك) أي مِلنا إليك، ومنه سميت الهدية هدية لأنها تميل بقلوب من أُعطيت إليهم نحو المُعطي ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تهادوا تحابوا ) . { هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } أي مِلنا به إلى النجدين وهديناه لهما فليختر منهما أيهما شاء إن أختار طريق الحق وُفق له وإن أختار طريق الباطل أيضاً وُفق له .
{ هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } الاقتحام : الدخول بقوة، تقول اقتحم الجيش الفلاني على البلدة الفلانية، واقتحم السُّراق البيت، اقتحموا إذا دخلوا عُنوة ودخلوا بقوة وكان الاقتحام غالباً يكون فيه صعود من أعلى ولذلك العقبة هي الصخرة التي تكون في سفح الجبل ومنه بيعة العقبة بيعة تحت ظل صخرة ، ومنه أيضاً جمرة العقبة لأنها الجمرة التي عند سفح الجبل وكان عندها صخرة كبيرة، إذاً هذه العقبة ثقيلة وتحتاج إلى قوة حتى يقتحمها الإنسان.
 { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } والعقبات هي: التي تكون في الطريق تمنع السير ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصراط قال بأن عليه عقبات وكلاليب التي تمنع السير .
{ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } طبعاً (ما أدراك) في القرآن أسلوب فريد إذا قال الله جل وعلا في القرآن { وَمَا أَدْرَاكَ } فاعلم أنه سيعطيك الخبر بالتفاصيل لكن إذا قال الله لك في القرآن : { وَمَا يُدْرِيكَ } اعلم أن هذا الخبر لن يأتيك الله عزل وجل قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ } طيب خذ الجواب { نَارٌ حَامِيَةٌ }، { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } خذ الجواب { فَكُّ رَقَبَةٍ }، { الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ } خذ الجواب، لكن عندما يقول الله : { يُدْرِيكَ } قفل الموضوع، لا يوجد جواب
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} لا، لا ندري علمها عند ربي في كتاب
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَىٰ } الله أعلم الأمر عند الله الله يعلم يتزكى أو لا
فإذا قال الله في القرآن : { يُدْرِيكَ } فذلك علمٌ لم يُخبر له وإذا قال : { أَدْرَاكَ } فذلك علم سيُخبر به.
 قال الله جل وعلا: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } وبدأ يجيب:
{ فَكُّ رَقَبَةٍ } فك الرقاب : هو العتق وهذه المسألة مقصد من مقاصد الإسلام ، الإسلام جاء والبشرية كلها ترضخ في ظلم وجهل لا يعلمه إلا الله القوي يتسلط على الضعيف ويأخذ ماله ويسترِقَّه فجاء الإسلام ليُحرر هؤلاء الأرِقّاء كما ولدتهم أمهاتهم فمن كان رقيقاً ولم يجد من يدفع عنه فإن في دفع الفدية عنه قُربة عظيمة -عقبة عظيمة- هذه العقبة اقتحامها هو الذي أوصل أبو بكر الصديق رضي الله عنه للمرتبة التي هو فيها، أول من أقتحم العقبة في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر هو أول من أعتق ولذلك بلال بن رباح، زِنيرة، آل ياسر، غيرهم كم أولئك الذين أعتقهم أبو بكر.
 { فَكُّ رَقَبَةٍ } وفكّ الرقاب يأتي على خمس صور :
الصورة الأولى : فكّ الرقبة من الرِّق إلى الحرية بالعِتق.
الثاني : فكّ الرقبة من الأسر إلى الحرية الانطلاق .
الصورة الثالثة : فكّ الرقبة من القِصاص إلى الحرية.
الصورة الرابعة : فكّ الرقبة من الدَّين إلى الحرية.
الصورة الخامسة -وهي أفضلها- : فكّ رقبة نفسك من عذاب الله عِتق الرقبة ، ولذلك (إن لله عتقاء من النار ) وهناك أعمال إذا عملها العبد أعتقه الله من النار يصبح عتيق من النار لا تضرة النار ولا يصل إليها بإذن الله وذلك لا يكون إلا بالتقوى .
{ فَكُّ رَقَبَةٍ } طبعاً رقبة هنا نكرة في سياق الإثبات تفيد العموم ونجد أنها في بعض السور مُقيّده تجد (رقبة مؤمنة) بينما هنا قال : {فَكُّ رَقَبَةٍ } طيب هل يُحمل هذا العام على ذلك الخاص؟ أو أن هذا العامّ مقصود؟ هذا العامّ مقصود لأن فك الرقاب لا يخلوا من حالين : إما أن تكون فككت الرقبة من أجل الكفارة فهنا يُقيد بماذا؟ بالإيمان { رَقَبَةٍ مُؤْمِنَة } أو تكون فككت الرقبة من أجل ماذا ؟ القُربى إلى الله حتى لو كانت كافرة ففك الرِّقاب مطلوب شرعاً مؤمناً كان المفكُوك أو كافراً { فَكُّ رَقَبَةٍ }
وفي هذا رد على من يتهمون الإسلام بأنه يستعبد الناس وغير ذلك ولذلك الإسلام يريد فك الرقاب { فَكُّ رَقَبَةٍ } وعدم استعمار الناس وأخذ أموالهم ودماءهم وأعراضهم .
{ فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبةٍ } طبعاً الإطعام في يوم المسغبة شديد على النفس عندما -لا قدر الله- تقوم حرب في بلد ما وتُقفل الدكاكين ويأتي الحصار لا يوجد شيء داخل ولا شيء خارج وتأتي المجاعة وأنت عندك طعام وعندك عيالك وعندك نفسك فعندما تطعم في وقت المسغبة تقدم للآخرين فهذا شيء عظيم عند الله، لكن ليس بالإيثار على النفس إلا حد درجة الموت لكن بالتساوي مع النفس أنت تساوي غيرك مع نفسك ولو آثرت فهذا شيء عظيم .
 { فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبةٍ } يوم المسغبة هو يوم المجاعة ، والسغب هو الجوع الشديد.
 { فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } اليتيم معروف واليتيم عند العرب هو: من فقد الوالد فمن فقد أمّه لا يُسمى يتيم إنما اليتيم من فقد أباه أو فقد والديه معاً، أما اليتيم عند الحيوان -يعني يتيم الحيوان- هو من فقد أمّه الأنعام يتيمها من فقد الأم، والطيور يتيمها من فقد الأبوين لأن الأبوين يقومان بنفس الدور الطير الذكر والطير الأنثى كل منهما يقوم بنفس دور الآخر ما عدا التبييض، وأما في الإنسان فاليتيم هو الذي يتيم الأب أو يتيم الأبوين معاً الأب والأم .
{ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ } المقربة : القرابة وفي هذا إشارة إلى أن فعل الخير في الأقارب مقدم فاليتيم المقربة والمسكين المقربة والفقير المقربة هذا أفضل عند الله من الفقير البعيد والمسكين البعيد والفقير البعيد لأن الصدقة على القربى أحب إلى الله وقد أخبر الله في ذلك في سورة البقرة كما قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ }.
{ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ } والمقربة هنا نكرة في سياق الإثبات تفيد العموم أي قرابة كانت من جهة الأم أو من جهة الأب أهم شيء يكون قريب لك .
 { يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } { مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبةٍ } المسكين : هو الذي سكنت يداه عن التصرف وقد أختلف العلماء أيهما أشد حاجة المسكين أو الفقير، فالمسكين ذا المتربة الذي سكن على الأرض لا يتحرك منه شيء وقيل له الزُنُم، والزُنُم : هو الذي لا يستطيع يمشي الذي يحبو على الأرض ملتصق بها بدنه، يعني المعتوه الذي ما عنده جوارح أو المشلول الذي لا يستطيع يتحرك، لازم الأرض فهذا المسكين ذا المتربة صاحب التراب الملتصق بها.
 وقيل المسكين هو: الذي يملك الشيء ولا يملك التصرف فيه كأصحاب السفينة سفينة مشتركة بينهم لكن لا يستطيع أحد منهم أن يتصرف وهي بينهم كما قال تعالى: { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } وإن كان بعض العلماء قال في هذه الآية أن اللام لام مصاحبة وليست لام المُلك وأن هؤلاء المساكين لا يملكون حتى السفينة وإنما هم يعملون عليها إيجار - يمكن إيجار منتهي بالتمليك - فلا يملكون شيئاً.
فعلى ذلك قال {مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبةٍ } وإذا كانت السفينة ليست لهم فأخذها أشقّ على أنفسهم من ما لو كانت لهم، لو عندك سيارة أمانة ليست لغيرك فحِفاظك عليها وحرصك عليها أشد من حرصك ما لو كانت لك ، ولذلك كان حرصهم على عدم أخذ الملِك لها، حرص الخضِر على عدم أخذ الملك لها أعظم إذا كانت ليست لهم.
 { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } طبعاً هنا سؤال لماذا أخر الإيمان والإيمان هو الأصل ؟
 لا شك أن عِتق الرقاب وأن إِطعام الطعام أنه من فروع الدين والإيمان هو الأساس فلماذا أخَّر الإيمان وقدّم هذه؟ ما رأيكم ؟
هذا التقديم للمفضول على الفاضل دليل على أهميته مثل قول الله عز وجل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } لا شك أن الإيمان بالله أعظم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأُخِّر الإيمان وقُدم هذان عليه لبيان الأهمية وهذه قاعدة معروفة فقد يُذكر الشيء ويُقدم على ما هو أعظم منه من باب التنبيه عليه.
 وقيل أن هذه الآية نزلت في اللذين قدموا خيراً قبل إسلامهم ثم أسلموا بعد ذلك وأن من عمل عملاً صالحاً ثم أسلم عليه كُتِب له ذلك العمل الصالح فمن كان في الكفر أو في الجاهلية مُنفقاً وفاعلاً للخير إذا أسلم أثبت الله له أجره قبل الإسلام لأن الله لا يظلم الناس شيئاً لأن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها .
{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } { آمَنُوا } الايمان معروف ويضيق الوقت عن تعريفه.
 باقي معنا (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ماهو الصبر ؟ الصبر لغة : مشتق من الصِبْر وهي شجرة شديدة المرارة يُتداوى بها فمن تحملها شُفي ومن لم يتحملها بقي على علته ، والصبر تسع درجات الصبر المطلوب شرعا تسع درجات:
 الدرجة الأولى : الصبر لله على طاعة الله
والدرجة الثانية : الصبر لله عن معصية الله
والدرجة الثالثة : الصبر لله على أقدار الله، هذه ثلاثة
الرابعة : الصبر بالله على طاعة الله.
 هذه الثلاثة بمعني الإخلاص ودليلها من القرآن : { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } أما الصبر بالله على طاعة الله والصبر بالله عن معصية الله والصبر بالله على أقدار الله وقدره فهذا الإستعانة بالله على الصبر على هذه الأمور ودليله من القرآن { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ } بقيت الثلاثة الأخيرة وهي الصبر مع الله على طاعة الله، الصبر مع الله عن معصية الله، الصبر مع الله على أقدار الله وهذه دليلها
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ولا يمكن لك أن تصل إلى المرتبة حتى تمرّ على التي قبلها فمن لم يُخلص لله الصبر لا يمكن أن يجد صبر بالله ومن لم يجد الصبر بالله لا يمكن أن يصل إلى الصبر مع الله فكل مرتبة تؤدي للتي بعدها ومن أكمل هذه المراتب كلها كان من الصابرين وكان في معية الله رب العالمين .
وقد ذكر الله التواصي بالصبر في سورة العصر قال : {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } { صَابِرُوا } : أي تواصوا بالصبر يصبِّر بعضكم بعضا { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
{ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَة } وهنا علاقة جميلة جداً بين قوله : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وبين قوله : {فِي كَبَدٍ } الإنسان خلُق في ماذا؟ في كبد ، إذاً ما دام أنه كلنا يا بني آدم خُلقنا في كبد نتواصى بماذا ؟ بالصبر على هذا الذي نحن فيه، فالمطيع يحتاج إلى صبر على الطاعة، اصبر على الصلاة ، العاصي يحتاج أن يُصبَّر عن المعصية يا أخي أمسك نفسك عن الحرام من ترك شيئا لله عوضه خيراً منه صبِّره على ترك المعصية ، إلذي جاءته مصيبة -مات ولده ماتت زوجته مات أبوه ماتت أمه- تُصبِّره
{ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } إلى غير ذلك فجميع الحياة تحتاج إلى صبر ومصابرة ومرابطة.
 { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وهذا الصبر يحتاج منك إلى المرحمة والمرحمة هي الرحمة ولذلك الله عز وجل جعل الدين رحمة في هذه الدنيا قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } والرحمة -رحمة الخلق- سبب رحمة الخالق (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
 { وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَة * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } الميمنة أصحابها نعم *** مراتب الصبر تسعة : الصبر لله على طاعة الله واحد - الصبر لله عن معصية الله اثنان - الصبر لله على قضاء الله وقدره ثلاثة - الصبر بالله على طاعة الله - الصبر بالله عن معصية الله - الصبر بالله على أقدار قضاء الله و قدره هذه ستة - الصبر مع الله على طاعة الله - الصبر مع الله عن معصية الله - الصبر مع الله على قضاء الله و قدره ، ما الفرق بين هذه المراتب؟ المرتبة الأولى مرتبة الإخلاص : معناها أخلص صبرك لله { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } فإذا صبرت على الطاعة فاجعلها لله وعن المعصية لله على القضاء والقدر، لله لا لأجل أن يمدحك زيد أو عمرو ، ( بالله ) اجعل عونك على الصبر هو الله لا تستعن بغير الله عن الصبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ومن يصبر يصبره الله ) فالله هو الذي يُصبِّرك لست أنت ولا غيرك ، وأما المرتبة الثالثة مع الله إذا وصلت إليها وصلت إلى معية الله ومعية الله لا يُحصَل عليها إلا بالصبر كما كان الله مع من ؟ مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } صَبر أم لا ؟ وصلوا في الصبر على طاعة الله  قمته فهاجروا ، عن معصية الله فلم يرتدوا ، على القضاء والقدر داخل هذا الغار في شدة الحر ومكة تعرفون حرها فافرض أنك في شدة الحر وتدخل غار في مكة في جبل كيف تتحمل هل تصبر أم لا؟ لا يوجد مكيف ولا يوجد شيء بارد ولا شيء يبرِّد ولا ماء بارد حتى فثلاثة أيام في الغار لم يخرجوا منه لو أحد أدخلك في غار في جبل ثلاثة أيام في مكة في زمن الحر هل تستطيع أن تصبر ؟ لكن النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر صبروا وكان الله معهما { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } .
 { أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } هذا تُسمى ماذا؟ يمين ، وهذه تسمى شمال والعرب كل شيء جميل يقولون : هذا ميمون وكل شيء ليس جميلاً يقولون هذا مشؤم فيتشاءمون بالشِمال ويفرحون ياليمين، ولذلك الطِيَرة عندهم مبنية على مسألة الميمنة والمشأمة فكان واحد منهم أراد سفراً أخذ حجر ورمى الطير وهي على الأرض فإذا طارت يمنة تيامن قال : هذا السفر مبارك الطير تيامنت، وإذا طارت ذات الشمال تشاءم وترك السفر وقال: الطير تشاءمت ، وهذه الطِيَرة منهي عنها شرعاً، ولذلك كانوا أهل مكة يفرحون بتجارة اليمن إذا جاءت ويقولون : هذه ميمونة جاءت من اليمن لأن الكعبة يمينها اليمن وشمالها الشام فيتشاءمون بالشمال -شمال الكعبة- ويتباركون بيمين الكعبة وكل هذا خالفه الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا ) لأن الإثنين مباركين لكن هذه الآية { أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } عندما ننظر إلى اليمين نجد أن لها شأن حتى في الآخرة وحتى في الدنيا فإن الله جل وعلا في الحديث ( مسح ظهر آدم في بعض الروايات مسح شِق آدم الأيمن فأخرج منه أصحاب اليمين ومسح الشِق الآخر فأخرج منه أصحاب الشمال قال : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي - هم أصحاب اليمين - وقال : هؤلاء إلى النار ولا أبالي -هم أصحاب الشمال - ) وأيضاً يوم القيامة أهل الجنة يأخدون كتبهم بأيمانهم { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } وأهل النار يأخذون كتابهم بشمالهم .
 { أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } الكفر : الجحود و التغطية، فالذين كفروا بهذا القرآن  (بِآيَاتِنَا) والآيات إذا قالها الله جل وعلا تشمل ثلاثة أشياء :
 تشمل الآيات المقروءة -آيات القرآن- ، وتشمل الآيات المنظورة -آيات الكون- ، وتشمل الآيات المعقولة -التي تُدرَك بالعقل- وليست منظورة ولا مسموعة { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } إذاً هذه الآيات كلها علامات تدل على الله وقد جمعها الله جل وعلا كلها وجعلها دالة عليه فمن كفر بها فقد تشاءم .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ } النار إذا وُصِدت أُغلقت والوَصد الغلق والباب يُسمى وصيد ولذلك قال الله عن أصحاب الكهف : {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيد } يعني بالباب ، هنا حكمة لماذا قال الله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ }؟ لماذا لم يدخل معهم الكلب داخل الكهف وقد عدّه الله معهم { سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } لماذا لما وصلوا الكهف لم يدخل معهم الكلب إلى الكهف ؟ الملائكة لا تدخل بيت فيه كلب والملائكة تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال فجعل الله الكلب بالوصيد عند الباب وبقي الكهف خالياً من الكلب حتى تدخل الملائكة فتقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، واستدل بعض الفقهاء في هذه الآية على أن من جاء بكلب حراسة ووضعه عند بابه لا يمنع ذلك دخول الملائكة لأن أصحاب الكهف كان كلبهم بالوصيد لكن لا يُدخله داخل .
{ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ } كما قال في الأية الأخرى { فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ } هذه الآية فيها دلالة على خلود أهل النار في النار ، وعلى أن النار خالدة مخلدة، وأن من فيها خالدون مخلدون ، وفي ذلك رد على من قال أن النار ستنتهي لأن بعض العلماء في قوله تعالى {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } قال : { أَحْقَابًا } يعني أزمان محددة معينة ثم يخرجون منها إلى الجنة ، واستدل بحديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم : (سيأتي على جهنم يوم مفتحة أبوابها ليس فيها أحد) هذ الحديث وإن كان فيه ضعف وهذه الآية ذهب بعض العلماء إلى أن النار مدة وتنتهي، لكن هذه الأية { إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ } وآيات أخرى شبيهة لها كثيرة دلت على استمرار أهل النار في النار ويُحمّل ذاك الحديث وغيره إذا صحّ على من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أنهم يخرجون من جهنم وتبقى جهنم خالية منهم وأما الكفار المشركون فإن الله حرّم عليهم الجنة ومن حرم الله عليه الجنة أوجب له النار لا محالة نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة والعافية.
بهذا تنتهي سورة البلد وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق