الثلاثاء، 1 أكتوبر 2013

الحلقـــ الرابعة ـــة / (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) -١-




 الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
عنوان لقاء هذه الليلة المباركة ، هذا الدرس المبارك (كتاب الله عليكم) ، وهو مجزوء من آية كريمة في سورة النساء وتتعلق باﻵية التي قبلها ولذلك سنفسر هاتين اﻵيتين في لقاءين متتابعين -إن شاء الله- اللقاء اﻷول منهما هذا واحد منه ونسميه : كتاب الله عليكم -1- ، ثم نأخذ -إن شاء الله- الجزء الثاني في الدرس الذي يليه .
/ قال رب العزة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) ثم قال -جل ذكره- يبين المحرمات بالمصاهرة قال (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ الَّلاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا*وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا )
هاتان آيتان متتابعتان في سورة النساء قلنا إننا سنتدارسهما في لقاءين متتابعين ، واﻵيات زاخرة بكثير من المعاني . لعلني أذكر أنني في العام الماضي فسرت قوله -جل وعلا- (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ) عندما كنت أتكلم عن اﻷضداد ، أما في لقاء درس هذا اليوم فسنتكلم عن اﻵيتين مجملتين .
النكاح من أطيب ما أحله الله ، ومن جميل ما يُروى ذكره الفكهاني في أخبار مكة عن عروة بن هشام أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- رأى رجلا يحمل على ظهره امرأة وليست طاعنة في السن حتى يظن أنها أمُّه وهو يطوف بها فلما فرغ أخذ ينشد -أبياتا- فقال عمر : من هذه؟ فقال : هذه زوجتي يا أمير المؤمنين ، ثم ذكر صفات فيها تدل على أن فيها حمقا ، فلما قال ذلك تعجب عمر من أنه يشهد أن امرأته فيها حمق ثم يحملها على ظهره ويطوف بها فقال له : ما لك لا تطلقها ؟! قال : يا أمير المؤمنين إنها حسناء فلا تُفرك وأم صبيان فلا تُترك ، (فلا تفرك) أي فلا تبغض . فقال عمر -رضي الله عنه وأرضاه- : إذا أنت وشأنك بها . موضع الشاهد: أن الرجل نظر من وجهين : نظرة عقلية ونظرة قلبية ، فالنظرة القلبية أن هذه أم أولاده وصعب عليه مهما بلغ حمقها وسوء تصرفها أن يطلقها حفاظا على أبنائه فعاطفته نحو أبنائه عظيمة ، وعقلا يقول إنها حسناء أي جميلة فلا تفرك ، وعقلا إن اﻹنسان يصعب عليه أن يُبغض امرأة حسناء إذا كانت زوجته فقال : إنها حسناء فلا تفرك وأم صبيان فلا تترك . هذا توطئة للآية.
 اﻵية تتكلم عن من حرم الله -جل وعلا- نكاحهن على ضربين : تحريم تأبيد ، وتحريم توقيت وذكر الله -جل وعلا- أن أقسامهن ثلاثة : محرمات بالنسب ، ومحرمات بالرضاع ، ومحرمات بالمصاهرة . فقال -جل ذكره- في المحرمات بالنسب (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ) فهؤلاء قرابة . ثم ذكر المحرمات بالرضاعة قال (وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ) ، ثم ذكر المحرمات بالمصاهرة قال (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ الَّلاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّلاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) إلى هنا التحريم تحريم تأبيد .
ثم أتى بالتحريم المؤقت قال (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ) فإذا طلق اﻷخت أو ماتت عنه جاز له أن يتزوج الأخرى ، (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء) وسيأتي بيان هذا (إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) ظاهر هذا؟.
 إذا التحريم له أسباب ثلاثة في البداية تحريم بالنسب وتحريم بالرضاعة وتحريم بالمصاهرة . التحريم بالنسب يدل على تعظيم حق القرابة وقد جاء في القرآن (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ولا ريب أن قرابة الرجل من أولى الناس بمعروفه ومن لا خير له في قرابته لا خير فيه لغير قرابته ، وكذلك على مسألة أن الرضاعة شأنها عظيم في الدين ﻷنهم يقولون -من ناحية المباحات- لا يوجد شيء مباح أعظم من إباحة لبن اﻷم على ابنها ، هذا أعظم مباحات الدنيا على اﻹطلاق. فعظيم حق الرضاعة مما يؤكد عظيم حق الرضاعة أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- تعلمون جمعيا أنه استُرضع في هوازن في بادية بني سعد فلما كان يوم حنين قاتلته هوازن ثم نصر الله نييه (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) ثم انتهى اﻷمر إلى أن الله نصر نبيه ، نجم عن النصر السبي ، فأخذوا السبي فوُضع في حاجز يُسمى آنذاك باللغة حظائر يوضع فيها السبي ، فبعثت هوازن رجالا منهم يخاطبون النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمر هؤلاء السبي منهم رجل يقال له صُرهُد وهو من بني سعد الذين رضع فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا الرجل أتى وله دالة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا نبي الله إن اللواتي في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك . فسكت -صلى الله عليه وسلم- وانتهى اﻷمر بعد أخذ وعطاء والكلام مع المهاجرين واﻷنصار وبقية الناس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ردّ سبي هوازن كله ولم يأخذه إكراما لبني سعد ﻷنه رضع في بني سعد فعدّ رضاعته في بني سعد معروفا وطوقا في عنقه حرره -صلى الله عليه وسلم- بأنه رد عليهم سبيهم . إذا عُقل هذا فإن من اللؤم بمكان أن يتنكر اﻹنسان لبلد نشأ فيها ، والعرب كانت تعد هذا في جاهليتها من أعظم اللؤم أن يأتي اﻹنسان عونا لعدو بلاده على أهله وبلده قال لبيد بن ربيعة :
عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَـا *** بِمِنىً تَأَبَّـدَ غَـوْلُهَا فَرِجَامُهَـا
هذا مطلع معلقته وأخذ يردد يقول ، قصيدة طويلة من المعلقات ومفاخر العرب إلى أن قال:
 وَهُمُ العَشِيْـرَةُ أَنْ يُبَطِّئَ حَاسِـدٌ ** أَوْ أَنْ يَمِيْـلَ مَعَ العَـدُوِّ لِئَامُهَـا
فعد الصيرورة مع العدو عونا على أهلك من أعظم أنواع اللؤم ودلالة على أن هذا الرجل الذي يصنع هذا -عياذا بالله- لا خير فيه البتة ، وكُلنا يعلم ويرى ويشاهد ما انكفأت عليه اﻷحداث اليوم مما لا يرتاب أحد في مقصوده حتى الذين لا يعلمون إلا أبجديات السياسة يفقهون ما الذي يُراد مما يحصل شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، وبلاد نشأنا فيها وسمعنا أذانها وصلاتها وخطونا إلى مساجدها وأقام الله -عز وجل- التوحيد في قلوبنا على أرضها أولى وأحرى وأحق أن نحرص على أُلفتها وجمع كلمتها وعدم شق عصا الطاعة فيها ، وأن نعلم يقينا أن العدو أيّا كان -لا مكن الله له- لو قّدر له أن يدخلها سيبدأ بمن أعانه قبل من حاربه ، لا جعل الله ﻷهل الضلالة في بلادنا موطأ .
 والمقصود أيها المؤمنون: ينبغي علينا واﻷحداث كذلك أن يتقي المؤمن منا ربه في نفسه وفي وطنه الذي يعيش فيه ، والناس ابتلوا في عصرنا بما يسمى بحمى التغريدات فمنها لغو ومنها مجون ، ومنها فتنة ، ومنها حق ، ومنها صواب ، ومنها باطل لكن كلما كان اﻹنسان قادرا على أن يمسك عليه لسانه وأن يقول الكلمة التي تجمع وتُؤلف وتحمي كان أولى وأحرى وأحق في زمن كهذا أن يقول كلمة -لا قدر الله- تُفهم على غير ما أراده ، أو على غير مقصده ، فإن كان -عياذا بالله- وجد من أصلا يريد السوء فإن الله -عز وجل- يقول (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) وينبغي أن يعلم حتى في خاصة نفسك وأنت ترى هذا ولا تستطيع أن تنكره في نفسك ﻷنك ذو عقل ، ليس كل خلطائك ولا كل مجالسك ولا كل أصحابك تستطيع أن تقول عنهم حديثا يخصك ، دعنا اﻵن من الدولة والسياسة واﻷمراء والقرارات ، شيء في خاصة نفسك ، حتى في خاصة نفسك أنت تعلم أنه ليس كل قول يقال أمام كل من تعرفه ، فإذا كان مما يتعلق بحياة أسرة يحسن كتمه أحيانا فكيف فيما يتعلق بمصير أمة أو دولة أو مجتمع ؟!. أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- سمع أقواما يُعلقون على بيعة أبي بكر وأنها تمت فلتة -هكذا جاءت في السنة- وأراد أن يخطب في الحج ليبين للناس صحة بيعة أبي بكر فقام له أحد الناس اﻷسوياء ، العقلاء قال : يا أمير المؤمنين إن الحج -الموسم- يجمع غوغاء الناس ، يجمع العقلاء والغوغاء ، صحيح أنهم مسلمون أتوا يحجوا ، يصلون ، يصومون لكن حجتهم ليست واحدة فاحفظ عليك نفسك ولا تخطُب هاهنا فإذا عُدت إلى المدينة فإنها بلد السنة وكبار الصحابة ويلتف حولك العقلاء قل ما شئت ، فقبِل عمر نصيحة هذا الصحابي ولم يتكلم ، وهو يتكلم في القرون المفضلة لكن قال له هذا الصحابي إن الحج يجمع الغوغاء لا تنطق أمامهم بكل شيء ، لا يفقهوا قولك ؛ فلما رجع إلى المدينة -رضوان الله عليه- وصعد المنبر قال -وهذا من نفيس العلم الدال على عبقريته رضوان الله عليه وأرضاه- قال: "إني سأقول مقالا فمن فقهه مني ووعيه فليحدث به حيثما انتهت به راحلته -ﻷنني على يقين مما أقول- ومن لم يفقهه ولم يعيه -لم يحفظه ؛ لم يفهمه- فإني لا أحل له أن يكذب علي" ، فسمّى عمر من لم يفقه كلامه وينقله على مراده هو سماه كذبا عليه . يعني يأتي إنسان يسمع لك يقول أنا جلست في الدرس عند الشيخ فلان ، أنا حاضر وقال كذا وكذا ، هو اﻵن فهمه لا ينقل النص ، ينقل فهمه للنص ، وقد يكون الشيخ ، يكون العالم ، يكون الملك ، يكون اﻷمير ، يكون الوالد ، تكون الوالدة ، لم يقصد شيئا مما فقهه هذا ولا فهمه ، وهذا يمشي في الركبان والمجالس واﻷندية -واﻵن في المواقع- ويُحدث ، فيأتي من هو أجهل منه فيزيد ، فيأتي من هو أعظم ضلالة فيُحسنها ، ولا يعقل هذا ، لا يمكن أن تقوم أمة على هذا الحال ؛ محال ، فلابد للإنسان أن يتقي الله في نفسه وأن يقرأ حقا سير اﻷخيار يتعظ منها ويفهم ، ولا يعتقد أحد أن هذا يقال مجاملة لزيد أو مجاملة لعمر لكن حرص اﻹنسان على بقاء البلاد ووحدة اﻷمة ينبغي أن يقدم على أي مصلحة كانت ، نعم أمر الله -جل وعلا- بالنصح وأمر بالسمع والطاعة في غير معصيته ويعلم من قلدهم الله -جل وعلا- اﻷمور في هذه البلاد مرد عزّها إلى دين الله ، كلما تخلت شبرا ضاعت مترا ، وكلما دنت منه أعزها الله ، ولا يمكن أن تقوم ﻷي بلد قائمة حقا شرعيا إلا على الدين . هارون الرشيد لما جعل علي بن عيسى واليا على خراسان -على الري- وأراد أن يودعه قال له : "يا علي اتق الله يُعطفني عليك ، ولا تعصي الله فيُسلطني عليك". والمراد أن التمسك بالدين صراط الله المستقيم وينبغي أن يعلم الجميع أن حق وطننا علينا حق عظيم ، ولا يقبل واﻷحداث هذه أن نجعله عرضة ﻷي أحد يقول فيه ما شاء.
في اللقاء القادم -إن شاء الله- نتم تفسير قول الله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) واﻵية التي بعدها ، والعلم عند الله وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق