الاثنين، 30 سبتمبر 2013

موضوعات سورة البقرة (١٢٤- ٢١٤)

د.محمد بن عبد العزيز الخضيري




إنَّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونَسْتَعينُهُ ونستَغْفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنْفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِل فَلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُهُ ورسولُه صلّى الله عليه وعلى آلِهِ وصحْبِهِ وسلَّمَ تسْليماً كثيراً.
 أمّا بعد: فقد تحدَّثْنا في الدّرس الماضي عن موضوعاتِ سورِة البقرة، وبدأْنا الحديث من أوَّلِ السّورة، وبيَّنّا كيف تسلسلت هذه الموضوعات؛ لِتُكَوِّنَ في نهايةِ المطاف فصْلاً كاملاً من هذه السّورة.
 كان الحديث في بدايةِ هذه السّورة عن بني إسْرائيل، أو بالأحْرى كان الحديث عن هداية القرآن وأقسام النّاس ومواقفهم من هذا الكتاب، وأنَّ النّاس انقسَموا إلى ثلاثةِ أقسام، ثمّ تحدَّثَت عن القرآن، ثمّ بعدَ ذلك جاء الحديثُ عن بني إسرائيل، وما هو العهد الّذي أخَذَهُ اللهُ عليهم ، وما هي النِّعمة الّتي أنعَمَ اللهُ بها عليهم ، وكيف قابلوا ذلك كلَّه ، كيف قابلوه، هل قابلوه بالشُّكر والطّاعة والاستقامة على أمرِ الله؟ أو أنَّهم قابلوه بالكفران والتّكذيب والطُّغْيان والعِصْيان والتّأبي والمخالفة .. إلخ ما هنالك ممّا أوْضَحْناهُ في المجلِس الماضي.
 واخْتُتِمَت الآيات عن بني إسرائيل بمثلِ ما افْتُتِحَت به، وكانت دَعْوةً - كما قلنا - حانِيَةً رفيقةً وَدودة؛ افتَتَحَها الله بقولِه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}.
 ثمّ اخْتُتِمَت قصّةُ بني إسرائيل في سورةِ البقرة بقولِهِ : {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (123)}.
 ثمّ بدأ الحديث بعدَ ذلك عن أصل عظيم جدّاً، إذا فُصِلَ فيه عُرِفَ كذب اليهود وتحريفهم، وكذب النَّصارى وتحريفهم، وصدق دعوة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وموافقتُها لدعوةِ موسى، وعيسى، وأبيهم جميعاً وهو: إبراهيم عليه الصّلاةُ والسّلام؛ فكأنّ هذه عودة بالذّاكرة إلى التّاريخ الّذي يُكَذِّب ما افتَرَتْهُ اليهود وما افْتَرَتْهُ النّصارى، وما افتراهُ المشركون؛ لأنّ المشركين ينتسبون إلى إبراهيم، مشرِكوا مكّة ينتسِبوا إلى إبراهيم، واليهود ينتسِبون إلى إبراهيم، والنّصارى ينتسِبونَ إلى إبراهيم {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
فتأمَّلوا - يا إخواني - كيف أنَّ الحديث جاء مرّةً أخرى بصورة غاية في الرّوعة ! وكأنَّهُ حَكَم وفَيْصَل ومَرْجِع للطّوائف الأربع: اليهود، والنّصارى، المشركون، المسلمون. كلّ هؤلاء يعودون إلى هذه الحقيقة التّاريخيّة؛ ليعرِفوا ما وراءَها.
 اسمعوا! بدأت الآيات بقولِ الله - عزّ وجلّ - : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}الكلمات هي: كلمات التّوحيد {فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} مَن هم الظّالِمون؟ الظّالِمون: كلّ مَن انحرف عن هذه الجّادّة الّتي كان عليها إبراهيم -جادّة التّوحيد- ؛ ولذلك قال الله عزّ وجلّ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} هذا ردّ على المشركين الّذينَ مَلؤا البيت بالأصنام، وإبراهيم أُمِرَ أن يُطَهِّرَ البيت للطّائفين والعاكفين والرُّكَّعِ السُّجود، وتطهيرُه يكون من الدّنس الحِسّي، والدّنس المعنوي، والأصنام وعبادتها من الدّنس المعنوي الّذي هو أخطر من الدّنس الحسّي.
 ثمّ جاءت الآيات تُبَيِّن على أيِّ شيْءٍ كانت دعوةُ إبراهيم {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا} وهذا هو موطن الشّاهِد في القضيّة {مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} فمن لم يكن مسلماً، فهو ليس حقيقاً بأن يكون تابِعاً لإبراهيم عليه الصّلاةُ والسّلام، ولا منتسِباً إليه {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} مَن؟ {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}.
 قال الله - عزّ وجلّ -: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ثمّ يدعو إبراهيم؛ وهذه الدّعوة تُذَكِّر هذه الطّوائف الثّلاث: اليهود، والنّصارى، والمشركين، بحقيقة هذه الدّعوة وكيف كانت إجابتهم!
 {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} أي: في أهلِ هذا البيت {رَسُولاً مِّنْهُمْ} من أهلِ هذه المحلّة والبقعة، ليس من الشّام، ولا من اليمن، ولا من مصر، ولا من أورُوبّا، ولا من الصّين (مِّنْهُمْ) ولابُدّ أن يكون منهم، واليهود يعرفون ذلك، والنَّصارى يعرفون ذلك، والمشركون يعرفون أنَّه سيُبْعَث في هذه المنطقة مِّنْهُمْ وهذا بداية التّصديق بنبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأنَّ محمَّداً - عليه الصّلاةُ والسّلام - هو إجابة لدعوة إبراهيم - عليه الصّلاةُ والسّلام -؛ ولذلك يقولُ النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم عن نفسِه: " أنا دعوةُ أبي إبراهيم وَبُشْرى أخي عيسى " ؛ لأنّ أخي عيسى بشَّرَ بي. ماذا قال الله - عزّ وجلّ - في سورةِ الصَّفّ قال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ولذلك قال الله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} فذكر مُهِمّات النَّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنَّهُ يُبْعَثْ في هذه الأُمّة، وأنَّ بَعْثَهُ فيهِمْ إجابة لِدعوةِ إبْراهيم بِلا شكّ، فمن أين لكم أيُّها اليهود أن تَدَّعوا أن يكونَ الرَّسولُ الخاتم منكم؟.
 ثمّ قال الله عزّ وجلّ: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وهذا خطاب للأُمم الثّلاث: المشركون، اليهود، النّصارى، وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} كلّ هؤلاء يُذَكَّرون باسمِ الإسلام، والإسلام - كما تعلمون - هو: الاستسلام لله بالتّوحيد، إسلام القلب لله؛ بأن لا يتَّجِه إلى أحدٍ سِوى الله -سبحانه وتعالى-. فالرّهبة، والخوف، والرّغبة؛ لغيرِ اللهِ -عزّ وجلّ- هو استسلامٌ لغيرِ الله؛ ولذلك ذكَّرَ اللهُ بِها مرَّةً أُخْرى بطريقةٍ أُخرى تاريخِيّة أيْضاً قال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} أيْضاً، وكلّ مَن جاء بعد يعقوب من الأنبياء وَصَّواْ بهذه الوصيّة. {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ 132 أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} نموذج، وهذا أكيد لتذكير اليهود؛ لأنَّ اليهود ينتسبون إلى يعقوب الّذي هو ( إسرائيل ) ويُنادى بنو إسرائيل بقولهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وإسرائيل بمعنى: عبد الله. يعني: يا بَني عبدِ الله! الّذي هو يعقوب، لكن يُذْكَر باسم ( إسرائيل )؛ تذكيراً لبني إسرائيل بعبودِيّة الله - عزّ وجلّ - وأنَّهم وآباءهم عبيدٌ لله، وعندما يُذْكَر يعقوب مستَقِلاًّ، يُذْكَر باسمِهِ الخاصّ الّذي سمّاهُ بهِ أبوه، أو الّذي سمَّتْهُ به الملائكة؛ لأنّ الملائكة لمّا بشَّرَت بشَّرَت بإسحاق ومن وراءِ إسحاقَ يعقوب. فانظر إلى الفرق: إذا جاء إلى التّعريفِ به شخصِيّاً ذُكِرَ باسمِهِ الّذي سمّاهُ به أهله، أو سُمِّيَ به من عندِ اللهِ - عزّ وجلّ - وإذا جيءَ إلى قومِه لا يُقال إلى عقبه ونسلِه، لا يُقال: يا بني يعقوب، يُقال: يا بني إسرائيل، يعني: يا بني عبدِ الله. تذكير لهم بماذا؟ بالعبودِيّة لله؛ فإنَّ يعقوبَ - عليه السّلام - كان عبداً لله مُوَحِّداً؛ ولذلك هنا يقول: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ} شيء ثاني ما فيه، لا عُزير، ولا عيسى، ولا الأصنام، ولا النُّجوم والكواكب إِلَـهَك {وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وجاء القصد هنا إلى إسماعيل، لماذا؟ لماذا يُذْكَر إسماعيل في هذا السِّياق؟ لبيان أنَّ الّذي جاء من عقِب إسماعيل هو محمّد عليه الصّلاةُ والسّلام، وأنَّ إسماعيل عليه الصّلاةُ والسّلام أبقى هذه الكلمة، ووصّى بِها بَنيه من بعدِه؛ حتى وَرِثَها محمَّدٌ صلّى الله عليه وسلّم ، ثمّ قال الله - عزّ وجلّ -: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ...} إلخ .
/ ثمّ عرض لقضيّة من قضاياهم، ودعوى من دعاواهم ومزاعمهم الباطلة؛ فقال: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ} ردَّهم إلى أقربِ شيء {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} المِلَّة الحنيفِيّة مِلَّة التّوحيد؛ هي الّتي فيها الهداية، وليس هناك هدايةٌ في أمرٍ آخر قال: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فهذا رَدٌّ على اليهود، وردٌّ على النَّصارى، وردٌّ على المشركينَ أيْضاً: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ} كُلُّهم على هذه الكلمة، وعلى هذه المِلّة، لا يختَلِفون عليها؛ فالأنبياء - كما ورد في الحديث - " أبناءُ عَلاَت " أديانهم مختلفة، ومِلَّتُهم واحدة، ( التّوحيد ) متَّفِقون عليه، لا يختَلِفونَ فيهِ بِحَمْدِ الله؛ ولذلك قال اللهُ - عزّ وجلّ -: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} أرادوا المُشاقّة، والمباعدة بالطّريقة الصّحيحة الّتي أراد الله - عزّ وجلّ - أن يستقيمَ عليها العِباد، وهي: طريقة التّوحيد وطريقة الرُّسُل {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللّهِ} هذا التّوحيد هوَ صبغةُ الله، وهو الّذي فطر الله عليه العباد، لو بَقِيَ العباد بدون أي مُؤثِّرات أخرى لَبَقوْا على التّوحيد فِطْرةَ الله وهنا قال: (صِبْغَةَ اللّهِ) والصِّبْغة: بمعنى الشَّيْء الّذي يبقى ويدوم، يعني: قد خالط هذه النّفس فلا يزول عنها ولا يتحوَّل، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} هذا تفسير لهذه الصِّبغة: أنَّ القلوب تتَّجِه إلى الله، ولا تعبُد أحداً سِواه.
 {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} يعني: إذاً الدّعوة في هذه الآيات كُلُّها إلى أمْرٍ واحد، وبيان هذه الحقيقة من وِجْهة تاريخِيّة، دَعونا من مزاعِمكم أيُّها اليهود، دَعونا من مزاعِمِكم أيُّها النّصارى، دَعونا من دَعاواكم أيُّها المشرِكين، دَعونا نرجِعْ إلى الأصلِ الأوَّل وهو: إبراهيم - عليه الصّلاةُ والسّلام - الّذي تجتمِعونَ عليه، وكُلٌّ منكم يدَّعيه على أيِّ شيْءٍ كان؛ ولذلك سكت اليهود، سكت النّصارى، سكت المشركون، وما استطاعوا أن يُجيبوا عن هذه الحقائق التّاريخِيّة الدّامغة الّتي لا تقبلُ جِدالاً، ولا تقبلُ شكّاً.
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى} هل هؤلاء كانوا هوداً أو نصارى؟ وهم قبل اليهود، وقبل النّصارى، وقبل أن يأتِيَ موسى، وقبل أن يأتِيَ عيسى بقرون طويلة جدّاً هذا هو دينُهم، فكيف يُزْعَم لهم أو يُنْسَب إليهم أنَّهم يهود أو نصارى؟ ! لا، قال: {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
 لمّا انتهى من هذه القضيّة، وكانت قضيّة مناسبة، وهي ذكر إبراهيم عليه السّلام انتقل إلى قضيّة وقعت فيها خصومة، وكانت هذه الخصومة محلّ ابتلاء وفتنة، وهي قضيّة: (تحويل القبلة) فكان النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم -ما لم يُؤمَر بشيْء- يحرص على أن يُوافق اليهود والنّصارى؛ لأنّه عليه الصّلاةُ والسّلام يعلم أنَّهم أهلُ الكتاب، وهذا من فقهه عليه الصّلاةُ والسّلام؛ لأنَّهُ يعلم أنَّ ما عندَ اليهود والنّصارى ليس كُلُّهُ محرَّفا، بل فيه ما هو محرَّفا وفيه ما هو موافق للحقّ؛ ولذلك كان يجتهد في أن يُوافقَهم فيما لَمْ يُؤمَر بِخِلافِه، فلمّا كان عليه الصّلاةُ والسّلام لمّا فُرِضَت عليه الصّلاة يتَّجِه إلى بيت المقدس، وكان من حرصِه على أن يُوافِقَ يعني: البيتيْن ويستقبل القبلتين كان يجعلُ الكعبةَ في وجْهِهِ مُتَّجِهاً إلى الشّمال، فهو يستقبل بيت المقدس والكعبة عليه الصّلاةُ والسّلام، وكان مُتَحَيِّراً في هذا الأمر؛ لأنَّهُ لم يُؤمَر بِأمرٍ خاصٍّ به، وبقي مُتَحَيِّراً عليه الصّلاةُ والسّلام حتى بعدَ الهجرة، وهو يُطيل النَّظَر إلى السّماء، ويسألَ الله -سبحانه وتعالى- أن يقضِيَ له فيه؛ لأنَّهُ يُريد قبلةَ أبيهِ إبراهيم، ومع ذلك يُحاول أن يُوافِقَ أهلَ الكتاب في قبلتِهِم الّتي كان عليها كثيرٌ من الأنبياء، وهم بالخصوص أنبياءُ بني إسرائيل، وكان هذا أمراً مُحَيِّراً ومُشْكِلاً، وهو في الوقت ذاته في حَيْرة من جهة أخرى، إن بَقي قال المشرِكون: كيف تَدَّعي أنَّك تَبَع لإبراهيم وَمُجَدِّد لِمِلَّته، وأن تُعْرِض عن قبلته، وإن غَيَّر قال اليهود كيف تركت قبلةَ الأنبياء قبلك وأنت تَدَّعي أنَّك جئت بدين يُوافِقُ دينَهم ؟ فكان الأمر فيه شيْءٌ من الحَرَج والمشقّة على رسولِ اله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّهُ يعْلَمْ أنَّها ستكون مصدر فتنة، فتنة عقَدِيّة؛ لِمَنْ لا يستسْلِمون ولا يطْمَئِنّون لأمرِ اللهِ - جلّ وعلا -. وبالفعل عندما نزلت آيات النّسخ، نسخ استقبال بيت المقدس إلى الكعبة صارت فتنة، فرح المشركون وقالوا لقد تاب إليْنا محمّد، وأمّا اليهود فقالوا: قد نكص محمَّدٌ على عَقِبَيْه يزعم أنَّهُ يَتْبَع الأنبياء قبله وقد ترك قبلتهم. وهنا: جاءت الآيات تُعالِج هذه القضيّة بكثير من القوّة والحَسْم والبيان بأنَّ محمَّداً صلّى الله عليه وسلّم عبْدٌ لله يأمُرُه؛ فيأتمِر، وأنَّ هذا لله - جلّ وعلا - . وقد قُدِّم لهذا بقوله في الآيات السّابقة قبل صفحتَيْن فقط: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} الله هو الّذي يتوَلاّكم، ويأمُرُكم بأن تُوَجِّهوا وُجوهَكم في صلاتِكم إلى الجهة الفُلانيّة، أو الجهة الفُلانيّة، وحيثُ ما اتّجهتُمْ بأمره فقد عَبَدْتُموه وأطعْتُموه؛ ولذلك قال الله - عزّ وجلّ - : {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ؛ لأنّه كان يُحبّ أن يُوَجِّه وجْهَهُ إلى البيت الّذي بناهُ أبوه، والبيت الّذي طُرِدَ من عنده عليه الصّلاةُ والسّلام {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} يعلمون أنّ هذا هو الحقّ {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} يعني : لا يقع يا محمّد في نفسِك شيْءٌ من الرَّيْب أو العَنَتْ والمشقّة في كوْن هؤلاء سيُخَرِّبون عليك ويُعاتِبونك ويَذُمّونك ويتَّخِذون ذلك وسيلةً للنَّيْلِ منك، أو الانتقاص من قَدْرِك، أو فتنةَ النّاس في دينك لو جِئتَهم بِكُلِّ شيء، لو وافَقْتَهم في قبلَتِهم لَنْ يَتَّبِعوك، لو خالفتَهم لن يتَّبِعوك إذاً عليك أن تتبَع الحقّ وأن لا تَلْتَفِتَ إليهم، وهذا فيه آية ودرس لنا - يا إخوان - ألاّ نُقَدِّمْ دينَنا ضَحِيّة؛ لأجلِ عيون، أو سواد عيون أعدائنا من أجل أن نُرْضِيَهم بهذا الدّين، نذْكُرُ الدّين بحقائقِه وَقِيَمِه وعقائدِه دون أن نوارب في ذلك أو نتخاذل، أو ...، أو نتطامن، أو نحاول أن نُمَيِّعْ القَضايا الشرعِيّة؛ لِنُرْضِيَ الطّائفة الأُخرى ، مَن أراد الله به خيراً وهو يُريد أن يُؤمن فإنَّهُ سيُؤمن، والحقائقُ الشرعيّة لن تزيدَهُ إلاّ إيماناً، ومَن لم يُرِدِ الإيمان لوَ جِئْتَهُ بِكُلِّ آية ما تَبِعَك، ولا آمن، إنَّما مقصودُه أن ينتَقِص من دينِك شيْءً فَشَيْئا، فمهما جئت من آيات، ومهما بَذَلْت من طُرُق ما ينتفع؛ كما قال الله - عزّ وجلّ -: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}[يونس:101] .
 اسمعوا أحِبَّتي: يقول اللهُ - عزّ وجلّ -: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} يعني: دَعْكَ من موضوع القبلة يا محمّد، هم يعرفونك ويعرفون أنّك نبيّ مُرْسَل كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ،رُوي عن عبد الله بن سلام أنَّهُ قيل: هل تعرف محمَّد كما تعرِفُ ابنَك ؟ قال: "واللهِ إنّي لَأَعْرِفُهُ أشدّ من معرِفَتي لابني -يعني: لقد رأيْت الآيات الّتي أستدلّ بها على نبوّةِ محمَّدٍ صلّى الله عليه وسلّم- لكنَّ ابني لا أدري مَن خَلَفَني على أمّه لو خرجت في سفر، ثمّ واقَعَها رجل فجاء لي ابنٌ منها ما عرفت هل منّي أو من غيري، أمّا هذا فأنا أعلم بالأدِلّة القاطعة والبراهين السّاطعة أنَّهُ رسولُ الله الّذي وُعِدْنا به في التّوراة وفي الإنْجيل" ولذلك قال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} لا تترُك أمر رَبِّك يا محمّد؛ لأجلِ سوادِ عيونِ هؤلاء، أو لِإرْضائهم، ويقع في قلبِكَ شَيْءٌ من ذلك، ولذلك يأتي التّأكيد مرَّتَيْن على ضرورة التَّوَجُّه للقبلة وإلى الكعبة من دونِ تَرَدُّد {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ) بأيِّ مكان (فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
  وبعدَ هذا - يا إخواني - يأتي تجديد الحديث لهذه الأُمّة المحمَّدِيّة، هذه الأُمّة - يا إخواني - يُجَدَّد لها الحديث في أهمّ قضيّة؛ مثل ما بدأت السّورة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} هنا يبدأ الحديث مُجَدّداً عن التّوحيد، وقبل التّوحيد يُتَحَدَّث عن أمر مهمّ جدّاً وهو كتمان ما أنزل الله -سبحانه وتعالى-؛ فإيّاكم أيُّها اليهود أن تَكْتُموا ما أنزل عليكم من الكتاب! وإيّاكم يا أُمّةَ محمَّدٍ أن تكتموا ما أنزل الله عليكم من البَيِّناتِ والهُدى؛ فإنَّ الدّينَ واضح وبيِّن وساطع؛ ولذلك قال الله -عزّ وجلّ-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.
 ثمّ يأتي الحديث عن التّوحيد بدلائلِهِ فتبتَدِئ بقولِ الله -عزّ وجلّ-: {وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ويستمرّ الحديث عن التّوحيد في عامّة هذا الثُّمن، ما دليل التّوحيد؟ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} هذا دليلُ التّوحيد.
 ثمّ يذكر لوْناً من ألوان التّوحيد القلبي؛ وهو: الحبّ الّذي يغمُر قلوبَ المؤمنين، ويتخلَّف عن المشركين؛ فيقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} مَن أحبَّ اللهَ حَقّاً لم يتَّخِذْ مِن دونِهِ أنْداداً.
 ثمّ يُذَكِّر الكفّار بموقِفٍ عصيب سيمُرّونَ بِهِ يَوْمَ القِيامة على جهة الوعيد؛ فيقول: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.
 وبعد هذا: يعود إلى التّذكير بنِعَمِ الله الدّالّة على وُجوب اتِّباع أمْرِه وألاّ - لاحظوا يا إخوان - بعد ما ذكر التّوحيد لله، ذكر من أعظم الأشياء الّتي تَصُدُّ النّاس عن التّوحيد هو الشَّيْطان؛ مثل ما قال في أوّل السّورة: من الّذي أخرج أبانا آدم من الجنّة ؟ بعد ما ذكر قضيّة التّوحيد، ذكر قصّة أبينا آدم مع الشَّيْطان . هنا نفس العمليّة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وأعظم السّوء والفحشاء هو الشرك؛ ولذلك قال الله مُحاجّاً هؤلاءِ الّذينَ يَتَّبِعون، أي: يتَّبِعون آباءَهم، ويُقَلِّدونهم في موضوعِ الشّرك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} ثمّ يَضرِب المَثَل على طريقة القرآن في تصريفِ القول يعني في تلوينِهِ وتنويعه، يُنَوِّع، ويأتي بأساليب كثيرة كالجيوش، تأتيك من كُلِّ جانب: مَيْمَنَة وَمَيْسَرة، وصدر، وعجز، وسهام، ورماح، وسيوف، وتروس، ودروع، وخيول، وكلّ هذه الأشياء هذه جيوش الأدِلّة تأتيك من كلِّ جانب؛ فمرّة تذكير بِخَلْقِ السّماوات، ومرّة تذكير بالوَعْد والوَعيد، ومرّة التّحذير من الشَّيْطان ووساوسه، ومرّة التّحذير من اتِّباع الآباء وتخليدهم.
 ثمّ ضَرْب الأمثال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني: في شركهم {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} يعني: مثلاً الكافر إذا دعا آلِهَةً غيرَ الله؛ كمَثَلِ الرّاعي عندما يدْعو الغنم ماذا تسمَعُ الغنم من دعائه، ماذا تفهم من كلامه؟ ما تفهم إلاّ الصّوت؛ مجرَّد الصّوت فقط، وإلاّ ما تُمَيِّز هذا الكلام، ولا تَعْرِف حقيقَتَهُ؛ كذلك هؤلاءِ المشركين على أحسنِ أحوالِهم لو سَمِعوا ما سَمِعوا إلاّ صَوْتاً، وإلاّ فَهم لا يعرِفون .. لا ينفعون .. لا يَضُرّون .. لا يعقِلون .. لا يسمعون كما قال الله هنا: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}.
 ثُمّ قال الله - عزّ وجلّ - مُبَيِّناً وجوبَ هذا التّوحيد بالتّذكيرِ بالنِّعَم مَرَّةً ثانية، المرّةِ الأولى جاء بِـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في هذه المرّة، ماذا ؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} دعاءٌ خاصّ بعدَ الدُّعاءِ العامّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمّا ذكر الأكل من الطَّيِّبات ذكر أنّ المشركين تَعَدَّواْ حُدودَ الله، فَحَرَّموا أشياء أحلَّها الله، وأحَلّوا أشياء حرَّمَها الله، وَاعْتَدَواْ على حقِّ الله في التّحليل والتّحريم، وهنا هذه الآيات تُخْبِرْنا بأنَّ التّعَدّي على حقِّ الله في التّحليل والتّحريم قادِحٌ في التّوحيد؛ ولذلك قال النَّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) [التوبة:31] قال عَدَيّ بن حاتم: يا رسولَ الله ! إنّا لم نَعْبُدُهم " قال: أَلَيْسوا يُحِلّونَ ما حرَّمَ الله فَتُحِلّونَه، ويُحَرِّمونَ ما أحلَّ الله فَتُحَرِّمونَه؟ قال: بلى. قال: فَتِلْكَ عِبادتهم " تأمَّلوا هذا جيِّداً - يا إخوان - إذاً هنا يأتي للتأكيد على أنَّهُ ليس لِأحَدٍ حقّ بأن يُحَلِّل أو يُحَرِّم أو يَعْتَدي على هذا الحقّ الإلهي؛ فيقول للنّاس لا تأكلوا أو كلوا في شيْءٍ قد أحلَّهُ الله أو حرَّمَه ؛ فَيُخالِف أمْرَ الله .
 ثمّ يعود مرّة ثانية لمثل ما ذكَّرَ به في أوَّلِ الثُّمُن؛ وهو: كتمان ما أنزلَ الله. 
وهذه القضيّة - يا إخوان - ذكرت لكم أنَّها ستكون واضحة وبارزة لنا في هذه السّورة؛ ما يُذْكَر شيء إلاّ ويُعاد التأكيد عليه مرّةً أخرى لماذا؟ لأنَّ النّفس البشريّة ما تستجيب من أوَّل وهْلة، ما تطمَئِنّ لِتَقْبَل من أوّل مرّة، تحتاج إلى أن يُعاد عليها الشَّيْء ويُكَرَّر عليها؛ لذلك نحن -ونحن من أهلِ الإسلام- كُلما ذُكِّرْنا بشيْء من شرائعِ الإسلام؛ حتى الّتي نقوم بها ونعملْها ونعاتب أنفُسْنا يومِيّاً عليها، نتذكّر ونستفيد ونتَّعِظ أليس كذلك - يا إخوان - ؟؟ الآن لَوْ يُذَكِّرْنا واحد بِبِرِّ الوالِدين، ما نتَّعِظْ من كلماته ؟ وكلُّنا ما نختلف على برِّ الوالِدَيْن، ولا واحد منّا -وَلِلَّهِ الحمْد- يتمنّى أن يكونَ عاقّاً لوالِدَيْه، أليس كذلك؟ إذاً {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:55] هذا هو دَيْدَن القرآن.
 دَيْدَن القرآن: أن يأتي على جهةِ المَثاني ، يعني: أن تُكَرَّر فيه الأحكام والأوامر والأدِلّة والحقائق مرَّة بعد أخرى.  قال الله - عزّ وجلّ - : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا} ماذا ؟ (مَّثَانِيَ) يُؤتى فيه بالوَعْد والوَعيد، تُضْرَب فيه الأمثال، يُؤتى فيهِ بالأدِلّة والبراهين، شيْءً إثْرَ شيء؛ حتى تستقيمَ الأنْفُس وتستجيبَ لأمرِ اللهِ -جلّ وعلا- .
هنا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ} هذا تهديد نهائي لليهود .
 الآن كأنَّ الآيات بدأت تختم تماماً بعد ما ختمت قبل قليل في دعوتهم، الآن تُبَيِّن كتمانَهم، وتختم في وعْظِهم في هذا الكتمان، وفي أعظمِ القضايا وهي: قضيّة التّوحيد: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} مَن هم الّذينَ اختلفوا في الكتاب ؟ اليهود والنّصارى.
 انتهى من قضيّةِ التّوحيد مع مُحاوَرة ومناظرة ومجادلة، وَضَرْب أمثال، ووَعْد ووعيد، وموعِظة ، ونداء ... إلخ ما هنالك، ماذا بقي بعد التّوحيد؟ الآن يأتي فصْلُ الشَّرائع: العبادات، المعامَلات، الواجبات، المحَرَّمات، المأمورات، المنهيّات، وتُسْتَفْتَح بقولِ اللهِ - عزّ وجلّ -: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ} هذه آية البرّ الّتي بيَّنَ الله -عزّ وجلّ- فيها حُجّة على اليهود والنَّصارى والمشركين؛ مَن أراد أن يكونَ منكم بَرّاً في كُلِّ الأديان ، في كُلِّ الشَّرائع لا يختلف الأنبياء على هذه الآية، مَن أراد أن يكونَ من أهلِ البِرّ؛ فعليه: أن يُؤمِن بالله، ومَلائكته، وكتُبِه، وَرُسُلِه، واليوم الآخر، وَبِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه، و أن يُؤتِيَ المالَ على حُبِّه: ذَوي القُرْبى، واليتامى، والمَساكين، وابنِ السَّبيل، والسّائِلين، وفي الرِّقاب، وأن يُقيمَ الصّلاة وأن يُؤتِيَ الزّكاة، وأن يُوَفِّيَ ماذا ؟ للعهد ماذا قال لبني إسرائيل ؟ (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ، {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فجاءت آية البِرّ آية مُجمَلة؛ ليأتي شرحُها وتفْصيلُها إلى نهاية السّورة؛ كلّ ما جاء بعد آية البِرّ، فهو شرْحٌ لِآيةِ البِرّ، وإيضاحٌ لحقيقَتِه، وبيانٌ لمقاصِدِها، وتفصيلٌ لمَضامينِها؛ سبحان الله! ما أعظم كتابَ الله! وأجمَل هذا النَّظْم فيه! يُذْكَر الشَّيْء مُجْمَلاً ثُمَّ يُفَصَّل، ويُجْمَع ثُمّ يُفَرَّق، وتُجْمَع عليه القلوب والعقول، ثمّ يبدأ في التّفاصيل، ويذكر القضايا ، ويدخل في الشِعاب والأودية، شعاب التَّشْريعات، وأوْدِيَة المأمورات؛ حيثُ يذكر لك ذلك كُلِّه ليعود كما بدأ مرّةً أخرى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ} يعني: مهما تفَرَّقَت هذه التّشريعات وتشَّعَبت ودخلْت في أودِيَتِها؛ فإنّها ستكون كالحلْقة تعود بك إلى أوَّل نقطة: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ}.
 وهنا يأتي السُّؤال - يا إخواني - لقد ذكر خمسةً من أركانِ الإيمان بالله، ولم يَذْكُر الإيمان بالقَدَر فلماذا لم يُذْكَر الإيمان بالقَدَر؟
قال العلماء: الإيمان بالقَدَر هو حقيقتُه الإيمان بقدرةِ الله والإيمان بقدرة الله إيمانٌ بصفةٍ من صفات الله إذاً فهو جزءٌ من الإيمانِ باللهِ - عزّ وجلّ - فأغنى ذِكْرُهُ في هذا الموقف وفي سورة النِّساء ذكر الإيمان بالله عن الإيمان بالقَدَر، وإلاّ أدِلّةُ الإيمانِ بالقَدَرِ في القرآن مبثوثةٌ وَكثيرَةٌ جدّاً وهو ثابِتٌ عندَ أهلِ الإسلامِ قاطِبَةً لا إشكالَ بينَهم في ذلك بحمدِ الله.
 ثمّ ذكر أعمالَ البِرّ . ولاحِظوا - يا إخواني - أنَّهُ ختمها بخصلَتَيْنِ عظيمَتَيْن أو ثلاث خصال فقال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ) وهذا ربط بين الأوامر الّتي جاءت لهذه الأُمَّة المُحَمَّدِيّة، والأوامر الّتي جاءت لأُمَّةِ بَني إسْرائيل.
 قال: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ) تذكيرٌ بأمرِ الصّبر الّذي عليه الأمر وعليه النَّهي، وعليه القَدَر، يعني: يجب على المؤمن أن يصبر على الأوامر، ويصبر عن النّواهي، ويصبر على أقْدارِ اللهِ المُؤْلِمَة؛ ولذلك قال هنا: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ) حين البأس يعني: حين القتال.
 (أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) مَن قام بهذه الأوامر كُلِّها هؤلاء هم الصّادِقون حقّاً؛ فدَعونا من الادِّعاءات، وَدَعونا من المزاعم (لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى) وقولهم فيما قبل: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ) كلُّ هذه المزاعم لا عبرةَ بها، مَن جاء بهذه الحقائق فهو المؤمن، وهو من الصّادقين.(وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)
ونلاحظ -يا إخواني- إعادةُ اسم التَّقْوى في هذه الآية الّتي جاءت متى؟ في أوَّلِ السّورة في قولِ اللهِ تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) وهنا: (وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، ثمّ تأتي التَّفْصيلات.
 فبدأ بالتّفصيلات بأمر القَصاص: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وخُتِم القِصاص بذكر التّقوى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
 ثمَّ ثُنِّي بالوصيّة {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} فالمُتَّقي هو الّذي يستجيب لأوامرِ الله في كلّ الأحوال .
 ثمّ ثَلَّث بالصِّيام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وَيُفَصِّل في أمرِ الصِّيام، ويذكُرُه على وجه التّفصيل في هذه الآيات؛ لأنّ الصّيام لم يُذْكَر في القرآن إلاّ هنا، بخِلافِ الحَجّ، الحجّ ذُكِرَ مُفَصَّلاً في سورةِ البقرة، لكن ذُكِرَت بعْضُ أحْكامِهِ أيضا في سورةِ آلِ عِمْران وَفي سورةِ الحجّ، ذُكِرَت هنا في سورة البقرة، وَذُكِرَت أيْضاً بعْضُ تفصيلاتِه في سورة الحجّ، وفي سورةِ آلِ عِمْران. الصِّيام ذُكِرَ هنا فقط؛ ولذلك جاءت الآيات مبَيِّنة في أحكام الصِّيام، وأحكام العبادات الّتي ترتبِط بالصِّيام
 منها: قراءة القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ومنها: الدُّعاء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 
ومنها: الاعتكاف قال اللهُ عزّ وجلّ {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
 لمّا كانت هذه الأمور الثّلاثة مرتبطة بالصّيام ذكرها في ثنايا الحديثِ عن الصِّيام، وَخُتِمَتْ آياتُ الصِّيام بمِثْلِ ما افْتُتِحَتْ به؛ افْتُتِحَتْ بالتَّقْوى، واخْتُتِمَتْ بالتّقوى قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}وهنا قال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
 وهنا يأتي سؤال: بعد ما ذكر آيات الصِّيام ذكر آيات الأموال قال: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} العجيب في الأمر - يا إخواني - وتأمَّلوا هذا معي جيِّداً، أنَّ آيات الصِّيام حُفَّت بِآيَتَيْن، أو بآياتِ أموالٍ قبلَها وبعدها، كيف؟؟ قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (181) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
ولمّا انتهت آيات الصّيام، جاء بآيات الأموال، وذكر آيات الرِّشْوة للحُكّام؛ فقال: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}
 ألا يبدو هنا سؤال مهمّ جدّاً: ما صِلة الصِّيام بالمال؟ 
الجواب: أن يُقال؛ الصِّيام يُرَبّي النّفوس على التّقْوى، وعلى الخوف من الله؛ لأنَّهُ عبادةٌ خَفِيّة. الصّلاة: عبادة يراها النّاس، المال يراها مَن يُتَصَدَّق عليه في أسْوَأ الأحوال، أو تعطيهِ زكاةَ مالك، الحجّ معروف أنَّه مشهد جماعي، الصِّيام مشهد خَفيّ، نحن الآن لا نعرف مَن هو الصّائم فينا، ولا ندري عنه يصوم الإنسان بيننا، ويمكنه أن يُفْطِر دون أن يشعر أحدٌ به . فلمّا كان الصِّيام يُرَبّي على الخشية وعلى الخوف من الله، ناسبَ أن يُذْكَرَ قبلَهُ آياتُ أموال، وبعْدَهُ آياتُ أموال؛ لأنَّهُ لا ينجح في قضايا الأموال إلاّ مَن كانت عنْدَهُ خشية تامّة لله، وخوف من الله؛ لأنّ المال كما يُقال قَسيم الرّوح، والنُّفوس تبيع كلّ شيء من أجل المال، فإذا لم يكن فيها مقدار كافي من الخشية والخوف من الله؛ فإنَّها تقع في الخيانة، قد تخون في أمرِ الوصيّة، وقد تخون في أمر الحكم وبذْل الرِّشوة وقَبولِها؛ ولذلك جاء الحديث عن الصِّيام متوَسِّطاً آيات الأموال. 
ثمّ جاء الحديث، بعد الحديث عن القِصاص والوصيّة والصّيام والعبادات الّتي في وسط هذا الصّيام، ذَكَرْنا منها ثلاثاً وهي أكثر ذكرنا: قراءة القرآن، والدُّعاء، والاعتكاف، ويمكن أن تزيد عليه: صلاة العيدين، والتّكبير {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
/ ثمّ جاء الحديث عن الحجّ، لكن افْتُتِحَ الحديث عن الحجّ بأمر مُهمّ جدّاً، وهي مسألة عرَضَت للصّحابة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ) سأل الصّحابة النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلَّم ، قالوا: " يا رسولَ الله ! " لِمَ يَبْدو الهِلالُ دَقيقاً ثُمَّ يَكْبُر ثمّ يكْبُرْ حتى يكْتَمِلْ، ثمّ يعود مرَّةً أخرى " فالنَّبيّ صلّى الله عليه وسلَّم قال: هذا سُؤالٌ جوابُهُ لا يُفيدُكُمْ ، ما تستفيدون منه، لكن خُذوا العِبْرَةَ منه، الله - عزّ وجلّ - جعَلَهُ على هذا النَّحو؛ ليكون مواقيت للنّاس، فيعرف النّاس هل هو في أوَّلِ الشّهر، أو في آخِرِه، أو في وسطهم من خلال رُؤيَتِهم لصورةِ القمر؛ ولذلك قبل زماننا قبل السّاعات كانوا يعرِفون في أيّ يوم من الشّهر هم من خلال نظرهم إلى هذه السّاعة الكبيرة -الهلال- يقول لك اليوم ثالث اليوم الرّابع، اليوم سابع، اليوم ليلةَ النِّصْف من الشّهر، اليوم نحن في 28، اليوم ما نرى شيء نحن في 29، أليس كذلك ؟ - يا إخواني - فكان هذا تقويم أو رزنامة موجودة على صفحة السّماء، واضح ؟
قال الله - عزّ وجلّ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ) سُؤالاً لا ينفعُهم في حقيقَتِهِ لكن ينفعهم منه الثّمرة وهي: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) ما أجمل هذه البداية، بعد ما ذكر السِّياق ثنّى بالحجّ ودخل للحجّ من طريقة سؤال عرض للصّحابة فأجاب عنه، وأدخلَ موضوعَ الحجّ.
 ثمّ قال: (وَلَيْسَ الْبِرُّ) على طريقةِ القرآن في التّذكير بالأمر مرَّةً بعدَ أخرى طريقة المَثاني، {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} بيَّن عادة كانت موجودة عندَ العرب، وهي: أنَّ الرَّجُلَ إذا أراد أن يَخْرُجَ للحجّ، أو جاء منه، لم يدخُل من بابِ البيت، وإنَّما نقب البيت نَقْباً، وهذا من العدوانِ على الله في أحكامه، فقد شَرَعوا شَيْءً لم يأْذَنِ اللهُ به . فالعقائد تُصَحَّح من خِلال إنزال الأحكام وإجابة الأسئلة سبحان الله ! . طيّب ،
(وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) عجيب ، ما استمَرّ في موضوع الحجّ قال ماذا ؟
(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ) ما صلة أن يُقاتَلَ في سبيلِ الله بالحجّ ؟
واللهِ هذه تحتاج إلى تفكير، مَن يُجيب؟
 نعم أَيْ الحجّ جِهاد (عليهنّ أو عليكنّ جهادٌ لا قتالَ فيه) ، فصورة الحجّ هي صورة الجهاد، صورة الحجّ الظّاهرة هي صورة الجهاد، تخرج من بيتِك تترك مالك وأهلك، وتذهب في طريق، قد تسلم فيه وقد لا تسلم، وتصل إلى بيت الله تتجرَّد من الدّنيا وما فيها، وتلبس كفنك أو إحرامك تتشبَّه بالموتى، وتقول: " لبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْك " إجابةً لندائك بعدَ إجابة، وإقامةً على طاعاتك بعدَ إقامة، وتُنْذِرْ نفسِك لله، تبذل مالك وبدنك، ما حقيقة الجهاد - يا إخواني - ؟ ما هي حقيقةُ الجهاد ؟ أنَّك تخرج لقتال أعداء الله وقد بذلت المال والنّفس، وهذه حقيقة الحجّ، فلمّا أراد أن يَذْكُرَ الحجّ، ذكرَ في مُقَدِّمَتِهِ الجِهاد الّذي يُحْفَظُ بِهِ الدّين، والحجّ أيْضاً يُحْفَظ به الدّين، ماذا قال الله في سورة المائدة ؟ قال: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) ما يزال الدّين قائماً ما كان الحجُّ باقِياً ، إذا توقَّفَ الحجّ اندثر الدّين وحقَّت عقوبة الله على العالَمين، وقامت القيامة (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) فيقوم أمْرَ النّاس، وأمْرَ الدُّنْيا، والشَّمْس باقِية في سمائها، والسّماء باقِية في مكانِها، والنُّجوم باقِية في عَلْيائِها، ما دامت الكعبة في مكانِها، فإذا هُدِمَتْ الكعبة، وتوقَّفَ الحجّ، خلاص أذِنَ الله بزوال الأرض وما عليها، والجهاد بقاءٌ للدّين، متى بَقِيَ الجهاد في سبيلِ الله بَقِيَ الدّين وبَقِيَ أمْرُ المسلمين عالِياً؛ فلذلك جاء التّذكير بالجهاد: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) .
وهذه كما يذكرُ العلماء، المرحلة الثالثة من مراحل تشريع الجهاد. 
المرحلة الأولى: تحريم الجهاد. 
المرحلة الثانية: الإذِن بالجهاد والقتال لِمَن قاتلنا (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) .
والمرحلة الثالثة: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) الأمر بمقاتلة مَن يُقاتلنا .
والمرحلة الرابعة والأخيرة: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)
هل هذه المراحل الثّلاث منسوخة بالمرحلة الرّابعة؟ إن قلت نعم، فالجواب صحيح. وإن قلت لا، فالجواب أيْضاً صحيح. نعم، هي منسوخة لِمَن كان حالُهُ كحالِ رسولِ الله استتبّ أمرُه وقامت دولتُه، وصارت له القُوَّة والتَّمَكُّن، فهذا في حقِّهِ لا يجوز أن يعمَل من أيٍّ من المراحل الثّلاث الأولى. فإذا عاد حال المسلمين إلى الضَّعْف والذُّلّ والتَّفَرُّق وغلبة الأعداء وتسلّطِهم عليهم عاد لهم من المراحل بقدرِ ما يُناسبهم، إن كانوا ضُعَفاء جدّاً، وليست لهم دولة، ولا راية، ولا فَيْأة؛ فيَحْرُمُ عليهم الجهاد ما يجوز لواحد ولاّ خمسة ولاّ عشرة يجيزون الجهاد في سبيلِ الله. وإن كان لا، لهم دولة لكنَّها ضعيفة مُحاطة بِدُوَل الكفر الّتي تتربص بها سوءً أو شَرّاً، فَهُنا نقول: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) يُباح لكم أن تُقاتِلوا مَن ظلمكم فقط يُباح، يُباح ولا يجب، فإذا قَوِيَت شَوْكَتُهُم وتمَكَّنوا، وصار لهم حُلفاء وأنصار، وصار عندَهم دُرْبة على القتال، وصار كثير من الأعداء يهابونهم، هنا يُقال: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ) يعني : دَعوا مَنْ لَمْ يُقاتِلْكُمْ (إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) فإذا هَيْمَنوا وسيْطَروا وصار لهم قُوَّة، وصار الأعداء يَرْهَبونَهُمْ، وصار النّاس يبحثون عن عقد صلات ومصالحات معهم صار جانبهم مرعوباً عندَ ذلك يُقال: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) ولذلك جاءت هذه الآيات؛ مُبَيِّنَةً حقيقة القتال وما يتّصل به، وبين ذكرِ القتال وذكر الحجّ قال: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أمر بالإنفاق، وبيَّن من أعظم وجوه الإنفاق: الإنفاق في سبيلِ الله؛ ما هو الإنفاق في سبيلِ الله؟ يعني في أمرِ الجهادِ في سبيلِ الله؛ لأنّ به يُحْفَظُ الدّين، ويُحْمى بيضة الإسلام ، ويكونُ الدّين قائماً ثابتاً عالِياً منصوراً وَأنْفِقوا في سَبيلِ اللهِ وَلا تُلْقوا بِأَيْديكُمْ إلى التَّهْلُكة وليس إلقاءُ اليدِ إلى التَّهْلُكة أن لا يُقاتل الإنسان ناس كفّار ، بل إلْقاءُ اليدِ إلى التَّهْلُكة هو أن يقعد النّاس ويذروا الجهاد في سبيلِ الله ؛ كما بيَّنَ ذلكَ أبو أيّوب الأنصاري .
 ثمّ دخلت الآيات في موضوع الحجّ على طريقة القرآن في أن يُقَدَّم الشَّيْء بمقدِّمة ، ثمّ يُنْتَظَر عليه حتى تشتاق النّفوس للحديثِ عنه، ثمّ يبدأ الحديث عنه.
 قال: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) وذكر أحكام الحجّ، وهذه الآيات نزلت في قضيّة الحُدَيْبِية عندما مُنِعَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم، وأُحْصِر؛ ولذلك قال الله: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وقد افْتُتِحَت آياتُ الحجّ بالتّقوى، واخْتُتِمَتْ أيْضاً بالتّقوى فقال الله في آخر الآيةِ الأولى : (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وقال في آخِرِ آياتِ الحجّ : (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أرأيتم كيف - يا إخواني -؟ افتُتِحَت بالتّقوى مثل آيات الصِّيام واختُتِمَت أيْضاً بالتّقوى .
 في هذه الأثناء بدأ الحديث عن أصناف النّاس مرَّةً أخرى، لكن من وين بدأ؟ من آخر ونهايات آيات الحجّ قال الله - عزّ وجلّ - : (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) اسمعوا يا إخواني ! التّفصيل في أقسام النّاس :
(فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .
 (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) .
 (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ).
 فهنا ذكر أصنافَ النّاسِ بقولِه (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ) وهذا حالُ المشركين الّذين لا يعرفون الآخرة ولا يُؤمِنونَ بها، ولا تعْنيهِم في قَليلٍ ولا كثير، ولا قَبيلٍ ولا دَبير.
 ثمّ ذكر الصنف الثاني وهم أهلُ الإسلام الّذينَ يقولونَ (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
 ثمّ ذكر الصّنف الثالث وهم المنافقون الّذين قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ).
 ثمّ جاء بالصّنف المُقَرَّبين اللي فوق المؤمنين والمسلمين (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) هؤلاء يَشْرون الآخرة بالدّنيا كلِّها، ويبيعون هذه الدُّنيا الفانية من أجلِ أن يَرْضى عنهم ربّهم؛ كحالِ صُهَيْبٍ الرّومي الّذي نزلت فيه هذه الآية؛ فإنَّ صُهَيْباً لمّا أراد الهجرة لَحِقَهُ المشرِكون يريدون أن يردّوه وأن يثنوه عن الهجرة ؛ قال: "فوقفْتُ على رَبْوَةٍ وَأخْرَجْتُ سِهاماً من كنانتي، ثمّ وجَّهْتُها نحو القوم، وقلت: واللهِ لا تَصِلوني حتى أُفْرِغَ عليكم هذه السِّهام، ولا يكونُ السّهمُ إلاّ في جسدِ واحدٍ منكم" فتوقّفوا ، ثمّ قال: "أَوَ لا أَدُلُّكم على خيْرٍ من ذلك؟ إن كنتم تُريدون أن تثنوني لأجلِ مالي، فإنَّ مالي بمكانِ كذا وكذا فخُذوا، فاذهبوا إليه وخذوه كُلَّه". قالوا: رَضينا منك بذلك فرجعوا أخذوا مالَهُ الّذي لم يأْخُذْ منه شيْءً) فجاء صُهَيْبٌ الرّومي إلى المدينةِ النَّبَوِيّة وليس معه من مالِهِ قليلٌ ولا كثير، فاستقبلَهُ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم بتلك الجملة والعبارة العظيمة التي فيها أعظم بشارة، لهذا الرجل العظيم -صُهَيْب الرّومي- قال له: " رَبِحَ البَيْعُ يا أبا يَحْيى، رَبِحَ البَيْع " بعْت الدُّنيا بجنّة عرْضُها السّماواتُ والأرض، واللهِ لا يُخَيِّبُكَ الله، هل بالفعل ذهبت على صُهَيْب دُنياه وبقي فقيراً إلى أن مات؟ كان من أغنياء الصّحابة؛ حتى إنَّهُ في عهدِ عُمَر؛ كان يُكْثِر من إطعامِ الطّعام، فأراد عُمَر أن يأخُذَ عليه، يقول : ما هذا؟! مالي أرى النّاس يغدون ويروحون عليك؟! وأنت تذبح لهم الذّبائح وتطعمهم الطّعام، ما لك يا أبا يَحْيى؟! ما لك يا صُهَيْب ؟! ، فيقولُ صُهَيْب -رضي الله تعالى عنه- إنّي سَمِعْتُ رَسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " أيُّها النّاس ! أطْعِموا الطّعام، وَصِلوا الأرحام، وأَفْشوا السّلام، وصَلّوا باللّيل والنّاسُ نِيام، تَدْخُلوا الجنَّةَ بِسلام" فأنا لا أدَعُ إطْعامَ الطّعامِ منذ سمعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم يقولُ ذلك . فقال له عُمَر: لا عتب أو لا مَلامةَ عليك بعد هذا .
 بعد ذلك أيُّها الأحِبّة عادت الآيات؛ لِتُذَكِّرْ بقَضِيّة قَبول هذا الدّين الّتي ذُكِرَت جملة هائلة من تشريعاته في هَذَيْن الثُّمُنَيْن الماضِيَيْن آية البِرّ الّتي ما تَرَكَتْ شَيْءً، ثمّ قضيّة القِصاص، والوَصِيّة، والصِّيام وقراءة القرآن، والدُّعاء، والتّكبير، والاعتكاف، والانتهاء عن المحرَّمات في أمرِ الأموال، ثمّ الجهاد في سبيلِ الله، ثمّ الحجّ، ثمّ ذكر أصناف النّاس؛ مثل ما ذكر أصناف النّاس في أوَّلِ السّورة، ثمّ عاد مرَّةً أخرى؛ لِيُبَيِّن، ويُنَبِّهْ، وَيُحَذِّر من أن يُؤخَذ بعْضُ الدّين، ويُتْرَك بعضُه؛ كما فعل اليهود الّذينَ يُؤمِنونَ بِبَعْضِ الكتاب ويكفرونَ ببعضِه . لا ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) فَيُذَكِّر بعدم اتِّباعِ خطوات الشَّيطان ، ثمّ يتوعَّد هؤلاءِ المشركين ويُبَيِّن أنَّهم سَيَلْقَوْن من اللهِ - عزّ وجلّ - جزاءُ وعاقِبَةً سيِّئة قال : (فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (هَلْ يَنظُرُونَ) أي: هل ينتظرون (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) إلى أن قال: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ).
بعد ما ذكر جملة هذه الشّرائع عاد مرَّةً أخرى إلى: التّوحيد، وأصل الاختلاف ما هو؟ فقال: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: على التوحيد أي: كانوا أُمَّةً واحدةً مجتمعين على التّوحيد ليس لهم إلَهٌ يعْبُدونَهُ إلاّ الله وَبَقوا على ذلك قروناً؛ حتى حرَّفوا، وبدَّلوا، وعبدوا يغوث ويعوق ووُدّ وَسُواع ونسر، عبدوها من دونِ الله، وكانت على أسماءِ قومٍ صالحين؛ كما هو معروف في حديث ابنِ عبّاس المشهور.
 قال: (فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ) أي: هذا الكتاب (بَيْنَ النَّاس فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) وهنا تُبَيِّن حقيقة من حقائق الدّين لأُولئك الموَحِّدين المستمسكين بِما كان عليه الرُّسُل والنَّبيّون، وهي حقيقة عظيمة، من استمسك بهذا الدّين لا بُدّ لَهُ من البلاء فعليه أن يصبر (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ) إذا وصلوا إلى هذه المرحلة جاءهم الجواب من الله: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ).
 وأرى من المناسب أن أتوقّفُ عند هذه الكلمة (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) لَعَلَّ الخاتمة تكون بِها حسنة .

 الأسئلة :
هذا سائل يقول: هل الأفضل أن أبدأ بالتفسير الموضوعي أم بالتفسير التّحليلي ؟ وما هي منهجِيَّةُ طلب العلم ؟
 الجواب: أقول: العلماء يجعلون أساليب التّفسير أربعة: تفسير تحليلي، وتفسير إجمالي، وتفسير مُقارِن، وتفسير موضوعي. لعلّي أُعطيكم لمحة عن كُلِّ واحد؛ حتى نُفَرِّق ونفهم السُّؤال أيْضاً:
 أمّا التّفسير التّحليلي: فهو: أن يُعْرَف كلّ ما في الآية من أسباب نزول، وفضائل، وإعراب، وقراءات، والمعاني، واختلاف المُفَسِّرين، واحتمال كلّ لفظة وكُلّ معنى وتُشْرَح الآية شرحاً وافِياً وعلى هذا جَرى عامّة المُفَسِّرين .
 الثّاني: التّفسير الإجمالي وهو: أن يُصاغ التّفسير إجمالاً؛ يُوَضَّح معنى الآية؛ ماذا يُريدُ الله ، وماذا يعني بهذه الآية ، على شاكلة تفسير الشَّيخ عبد الرّحمن السَّعْدي -رحمه الله- ، وتفسير الشَّيْخ أبي بكر الجزائري - حفظه الله - في كتابه: [ أيْسَر التّفاسير ] .
 النّوع الثّالث: التفسير المُقارِن وهو: التّفسير الّذي ينحو فيه مُؤلِّفُه إلى ذكرِ أقوالِ المُفَسِّرين والتّرجيح بينها والموازنة بين هذه الأقوال. على شاكلة تفسير الطّبري -رحمه الله- ، والتّفاسير المُطَوَّلة؛ كتفسير الفخر الرّازي، وغيره .
 النّوع الرّابع: التّفسير الموضوعي: وهذا لا يوجد كتاب قد فسَّرَ القرآن من أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ تفسيراً موضوعِيّاً؛ لأنّ المقصود من التّفسير الموضوعي: أن تأخذ قضيّة أو موضوع من موضوعات القرآن، فتَدْرُسَهُ من خلال آياتِهِ المبثوثة في كتابِ الله، تأخذ آيات الإنفاق في القرآن، آيات الصّبر، آيات التّقوى، آيات الجهاد، آيات الطَّلاق، آيات الصّلاة، آيات الصّوم ... إلخ وتدرُسْها دراسة موضوعِيّة عن كلّ ما تحدّثت عنه الآيات دون أن تُشير إلى أشياء أخرى ممّا ذكرتْهُ الآيات إلاّ ما له صلة بالموضوع الّتي تُريد أن تتحدّث عنه، وأن تُبَيِّنَهُ في الآية . فهذا هو التّفسير الموضوعي .
 والّذين تحدّثوا في التّفسير الموضوعي إنَّما يأخُذونَ موضوعاً، أو موضوعَيْن أو موضوعات معيَّنة، ويدرُسونَها من خلال القرآن، لكن بعض المفَسّرين اشتهر بالتّفسير الموضوعي للسُّور، بمعنى: أن يذكُر موضوعَ السّورة، ثمّ يُحاول أن يُوَضِّحَ ذلك الموضوع من خِلالِ مقاطِعِ السّورة كما فعل سيّد قطب في كتابِه : [ في ظِلالِ القرآن] فهو مثال للتّفسير الموضوعي من خلال السُّور ، لا من خلال القرآن .
 يقول السّائل : هل الأفضل أن أبدأ بالتّفسير الموضوعي أم التفسير التّحليلي ؟
ماذا يكون الجواب ؟ إذا تبدأ بالتفسير الموضوعي يعني عندك: تبدأ بالتقوى تجلس عليها سنتين ،ثلاث سنوات حتى تنتهي منها، ثمّ تدخل بالإيمان بالغيب، ثمّ الصِّراط المستقيم ثمّ ثمّ ثمّ ينتهي عمرك وأنت لا زلت في الوجه الثّاني من كتابِ الله - عزّ وجلّ - . لا ، أوّل ما تبدأ بالتّفسير الإجمالي؛ لأنّك تفهم معاني الآيات إجمالاً، هذا أيْسَر شيء وأسهل شيء، وإن قارنه أن يكون معه معاني المفردات والغريب يكون هذا أفضل، ثمّ تنتقل بعدَهُ إلى التّفسير التّحليلي، يعني: التّفاسير الّتي حلَّلَت الآيات إلى جزئيّات، وذكرت ما اتصل بالآية من أسباب النّزول والنّاسخ والمنسوخ ، والفضائل ومعاني الكلمات، وخلاف المُفَسِّرين حول الآية ونحو ذلك. ثمّ إذا انتهى من هذا وأراد أن يستفيد ويتوسّع ينتقل إلى التّفاسير المُطَوَّلَة؛ كتفسير ابن جرير والتفسير الكبير للفخر الرّازي وغيرها من الكتب الكبيرة في التّفسير، ثمّ بعد ذلك إذا فَهِمْتَ القرآن، وصارت معانيه حاضرة في ذهنك عند ذلك انتقل إلى التّفسير الموضوعي الّذي يُعْتَبَر ثمرة لهذه الأنواع الثّلاثة، فهو ثمرة وليس بداية .
 سؤال عن تفسير البغوي؟
 تفسير البَغَوي: يشبه كثيراً تفسير ابن كثير -رحمه الله- أو رحم الله الجميع.
 فهو تفسير على طريقة أهلِ السُّنّة اهتمّ فيه صاحبُه بذكر الآثار، واعتمد كثيراً على تفسير شيخه الثّعْلَبي [ كشْف البَيان] فهو: بمثابة الاختصار له؛ كما أنّ ابن كثير اعتمد على تفسير الطّبري -رحمه الله- فكأنّ ابن كثير لخّص الطَّبري وزاد عليه، والبغوي نفس العمل لخّص تفسير شيخه : [ كشْف البيان ] وزاد عليه أموراً رآها .
 هذا سائل يقول : لَو تُفَرِّقون بين البأساء والضَّرّاء وحينَ البأس .
 الجواب : الضّراء: المرض .
 والبأساء: الفقر. يُقال: قد عَضهم البُؤس، فلانٌ بئيس قد صار مسكيناً فقيراً قد لَصِقَ بالتُّراب من شدّةِ مسكَنَتِهِ وَفَقْرِه. البأساء هي الفقر ، والضّرّاء هي المرض .
 وحين البأس يعني: حين القتال .
 ولعلّ هذه يا إخواني هي مقدّمة في ذكر آيات الجهاد، ما ذكرنا بِما قَدَّم للجهاد، فهذه مقدِّمة للجهاد قال: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ) أين البأس ؟ سيأتي: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ).
يمكن هنا يسأل سائل ويقول: لماذا قال: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ) المفروض يقول ماذا ؟ الصّابرون ؛ لأنَّها معطوفة على الموفون ؛ فلماذا لم يقل هنا الصّابرون ؟ أجيبوا يا إخواني .
 نعم هذه يا إخواني معروفة عند العرب وهي أنّهم إذا عطفوا أشياء أرادوا أن يُمَيِّزوها، وأن يَلْفِتوا الانتِباه إليها، وأن يَخُصّوها بمزيد العناية والاهتمام غَيَّروا في الإعراب فتقول مثلاً: جاءني محمَّدٌ وسَعْدٌ وخالِدٌ وفهْداً . لماذا وفَهْداً ؟ وأخُصُّ فهدا ، هذا لحاله ، هذا ما هو مع البقيّة لحاله هذا؛ فكأنَّ الله لمّا ذكر الصّفات، وأعمال البِرّ في السّورة فقال: (وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) هذه كلّها وقعت خبر لكنّ، لكنّ "البِرَّ" هذا اسم لكنّ منصوب، والبقِيّة في خبر لكنّ ، خبر لكنّ مرفوع إذا يجب أن يأتي الجميع مرفوع، قال: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ..) ثمّ قال: (وَالْمُوفُونَ) مضبوطة ماشية معطوفة على خبر لكنّ مرفوعةٌ مثلُها ، (والصّابرين) يعني: وأخُصُّ الصّابرين؛ أمدحهم اثني عليهم لأنّ هذه الأعمال أعمال البِرّ لا يمكن أن يقوم بها ويستقيم عليها، ويُجاهد في ذاتِ الله من أجلِ إقامَتِها والدّعوةِ إليها إلاّ الصّابرين؛ لذلك قال: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). ومثل هذه الآية أيضاً في سورة النِّساء: قال الله - عزّ وجلّ - (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا ماذا ؟ أَلِيمًا (161) لَّـكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (المقيمين) جعلَها منصوبة يعني: وأمدح المُقيمين للصّلاة، ثمّ عاد مرّة أخرى للعطف على ما عليه سائرِ الآية قال: (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) فهذا مثلُهُ أيْضاً. فيه مثال ثالث أيْضاً في سورة الحجّ. 
 يقول : ما هو المقصد في الآيات من (151) إلى (153) ؟
هذا السّائل يقول: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) يعني: إن كان يقصد المعنى التحليلي للآيات ، فالحقيقة الآية من الآيات المشكلة في "كما" وقد أطال العلماء في موضوع "كما" هي عائدة على ماذا ؟ ولاحقة بماذا ؟ وما عندي في الحقيقة فيها بيِّنة، لكن هذه الآيات في الجملة تُعيد التّذكير بنعمةِ الله - عزّ وجلّ - على هذه الأُمّة في أنَّ اللهَ بعث لهم رسولاً استجابةً لدعوةِ إبراهيم عليه الصّلاةُ والسّلام، وهذا الرّسول يتلو عليهم الآيات ويُزَكّيهم ويُعَلِّمهم الكتاب والحكمة ويعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون ، ثمّ ذكّرهم فقال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) كأنّها مثل المقدّمة الّتي كانت في بني إسرائيل في أوَّلِ سورة البقرة قال: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ولاحظوا كيف أنّ الله فرّق بين أُمَّة محمَّد وأمّة بني إسْرائيل ، فبنو إسرائيل قيل لهم (اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)، وأُمّة محمّد قيل لها: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) فشتّان بين مَن يُقال له (اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ)، وبين مَن يُقال له اذكرْني. ثمّ قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) وهذا الأمر بذاته قد جاء لبني إسرائيل في أوائل تلك الآيات؛ قال: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) قال هنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
 لعلّنا نختم بهذا السُّؤال يقول: أليس من الحيف أن نختزل القرآن في 114 مقْصَداً لا يَضُرُّنا أن نبحث عن غيرِها نرى كثيراً مِمَّن يتّجِهُ إلى مقاصِدِ القرآن لا ينفكُّ عن التّكّلُّف حتى يُسوغ المقصد ولا يحاول الانفكاك عن ذلك ؟ جزاك الله خيراً .
 لا ، هذا ليس من الحيف ، الدّين كلُّه مقصوده واحد مين قال لك أنّها 114، الدّين كلّه مقصوده واحد تعبيدُ النّاس لله، لا تظنّ أنّ قضيّة المقصد هذه يعني هجوم على الدّين، لا ، يبيّن لك أن الدّين فيه قضايا كُلِيّة ومعاقد، وفيه قضايا جزئيّة تتفرّع من هذه القضية الكليّة فقط لا غير. فالدّين كلّه كما قال العلماء: يرجع إلى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال الحسن البصري:"أنزل اللهُ مِئةَ كتاب جعلَها في أربعةِ كتب: التّوراة، والإنجيل، والزَّبور، والقرآن، وجعل هذه الكتب الأربعة في القرآن وجعل القرآن في المُفَصَّل ، وجعل المُفَصَّل في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)" إذا الحسن البصري هذا دخل عنده في الحائفين المختزلين للقرآن في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، لا ، ماهو صحيح ، كلّ مَن يقول بهذا يُريد أن يُبَيِّن لك ما هي الأصول الّتي بُني عليها هذا الدّين والمقاصد الّتي يرمي إليها ؛حتى تجتمع الجزئيّات والفروع وهذه الشُّعَب المتفَرِّقة العظيمة الّتي بُثَّت في هذا الكتاب، والعلماء حتى في كتب الفقه يقولون الفقه قسمان: عبادات ومعاملات ،هم الآن يلغون مسائل الطّهارة الحيض والنّفاس والزّكاة والصّوم والحجّ وقراءة القرآن وغيره؟! لا ، لكن هذا نوع من أنواع التقسيم حتى تفهم القضايا الكلّيّة ثمّ تشرع بعدها في القضايا الجزئيّة .
 وأمّا إن أردت أن تُلغي قضيّة المقاصد في الشّريعة فهذا لا نُقِرُّك عليه، المقاصد معتبرة والشريعة جاءت لتحقيق مقاصد عظيمة جدّاً لا بُدّ من مراعاتِها وجميع ما في الدّين من تفاصيل وأحكام تعود إلى تلك المقاصد وهذه المقاصد لا تتنافر ولا تتضادّ ولا تختلف ، بل هي مجتمعة بإذن الله - عزّ وجلّ - ، وهذا العلم يحتاج منك إلى رعاية وعناية، وينبغي لك أن تتعلّمه وأن تفهمه وأن تثني الرُّكبة عند العلماء حتى تعلم ماهو المقصود بعلمِ المقاصد .
 وصلّى الله وسلّمَ على نَبِيِّنا مُحَمَّد وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعين .
لحفظ الملف الصوتي :

---------------------------------------------------
 مصدر التفريغ : http://www.tafsir.net/vb/tafsir20436/#ixzz2NDA5CUFB (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق