السبت، 19 أكتوبر 2013

الحلقـ السادسة ــــة شياطين الجن والإنس-١-



 الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على من أتم الله به النبوات وختم به الرسالات وبعد : أيها المباركون لقاء هذا المساء عنوانه شياطين الانس والجن ، وهو مجزوء من آية كريمة في سورة الانعام ، قال ربنا -تبارك اسمه وجل ثناؤه- : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ) وسنتدارس هاتين الآيتين الكريمتين وما يتعلق بهما من آيات أُخر في لقائين اثنين متتابعين -إن شاء الله تعالى- هذا اﻷول -بحمد الله- منهما ، والحديث من عدة أوجه :
 النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول عنه ربه : (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ) وقد مضت سنة الله في الرسل الذين سبقوا أن لهم أعداء من المجرمين فمادام من سبقك من اﻷنبياء والمرسلين لهم أعداء من المجرمين من شياطين اﻹنس والجن وأنت أيها النبي الخاتم لست بدعا من الرسل فبدهي أن يكون لك أعداء، سنتك سنة من مضى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ) وقال في الفرقان (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) فكلمة (المجرمين) الواردة في الفرقان مُجملة مفسرة في آية اﻷنعام ، هناك وصفهم باﻹجرام وهنا حرر -بيّن- قال (شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ) ، هذا المدخل للآية. ثم قال ربنا (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ) كلمة "شيطان" يدور فلكها اللغوي حول البعد ، والشيطان : من يأمر بالضلالة ويدل عليها سواء كان إنسيا أو كان جنيا ، والجن ثلاثة أصناف : 
جنّ شياطين وهؤلاء يدعون الناس إلى الضلالة
وجنّ ليسوا بشياطين وليسوا بصالحين -من عوام الجن- فلا يُسمون إلا جنّا
وجنّ مؤمنون فيقال لهم صالحون كما يوجد هذا في اﻹنس 
يوجد أقوام -رجال- صالحون -جعلكم الله منهم- ، ويوجد رجال أئمة في الضلالة ، ويوجد رجال لا تستطيع أن تقول عنهم أنهم إمام في الضلالة ولا تستطيع أن تقول عنه أنه رجل صالح ، ومن لطيف فيما يروى عن هذا يقولون أن أحد الناس أظن الحجاج قبض عليه.. فسأله الحجاج كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت لا كما يريد الله -يقصد شرعا- ، ولا كما يريد الشيطان ، ولا كما أريد أنا ، فتعجب الحجاج قال : إذا كيف أصبحت ؟ قال : إن الله يريد مني أن أكون عبدا صواما قوّاما ذاكرا له وأنا لست كذلك، والشيطان يريد أن أكون إماما في الضلالة وأنا لست إماما في الضلالة، وأنا أريد أن أكون بين أهلي و أبنائي مُنعما آمنا وأنا لست كذلك أنا الآن في السجن، فلا أنا كما يريد الله ولا أنا كما يريد الشيطان ولا أنا كما أريد لنفسي . من هذا ندخل إلى قولنا أن الجنّ يمكن تقسيمهم بهذا اﻷمر .
 إبليس نصّ الله على اسمه في القرآن (إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) وهذا يدعو إلى التساؤل هل إبليس هو أب للجن كما أن آدم أب لنا ؟ لا نستطيع أن نجزم لكننا نقول غالبا -والعلم عند الله- ظاهر القرآن لا يدل على هذا ﻷن الله -عز وجل- قال : (إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فهذا قوله -جل ذكره- : (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) ليس فيه إشارة من قريب أو بعيد أنه أب للجن، فالله -جل وعلا- لا يقول عن آدم كان من البشر لأنه -عليه السلام- هو أبو البشر . ولهذا الله أعلم إلى من يُنسبون، لكن الله سمّاهم اسم جنس وهو الجنّ قال في طيات كتابه العظيم : (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) . إبليس هو الذي جرى بينه وبين رب العزة الحوار لما خلق آدم فإن إبليس كان من الملائكة عملا لا جنسا ، لا جنسا بمعنى أنه لم يخلق من نور كما خُلقت الملائكة لأن الله يقول : (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) وإبليس يقول: (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ) ، لكن عمله قبل أن يعصي كان كعمل الملائكة ، كان يغدو ويروح معهم ، فلما أمر الملائكة أن تسجد لآدم خُوطب بما خُوطبت به الملائكة لأنه اشترك مع الملائكة في العمل ، اشترك مع الملائكة في المنزلة ، في العمل. واضح هذا . الله يقول : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا*قَالَ أَرَأَيْتَكَ) الكاف للتوكيد (هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) يعني أمرتني بالسجود له (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً) هذا ظن رمى به إبليس ، هذا الظن من ابليس وقع أم لم يقع؟ وقع بنص القرآن ، ربنا يقول :(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً) قال له رب العزة : (قَالَ اذْهَبْ)  
هذه "اذهب" فعل أمر لكن ليس المقصود بـ"اذهب" ضد المجيئ وإنما "اذهب" بمعنى امض لشأنك ، وأهل العلم -رحمهم الله- في هذا اﻷمر "ذهب" و "استفزز" كما سيأتي اختلفوا في المقصود بهذا اﻷمر.
(قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ) موفورآ : أي غير منقوص ، موفورا بمعنى غير منقوص، وهذا القول في الاسراء جاء في آيات أُخر (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) هو معنى قول الله -جل وعلا- (جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا )  ثم قال رب العزة له : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) قوله-جل ذكره- (وَاسْتَفْزِزْ) نفس اﻷمر في قوله : (اذْهَبْ) وقلنا أن العلماء اختلفوا في المقصود بهذا اﻷمر:
قال ابن كثير -رحمه الله- وهو إمام في التفسير قال : "إن اﻷمر هنا أمر قدري" لمن ينسب هذا القول؟ لابن كثير واحتجّ عليه بقول الله -عز وجل- في سورة مريم : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) 
وذهب أبو حيان -رحمه الله- في البحر المحيط إلى أن قول الله -جل وعلا- (وَاسْتَفْزِزْ) أي للتهديد يعني : افعل ما شئت فسترى عاقبته الوخيمة.هذا قول من ؟ قول أبو حيان في البحر. رجح شيخنا اﻹمام الشنقيطي -رحمه الله- رجح قول أبي حيان وأن قول الله -عز وجل- (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) إنما هو للتهديد. وقال رحمه الله في أضواء البيان وفي دروسه قال : "إن هذا ظاهر" أي أنه للتهديد. واختلاف العلماء أمر بديهي ، ولا يعني أن عالما يُخالف عالِما آخر في الرأي أنه يناقضه في الملة أو أنه لا يتفق معه في المعاد أوغير ذلك مما يظنه الجاهل قد وقع وهو بعيد والمراد اختلاف العلماء فيه. قال ربنا : (وَاسْتَفْزِزْ) الآن سنخاطب باللغة العامية حتى تفهم اﻵية : اﻵن لو وُجد رجل كبير في السن وعنده أبناؤه حوله ماكثون في جلسة ثم أراد أن يبعث أحدهم قال: اذهب وأتني مثلا بكاس ماء ثم إن هذا الوالد شُغل يكلم زيدا ، يرد على عمر، هاتف أحدا ثم نظر فوجد اﻹبن كماهو جالس ، باللغة الدارجة العامية يقول له ماذا ؟ فز ، "فِز" يعني قُم ، "فز" في مفردها اللغوي تعني الخفة، تقول العرب رجل فز بمعنى خفيف ، بمعنى ماذا ؟ خفيف ، فيصبح معنى قول الله -عز وجل- (وَاسْتَفْزِزْ) استخفهم ، ما معنى (وَاسْتَفْزِزْ)؟ يعني واستخِفهم ، نظير قول الله -عز وجل- عن فرعون لما أطاعه قومه قال : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) وجدهم خفاف العقول فأطاعوه.. واضح هذا.
 لغة العرب بها نزل القرآن فإذا جاء أحد يفسر ثم استشهد على قوله بكلام العرب خاصة إذا تكلم بكلام العرب فيمن مضى أي قبل نزول القرآن ، يصح الاستشهاد بعد نزول القرآن إلى عام مائة وعشرين ، لكن قبل ذلك يكون اﻹستشهاد أقوى. زهير بن أبي سُلمى أحد شعراء المعلقات وأظنه مر معنا إجمالا في دروس سابقة، يقول في بيت شعر له يأتي على هذه المفردة يقول :
كما استغاث بسيئ فز غيطلة ** خاف العيون ولم ينظر به الحشك
 الآن نفسر معنى قول زهير: زهير يقول يتكلم عن شخص خفيف قال : كما استغاث بسيئ ، السؤال ماهو السيئ ؟ قبل أن تعرف السيئ تعرف الغيطلة ، الغيطلة : البقرة الوحشية ، فِز الغيطلة: ابن البقرة يرضع منها ، اﻻخلاف التي هي ضرع البقر يأتي عليه لبن خارجي ويأتي لبن دِر داخل الضرع واضح ، ويأتي لبن موجود حول حلمة الضرع ، هذا صغير البقر من عجلته لا ينتظر أن تدِرّ أمه من ضرعها إنما يأتي للبن الظاهر الخارجي الذي حول الحلمة فيتناوله ، يشربه -وتعرف أنت الطريقة- هذا زهير يقول : كما استغاث بسيئ أي اللبن الخارجي ، فز غيطلة ابن البقر ، خاف العيون أي مستعجل ، ولم ينظر يعني لم ينتظر، به الحشك ، الحشك هي بالسكون لكن زهير اضطر لأن يفتحها للضرورة الشعرية:
 كما استغاث بسيئٍ فِزّ غيطلة ** خاف العيون ولم ينظر به الحشك
 يعني لم ينتظر من أمه أن تدر لخفته -لعجلته- .. واضح الآن .
من هذا السياق اللغوي جاءت كلمة (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) كيف يستفز الشيطان الناس بصوته؟ من الخطأ أن يفسر القرآن تفسيرا جزئيا لا يستوعب المعنى ، ولهذا تجد الأكابر من المفسرين إذا فسروا يفسرون تفسيرا مجملا ، ولا ريب أن من أكابر المفسرين الحبر عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- . قال ابن عباس: "كل صوت يدعو إلى معصية الله فهو داخل في قول الله عز وجل (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) "كل داع إلى معصية الله يدخل في قول الله جل وعلا : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) إنما يصنعون ذلك طاعة للشيطان" .
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ) هناك مشاركة في الأموال من الشيطان وهناك مشاركة في الأولاد ،أما المشاركة في الأموال فتقع على طرائق ثلاثة :
- إما بتحريم ما أحل الله ، والله يقول : (وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ) .
- وإما أن تكون بإنفاق المال في معصية الله.
- وإما بجمع المال بطريقة حرمها الله .
كم واحدة ؟ ثلاثة، أعيد: إما أن تكون بتحريم ما أحل الله وإما أن تكون بالإنفاق في معصية الله ، وإما أن تكون بكسب غير مشروع ، الأولى ربما قليل وجودهما في زماننا ، لكن الاثنتين الأُخريين موجودة بكثرة ، وقد تجتمع مع بعضهما البعض ، فقد يوجد -عياذا بالله- من يُرابي أو يرتشي أو يختلس يسرق ثم مع ذلك ينفقها في المعصية ، فجمع اثنتين من قول الله -عز وجل- (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ).
 بقينا في المشاركة في الأولاد (وَالأَوْلادِ) : شاركهم في الأولاد التسمية أن يُسمى به إسما غير شرعي كما كانت العرب تفعل (عبد الحارث ، عبد العزى) وغيرهما، وإما أن يُهوِّدُه ، يُنصِّرُه ، يجعله مجوسيا - يُخرجه عن الملة الحنيفية- هذه المشاركة في الأولاد ، وبعد ذلك يتبعه ما يكون من بعض الآباء من دلّ أبناءهم على المعاصي ، وقد جاء في الحديث: (لو أن أحدكم إذا جاء أهله قال : اللهم ارزقنا وجنب الشيطان مارزقتنا ، فإن قدر لهما ولد في تلك الليلة لم يضره الشيطان أبدا) . الحديث في الصحيحين . مامعنى لم يضره الشيطان أبدا؟ أنت لا ترى أحدا لا يعصي الله ، معقول ما في أحد سمّى ؟ مستحيل ، لا يموت على الكفر ، معنى (لا يضره الشيطان أبدا) بمعنى لا يموت على الكفر.. واضح الآن ، يعني لا يصل إلى حد أن يخرج من الملة .
في اللقاء الثاني نكمل الحديث عن قول الله -عز وجل- : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)، وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .
-------------------------------------------
الشكر موصول للحبيبة (**) على تفريغها للحلقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق