الاثنين، 16 سبتمبر 2013

الوقفــ الثانية ــة من جـ 21 / الآيات (38-41) من سورة الروم



هذه الوقفة الثانية مع الجزء الواحد والعشرين قال ربنا -جل وعلا- {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} إلى ما بعدهن من الآيات.
الأمر هنا في مجمله أمر ندب ويمكن تفصيله على النحو التالي: قال الله (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) الآية من سورة الروم وهي مكية فهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟ على قولين للعلماء : فمن قال إنها منسوخة في قوله -جل وعلا- (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) قال إنها منسوخة بآية المواريث . والذي يظهر أن الأمر هنا صعب أن يُقال إنه منسوخ بالكلية ولكنه للندب ولا يعني ذلك أن يكون حق أولي القربى مقصورا على المال .
(فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ، ثم ثنى قال (وَالْمِسْكِينَ) ومرّ معنا أن السكّين تُسمّى سكين لأنه تسكُن بها روح من تُذبح به ، فالمسكين قلة ما في يده يجعله قليل الحركة فلا عمل إليه يذهب ولا متجر لديه يفتحه . ثم ثلث -جل وعلا- بابن السبيل وهو المسافر ، والعرب جرى في أسلوب كلامها أحيانا أنها تنسب الشيء إضافة إلى غيره فإذا قالوا ابن السبيل يقصدون المسافر ، وإذا قالوا بنات الدهر يقصدون المصائب قال المتنبي :
رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتى ** فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ
 لكن ليس هذا الشاهد ، الشاهد لما قال :
أبِنْتَ الدّهْرِ عِندي كُـــــلُّ بِنْتٍ ** فكَيفَ وَصَلْتِ أنتِ منَ الزّحامِ ؟!!
يقول للحمى كيف وصلتي أنتِ إلى جسدي وانا مُتخم ببنات الدهر ، يعني بمصائب الدهر فكيف استطعتي أن تتسللي إلى جسدي وسط المصائب التي تُحيط بي
 أبِنْتَ الدّهْرِ عِندي كُـــــلُّ بِنْتٍ ** فكَيفَ وَصَلْتِ أنتِ منَ الزّحامِ ؟!!
نعود للآية : فابن السبيل هو المسافر ، بعض العلماء يقول : حق ذوي القربى إكرامه وتفقده وصلته ، وحق المسكين التصدق عليه ، وحق ابن السبيل ضيافته . وعندي أن هذا قول حسن .
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهذه ظاهرة المعنى لكن الإشكال في الآية التي بعدها ، قال الله {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} الربا المقصود هنا في الآية -على الصحيح- ليس الربا المعروف -المُحرم- لأن السورة مكية وما كان الربا قد نزل التحريم به بعد وإنما المعنى (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ) نقرب المعنى لك نضرب مثالا : شخص ما سمع أن أميرا من الأمراء زار البلدة فقال أريد أن أكرمه فذهب -وهو على حال وسط- فدعاه وألح وأطعمه ، هو لم يفعل ذلك ابتغاء وجه الله وإنما فعل ذلك لينتفع من عطاء الأمير ، فهذا من حيث الجواز جائز لكن لا ثواب عليه ، من حق الإنسان أحيانا -كل بحسبه- الناس يختلفون ، أن يستفيد بمثل هذه الطريقة إلا أن هذه الطريقة وإن كانت مباحة في عمومها محرمة في حقه -صلى الله عليه وسلم- ولا تليق به والدليل قول الله -جل وعلا- في المدثر (وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) لا تصنعها حتى تستكثر من ماله ، لأن هذه من طرائق جمع الأموال وهي موجودة حتى في عصرنا ويعرفها كل أحد ، أن الإنسان يُحسن إلى من غلب على الظن أنه ليس في حاجة إليه رجاء أن يُكافأه ، فالله يقول (وَمَا آتَيْتُم) "ما" شرطية ، (وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ) هذا شيء بينك وبينهم . هناك فريق آخر من الناس يتعاملون مع الله (وَمَا آتَيْتُم) وهذه بلاغة القرآن ، هنا ما سماها ربا مع أن الربا لغويا معناه الزيادة قال (وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ) سماها باعتبار مآلها في أن الصدقة إذا اُريد بها وجه الله تزكى نفس المؤمن (وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)  وهذا هو رفيع الدرجات وجليل المقامات التي يتسابق فيه المسلمون ، وكان أبو بكر-رضي الله عنه- من الصحابة في الذروة من هذا العمل ، وهذا من معاني قول الله -جل وعلا- (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا *إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا*فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ) .
قال ربنا (وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَثم قال -تبارك وتعالى- {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الخطاب لقوم مشركين يعبدون مع الله غيره ، ويُشركون معه سواه فأقام الله الحجة عليهم -وهو أصدق القائلين- بقوله (اللَّهُ الَّذِي) أي الله المستحق للعبادة ، علم على لفظ الجلالة لم يُسمَ به أحد غيره (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) فلا خالق لكم إلا هو ( ثُمَّ رَزَقَكُمْ) فلا رازق لكم إلا هو ، ( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) ولا أحد يقدر  على الإفناء إلا هو (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ولا احد يقدر على البعث والنشور إلا هو ، (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ثم وبخهم قال (هَلْ) سؤال توبيخ (هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ) ، (مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ) ولو شيئا واحدا من هذه الأربعة ، عرفنا بهذه الآية أنه لا أحد يخلق إلا الله ، ولا أحد يرزق إلا الله ، ولا أحد يُميت إلا الله ، ولا أحد يُحيي إلا الله ، وهذه من الآيات الجوامع في القرآن ، (هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ) ما تركهم الله يُجيبوا ، أجاب ذاته العلية بنفسه ، ونزه ذاته العلية عما لا يليق به فقال -جل وعلا- (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
ثم قال (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) من العجلة في التفسير أن الإنسان إذا رأى منكرا شاع وذاع قال (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) فسمى هذا المنكر فسادا وليس هذا مراد الآية البتة ، معنى قول الله -جل وعلا- (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الله في أول الأمر سخر لبني آدم ما في البر وما في البحر يطعمونه ويُرزقون منه ، معنى دب الفساد إلى هذا : لم يعد بنو آدم ينتفعون بشيء مما في البحر أو مما في البر ، وانت ترى في عصرنا هذا الدواب حمى الوادي المتصدع ، والطيور جاءت بالأمر المعروف ، ما في البحر من السمك تغرق سفينة فلا ينتفع الناس بالسمك ، ثم الزرع جاء الرش الكيميائي فأفسد على الناس زرعهم ، هذا كله يُسمى فساد ، ولهذا أنت إذا اشتريت شيئا من المتجر تقرأ تاريخه فعندما تقرأ أن تاريخه إلى حد معين معنى ذلك أن الفساد دبّ إليه فلم يعُد يُنتفع به . هذا معنى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) يبقى السؤال لِمَ ظهر الفساد في البر والبحر؟ (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بسبب الذنوب ، فكلمت عظُم الذنب وشاع عظُم الفساد وشاع كما هو مُشاهد في عصرنا (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) ، ثم قال -أصدق القائلين- (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) ، (بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) المعنى أن الله رحيم هذا ببعض ما كسبوا فكيف لو أراد الله أن يُذيقهم بكل ما كسبوا؟! لِمَ أظهرت يا ربنا الفساد في البر والبحر؟ حتى يرى الفساد في البر والبحر وعدم الانتفاع بهذا من يعرفك فيرجع إليك قال ربنا في خاتمة الآية (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) . والآيات إذا وقعت كالزلازل وهي فساد في التربة أو ما وقع كما بيّناه آنفا من فساد هاهنا وهناك يقرؤه المؤمن فيعلم أن المُنكر إذا شاع ظهر الفساد فيؤب إلى ربه ، ويرجع إلى خالقه ويستغفر الله -جل وعلا- مما وقع ويبدأ في نشر المعروف حتى لا يهلك الناس ، وأما -والعياذ بالله- من طبع الله على قلبه ولم يرفع بذلك رأسا ولم يعرفه فبقي على حاله والله يقول (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) فمن تخويف الله -جل وعلا- لعباده أن يظهر الفساد في البر والبحر فما سخره الله -جل وعلا- لخلقه أصلا يقِل الانتفاع به وكل ذلك بسبب الذنوب ، ومعلوم أنه ما حُمل شيء على الظهر أعظم من الذنب (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا) . هذه الوقفة الثانية مع الجزء الواحد والعشرين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق