الاثنين، 9 سبتمبر 2013

الوقفــ الثانية ــة من جـ 20 / تتمة الوقفة الأولى / موسى عليه السلام



الوقفة الثانية تتمة للأولى :
قال أصدق القائلين (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) هناك خلاف مازال قائماً إلى اليوم هل العقل في الرأس أو في القلب؟ والذي تُرجحه هذه الآية أن العقل في القلب كما قال ربنا (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا) أين الدليل في الآية -ظناً-؟ الآن عندما يأتي أي أحد ويغيب عقله يتصرف من غير أن يدري حتى إنه إذا فرغ من الأمر يقول لا أدري أين كان عقلي عندما فعلت كذا وكذا وإن عاتبه أحد في خطئه يقول له أين كان عقلك واضحٌ هذا يقول أصدق القائلين (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا)  أي لمَّا عزمت وألقته في البحر ثم علمت أنه قد وصل إلى فرعون طاش عقلها هذا معنى قول الله (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ) و"كاد" فعلٌ من أفعال المقاربة يدل على القرب من حصول الشيء لا حصوله ، قال الله -جل وعلا- (إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ)  لتُظهر الأمر وتُخبر أنها أُمه وأنه موسى وأنه من بني إسرائيل (إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ  لَوْلا) حرف امتناعٍ لوجود (لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)  ليس قوله جل شأنه (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) جوابٌ لـ "لولا" بل جوابُ لولا محذوف تقديره " لولا ان ربطنا على قلبها لأبدت وأظهرت وتحدثت وأخبرت وقصت على الناس القصة" (لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) قُلنا "لولا" حرف امتناعٍ لوجود فجوابُ لولا محذوف تقديره "لولا ان ربطنا على قلبها لأبدت" ، أما قوله -جل وعلا- (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فهو علة الربط لا جواباً لـ"لولا".
 (لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَهذه الآية مما ينبغي أن تُفهم بعد أن قُلنا قال النُحاة ولولا أخر الحديث هذا علم آية لكن الفائدة العُظمى من الآية تُستَنبط: أن هذه المرأة أمرها الله بأمرين ونهاها الله عن نهيين وبشرها الله بِشارتين و كل ذلك لم يُجدي كادت أن تتكلم لولا حياطة الله لها ، فالذي رحمها وأحاطها وأعانها على أن تثبت فضل الله عليها مع أنها بُشرت مرتين ونُهيت مرتين وأُمرت مرتين لكن كُل ذلك لم يُجدي (لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
 لمَّا أحاطها الله بعنايته لجأت إلى أُخته -أُخت موسى- وقالت لها بصفتها أُمها (قُصِّيهِ) أي تحسسي خبره (عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا تُقحمي نفسكِ إقحاماً .
قال الله -جل وعلا- (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ)  هذا كما مرَّ معنا من قبل تحريمُ منع لا تحريمُ شرع (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ) أي على موسى (الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ) والمعنى أن موسى أصبح لا يقبلُ أثداء النِساء يُؤتونه بالمراضع الراغِبات طمعاً في الأُجرة من فرعون ومع ذلك كُلما أُلقم ثدياً أباه وامتنع أن يقبله (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ) فأسند الله المنع إلى ذاته العلية حتى يُعلم أن هذا يجري بقدر الله (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ) من التي قالت ؟! أُخته (هَلْ أَدُلُّكُمْ) على سبيل العرض (عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) النُصحُ: إجراءُ العملِ غير شائِبٍ بالفساد النُصح  يعني غير مقرونٍ بالفساد ، وبتعبيرٍ أوضح إخلاص العمل غير شائِبٍ بالفساد(وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) لمَّا عرضت -هذا يقول المفسرون لكن هذا ليس في كلام الله- أنهم شكوا ، إرتابوا في قولها فما زالت تُلاطِفهُم حتى ارتاحوا إليها.
 قال أصدق القائلين (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ) جِئنا لِإيجاز الحذف مرة أُخرى أي أن فرعون وآله قبِلوا العرض وسألوا عنها وأتوا بها وأعطوه إياها فأخذته وحملته تُرضعه فقال ربُ العالمين (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ) هذا الوعد الذي وعدها الله إياه من قبل،(فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) الآن لاحِظ في الأول قال (وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي) ، هُنا لم يقُل لا تخافي قال (وَلا تَحْزَنَ) لماذا ؟! لأنه في الأول هي خافت إما أن يهلك في البحر أو أن يهلِكه فرعون لكنه نجا من البحر وأمِن عند فرعون فذهب الخوف فلم يبقى إلا الحَزَنُ على فراقه وإلا هي مُطمئنة أنه يعيش في قصر فرعون فذهب الخوف فلم يذكُر الله الخوف هُنا قال (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) ولا ريب أن وعد الله حق وأعظم وعدِه أنه سيُدخل عِباده المُتقين الجنة، فكُل من كان على يقينٍ أن وعد الله حق سارع إلى الخيرات ، فإن وضع يده في جيبه لِيُخرج مالاً يُعطيه مسكين فنزغه الشيطان أن هذا لا داعي له تذكر أن وعد الله حق وأنه سيجد صدقته أمامه عند الله ، فإن همَّت قدماه بالمشي إلى المسجد فجاءه نزغ الشيطان أو من يُثبطه من شياطين الإنس أنه لا داعي لهذا صلِّ في بيتك ،الأمر فيه سعة، قال له ما قال تذكر أن وعد الله حق فاختطت قدماه إلى المسجد، إذاً الدين كُله مبنيٌ على مدى يقينك بأن وعد الله حق ، فكُلما عظُم في القلب أن وعد الله حق كان هُناك إتيانٌ للعمل ، وإن قلّ في القلب يقينك بأن وعد الله حق كان هُناك إحجامٌ عن الطاعة قال الله -جل وعلا- (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون أن وعد الله حق فيقع منهم الجرأةُ على المعصية .
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) هذا كُله من ثناء الله على كمال عقل موسى وبُلوغه رُشده وكمال نُضجه ، (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) بعضُ أهل العلم يقُول إنه قد شاع في الناس أن موسى كَبُر وأخذ يُنكر فلذلك احتاج أن يدخُل المدينة على غفلة لكن هذا لا نملك دليلاً صريحاً عليه ولم يذكُره القرآن من قبل وغالِبُ الظن أن هذا الحدث وقع مُوافقاً لدخُوله المدينة على حين غفلة من أهلها (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا)  إما أن يكون في وقت الضُحى أو في وقت بعد الظُهر، وقت العِشاء لا نستطيع أن نجزم لماذا ؟! لأننا لا ندري كيف كانت حياة الناس يومئذ فإن هذا يتعلق بالحياة اليومية لكُل بلدة ، متى تخِف الأقدام ومتى تكثُر وعلى هذا لا يُمكن الجزمُ بشيء لكن كان وقتاً لا يكثُر فيه خرُوج الناس ، (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) هذا من بني إسرائيل وهذا من الأقباط قومِ فرعون (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ) أي الذي من بني إسرائيل استغاث بموسى (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)  قال الله (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) وكزه : ضربه بجمع كفَّيه هذا الوكز، والوخزُ يكون بأُصبع ، والصكُّ يكون باليدين على الوجه (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) وكان موسى -كما قال الله من قبل- أنه أُتي الأشُد والاستواء ، بِقدر الله مات القبطي فلمَّا مات القبطي ندِم موسى على ما كان منه قال الله -جل وعلا- (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ*قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَحتى تُعلمَ حُرمة الدِماء موسى قتل عدواً كافراً ومع ذلك سمَّاه عملاً من عمل الشيطان وسمَّى نفسه ظالِماً لنفسه واستغفر الله مما وقع منه رغمَ أن موسى لم يقصِد قتله ، قتلهُ خطأً وإنما أراد أن يردعه ويؤدبه حتى لا يتجرأ على بني إسرائيل ومع ذلك مات خطأً فعدَّ نفسه ظالِماً وسمَّى هذا العمل ذنباً وأسنده إلى الشيطان واستغفر الله منه حتى يُعلم أن الإنسان إذا استُؤمن ينبغي أن يُوفي أمنه فموسى كان مُستأمناً بالأقباط فما كان ينبغي له أن يصنع ذلك وقد قال في حديث الشفاعة لمَّا يسألُه الناس اشفع لنا أنت كليم الله يقول عليه السلام (أنني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها) هذه الوقفة الثانية ثم نُتم إن شاء الله في الوقفة الثالثة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق