الاثنين، 9 سبتمبر 2013

الوقفــ الأولى ــة من جـ 20 / مع قوله تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ..)


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لآإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين أمَّا بعد:
 فهذه لِقاءاتنا الموسومة بلقاء مع القرآن فنحن في الجزء العشرين من كلام الله ولنا معه وقفاتٌ ثلاث وهذه هي الوقفة الأولى نبدأ عند قول الله -جل وعلا- (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلى ما بعدهُن من الآيات.
 في قول أصدق القائلين -جل جلاله- (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) الوحي هُنا بالاتفاق ليس وحي رسالة ، ومن طرائق العلم أن تأتي للشيء المُتفق على إبعاده فتُبعده ثم تُجيل الطرف وتُجلي القدر وقُدرة عقلك في المضمار الذي يقبل عدم الإتفاق فقول الله -جل وعلا- (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) اتفقوا -أي أهل العلم- على أنه ليس وحي رِسالة لأنه لو كان وحي رِسالة لأصبحت أُم مُوسى نبية وهذا بالإتفاق غيرُ واقع "وما كانت نبياً قط أُنثى" هذا شطرُ بيت أُضبطه . إذاً ماهو هذا الوحي؟ على ثلاثة أقوالٍ للعُلماء:
 قيل إنه إلهام وهذا أوسطُها
وقيل إنه رؤيا رأتها
وقيل إنه ملَكٌ كلَّمها
والأرجح عندي -والعلم عند الله- إنه مَلَك لأن طريقة الخِطاب -كما ستأتي مفصلةً واضحة- يصعُب أن نقول إنها إلهام، ويصعُب أن نقول إنها رؤيا.
 قال أصدق القائلين (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) الحديث إذاً عن موسى حال وِلادته ولم نُقدم له لإشتهاره بين الناس أن فرعون أخذ يقتُل غِلمان بني إسرائيل خوفاً من أن يظهر فيهم من يذهب مُلكه بسببه ، فالآن خارج بيت مُوسى الأطفال ، الأبناء ، الغِلمان يُقتلون بحثاً عن موسى ، وموسى ينجو والخلق يُقتّلون بسببه وقد قُلنا مراراً في هذا وأمثاله لا يقدر عليه إلا الله المُلك مُلكه والأمر أمره .
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) أي بدأت هي بِرضاعته أول الأمر، والرضاعةُ رضاعةُ المرأة لابنها لا تُغير شيئاً فهو ابنها وإن لم تُرضعه فإن أرضعت الوليد غير أُمّه التي ولدته فهي أُمّه من الرِضاعة وصاحبُ اللبن يُصبح أباً له ويُكتسب بهذه الرضاعة الحُرمة والخلوة لكن لا يقع بالرضاعة إرث يعني لا يرث أحدُ من أُمّه التي أرضعته ولا ترثه قال الله -جل وعلا- (أَنْ أَرْضِعِيهِ) والمرأةُ تُسمى مُرضع من غير تاء لكن جاء في القرآن قول الله -جل وعلا- (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) بالتاء والجواب عن هذا: إن هذا وصفٌ للمرأة حال رضاعتها يعني وهي مُلقمةٌ ثديها لابنها على هذا الحال يصِحُ لُغة وصفها بأنها مُرضعة ، أما على غير هذا الحال فتُسمى مُرضع ولا حاجة للتاء لأن الرجُل لا يُرضع كما يُقال إمرأة حامِل ولا حاجة للتاء لأن الرجُل لا يحمل حتى يُفرق بين الذكر والأُنثى بالتاء .
(أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ) خفت عليه من فرعون وجُنده أن يتسلطوا عليه (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)  أي البحر (وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الفرق بين الخوف والحَزَن : الخوف غمٌ يعتري المرء لما هو مُترقب ، مُتوقع وأما الحَزَن هو غمٌ يعتري المرأ لما هو حالٌ وواقعٌ فيه فيُصبح معنى قول الله -جل وعلا- (وَلا تَخَافِي) مستقبلاً أنه سيهلك (وَلا تَحْزَنِي) في حالِ فراقك له لا تحزني على فراقه وهذا حاله (وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وهاتان بِشارتان سبقهما نهيان (وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي) سبق النهيين أمران أن أرضعيه وألقيه في اليم فأمرها الله بأمرين ونهاها عن اثنين وبشرها بشارتين في آية واحدة وهي عند أرباب البلاغة هذه الآية من أعظم آيات القرآن إعجازاً بلاغياً ويجعلون نظيرها قول الله -جل وعلا- في هود (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فهاتان الآيتان عند أهل البلاغة من أرفع آيات القرآن -وكُل القرآن رفيع- إعجازاً بلاغياً .
قال أصدق القائلين (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)  هذا وعد (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) هذا وعد آخر ماذا وقع منها (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وقع منها ألقته ، لكن الله لم يقل هُنا أنها ألقته بل قال (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) وهذا يعني ضرورة أنها ألقته وهذا يُسمى إيجاز حذف فالمحذوفُ هنا دل المعنى عليه مثل قول الله -جل وعلا- في سورة يوسف (أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ) هذا الساقي يقول (فَأَرْسِلُونِ) الآية التي بعدها (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) والمعنى ظاهر أنهم أرسلوه ودخل السجن وأقبل على يوسف وخاطبه وقال له (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) فما بين الآيتين من أحداث سكت القرآن عنه في يوسف وهاهُنا وهذا يُسمى إيجاز حذف .
قال رب العالمين (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) "آل" هُنا : بمعنى جُنده وخدمه وحشمه ومن جعلهم فرعون على أبواب قصره وهي كلمةٌ واسعة المعنى (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) عقلاً ونقلاً هم ما التقطوه ليكون لهم عدواً وحزناً ، ما التقطوه ليُذهب مُلكهم لكن اختلف العُلماء في اللام هُنا ما نوعها :
- فذهب الزمخشري المُعتزلي -المعروف- في الكشاف وانتصر على أن اللام هُنا لام كي - وجمهور أهل النحو على أنها لام أنها لام الصيرورة والعاقبة مثل قولهم: "لِدوا للموت وابنوا للخراب" فمعلومٌ أنه لا تلدُ الوالدة لأجل أن يموت ولدُها ، ولا يبني من يبني لأجل أن يخرب داره لكنه أيَّاً كان الأمر فإن كُل مولودٍ مصيره إلى الموت وكُل بنيانٍ مصيره إلى الخراب ، قال الله -جل وعلا- في كتابه العظيم (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) ممكن حمل الآية كانوا خاطئين في صنيعهم هذا ، ويمكن حمل الآية - وهو أولى- كانوا خاطئين من قبل بشركهم بالله وكفرهم به فليس الخطأ منهم في التقاطهم لموسى أول أخطائهم بل هم ليس بِدعاً فيهم الخطأ فيكفيهم أنهم كانوا كفاراً بالله ، (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) وهامان هو وزير  فرعون والوزير إنما يُسمى وزيراً لأن المادة والجذر اللغوي لكلمة وزير "وَزَرَ" والوِزر هو الثقل فسُمي الوزير وزيراً لأنه يحمل عن الملك ثِقله ، ثقل المسؤوليات ، ثقل المُلك ، ثقل تدبير الأمور يحملها هذا الرجل عن الملك ، أي ملك فيُسمى وزير ، وهو مندوبٌ إليه قال الله عن موسى (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي) ، وقال الله -جل وعلا- (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ*وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) أي الثقل العظيم الذي على ظهرك هذا مادة وزير، وقلنا إن هامان وزير لفرعون.
 قال الله -جل وعلا- (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ*وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) وهي آسيا بنت مزاحم وقد ثبت في النقل الصحيح أنها من سيدات نساء العالمين . قال الله -جل وعلا- (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ) تخاطب من ؟! زوجها فرعون فيُقال في حديث طويل يُسمى حديث الفُتون أن فرعون قال لها : أما لك فنعم وأما لي فلا حاجة لي به والفأل كلمة تُقال فيمضي قدر الله ولهذا كان -صلى الله عليه وسلم- يُعجبه الفأل قيل يارسول الله وما الفأل ؟! قال (الكلمة الطيبة يسمعها الإنسان أو يُسمعها) فهذه جاءت لزوجها وقالت (قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ) فرد فأله قال : أما لكِ فنعم وأما لي فلا حاجة لي به فوقع الأمر كما أراد كما أراد -بقدر الله- فهذه الكلمة أجراها الله سبباً على لسانه وإلا قد سبق في الأزل في علم علام الغيوب وقدرته ومشيئته وما كتبه أن مُلك فرعون سيكون زواله على يد موسى.
 قال ربنا (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وهم لا يشعرون أن التقاطه واتخاذه ولداً سيكون سبباً لزوال مُلكهم ويُقال إن هذا من الفراسة المحمودة أن إمرأة فرعون آسيا بنت مزاحم تفرست خيراً وظنت خيراً بهذا الغُلام فوقع الأمر كما ظنته وكما تفرّست به وقد قُلنا إنها توسلت إلى الله بقولها كما قال الله في كلامه العظيم (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) وسيأتي إن شاء الله الوقوف عند هذا في الجزء اللي فيه هذه الآية هذه الوقفة الأولى .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق