الخميس، 29 أغسطس 2013

الحلقـ الأولى ــة / فطـــ الله ـــرة



الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له رب اﻷرض والسموات ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيا عن أمته ؛ وصلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحّد الله وعرف به ودعا إليه اللهم عليه وعلى أصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها المؤمنون ؛ أيتها المؤمنات إن من أجلّ المقامات في الدنيا تدارُس كتاب الله -تبارك اسمه وجل ثناؤه- وهذا فضل عظيم ن وموئل كريم ، ومنزل شريف يمُنّ به الله -عز وجل- على من يشاء من عباده ، ونسأل الله -جل وعلا- أن يزيدنا وإياكم توفيقا لما يحبه ويرضاه .وهذا هو العام الخامس على التوالي -لا قطع الله عنا وعنكم الخير- نتدارس فيه كلام ربنا -جل ثناؤه- في هذا الجامع المبارك . وإننا إذ نسأل الله التوفيق لنُبين أن دروسنا في هذا العام تأتي للمفردات ذات المركب اﻹضافي بمعنى أن كل حلقة تحمل عنوانا غالبا ما يكون العنوان من كلمتين وقد نحتاج إلى أن نضيف شيئا قبله أو بعده من اﻵية حتى لا يصبح العنوان مجزوءا مقطوعا . وعنوان حلقة هذا الدرس المبارك : فطرة الله .
وقد جاء هذا في كلام الله -عز وجل- في سورة الروم وهي سورة مكية قال الله -عز وجل- فيها (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) فهذه هي اﻵية التي سنتدارسها بإذن الله في لقائنا هذا على ما عهده الناس في التدريس من أننا نستطرد كثيرا في معان لغوية ، ومعارف علمية ، وميادين تاريخية ، وغيرها مما نرجو أن يكون معينا على تبيين كلام رب العزة والجلال .
 اﻵية يخاطب الله فيها ابتداء أشرف خلقه وأكرم رسله فيقول له (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) والحنف في اللغة : الميل إلا أنه مع الاستعمال الشرعي واللغوي أصبح شبه مقصور على الملة التي بعث الله بها اﻷنبياء جميعا قال الله -عز وجل- عن خليله إبراهيم (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) والمعنى: أن إبراهيم -عليه السلام- عدل وتجاوز كل ملة وبقي على الملة المستقيمة التي فطر الله -عز وجل- العباد عليها قال ربنا هنا لنبيه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) الفِطرُ في اللغة : الشق ؛ تقول أم المؤمتين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- وهي تخبر عن قيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لليل قالت : (كان يقوم حتى تفطرت قدماه) وكل من يتقن ولو شيئا يسيرا من العربية يعلم أن قول عائشة "حتى تفطرت قدماه" حتى تشققت والله -جل وعلا- يقول (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ) ويقول في آية أخرى (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ) والانشقاق هو الانفطار . فاﻷصل في المعنى اللغوي لمفردة "فَطَرَ" بمعنى الفعل شق طولا . هذا التأسيس ؛ التمهيد للتوطئة حتى نصل لمراد كلام ربنا .
فقال ربنا لنبيه -جل ذكره- هنا (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) والمعنى: أن الله -عز وجل- خلق الخلق وأودع قلوبهم معرفته فما من أحد يولد إلا والفطرة تُولد معه يشترك في هذا كل أحد أيّا كان حال أبويه ؛ وبعض العلماء -رحمهم الله- يربط ما بين هذه الفطرة التي يولد عليها كل أحد وما بين قول الله -عز وجل- عن الميثاق والعهد اﻷول الذي أخذه الله على بني آدم في عالم اﻷرواح ؛ قال الله -عز وجل- (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ*أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) ومعنى ذلك : أن الله -عز وجل- علِم أزلا ، وقدّر وكتب أنه سيُطالب عباده بالتوحيد فحتى لا يظلمهم أودع قلوبهم اﻹسلام ؛ الفطرة التي فطر الله الناس عليها قبل أن يُولدوا ؛ فولدوا والفطرة معهم ؛ فكل من كفر وأعرض عن اﻹسلام فقطعا قد حاد عن الفطرة وقد جاء عند أحمد في المسند وعند النسائي في السُنن الكبرى وعند أبي يعلى في المسند من حديث اﻷسود بن سريع -رضي الله عنه وأرضاه- قال: (أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وغزوت معه فلقيت ظفرا فكنا في غزوة فأكثر الناس في القتل حتى قتلوا الولدان فلما بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قام فقال : ما بال أقوام جاوزوا في القتل حتى قتلوا الذرية؟! فقال له أحد الناس -أي أحد الحضور أحد الصحابة- : يا رسول الله أما هم أبناء المشركين؟ فقال -عليه الصلاة والسلام- (خياركم أبناء المشركين) وهذا تعليم أي أن منكم ومن يقاتل معي ومن خياركم كان يوما من الدهر من أبناء المشركين.
قال السائل: يا رسول الله أما هم أبناء المشركين؟ هذا يحاول أن يجد ذريعة ومبررا لمن قُتل من الذرية أن قتلهم كان بحق ، يتكلم على مبلغ علمه ، فقال - صلى الله عليه وسلم- (خياركم أبناء المشركين) ثم قال -عليه الصلاة والسلام- مرتين (لا تقتلوا الذرية ؛ لا تقتلوا الذرية) ثم قال -عليه الصلاة والسلام- (كل نسمة تولد على الفطرة حتى ينطق عنها لسانها فأبواها -أي أبوا النسمة- إما يُهودانها وإما يُنصرانها) والمعنى الذي دلّ عليه الحديث وهو ظاهر المعنى جليل المبنى : أن الله -عز وجل- خلق الخلق على هذه الفطرة ، قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "والقول أن الفطرة التي فطر الله عليها الناس هي اﻹسلام هذا قول عامة السلف" وقد دلّ على هذا في اﻵية الكريمة أمران :
اﻷمر اﻷول : أن الله -عز وجل- أن الله -عز وجل- أضافها إليه إضافة تعظيم فقال ربنا -تبارك اسمه وجل ثناؤه- (فِطْرَةَ اللَّهِ) أضاف الفطرة إليه ، أضافها على صيغة مدح وتعظيم وهذا يدل على أن الله -عز وجل- أراد شيئا بعينه ، وقال قبلها (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) "فطرة الله" تصبح بالنسبة للدين القيم -كما يقول بعض النحاة تقريبا- بدل اشتمال فأضافها الله إلى نفسه هذا من وجه ، وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أشرف خلقه وسيد رسله أن يتبعها وأن يقوم على هذا الدين فدل هذا عند عامة سلف اﻷمة على أن المراد بفطرة الله التي فطر الناس عليها هي فطرة اﻹسلام قال ربنا (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) فكل أحد -عياذا بالله- حاد عن اﻹسلام هو كذلك قد حاد عن الفطرة التي فطر الله -جل وعلا- الناس عليها ، والناس لو تركوا ، لكن ليس هذا مبدأ ثواب ولا عقاب ، لكن لو تركوا من غير رسل ولا إنزال كتب لا تقوم عليهم حجة ، لكنهم لو بقو على فطرتهم لعرفوا الله -تبارك اسمه وجل ثناؤه- ودلتهم الفطرة التي خلقها الله -جل وعلا- وأودعها في قلوبهم ، دلتهم على ربهم -تبارك وتعالى- ولاريب أن من أعظم الغبن أن يعرف اﻹنسان أشياء كُثُر تنفعه في أمر معاشه ولا يكاد يعرف الله الذي لا غنى عنه أبدا .
والمقصود قال ربنا بعدها (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) النحاة يقولون إن هذه "لا" هذه نافية للجنس و "تبديل" اسمها وهذه عندهم تعمل عمل إن وأخواتها لكن هل هذا خبر على بابه أو هو خبر يُراد به الأمر ، أي نهي يراد به النفي؟ بكلا القولين قال العلماء ، فمن قال بالقول اﻷول وقال إن النفي هنا على بابه قال إن المعنى (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي أن الله خلق الخلق جميعا قابلين لهذه الفطرة يشتركون فيها جميعا ولا يفضل أحد أحدا في أصل الفطرة ، هؤلاء القائلون بأن اﻵية على بابها . وآخرون قالوا : إن النفي هنا وإن كان خبرا فإن المراد به الطلب ، فقالوا إن معنى (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) لا تفتنوا الناس وتبدلوا ما خلقهم الله عليه من الفطرة وتغيروا خلقه. وقال بعض أهل العلم: إن "خلق الله" هنا بمعنى الدين وممن قال بهذا البخاري -رحمه الله- وتبعه على ذلك آخرون ، واحتجوا بقول الله -جل وعلا- في سورة الشعراء (إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ) فقول الله -جل وعلا- عندهم -عند هؤلاء اﻷخيار- تفسيرها (إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ) أي إن هذا إلا دين اﻷولين ، (إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ) أي دينهم ، فقالوا معنى قول الله -عز وجل- (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) أي لا تبديل لدين الله ، لا تبديل للإسلام ، لا تبديل للفطرة التي فطر الله الناس عليها .
 ثم قال ربنا - تبارك اسمه وجل ثناؤه- (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ولا دين أقوم منه بل إن الله -عز وجل- لا يقبل غيره (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ثم بين الله -عز وجل- أن كثرت من يغفُل عن هذا لا يدل على أن هذا باطل فكفى بالله شهيدا وقال ربنا -جل ذكره- (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) إن أنخت مطاياك وتأملت ما فطرك الله -عز وجل- عليه ربما تهتدي أكثر لمعنى اﻵية.
 يوجد -أيها المباركون- ما يعرف بالفطرة الجسدية ، ويوجد ما يعرف بالفطرة العقلية ، فنقول مثلا في الفطرة الجسدية : لو أتينا بطفل رضيع لازال في سن الرضاعة تم له سنة وبضعة أشهر ثم أتيت بأشياء حوله ووضعتها على مرأى من عينيه ، فطرته التي فطره الله -عز وجل- عليها جسديا تجعله يتناول اﻷشياء بيديه مع أن أحدا لم يعلمه أن اﻷشياء تُتناول باليد ، لكن عندما تضعها بين يديه يهُم بيديه فيأخذها ، فالله -عز وجل- فطره أنه يعلم ابتداء أن اﻷشياء تُتناول باليد رغم أن سِنه لا يمكن أن تكون سِن تعلم لكن هذه فطرة ثم لا تلبث هذه الفطرة تقبل التعلم حتى تزداد وتنمو مواهب . هذه فطرة جسدية .
 يوجد فطرة عقلية : الصبي نفسه -هذا الرضيع- إذا أردت أن تخوفه من شيء لا يقربه فأتيت له بإناء ساخن -بعض الشيء- تريد منه ألا يقرب اﻹناء الساخن مرة أخرى تقرب يده من اﻹناء فإذا لمسها قبض يده ، يشعر بحرارة اﻹناء فيقبض يده ، بعد ذلك لو قريت له اﻹناء يأبى أن يتقرب منه ﻷن هناك فطرة عقلية دلته على أن هناك أسباب ونتائج وأنه عندما تسبب بلمس اﻹناء نتج عنه حرارة في يده جعلته يقبض فلا يعود يكرر هذا رغم حداثة سنه وهو لم يعلِّمه أحد لكن تلكم فطرة فطره الله -عز وجل- عليها مع اﻷيام تقبل ما هو أعظم وأجل كلما كبر وتلقى التعليم وحنكته التجارب حتى يصبح رجلا سويا .
هذان مثالان للفطرة الجسدية والعقلية التي فطر الله الناس عليها ، لكن هاتين الفطرتين لا يتعلق بهما ثواب ولا عقاب ، ولا دخول جنة ولا خلود في نار إنما يتعلق الثواب والعقاب في الحيدة عن الفطرة الروحية اﻹيمانية التي خلق الله -عز وجل- عباده عليها قال ربنا (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
 ثم أرشد -سبحانه- إلى ما يعين على البقاء على هذه الفطرة ويدل على التسمك عليها وهو من أعظم المطالب وأجلها فقال ربنا (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ*مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) فبدأ أولا باﻹنابة إليه سبحانه وهذا من أعظم مناقب الصالحين ، والله لما أثنى على الخليل إبراهيم قال (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) ، لن ترى عيناك من لم يعصِ الله قط -خاصة في زمنك هذا- فالعصمة من الصغائر والكبائر كانت من خصائص اﻷنبياء ولا نبي بعد نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فكل أحد تراه عيناك ، عظُم في عينك أو قلّ فله معصية عند ربه علِمها من علِمها وجهلها من جهلها ، وإنما يتفاوت الصالحون في اﻹنابة إلى رب العالمين -تبارك اسمه وجل ثناؤه- فقال -جل ذكره- (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) .
 وليُعلم -وهذا خاتمة المطاف- : أن الله أودعك هذه الفطرة ثم بعث إليك نبيا وأنزل كتابه ، ثم هداك أن تقبل النبي وتؤمن بالكتاب ، فأصبحت بالفطرة والنبي والكتاب مسلما مستحقا برحمة الله لدخول الجنة ما الذي تخافه وتخشاه؟ أن تسلب هذا ، لا يبقى في العمر مما بقي شيء مخوف أعظم من أن يُبتلى اﻹنسان بأن يُسلب اﻹسلام ، قال الله عن الصالحين من خلقه (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) .
أحيانا الله وإياكم على اﻹسلام وأماتنا عليه وجعلنا الله وإياكم مباركين أينما كنا ، وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق