الجمعة، 16 أغسطس 2013

الوقفــ الثالثة ــة من جـ 17 / مع قوله تعالى ((وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ..)


هذه الوقفة الثالثة من الجزء السابع عشر قال الله رنا وهو أصدق القائلين :
 (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) إلخ الآيات .
البُدن : جمع بَدنة ، ولها مفهوم في اللغة ولها مفهوم في الشرع، فهي في اللغة يُعنى بها الإبل خاصة ، وفي الشرع يُراد بها الإبل والبقر ، لكن في هذه الآية المُراد الإبل .
إراقة الدم من أجل وجه الله من أعظم القُربات (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) ن قال ربنا هنا (وَالْبُدْنَ) سُميت بَدَنة لكونها سمينة ، (جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ) ففي تعظيمها وإراقة دمها قُربانا لله من أعظم القربات إلى رب العالمين ومن أجلّ الشعائر وسيأتي تفصيل هذا في خاتمة اللقاء.
 (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) أي إذا هممتم بذبحها فاذكروا اسم الله ، (صَوَافَّ) بمعنى صافة -قائمة- ، والإبل تُنحر معقولة يدُها اليُسرى ، على هذا إخبار واضح .
 (فَإِذَا وَجَبَتْ) بمعنى سقطت ويُقال للحكم الشرعي واجب لأنه ساقط عليه لا انفكاك لك عنه . (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) أي ماتت وسقطت (فَكُلُوا مِنْهَا) هذا على شرط أن يكون أُضحية أو هدياً يجوز الأكل منه لكن إن كان فِدية أو نذراً فلا يصح الأكل منه (فَكُلُوا مِنْهَا) والأمر للندب (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) القانع: الفقير الذي لا يسألك ، والمعتر:  الفقير الذي يسألك ، فمن يقنع يُعطى وإن كان لا يسأل ، والمُعتر هو من يحتاج لكنه يتعرض للناس ويسألهم (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ) إلى أن قال -جل وعلا- بعدها (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) الله غني عن تلك الدِماء التي تُهرق لكن كيف يكون تعظيم الشعائر؟ يكون تعظيم الشعائر بأن الإنسان يجد في قلبه وهو يشريها فيُحاول قدر الإمكان أن لا يُراجع البائع كثيراً تعظيماً على أنها شعيرة ، فإذا كان يقدر على نحرها بيده فلا يكله إلى أحد فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكل نُسكه إلى أحدٍ البتة اللهم إلا أنه في حجة الوداع نحر ثلاث وستين بيده وترك ما غبر لعلي يعني -ما بقي- ، أمَّا أضاحيه في المدينة كان يذبحها بيده ، فإن كنت ممن لا يُحسن الذبح فلا أقل من أن تشهد نحر أُضحيتك هذا كله من تعظيم شعائر الله أمَّا أن يشتريها الإنسان ويذبحها تخلُّصاً وانفِكاكاً ، نحن لا نتكلم عن كونها تُجزئ أو لا تُجزئ تُجزئ إذا إجتمعت شروطها ونحرها بعد دخول الوقت لكن نتكلم عن القُبول وعظيم مقامها عند الله والله يقول (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) وهذه التقوى في هذا الأمر إنما تتضح لكيفية شرائها وكيفية نحرها حتى إننا أدركنا من الصالحين من لا يقبل أن يحملها أحد يحملها هو بنفسه لأنه يعلم أنها ليست شاة لحم لبيته ولكنه دمٌ يُهرق لله -تبارك وتعالى- يُراد به وجه الله سمَّاه الله -جل وعلا- شعيرة فإن عجز فلا أقل من أن يُعينه أحد ، فإن عجز فلا أقل من أن يُكافئ من حملها مُبالغة في المُكافأة تعظيماً لشعائر الله والمقصود : أن يقع في القلب أن ما عظمه الله -جل وعلا- ينبغي أن يُعظم (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) وقلنا (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ).
 جئنا الآن لمسألة فقهية: (إبل وبقر وغنم) أيُها أفضل؟
الجمهور على أخذ النفع منها فقدموا الإبل ثم البقر ثم الضأن وحُجتهم ظاهر الأمر وهو الإنتِفاع ، وحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- (فكأنما قرب بدَنة) ثم التدرُج في يوم الجُمعة ، وقال مالك -رحـمه الله-: إن الضأن أفضل واحتج بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُضحي إلا بالضأن طِوال مُكثه في المدينة . والذي يظهر لي -والعِلم عند الله- أنه في حال الهدي الإبل أفضل لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدى إلى البيت مئة وكُلها نِياق ، وأمَّا الأضاحي فإن الضأن -فيما يظهر لي- أنه أكمل كما قال مالك -رحِمه الله- لأن كون النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين في المدينة يُحافظ على أن يُضحي به ولا يُبدله، غالب الظن أنه دليل مُرجح على أنه أكمل وأفضل والعلم عند الله ولا نقطع ، لكن إذا كان الإبل اشترك فيها سبعة فلا خِلاف أن الضأن أفضل لكن نتكلم فيما لو أنه ضحى بالناقة لوحده هل يكون هو أفضل ممن ضحى بالضأن أو يكون من ضحى بالضأن هو أفضل منه ، لكن هذا استطراد فقهي .
هذه الأضاحي والهدي من أعظم ما يُتقرب به إلى الله -تبارك وتعالى- ومن أخطائنا في زماننا : أن الناس من لم يقدر على الحجّ منهم يزهد في الأضاحي فحتى إذا صنعها يصنعها بطريقة ما لا تدُل على أنه يفقه مراد الله -جل وعلا- منها ، فكما أن الحج شعيرة وقُربة فكذلك الأضاحي شعيرة وقُربة ، من السنن المُغفل عنها في زماننا: أن الناس تبعث هدياً إلى الحرم من غير حجٍ ولا عمرة والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يُهدي من المدينة هدياً يبعثه إلى مكة وهو -عليه الصلاة والسلام- في المدينة لم يهِل بحجٍ ولا بعمرة وهذا فيما يظهر شبه متروك في زماننا ، فمن قدُر عليه -خاصة من أهل الثراء- فهو خير. شعائر الله المُراد بها: ما جعله الله علامات على دينه كما قال ربُنا عن الصفا والمروة (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ) وهما جبلان لكن كل شعيرة لها طريقة في تعظيمها ولا سبيل إلى معرفة طريق التعظيم إلا بالسنة فالجبلان شعيرتان عظيمتان تعظيمُهما بالسعي بينهما.
والحجر شعيرة تعظيمه بِتقبيله واستلامه.
والبُدن شعيرة تعظيمها بإراقتها لله-تبارك وتعالى-.
وعرفة شعيرة وتعظيمها بالوقوف عليها في اليوم التاسع.
ومزدلفة شعيرة وتعظيمها المبيت فيها ليلة النحر.
وهكذا شعائر الله تتفق في أن كلها شعائر وتختلف في الطرائق التي تُعظم بها تلك الشعائر لكن المقصود الأسمى أن يكون في القلب رغبة في إجلال الله -تبارك وتعالى- ، وأن يصحب ذلك علم عظيمٌ بالسنة حتى يُعبد الله -جل وعلا- على بيِّنة فالدين والتوحيد منذ أن كان الناس إلى بِعثته -صلى الله عليه وسلم- ولكن الشرع هو القرين له في معرِفة ذلك كله وقد قيل :
 هو دين رب العالمين وشرعه ** وهو القديم وسيد الأديان
هو دين آدم والملائكِ قبله ** هو دين نوحٍ صاحبِ الطوفانِ
هو دين إبراهيم وابنيه معا ** وبه نجا من لفحة النيرانِ
وبه فدى الله الذبيح من البِلا ** لمَّا فداه بأعظم القربان
هو دين يحيى مع أبيه وأمه ** نِعم الصبي وحبذا الشيخان
 وكمال دين الله شرع محمدٍ صلى عليه مُنزِل القرآن . هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق