الوقفة الثالثة من الجزء السادس عشر مع قول الله -جل وعلا- : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) .
بينَّا قبل قليل أن الله -جل وعلا- منّ على عبده زكريا بيحيى واختار له ذلك الاسم فجاء النداء الرباني لهذا العبد والفتى الصالح قال الله له (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) أي بعزيمة وإجتهاد وهذا هو العاقل كل أحد يطلب شيئا إما أن يأخذه بحق وإما أن يتركه فطلبة العلم ، طُلاب التحافيظ وغيرهم ممن نشد هذا الأمر حري أن يأخُذه بحقه وأن يسهر الليالي في تحصيله وأن يعلم أن دون ذلك ووراءه شيءٌ من المشقة عظيم لكن كذلك معالي الأُمور لا تُنال بالضعف والعجز والكسل.
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) قال الله (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ) قال العُلماء الحكمة الحُكم هنا بمعنى الحكمة وهو الصحيح ، (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي حال كونه صبي.
(وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا) هذه "حنانا من لدنا" اختلف فيها العُلماءُ اختلافاً كثيراً لكن الذي يترجح عندي -والعلم عند الله- أن المعنى قذفنا في قلبه حناناً يتعامل به مع الناس ، مع والديه مع جيرانه ، مع خلَّانه ، مع من حوله ، (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً) الزكاة هُنا بمعنى تزكية نفسه وهو طهارتها وهذا ثناءٌ فاخر من رب العالمين -جل جلاله- لهذا العبد الصالح لأن الله يقول عنه وهو ربه الذي خلقه قال (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً) ثم نعته بالنعت الأعظم قال (وَكَانَ تَقِيًّا) وتقوى الله : أن تعبُد الله على نورٍ من الله ترجوا ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نورٍ من الله تخشى عقاب الله . وقد قيل أن الله لا يرحمُ إلا أهلها ولا يقبل إلا غيرها ولم يستثني الله منها أحداً (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) .
(وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً (وَكَانَ تَقِيًّا) ، ثم نعته بنعتٍ أخص قال (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) براً بوالديه أي : قائماً بحقهما لا يرى أحدٌ منهما منه عقوقاً البتة ، وبر الوالدين من أعظم أسبابِ وطرائق التوفيق وهو رحمة يقذِفُها الله -جل وعلا- في قلب من يشاء من عباده في تعامُله مع والديه وقد حررنا غير مرة أن كمال البر أن الإنسان يقرأ في عيني والديه مُرادهما لا ينتظر أن يأمُراه والداه بالأمر فإن أمراك فليس لك خيارٌ أصلا أن تمتنع اللهم إلا إن كانا قد أمراك بمعصية لكن إن أمراك بطاعة فلا تملك أصلاً خياراً في ردِّهما لكن عظمة البِر هو ذالكم الذي يقرأ أو يعلمُ بطريقة ما حاجة والديه ثم يبِرهما يتأسى بالصالحين من الخلق والأخيار من العِبادِ كما قال الله عن العبد الصالح (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ) ولو لم يكُن البِر بالوالدين منقبة لما أثنى الله بها على عبده هذا والله لا يُثني إلا بِعظيم ولهذا ترى البعض يتقلد أُموراً لا ترى القرآن يحفل بها ويأتي لما حَفُل به القرآن وقرره وكرره فلا يحفُل هو به ولكن الإنسان يُقدِّم من قدَّمه الله ويُؤخر من أخره الله ، ويتلبس بالكُسوة التي أمر الله بها،فالله -جل وعلا- هُنا لمَّا أراد أن يُبين هذا العبد الصالح ومقامه ومكانه قال (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) يُقال "جَبَرَ" بمعنى سدد شيء قد انكسر وهو هُنا بمعنى أنه لم يكُن في قلبه عُتو ولا تعالٍ على الخلق ، والتجبُر في حق الله من صفاته العُظمى ومن أسمائه الجبَّار ، أمَّا في حق العِباد فإن الله حكم بالخيبة على أهله قال الله (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) وبعض الناس يظُن أن الجبروت يعني قوة شخصيته فهذا لم يعرف قُدرة ربه بعد ولا حاجة لذكر أنباءِ وأخبارٍ في هذا فالأمر من الجلاء بمكان ، لكن الله أثنى على هذا العبدِ الصالح بقوله (وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) ، ثم قال (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) هذه الثلاث أوحش المواطن ، لم هي أوحش المواطن؟!
في الأولى يخرُج الجنين ممَ كان فيه هذه لحظة الوِلادة.
في الأولى يخرُج الجنين ممَ كان فيه هذه لحظة الوِلادة.
والثانية لحظة الموت يوم يموت يُقابل أقواماً لم يعهدهم من قبل وهما ملكا الموت ، ملكا السؤال.
ويوم القيامة أوحش لأنه يرى من أهوال يومِ القيامة ، وأهوال يومِ القيامة أنبأ الله أنه يشيب لها الوِلدان (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) فلمَّا كانت هذه الثلاث المواطن من الوحشة بمكان سلَّم الله -جل وعلا- هذا العبد الصالح منها فقال الله -جل وعلا- (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أي على يحيى يوم ولد أن يقربه الشيطان أو أن يناله أو أن يلحقه بأذى ، ويوم يموت سيموت على وفاة طيبة وحالٍ حسنة رغم أنه مات مقتولاً قتله بني إسرائيل ويُقال إنهم نشروه بمنشار -أي اليهود- لكنه لا يُنظر إلى حال الميت كيف مات إنما يُنظر على أي شيء مات فمن يموت في حادِثٍ من يموت في مرض ، من يموت في حرق ، من يموت في غرق ، من يموت برصاص ، من يموت خطأً ، من يموت بطريقة ما هذا كُله سببٌ لِتُزهق روحه لكن على أي حالٍ مات المقصود ماذا كان يحمل في قلبه من المُعتقد وما كان يُظهر في قلبه من السرائر وماذا كان عليه من الطاعة هذا الذي يُقابل به الله ، الله يقول (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) . قال الله هنا (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) والسلامُ : رحمةٌ من الله عظيمة فالله هو السلام ومنه السلام ، وعبدٌ سَّلمه الله في مِثل هذه المواطن حريٌ أن يُقتدى به ، ويُذكر ويشيع في الناس خيره وفضله كما شاع فضل وخير يحيى -عليه السلام-.
من هُنا نفقه أن يحيى ابنٌ لزكريا ، من الناحية التاريخية زكريا زوجته أختٌ لحَنَّة امرأة عِمران فأصبح بذلك زوجاً لخالة مريم فيُصبح يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم أبناء خالة يعني زكريا زوجٌ لأُخت أم مريم ، وقد رآهما النبي -صلى الله عليه وسلَّم- لقيهما في رحلة الإسراء والمعراج في منزلة واحدة ، لقيهما في السماء الثانية لقي في الأولى آدم وفي السماء الثانية ابني الخالة يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم وقد عاشا -تاريخياً- في زمن واحد عليهما من ربهما أفضل الصلاة والسلام.
هذا ما تيسر إيراده وتهيئا إعداده وهو الوقفة الثالثة من الجُزء السادس عشر من كلامِ رب العالمين -جل جلاله- وإن شاء الله نلتقي في الجُزء السابع عشر بإذن الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق