د.عمر بن عبد الله المقبل
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته وحياكم ربي في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم قواعد قرآنية ، نتأمل فيها ونتدارس قاعدة من قواعد تربية النفس وإصلاحها إنها القاعدة التي دل عليها قول الله -عز وجل- {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}(1) .
وهذه القاعدة القرآنية جاء ذِكرها في سورة الشرح ، تدرون ما هي سورة الشرح ؟ إنها السورة التي تُظهر وتُوضح بجلاء عناية الله -جل وعلا- بخليله وعبده محمد -صلى الله عليه وسلم- وتكتمل الصورة أكثر حينما نضم سورة الضحى إلى سورة الشرح فسنجد أنها سلسلة من الآلاء المتتابعة على نبينا -صلى الله عليه وسلم- من ربه تعالى ، اقرؤا قول الله -عز وجل- (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) بدأت المِنن (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ثم {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح: 1 - 8] . إنها سلسة من المِنن والنِعم التي تتابعت على نبينا -صلى الله عليه وسلم- تُختم بهذا الأمر الإلهي الذي يُشكِّل قاعدة من قواعد تربية النفس {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} فما معنى هذه القاعدة ؟
إن الله يأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- حينما ينتهي من أعماله سواء التي تتعلق بحقوق الله -عز وجل- وواجباته من الفرائض ، أو فيما يتعلق بأداء واجب الرسالة ، أو فيما يتعلق بحقوق الخلق من زوجات وأولاد وأصحاب وإخوان وغير ذلك من الحقوق أن ينصب إلى ربه -عز وجل- قائما ، عابدا ، يتملى آياته ويُناجي ربه -سبحانه وتعالى- بكلامه . أتدرون لماذا ؟ لأنه ليس في وقت المسلم فراغ ولا وقت يضيع هباء منثورا ، أبدا ، هو بين أنواع من العبودية يتقلب فيها ، فشيء بينه وبين الله ، وشيء بينه وبين الخلق ، وشيء يعمُر به قلبه الذي لا صحة ولا سعادة ولا فلاح له إلا أن يكون مُتعلقا بمولاه وبربه -عز وجل- لذا أُمر حينما ينتهي من هذه الأعمال التي قد يحصل فيها شيء من المشقة والتعب أن يأوي إلى ربه -عز وجل- فينتصب قائما ليُريح قلبه ويُدخل السرور على فؤاده بقوة الصلة بالله -سبحانه وتعالى- . إنه معنى بديع ، ومعنى شريف وعظيم يغفل عنه كثير من الناس .
والبعض يظن أن في حياة الإنسان متسعا للهو واللعب وإن كان لا يُقرر هذا نظريا إلا أن واقعه العملي يقول ذلك ، والحق أنه ليس في حياة المؤمن أي لحظة ليس لها قيمة بل المؤمن الحق هو الذي يقول بلسان حاله ومقاله ما أمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقوله حينما قرر أن الحياة كلها لله فقال -سبحانه- كما في خواتيم سورة الأنعام {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} فقط ؟ لا، حتى الممات {وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } حتى أوقات اللعب ، اللهو المباح التي يُمارسها الإنسان بأمر من الشريعة سواء فيما يتعلق باللهو مع الصبيان (الأولاد) أو حتى ما يُمضيه الإنسان مع زوجه ، أو حتى ما يُجم الإنسان به نفسه تقوية وتهيئة للنفس على استمرار مناشطها وتجديد الحيوية فيها هذا جزء من العبودية فإن الإنسان لو استمر على رتيبة واحدة وعلى نمط واحد أصابه الملل ولهذا جاءت الآثار عن السلف المتنوعة التي خُلاصتها : أن الإنسان ينبغي أن يُجمّ نفسه بمعنى أن يُخفف عنها وطأة الحزم الدائم المستمر حتى يكون هذا الإجمام للنفس وسيلة للاستمرار لأن المُنبّت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، أي ذلك الإنسان الذي ياخذ نفسه بالعزم دائما ، لا يوجد في حياته وقت ولا فرصة لإجمام النفس يكاد ينقطع .
تأملوا في مشروعية العيدين وما جعل الله -سبحانه وتعالى- فيهما من فرصة للهو ، فرصة للعب سواء ما يتعلق بالصبيان أو بغيرهم إنه تشريع من رب العالمين من أجل أن يعيش الإنسان في حالة الجد وفي حالة التخفف من الجد وفي حالة اللهو واللعب يعيش ذلك كله عبودية لله -سبحانه وتعالى- .
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} إنها قاعدة -أيها الإخوة- تبني في نفس المؤمن وهو يتأملها معانٍ عظيمة منها :
- ألاّ يبقى الإنسان في حياته فارغا أبدا ، بطّالا عالة على غيره ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إني لأمقت الرجل أراه ليس له صنعة" بمعنى أنه يكون عالة على أحد الناس يُنفق عليه أو يتصدق عليه ، أو يمنّ عليه بعطيته . ورأى عمر الفارق -رضي الله عنه- مرة رجلا قد انقطع للعبادة في المسجد فكأن عمر رأى لزوما من هذا الرجل لهذه العبادة وعدم التفرغ لشيء من أمر دنياه الذي لابد له منه فقال له : من أنت وما شأنك ؟ قال : أنا رجل لي أخ يقوم عليّ أو يُنفق عليّ ويُنفق على أولادي -أو كلمة نحوها- فقال : إن السماء لا تُمطر ذهبا ولا فضة اذهب فأخوك خير منك . بمعنى ألاّ تفتح المجال على نفسك بأن يكون لغيرك مِنّة عليك ، قُم هذا جزء من عبوديتك لله أن تقوم بطلب الرزق ، أن تكف نفسك عن سؤال الناس ، أن تُعف نفسك ، تُعف أولادك عن المسألة ، كل ذلك داخل في المظلة الكبرى للعبودية .
أيها الإخوة الكرام : إن من ذاق لذة العبودية لله -سبحانه وتعالى- وعرف معناها الشامل فإنه لا يقِر له قرار أبدا حتى يُصيّر جميع أحواله من الجِدّ والمزح واللهو المباح واللعب الذي أذنت به الشريعة يُجيرها جميعا لتكون كلها داخلة في عبوديته لله -سبحانه وتعالى- ، فما يأتيه حتى من شهوة نفسه التي أذن الله -سبحانه وتعالى- فيها بنيته الصالحة يقلبها إلى عبادة وإلى عمل صالح وهكذا هي حال الموفقين ، الموفقين الذين عرفوا حقيقة العبودية ولماذا خُلقوا . أسأل الله -عز وجل- أن يجعلني وإياكم منهم .
/ أيضا من هدايات هذه القاعدة القرآنية المحكمة {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أنها تنهانا عن صُحبة البطالين الذين لا يُدركون قيمة الوقت بل نجد في حياتهم أنواعا من الغفلة واللعب لأن مصاحبة هذا النوع من الناس تُعدي ولاشك ، استمع ماذا قال الله -عز وجل- لنبينا -صلى الله عليه وسلم-{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: 28] ، ينفرط عليه الزمن وينفرط عليه العمر فلا هو الذي أنتج ولا هو الذي قام بما يجب عليه.(2) فصُحبة هذا النوع من الناس تُعدي بطبعها فهل يُدرك الإنسان ، هل يُدرك الرجل ، هل تُدرك المرأة طبيعة الصاحب الذي يصحبه؟ إنني أطرح سؤالا فتش في قائمة أصحابك هل تجد فيهم إنسانا إذا اتصلت به وجدته - لا أقول فقط يدلك على المعصية- بل يفتح لك مجالا للهو واللعب الذي يُضيع عليك الوقت ؟ إن كنت تجد في قائمة أصدقائك من هذا النوع فإما أن تنصحه وتُصلحه وإما أن تتركه لأنه ليس في حياة الإنسان توقف أبدا يقول الله -عز وجل- {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} فليس في مسير الإنسان توقف أبدا لأنه سائر إلى الله فإن توقف فحقيقة هذا التوقف هي تأخر بنص الآية الكريمة {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} ، وليتضح لك المعنى جيدا : تصور سباقا يُجرى بين مجموعة من المتسابقين كلهم يجرون إلا شخص واحد لما انتصفت المسافة توقف فإذا بالمتسابقين يتجاوزونه .. يتجاوزونه ويتجاوزونه ، أنت إذا نظرت إلى هذه الصورة فبظاهرها أن الرجل توقف ولم يرجع لكنك إذا قسته إلى الذين سبقوه وجدت أنه تأخر كثيرا . هذه هي حقيقة الإنسان البطال ، اللّعاب الذي يُضيع الوقت وهذا ممن نُهينا عن صحبته لأجل ألاّ يقطعنا عن تحقيق هذه القاعدة وما دلت عليه من معنى تربوي عظيم {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} انصب لربك في العبادة ، أجهد نفسك فيها ، {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} تذلل إليه ، انطرح بين يدي مولاك ، سله حاجتك ، اعرض عليه شكواك ، ناجه فإنه يسمعك ويحب أن يسمع دعاءك ويسمع بثك وشكواك ونجواك .
/ أيضا من دلالات هذه القاعدة التربوية والإيمانية : أنها تُربي على سرعة الإنجاز ذلك أن الإنسان إذا شعر أنه مُطالب بأن يتقدم ويسير -على ما سبق تقريره- فإنه لا يجد فرصة في الحقيقة أو لا يرضى أن تتأخر أعماله وتتراكم .(3) كم من إنسان -مثلا- سنحت له فرصة للحجّ وهو مُعافى ، وهو طيّب قادر -بعيدا عن البحث الفقهي هل هو على الفور أو على التراخي لكنني أتكلم عن هذا المأخذ التربوي والإيماني- فيترك الحج هذه السنة ثم إذا به بعد سنوات تضيق به الفرص ولا يجد فرصة أخرى للحجّ ثم يعضّ أصابع الندم ويقول آه يا ليتني حججت في تلك الفترة . بعض الناس يكون عليه قضاء من رمضان -مثلا- ثم يُفرط ، عنده فرص ففي مثل هذه الفترات في أيام الشتاء مثلا يسهل على الناس الصوم لقِصر النهار وبرودة الجو فيقول إن شاء الله غدا ، الأسبوع القادم ، الشهر القادم ، ثم إذا به وعنده مجموعة من الأيام قد فرّط في قضائها وإذا الشهر قد تضايق ثم يبدأ يسأل المفتين ويتصل هل يجوز ؟ أنا تاخرت ؟ ماذا أفعل؟ لا {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}.
ومما تربينا عليه هذه القاعدة من معانِ تربوية هو : اغتنام الفرص الجيدة ، وهذا أمر غير ما ذكرته آنفا فإن الإنسان في مجال علاقته مع الله أو في مجال دنياه تسنح له فرص جيدة فإذا بعض الناس يُفرط فيها بحجة أنه ستسنح فرصة أخرى وسيستفيد منها ، واعظم فرصة تسنح للإنسان ، وأعظم غبن يحصل أن يُفرط فيها هي فرصة التوبة والإقبال على الله -جل وعلا- فبعض الناس قد يحضر مجلسا من مجالس الذكر أو يشاهد برنامجا على شاشة مباركة أو يسمع مقطعا من المقاطع المؤثرة ثم يرق قلبه أو تدمع عينه وإذا به يستعرض شريطا من شريط الماضي وقعت فيه أخطاء ووهنات وشعر فيها بندم وتقصير ثم تتحرك فيه لواعج التوبة والرغبة في افنابة والإقبال على الله -عز وجل- ثم يبدأ الصراع في هذه اللحظة يتوب أو لا يتوب ، ما معنى أن أتوب أن أترك هذه الشهوات ، هذه المعاصي ثم يجد في نفسه دافعا فإذا جند الشيطان يبدأون يضغطون عليه ثم يُفرط في هذه الفرصة التي هي من أجمل وأروع الفرص ، أن يُقبل على الله في هذه اللحظات التي أنكسر فيها قلبه ودمعت فيها عينه . فيا عيد الله ، ويا أمة الله انتبهوا فإن الفرص الجيدة والممتازة قد لا تتكرر مرة أخرى .
أسأل الله -جل وعلا- أن يُبارك في أعمارنا وأعمالنا وأزواجنا وأولادنا وأموالنا ، وأن يجعل حياتنا ومماتنا لله وحده لا شريك له ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وهذه القاعدة القرآنية جاء ذِكرها في سورة الشرح ، تدرون ما هي سورة الشرح ؟ إنها السورة التي تُظهر وتُوضح بجلاء عناية الله -جل وعلا- بخليله وعبده محمد -صلى الله عليه وسلم- وتكتمل الصورة أكثر حينما نضم سورة الضحى إلى سورة الشرح فسنجد أنها سلسلة من الآلاء المتتابعة على نبينا -صلى الله عليه وسلم- من ربه تعالى ، اقرؤا قول الله -عز وجل- (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) بدأت المِنن (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ثم {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح: 1 - 8] . إنها سلسة من المِنن والنِعم التي تتابعت على نبينا -صلى الله عليه وسلم- تُختم بهذا الأمر الإلهي الذي يُشكِّل قاعدة من قواعد تربية النفس {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} فما معنى هذه القاعدة ؟
إن الله يأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- حينما ينتهي من أعماله سواء التي تتعلق بحقوق الله -عز وجل- وواجباته من الفرائض ، أو فيما يتعلق بأداء واجب الرسالة ، أو فيما يتعلق بحقوق الخلق من زوجات وأولاد وأصحاب وإخوان وغير ذلك من الحقوق أن ينصب إلى ربه -عز وجل- قائما ، عابدا ، يتملى آياته ويُناجي ربه -سبحانه وتعالى- بكلامه . أتدرون لماذا ؟ لأنه ليس في وقت المسلم فراغ ولا وقت يضيع هباء منثورا ، أبدا ، هو بين أنواع من العبودية يتقلب فيها ، فشيء بينه وبين الله ، وشيء بينه وبين الخلق ، وشيء يعمُر به قلبه الذي لا صحة ولا سعادة ولا فلاح له إلا أن يكون مُتعلقا بمولاه وبربه -عز وجل- لذا أُمر حينما ينتهي من هذه الأعمال التي قد يحصل فيها شيء من المشقة والتعب أن يأوي إلى ربه -عز وجل- فينتصب قائما ليُريح قلبه ويُدخل السرور على فؤاده بقوة الصلة بالله -سبحانه وتعالى- . إنه معنى بديع ، ومعنى شريف وعظيم يغفل عنه كثير من الناس .
والبعض يظن أن في حياة الإنسان متسعا للهو واللعب وإن كان لا يُقرر هذا نظريا إلا أن واقعه العملي يقول ذلك ، والحق أنه ليس في حياة المؤمن أي لحظة ليس لها قيمة بل المؤمن الحق هو الذي يقول بلسان حاله ومقاله ما أمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقوله حينما قرر أن الحياة كلها لله فقال -سبحانه- كما في خواتيم سورة الأنعام {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} فقط ؟ لا، حتى الممات {وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } حتى أوقات اللعب ، اللهو المباح التي يُمارسها الإنسان بأمر من الشريعة سواء فيما يتعلق باللهو مع الصبيان (الأولاد) أو حتى ما يُمضيه الإنسان مع زوجه ، أو حتى ما يُجم الإنسان به نفسه تقوية وتهيئة للنفس على استمرار مناشطها وتجديد الحيوية فيها هذا جزء من العبودية فإن الإنسان لو استمر على رتيبة واحدة وعلى نمط واحد أصابه الملل ولهذا جاءت الآثار عن السلف المتنوعة التي خُلاصتها : أن الإنسان ينبغي أن يُجمّ نفسه بمعنى أن يُخفف عنها وطأة الحزم الدائم المستمر حتى يكون هذا الإجمام للنفس وسيلة للاستمرار لأن المُنبّت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، أي ذلك الإنسان الذي ياخذ نفسه بالعزم دائما ، لا يوجد في حياته وقت ولا فرصة لإجمام النفس يكاد ينقطع .
تأملوا في مشروعية العيدين وما جعل الله -سبحانه وتعالى- فيهما من فرصة للهو ، فرصة للعب سواء ما يتعلق بالصبيان أو بغيرهم إنه تشريع من رب العالمين من أجل أن يعيش الإنسان في حالة الجد وفي حالة التخفف من الجد وفي حالة اللهو واللعب يعيش ذلك كله عبودية لله -سبحانه وتعالى- .
{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} إنها قاعدة -أيها الإخوة- تبني في نفس المؤمن وهو يتأملها معانٍ عظيمة منها :
- ألاّ يبقى الإنسان في حياته فارغا أبدا ، بطّالا عالة على غيره ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إني لأمقت الرجل أراه ليس له صنعة" بمعنى أنه يكون عالة على أحد الناس يُنفق عليه أو يتصدق عليه ، أو يمنّ عليه بعطيته . ورأى عمر الفارق -رضي الله عنه- مرة رجلا قد انقطع للعبادة في المسجد فكأن عمر رأى لزوما من هذا الرجل لهذه العبادة وعدم التفرغ لشيء من أمر دنياه الذي لابد له منه فقال له : من أنت وما شأنك ؟ قال : أنا رجل لي أخ يقوم عليّ أو يُنفق عليّ ويُنفق على أولادي -أو كلمة نحوها- فقال : إن السماء لا تُمطر ذهبا ولا فضة اذهب فأخوك خير منك . بمعنى ألاّ تفتح المجال على نفسك بأن يكون لغيرك مِنّة عليك ، قُم هذا جزء من عبوديتك لله أن تقوم بطلب الرزق ، أن تكف نفسك عن سؤال الناس ، أن تُعف نفسك ، تُعف أولادك عن المسألة ، كل ذلك داخل في المظلة الكبرى للعبودية .
أيها الإخوة الكرام : إن من ذاق لذة العبودية لله -سبحانه وتعالى- وعرف معناها الشامل فإنه لا يقِر له قرار أبدا حتى يُصيّر جميع أحواله من الجِدّ والمزح واللهو المباح واللعب الذي أذنت به الشريعة يُجيرها جميعا لتكون كلها داخلة في عبوديته لله -سبحانه وتعالى- ، فما يأتيه حتى من شهوة نفسه التي أذن الله -سبحانه وتعالى- فيها بنيته الصالحة يقلبها إلى عبادة وإلى عمل صالح وهكذا هي حال الموفقين ، الموفقين الذين عرفوا حقيقة العبودية ولماذا خُلقوا . أسأل الله -عز وجل- أن يجعلني وإياكم منهم .
/ أيضا من هدايات هذه القاعدة القرآنية المحكمة {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أنها تنهانا عن صُحبة البطالين الذين لا يُدركون قيمة الوقت بل نجد في حياتهم أنواعا من الغفلة واللعب لأن مصاحبة هذا النوع من الناس تُعدي ولاشك ، استمع ماذا قال الله -عز وجل- لنبينا -صلى الله عليه وسلم-{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف: 28] ، ينفرط عليه الزمن وينفرط عليه العمر فلا هو الذي أنتج ولا هو الذي قام بما يجب عليه.(2) فصُحبة هذا النوع من الناس تُعدي بطبعها فهل يُدرك الإنسان ، هل يُدرك الرجل ، هل تُدرك المرأة طبيعة الصاحب الذي يصحبه؟ إنني أطرح سؤالا فتش في قائمة أصحابك هل تجد فيهم إنسانا إذا اتصلت به وجدته - لا أقول فقط يدلك على المعصية- بل يفتح لك مجالا للهو واللعب الذي يُضيع عليك الوقت ؟ إن كنت تجد في قائمة أصدقائك من هذا النوع فإما أن تنصحه وتُصلحه وإما أن تتركه لأنه ليس في حياة الإنسان توقف أبدا يقول الله -عز وجل- {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} فليس في مسير الإنسان توقف أبدا لأنه سائر إلى الله فإن توقف فحقيقة هذا التوقف هي تأخر بنص الآية الكريمة {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} ، وليتضح لك المعنى جيدا : تصور سباقا يُجرى بين مجموعة من المتسابقين كلهم يجرون إلا شخص واحد لما انتصفت المسافة توقف فإذا بالمتسابقين يتجاوزونه .. يتجاوزونه ويتجاوزونه ، أنت إذا نظرت إلى هذه الصورة فبظاهرها أن الرجل توقف ولم يرجع لكنك إذا قسته إلى الذين سبقوه وجدت أنه تأخر كثيرا . هذه هي حقيقة الإنسان البطال ، اللّعاب الذي يُضيع الوقت وهذا ممن نُهينا عن صحبته لأجل ألاّ يقطعنا عن تحقيق هذه القاعدة وما دلت عليه من معنى تربوي عظيم {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} انصب لربك في العبادة ، أجهد نفسك فيها ، {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} تذلل إليه ، انطرح بين يدي مولاك ، سله حاجتك ، اعرض عليه شكواك ، ناجه فإنه يسمعك ويحب أن يسمع دعاءك ويسمع بثك وشكواك ونجواك .
/ أيضا من دلالات هذه القاعدة التربوية والإيمانية : أنها تُربي على سرعة الإنجاز ذلك أن الإنسان إذا شعر أنه مُطالب بأن يتقدم ويسير -على ما سبق تقريره- فإنه لا يجد فرصة في الحقيقة أو لا يرضى أن تتأخر أعماله وتتراكم .(3) كم من إنسان -مثلا- سنحت له فرصة للحجّ وهو مُعافى ، وهو طيّب قادر -بعيدا عن البحث الفقهي هل هو على الفور أو على التراخي لكنني أتكلم عن هذا المأخذ التربوي والإيماني- فيترك الحج هذه السنة ثم إذا به بعد سنوات تضيق به الفرص ولا يجد فرصة أخرى للحجّ ثم يعضّ أصابع الندم ويقول آه يا ليتني حججت في تلك الفترة . بعض الناس يكون عليه قضاء من رمضان -مثلا- ثم يُفرط ، عنده فرص ففي مثل هذه الفترات في أيام الشتاء مثلا يسهل على الناس الصوم لقِصر النهار وبرودة الجو فيقول إن شاء الله غدا ، الأسبوع القادم ، الشهر القادم ، ثم إذا به وعنده مجموعة من الأيام قد فرّط في قضائها وإذا الشهر قد تضايق ثم يبدأ يسأل المفتين ويتصل هل يجوز ؟ أنا تاخرت ؟ ماذا أفعل؟ لا {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}.
ومما تربينا عليه هذه القاعدة من معانِ تربوية هو : اغتنام الفرص الجيدة ، وهذا أمر غير ما ذكرته آنفا فإن الإنسان في مجال علاقته مع الله أو في مجال دنياه تسنح له فرص جيدة فإذا بعض الناس يُفرط فيها بحجة أنه ستسنح فرصة أخرى وسيستفيد منها ، واعظم فرصة تسنح للإنسان ، وأعظم غبن يحصل أن يُفرط فيها هي فرصة التوبة والإقبال على الله -جل وعلا- فبعض الناس قد يحضر مجلسا من مجالس الذكر أو يشاهد برنامجا على شاشة مباركة أو يسمع مقطعا من المقاطع المؤثرة ثم يرق قلبه أو تدمع عينه وإذا به يستعرض شريطا من شريط الماضي وقعت فيه أخطاء ووهنات وشعر فيها بندم وتقصير ثم تتحرك فيه لواعج التوبة والرغبة في افنابة والإقبال على الله -عز وجل- ثم يبدأ الصراع في هذه اللحظة يتوب أو لا يتوب ، ما معنى أن أتوب أن أترك هذه الشهوات ، هذه المعاصي ثم يجد في نفسه دافعا فإذا جند الشيطان يبدأون يضغطون عليه ثم يُفرط في هذه الفرصة التي هي من أجمل وأروع الفرص ، أن يُقبل على الله في هذه اللحظات التي أنكسر فيها قلبه ودمعت فيها عينه . فيا عيد الله ، ويا أمة الله انتبهوا فإن الفرص الجيدة والممتازة قد لا تتكرر مرة أخرى .
أسأل الله -جل وعلا- أن يُبارك في أعمارنا وأعمالنا وأزواجنا وأولادنا وأموالنا ، وأن يجعل حياتنا ومماتنا لله وحده لا شريك له ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_______________________________________________
(1) قال العلامة النحرير الطاهر ابن عاشور: ـ كما في التحرير والتنوير 30/368 ـ: "وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني".
(2) يقول العلامة السعدي رحمه الله: "ودلت الآية، على أن الذي ينبغي أن يطاع ويكون إماماً للناس من امتلأ قلبه بمحبة الله وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما منّ الله به عليه، فحقيق بذلك، أن يتبع ويجعل إماماً".
(3) قال بعض الصالحين: "كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس" علق ابن رجب: على هذا فقال: "يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقد ذلك و يعدونه خسراناً".
/ موقع المسلم
/ موقع المسلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق