الجمعة، 18 مايو 2012

تفسير سورة الهمزة


د. محمد بن عبد العزيز الخضيري


 إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
في الحلقة الماضية تحدثنا عن تلك السورة الجامعة العظيمة التي فيها شروط النجاة من الخسران . واليوم نتحدث عن نموذج من الخاسرين أولئك الذين لم يؤمنوا ولم يعملوا صالحا ولم يتواصوا بالحق ولم يتواصوا بالصبر .
وتلاحظون مشاهدي الكرام أن هذه السور تتحدث كثيرا عن أوصاف الإنسان ليعرف كل واحد منا نفسه ،وليعلم كل واحد منا أنه لابد له حتى ينجو عند الله من أن يزكي هذه النفس لأن النفس بطبيعتها هي تنزل إلى السفول وتميل إلى الأرض وإلى الدعة والكسل ، تتبع الهوى وتميل إلى الشهوات وعلى المسلم حتى ينقذها أن يرفعها والرفع كما تعلمون يحتاج إلى قوة ، يحتاج إلى نشاط ، يحتاج إلى قوة ، يحتاج إلى جهد وعمل ، وهكذا ينبغي مني ومنكم أن نبذل جهدنا قدر ما نستطيع حتى نرقي أنفسنا .
 لعلكم قرأتم قبل هذه السور القصار (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)
 أحد عشر قسما على ماذا ؟ ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *قَدْ ) هذا هو جواب القسم ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) رفعها وطهرها ونماها بأي شيء ؟ بالأموال ؟
 بالجاه والمناصب ؟ لا 
 بالألقاب ؟ لا 
 إنما هو بالعمل الصالح.
اسمعوا هذا النموذج لأولئك الخاسرين الذين اتبعوا شهواتهم وتركوا أنفسهم سبهللا لم يطهروها ولم يزكوها ، صاروا مثل البهائم بل هم أضل سبيلا . يقول الله - عز وجل - في سورة الهمزة :


 

/ هذا وصف لذلك الإنسان الذي جمع تلك الأوصاف القبيحة ورأى الحياة متاعا ومالا واحتقر الناس الآخرين فهو يتكبر عليهم ويزدريهم ماذا أعد الله له ؟ أعد له الحطمة التي تحطمه وتهشم عظامه وتكسره حتى يذوق العذاب الأليم .
/ يقول ربنا - تبارك وتعالى - ( وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ) "الويل" قال فيه بعض العلماء : أنه واد في جهنم لو وضعت فيه جبال الدنيا كلها لذابت من حره . وقال آخرون - وهو أقرب - : أن الويل كلمة في العربية تقال للتهديد والوعيد . وعلى كل الأحوال كلمة مقصود بها التهديد . لمن هذا الويل ؟ قال الله - عز وجل - (لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ )  .
- من هو الهمزة ؟ ومن هو اللمزة ؟
قال العلماء : إن الهمزة هو: الذي يهمز الناس بيده وعينه . يعني يطعن فيهم ويزدريهم ويحتقرهم ، إذا مرّ به فلان أشار إلى قصره ، وإذا مرّ به فلان أشار إلى قبحه ودمامته ، وإذا مرّ به فلان استهزاء بلبسه ، وإذا مرّ به فلان استهزاء بكلامه وبمشيته لأنه يرى نفسه كاملا مكملا ، يرى نفسه أعلى من الخلق ، يرى نفسه وما أعطي أن هذا من عند نفسه (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) .
 اللمزة : الذي يلمز الناس بلسانه قال الله - عز وجل - في سورة التوبة (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ)فاللمز يكون باللسان ، والهمز يكون بالعين واليد ونحوها من جوارح الإنسان .
/ وقال بعض المفسرين عكس ذلك والمعنى واحد : ويل لمن همز الناس ولمزه بلسانه وبعينه وبيده وبأي جارحة من جوارحه ، والمقصود : أن هذ الإنسان عياب طعان مغتاب لعان (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء) لا يتكلم في أعراض الناس ولا يحتقرهم ولا يزدريهم ، أتدرون ما هو الكبر ؟
 الكبر عرّفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلمتين اثنتين قال (الكبر بطر الحق وغمط الناس) وفي رواية (وغمص الناس)
"بطر الحق" أي رد الحق والاستعلاء عليه وعدم قبوله .
 و"غمص الناس" أي احتقارهم وازدراؤهم والتعالي عليهم فتجده لا ينظر إليهم إلا بطرف عينه ويستعلي عليهم في مشيته ويستعلي عليهم في كلامه ويعيبهم ويلمزهم بلسانه ويهمزهم بعينه ويده ، هؤلاء ليسوا من المؤمنين حقا فإن الكِبر لا يدخل صاحبه الجنة (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر) فاحذر يا عبد الله أن تكون من أولئك ، احذر أن تكون همتك مصروفة إلى تتبع الناس في مجالسهم وفي أسواقهم ومنتدياتهم وأحوالهم تهمز فلانا وتلمز آخر ، هذه عادة وصنيع من لا خلاق لهم في الدنيا .
/ قال وهو يعطينا وصفا آخر لهذا الإنسان الهمزة اللمزة ( الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ ) لا همة له إلا أن يجمع المال ويعدده ، يجمع المال من أين ؟ من حله ؟ لا والله ، من كل مكان ، متى أُعلن عن مساهمة شارك فيها ، هل هذه المساهمة في شركة خمور أو شركة ربا أو فنادق يُعصى الله - عز وجل - فيه ، هذه لا تهمه المهم أن يحصل المال ، أن تكون هذه المساهمة رابحة في الدنيا ولو كانت أخسر ما تكون في الدنيا ( جَمَعَ مَالا) .وانظر إلى قوله ( جَمَعَ مَالا) مالا كثيرا ، مالا من أي محل ، من أي مكان ، من أي جهة حتى ولو ظلم ذلك الفقير وأساء إلى ذلك الذي شاركه ، لا يهمه ، المهم أن يجمع بأي صورة .
/ ثم قال (وَعَدَّدَهُ) فاللذة الكبرى لديه هو أن يعدد المال ، يجلس ويعد ويرص ويصف هذه الرزم من النقود بين يديه ، هذه لذته . أما أن ينفق هذا المال ويكسب به رضا الله - عز وجل - ويعطي الأيتام والفقراء والأرامل وينفق عليهم ويمسح دمعاتهم ويخفف عليهم مؤنة الدنيا ويكشف كربهم وييسر على المعسرين ، فإن ذلك ليس من أغراضه ولا من مقاصده - نسأل الله العافية والسلامة - المقصود الأعظم والغاية الكبرى التي يرى نفسه قد خلق من أجلها هو أن يجمع المال ، هل سمعتم برجل لما دفن في قبره وأودع في مثواه أخذت أمواله ووضعت بجواره لكي يستمتع بها في قبره ؟ لا والله شقي بها في الدنيا ثم ذهب وتركها واستمتع بها من خلفه لا يحمدونه ولا يثنون عليه ولا يدعون له حتى لو قلت لأحدهم تصدّق عن هذا الذي جمع هذا المال بجنيه واحد ، بدرهم واحد ، قال قد قدم على ما عمل وأنا هذا المال قد صار لي أتصرف فيه كيف أشاء (الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ ) .
/ (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) يظن أن هذا المال يخلده في الدنيا ، هل سمعتم بأن رجلا إذا كثر ماله زاد عمره ؟ لا والله ، بل بالعكس كلما زاد مال الإنسان كان أسرع للهم والبلاء والنكد على قلبه وعلى نفسه وأدعى لقرب المرض إليه ، يظن أن ماله أخلده ، أتظن أنك إذا جمعت الأموال الطائلة خُلدت في الدنيا ؟
 هل رأيت أو سمعت أو جاءك خبر أن من ملكو الدنيا بأسرها وصار لهم فيها مال كثير أنهم بقوا أكثر مما ينبغي أن يبقوا أو عمروا ؟ لا والله .
 الآجال بيد الله والأعمار محدودة وهذه الدنيا دار بلاء قد اختبرنا الله فيها ماذا نصنع فيما ابتلينا به إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
 / قال الله - عز وجل - مبينا حال هذا الإنسان وكذبه قال: (كَلاَّ) لن يكون الأمر كما يظن ، لن يخلده ماله ، "كلا" ردع وزجر لهذا الهمزة اللمزة الذي يجمع المال ويعدده ولا ينفقه في سبيله ، ولا يعطيه من يستحقونه ، ولا يطلب به أجرا ولا ذكرا .
/ ( كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ) أي سيلقى إلقاء يدل على إذلاله وإهانته في الحطمة ، في النار التي تحطمه حطما كما حطم قلوب الناس في الدنيا وأساء إليهم وتصرف تصرفا يذلهم به عندما همزهم ولمزهم وعندما جمع المال ولم يراعِ حق الله فيه بأن ينفقه على عباده سيحطمه الله في نار جهنم .
 إن كلمة "الحطمة" تعني التحطيم ، كما حطم أولئك وأذلهم سيحطمه الله في النار . والحطمة : اسم من أسماء النار ، وقد سميت النار في القرآن بأسماء كثيرة : لظى ، والسعير ، وجهنم ، والنار ، والحطمة وغير ذلك من الأسماء ، وكل اسم منها يدل على النار أولا ويدل على وصف في ذلك الاسم يليق بتلك النار .
/ (لَيُنبَذَنَّ) ، ولاحظوا قوله (لَيُنبَذَنَّ) أولا في القسم أن ذلك واقع لا محالة ، وثانيا النبذ والنبذ إنما يكون في الشيء الذي يهمل ويلقى بلا رعاية ولا عناية ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) .
/ قال الله - عز وجل - (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) أي شيء الحطمة ؟ إنها شيء عظيم ، إنها شيء هائل ، إنها تفوق نار الدنيا التي ترونها بتسعة وستين جزءا . الله أكبر ، قال الصحابة لما سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا رسول الله إنها لكافية" أي نار الدنيا كافية للعذاب . قال (لقد فضلت عليها بسبعين جزءا) من يحتمل ؟
 جرب أن تقرب يدك من النارلتنظر كيف احتمالك لها وهي نار الدنيا فكيف بنار الآخرة ؟ إن نار الدنيا يصهر بها الحديد حتى يسيل مثل الماء إذا فما بالنا بنار الآخرة !؟ إنها نار شديدة .
/ قال (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ) الحطمة هي : نار الله الموقدة التي أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة .
 "موقدة" ما وقودها ؟ الناس والحجارة (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) توقد بالناس ، إذا كان الناس هم وقودها فما بالكم بها !؟ .
 (نَارُ اللَّهِ ) نسبها الله لنفسه ليُعظمها ويهولها في نفوسنا لكي نخاف منها - أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يخاف من هذه النار ويتقيها بكل ما يقيه منها .
/ قال (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ) هذه النار من خصائصها أنها من شدة حرها تصل إلى الأفئدة والأجواف فحرها لا يقتصر على الظاهر كما هي نار الدنيا بل يصل إلى الأجواف . تأملوا معي عباد الله كيف أن هذا الإنسان لما ازدرى الناس واحتقرهم ولم يبالي بهم وتكبر عليهم وصار فيه استصغار لهم ماذا حصل ؟ حصل أن هذه النار تصل إلى ذلك الفؤاد الذي يحتقر ويستصغر ويزدري عباد الله لتصيبه بلهيبها ووقودها - نسأل الله العافية - تأملوا هذا جيدا وأن الله - عز وجل - حكيم عدل لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون . قال (الَّتِي تَطَّلِعُ) أي تبلغ الأفئدة وتصل إليها ، تُحرق الجلود وتُحرق العظام وتصل إلى الأفئدة ، فإذا وصلت إلى الأفئدة أعاد الله بناء هذه الأجساد (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ) نسأل الله العافية والسلامة .
/ قال الله - مبينا خلودهم فيها - وأنهم باقون وأنه لا مخرج لهم منها (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ) أي مطبقة لا يمكنهم الفرار ، هذه النار عندما يلقى فيها الكفار وينبذون فيها ويطرحون تقول وهي تريد المزيد "هل من مزيد ، هل من مزيد ، هل من مزيد " حتى يضع الجبار - سبحانه وتعالى - عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول : (قطني ، قطني) حسبي ، حسبي ، عند ذلك تطبق على الكفار فلا يخرج أحد منهم منها  (إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ) مطبقة في أعمدة ممددة أي سيكون إطباقها في عمد ممددة طويلة لا يمكن حلها ولا فكها . وهذا من باب التيئيس لهم ، التيئيس في أنهم لن يخرجوا منها ولن يستطيعوا الهرب من حرها حتى إنهم إذا طال بهم المقام نادوا وهم يصرخون (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ) .
 أسأل الله أن يُعيذني وإياكم منها ومن شرها وحرها ، وألا يجعلني وإياكم من أهلها ، وأن يكفيني وإياكم وقودها وحرها ، وأن يُحرم جسدي وأجسادكم جميعا على النار .
نستفيد أحبتي الكرام من هذه السورة :
 - ألّا نكون من أولئك الناس الهمّازين اللمازين الذين يعيبون الناس ويطعنون فيهم ويغتابونهم .
- ألّا نكون من المتكبرين فإن الهمز واللمز لا يكون إلا من متكبر .
 - ألّا نكون من أولئك الذين يجمعون المال من كل مكان ويكنزونه فلا ينفقونه فيما أمر الله أن ينفق فيه.
 - ألّا نظن أننا مخلدون في الدنيا بل نحن راجعون إلى الله - عز وجل - .
أسأل الله - عز وجل - بمنه وكرمه أن ينفعنا بما سمعنا في هذه السورة العظيمة . كرروها مرة بعد أخرى حتى تنفعكم في حياتكم وفي مستقبل أمركم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق